المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه



سامر سويلم
27-08-2014, 08:13 PM
سيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه

قال الشيخ عبد الله التليدي في المطرب بمشاهير أولياء المغرب (ص: 90-106):

http://www.alomariya.org/adminimages/Maqam_Sidi_abdulsalam.gif

وهنا يجيء دور الشريف النسيب، العارف الكبير والقطب الشهير، الجبل الشامخ، شيخ مشايخ الصوفية وإمام أئمة الطريقة الشاذلية، أبي محمد سيدي عبد السلام بن مشيش بن أبي بكر بن علي بن حرمة بن عيسى بن سلام بن مزوار بن علي بن محمد بن مولانا إدريس دفين فاس بن مولانا إدريس دفين زرهون وفاتح المغرب مولانا عبد الله الكامل بن مولانا الحسن المثنى بن مولانا الحسن السبط بن سيدنا ومولانا علي ومولاتنا وسيدتنا فاطمة الزهراء بنت سيد العالمين عليهم من ربهم جميعاً الصلاة والسلام.

مولانا عبد السلام وقبيلة بني عروس:

بلدة مولانا عبد السلام وقبيلة أجداده الكرام هي قبيلة بني عروس وهي من القبائل الجبلية القريبة من ساحل المحيط تكتنفها وتحيط بها عدة قبائل جبلية وهي بينها كالعروس. فشرقاً بنو ليث وجنوباً الأخماش وبنو يوسف وسوماتة وبنو جرقط وشمالاً بنو حزمار وبنو يدير وجبل الحبيب وغرباً الغربية والخلوط.

وعمالتها مدينة تطوان ودائرتها الخميس وأربعاء عياشة. والجبل الذي يقع فيه الضريح مرتفع شاهق ناطح السحاب شديد البرودة في فصل الشتاء، ويكثر سقوط الثلوج فيه أكثر السنين وهواؤه بارد طيب ممتاز في فصل الصيف، ويمتاز هذا الجبل بارتفاعه عن سطح الأرض وطول غاباته وأشجاره ذوات القرون. وموقعه شرق جنوب طنجة وغرب جنوب تطوان، ويبعد بنحو ستين كيلومترا. أما طنجة فبينه وبينها نحو من مائة وبضعة كيلومتر.

وتمتاز هذه القبيلة المباركة عن غيرها من القبائل المجاورة لها بكثرة الشرفاء وآل البيت النبوي الأطهار العلميين من أولاد مولانا عبد السلام وأهل بيته، كما تمتاز بكثرة حفظة القرآن الكريم وإن كان هذا قد ضعف في هذا العصر لانصراف الناس عنه للمدارس الأجنبية. ولا تخلو هذه القبيلة من مجاذيب وبهاليل ومباركين وأرباب الأحوال، فطيب الله ثراك يا ابن مشيش وقدس سرك فما أبرككم على هذه البلاد لا أعدمنا الله بركاتكم وبركات أجدادكم.

والسبب في وجود هذا البيت الطاهر بهذه القبيلة مهاجرة جدهم الأعلى سيدي مزوار المتوفى بحجرة النسر من سومانة وكان رجلاً صالحاً ديناً تقيّاً زاهداً ترجمته مستوفاة في سلوة الأنفاس وغيرها. وأول من سكن بني عروس سيدي سلام بن سيدي مزوار، يقال: إن أباه دفعه إلى أهل القبيلة تتبرك به بعد طلبهم ذلك منه. سكن بقرب مجمولة حيث ضريحه ومنه تسرب هذا النسل الشريف في هذه القبيلة وغيرها.

ولادة مولانا عبد السلام وتاريخ ذلك ومسقط رأسه وما يتبع ذلك:

ففي هذه القبيلة الشريفة وُلد هذا الإمام العظيم في القرية التي كان يسكنها والده مشيش وهي الحصين أسفل جبل العلم لجهة القبلة، حيث يوجد لحد الآن الدار المولود فيها، وقد جعلت كتّاباً يتعلم فيها القرآن ونعما ذلك، وقد زرتها مراراً وبت فيها والحمد لله.

ولا يعرف على التحقيق تاريخ ولادته، ويرى بعض المؤرخين من الشرفاء العلميين وغيرهم أنه وُلد سنة 599 هــ أو سنة 563 هـــ وبقرية الحصين، نشأ وتعلم الكتابة والقراءة، ويقال: إنه لم تمر عليه اثنتا عشرة سنة حتى حفظ القرآن الكريم بالروايات السبع، ويقال: إن شيخه في القرآن هو الولي الصالح سيدي سليم دفين قبيلة بني يوسف. قال الأستاذ الشريف اللهيوي: ومن أشهر مشايخه في الدراسات العلمية الولي الصالح الفقيه العلامة سيدنا الحاج أحمد الملقب أقطران، وقد استبدلت هذه الكلمة أخيراً بالعسلاني تأدباً مع الشيخ المذكور وهو دفين قرية أبرج بقبيلة الأخماس بالقرب من باب تازة ... قال: وضريح الشيخ يعتبر من المزارات الشهيرة. قال: كان الشيخ المذكور يأخذ عنه العلوم الفقهية بالمدونة على مذهب مالك. قال: ومن مشايخه في العلم أخوه الأكبر سيدنا الحاج الرضي ... إلخ.

وهذا يخالف ما سيأتي من أنه اعتراه جذب منعه حسه وهو ابن سبع سنين غير أن صلاته المشيشية تعرب لنا عن حاله وتحقق لنا أنه كان رجلاً عالماً متمكناً في ذلك لأن هذه التصلية لا يستطيع إنشاءها إلاّ ذو علم. نعم، قد يقع ذلك نادراً من بعض العاميين أو الأميين ممن يفتح الله تعالى عليهم ويكون ذلك كرامة لهم؛ كما حصل مثل ذلك لكثيرين منهم ولذلك أمثلة شهيرة نرجئ الكلام عليه لمحل آخر.

أخذ الطريقة عن العارف بالله سيدي عبد الرحمن بن الحسن الشريف العطار المدني الشهير بالزيات، وتوفي بترغة الغمارية على شاطئ المتوسط ويعرف عندهم بفقيه مولاي عبد السلام. أما الموضع المعروف به عن يمين ضريح مولاي عبد السلام فهو موضع تعبده لا ضريحه. نعم، هناك ضريح الشريف الصالح الشهيد سيدي أحمد التَّزْيَي قتل من جراح شظية قنبلة طائرة أصابته سنة 1346 هـــ، ولا يعرف لمولانا عبد السلام أصحاب ولا تلاميذ غير القطب أبي الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه.

بسط ترجمته وأخباره ومناقبه ومراحله:

إن ترجمة مولانا عبد السلام رضي الله تعالى عنه قد تناولتها أقلام كثير من العلماء والمؤرخين وقلما يوجد تاريخ لم يتعرض له، وقد أفرده جماعة بالتآليف، ويوجد عدة منها في الخزانة العامة والخزانة الملكية بالرباط وقفت عليها.

وقد ذكر العارف ابن عطاء الله في ((لطائف المنن)) كثيراً من أخباره نقلاً عن أبي الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه، وإليكم ذلك مؤثراً له لتحققنا من صحته عنه، قال (1/ 90-91) : كنت في سياحتي في مبدأ أمري حصل لي تردد، هل ألازم البراري والقفار للتفرغ للطاعة والأذكار أو أرجع إلى المدائن والديار لصحبة العلماء الأخيار؟ فوُصف لي وليٌّ هناك وكان برأس جبل فصعدت إليه، فما وصلت إليه إلاّ ليلاً، فقلت في نفسي لا أدخل عليه في هذا الوقت فسمعته وهو داخل المغارة: اللهم إن قوماً سألوك أن تسخر لهم خلقك فسخرت لهم خلقك فرضوا منك بذلك، اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق عليّ حتى لا يكون لي ملجأٌ إلاّ إليك. قال: فالتفت إلى نفسي وقلت يا نفسي انظري من أي بحر يغترف هذا الشيخ. فلما أصبحت دخلت عليه فأرعبت من هيبته فقلت له يا سيدي كيف حالك؟ فقال لي: أشكو إلى الله من برد الرضى والتسليم كما تشكو أنت من حر التدبير والاختيار. فقلت له يا سيدي: سمعتك البارحة تقول اللهم إن قوماً سألوك أنت تسخر لهم خلقك ... إلخ. فتبسم ثم قال : يا بني عوض ما تقول سخر لي خلقك، قل: يا رب كن لي، أترى إن كان لك أيفوتك شيء؟ فما هذه الجناية؟ اهـــ.

وقال ابن عطاء الله أيضاً (1/92) في لطائفه عن الشاذلي؛ قال: كنت يوماً بين يدي الأستاذ - يعني ابن مشيش – فقلت في نفسي: ليت شعري هل يعلم الشيخ اسم الله الأعظم؟ فقال ولد الشيخ -وهو في آخر المكان الذي أنا فيه-: يا أبا الحسن ليس الشأن من يعلم الاسم، الشأن من يكون هو عين الاسم. قال الشيخ من صدر المكان: أصاب وتفرس فيك ولدي. اهـــ.
وقوله (الشأن من يكون عين الاسم) معناه: أن يكون متحققاً بمقام الجمع فانياً في الله لا يشاهد في الكون سواه.

وتعرض له الإمام أحمد بن عياد في (المفاخر العلية) (ص14،15) عندما تعرض لرحلة أبي الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه، قال: لما دخلت العراق اجتمعت بالشيخ الصالح أبي الفتح الواسطي فما رأيت بالعراق مثله، وكان بالعراق شيوخ كثيرة، وكنت أطلب القطب، فقال لي الشيخ أبو الفتح: تطلب القطب بالعراق وهو في بلادك؟! ارجع إلى بلادك تجده. فرجعت إلى بلاد المغرب إلى أن اجتمعت بأستاذي الشيخ الوليّ العارف الصديق القطب الغوث أبي محمد عبد السلام بمن مشيش الشريف الحسني.

قال رضي الله تعالى عنه : لما قدمت عليه وهو ساكن مغارة برباطه في رأس الجبل اغتسلت في عين في أسفل الجبل وخرجت عن علمي وعملي وطلعت عليه فقيراً وإذا به هابط علي، فلما رآني قال مرحباً بعلي بن عبد الله بن عبد الجبار. وذكر لي نسبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لي: يا علي طلعت إلينا فقيراً عن علمك وعملك، أخذت منا غنى الدنيا والآخرة، فأخذني منه الدهش، فأقمت عنده أياماً إلى أن فتح الله علي بصيرتي، ورأيت له خرق عادات من كرامات وغيرها. ثم ذكر قضية الطفل في الاسم، ثم قال فقلت له يا سيدي أوصني. فقال: الله الله، والناس تنزه لسانك عن ذكرهم، وقلبك عن التماثيل من قبلهم، وعليك بحفظ الجوارح وأداء الفرائض، وقد تمت ولاية الله عليك، ولا تذكرهم إلاّ بواجب حق الله عليك، وقد تم ورعك، وقل: اللهم ارحمني من ذكرهم ومن العوارض من قبلهم ونجني من شرهم واغنني بخيرك عن خيرهم وتولني بالخصوصية من بينهم إنك على كل شيء قدير. اهـــ.

وترجمة شيخ مشايخنا العارف بالله البركة المحدث سيدي محمد بن جعفر رحمه الله تعالى في (سلوة الأنفاس) (1/5/2)، وذكر أن تقي الدين محمد الإسكندراني سبط القطب الشاذلي ذكر في كتابه (النبذة المختصر المفيدة) بعض أخباره، وقال: إنه سلك طريق القوم وهو ابن سبع سنوات وظهر له من الخير والكشف وبقي قطباً عشرين سنة، وكان إذا صلَّى يصلي خلفه أولياء الله تعالى من كل قطر نساء ورجالاً، وكان صاحب جذب لا يصل إليه مريد صادق يتجرد من علمه إلاّ رقاه ووصله إلى ربه. اهـــ.

وترجمه العارف أبو العباس سيدي أحمد بن عجيبة رضي الله تعالى عنه في أول (شرح الصلاة المشيشية) وأجاد وأفاد، ولننقل كل ما قال برمته لعظيم فائدته، فقد قال: هو الشيخ الإمام العارف الواصل الكبير والقطب الشهير شمس زمانه وفرد دهره وأوانه أبو محمد سيدنا ومولانا عبد السلام بن مشيش بالميم وربما قيل بالباء، وإبدال الباء من الميم لغة مازنية، ومعناه الخادم الخفيف الحاذق اللبيب، ثم ذكر باقي النسب الذي قدمناه، ثم قال: توفي رضي الله تعالى عنه شهيداً سنة اثنتين وعشرين وستمائة أو فيما بعده بقليل. قال ابن خلدون: قتله في العَلَم قوم بعثهم لقتله ابن أبي الطواجن الكتامي الساحر المدعي النبوة، وبسبب هذه الدعوة رجفت إليه عساكر سبتة وكان عند بني سعيد فقتل. ثم قال ابن عجيبة أخبرني من أثق به من بني سعيد أنه قتله شاب منهم؛ وذلك أن الظالم كان فاسقاً يفتك ببنات الناس كرهاً، فتزيا شاب بزي النساء وأهدي له على أنه بنت فقتله بخنجر كان عنده، وكانت ثورته سنة خمس وعشرين وستمائة.

قال أبو العباس: ودفن رضي الله تعالى عنه في قمة الجبل المسمى بالعلم. قال في المرآة-يعني (مرآة المحاسن) لسيدي العربي الفاسي- : وآثاره هناك كثيرة، من مغارة للخلوة والعبادة ومسجد جدرانه قصيرة وموضع لارتقاب الفجر وتحت ضريحه بنحو المين عين كان يتوضأ فيها. ومقتله فوقها بقريب، يقال إنه توضأ فيها عند الفجر وقصد الصعود لمحل عبادته وارتقابه للفجر فقتلوه هناك. ومن الشائع أنهم ألقي عليهم الضباب الكثيف ودفعوا إلى شواهق الجبال تردوا منها في مهاوي سحيقة فمزقوا كل ممزق ولم يرجع منهم مخبر. وتحت هذه العين بمسافة أخرى رسوم داره التي كان يسكنها. قال: وقد وصلتها وصليت في أثر مسجدها قرب العين التي يسمونها عين القشر عن يمينها، ولا ساكن هناك اليوم وإنما العمران في سفح الجبل دائراً به في مداشر وعمران يسكنها أهل هذا النسب الشريف ومعهم غيرهم. اهـــ.

قال ابن عجيبة: كان له من الأولاد أربعة محمد وأحمد وعبد الصمد وعلال. ومن بني ولده محمد بنو عبد الوهاب وطائفة يسمون الرحمونيين بقرب شفشاون. ومن ولده علال أولاد المجبح، منهم فرقة بمراكش، وله أخوان: موسى ويملح.

ومن بني موسى الشفشاونيون القاطنون بفاس. ومن بني يملح سيدي عبد الله بن إبراهيم نزيل وزان. وله من الأعمام ستة: يونس وعلي وملهى وميمون والفتوح والحاج. ومن أولاد يونس أولاد بن ريسون وأولاد بن رحمون وأولاد مرصو. قال: من المنقول عن سيدي عبد الله الغزواني رضي الله تعالى عنه أن روضة مولانا عبد السلام مشتملة على ثلاثة قبور الوسط منها هو قبر الشيخ والذي خلف ظهره قبر ولده سيدي محمد والذي بين يديه قبر خديمه بن خدامة رضي الله تعالى عنهم. قال: حتى وصل في سورة الأنعام إلى قوله تعالى: (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) فورد عليه وارد إلهي اقتطعه عن حسه واستغرق فيه مدة، فلما أفاق رفع يديه إلى السماء داعياً فكان من دعائه (اللهم من سبق له الشقاء منك فلا يصل إلينا ومن وصل إلي أكون له شفيعاً يوم القيامة، اللهم لا تبعث إلينا من حكمت بشقائه).

قال ابن عجيبة: وأما علو قدره وجلالة منصبه فذلك أمر شهير، وقد تغلغل في علوم القوم التي مدارها على التخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، ونال من ذلك الحظ الأوفر، وطريقه طريق الغنى الأكبر. ثم ذكر قصة أبي الحسن في ملاقاته للشيخ وما حصل له مع الصبي كما قدمناه. ثم قال: وأما كلامه في الحقائق والوصايا فقال رضي الله تعالى عنه: الزم الطهارة من الشكوك كلما أحدثت تطهرت، ومن دنس الدنيا كلما ملت إلى شهوة أصلحت بالتوبة ما أفسدت بالهوى أو كدت، وعليك بمحبة الله على التوقير والنزاهة، وأدمن الشرب بكأسها مع السكر والصحو كلما أفقت أو تيقظت شربت حتى يكون سكرك وصحوك به حتى تغيب بجماله عن المحبة وعن الشراب والشرب والكأس، فما يبدو لك من نور جماله وقدس جلاله، ولعلي أحدث من لا يعرف المحبة ولا الشرب ولا الكأس ولا السكر ولا الصحو. قال قائل: أجل وكم من غريق في الشيء لا يعرف بغرقه، فعرفني ونبهني على ما أنا به جاهل أو ما مد به علي وأنا غافل.
قلت لك: نعم، المحبة أخذت من الله قلب من أحب بما يكاشف له من نور جماله وقدس كمال جلاله. وشراب المحبة مزج الأوصاف بالأوصاف والأخلاق بالأخلاق والأنوار بالأنوار والأسماء بالأسماء والنعوت بالنعوت والأفعال بالأفعال، ويتسع فيه النظر لمن شاء الله عز وجل، والشرب سقي القلوب والأوصال والعروق من هذا الشراب ويكون الشراب بالتدريب بعد التدريب والتهذيب فيسقى كل على قدره فمنهم من يسقى بغير واسطة، والله تعالى يتولى ذلك منه، ومنهم من يسقى من جهة الوسائط كالملائكة والعلماء والأكابر المقربين، فمنهم من يسكر بشهود الكأس ولو لم يذق بعد شيئاً فما ظنك بعد بالذوق وبعد بالشرب وبعد بالري وبعد بالسكر وبعد بالمشروب ثم المحو بعد ذلك على مقادير شتى كالسكر أيضاً كذلك. والكأس معرفة الحق يغرف بها من ذلك الشراب الطهور المحض الصافي لمن شاء من عباده المخصوصين من خلقه فتارة يشهد الشارب تلك الكأس صورة وتارة يشهدها معنوية وتارة يشهدها علمية.

فالصورة حظ الأبدان والنفوس، والمعنوية حظ القلوب والعقول، والعلمية حظ الأرواح والأسرار، فيا له من شراب ما أعذبه فطوبى لمن شرب منه ودام ولم ينقطع عنه نسأل الله تعالى من فضله، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، يجتمع جماعة من المحبين فيسقون من كأس واحدة وقد يسقون من كؤوس كثيرة. وقد تختلف الأشربة بحسب عدد الكؤوس، وقد يختلف الشرب من كأس واحدة وإن شرب منه الجم الغفير من الأحبة. اهـــ. قال ابن عجيبة: وقد شرحت هذا الكلام في شرحنا لـ (خمرية ابن الفارض).

قال: ومن وصاياه رضي الله عنه لتلميذه أبي الحسن قال له: الله الله، والناس نزه ... إلخ. ما ذكرناه سابقاً. ثم قال: وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله تعالى عنه: أوصاني حبيبي -يعني أستاذه ابن مشيش- فقال: يا أبا الحسن لا تنقل قدميك إلا حيث ترجو ثواب الله، ولا تجلس إلاّ حيث تأمن غالباً من معصية الله، ولا تصحب إلاّ من تستعين به على طاعة الله، ولا تصطف لنفسك إلاّ من تزداد به يقيناً وقليل ما هم. وقال أيضاً: أوصاني أستاذي فقال: لا تصحب من يوثر نفسه عليك فإنه لئيم ولا من يؤثرك على نفسه فإنه قلما يدوم، واصحب من إذا ذكر، ذكر الله. فالله يعنى به إذا شهد وينوب عنه إذا فقد، ذكْره نور القلوب ومشاهدته مفاتيح الغيوب. وقال رضي الله تعالى عنه: يا أبا الحسن، اهرب من خير الناس أكثر من أن تهرب من شرهم فإن خيرهم يصيبك في قلبك وشرهم يصيبك في بدنك، ولأن تصاب في بدنك خير من أن تصاب في قلبك، ولعدو تصل به إلى ربك خير من حبيب يقطعك عن ربك. اهـــ.

وقال أيضاً سألت أستاذي عن قوله صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا). فقال: يعني دلوهم على الله ولا تدلوهم على غيره فإن من دلك على الدنيا فقد غشك ومن دلك على العمل فقد أتعبك ومن دلك على الله فقد نصحك. وقد سألني أستاذي فقال: يا أبا الحسن بماذا تلقى الله تعالى؟ فقلت: بفقري، فقال: والله لئن لقيت الله بفقرك لتلقينه بالصنم الأعظم. اهـــ.
قال ابن عجيبة: وإنما يلقى الله به سبحانه لا بشيء سواه.

قال: وقال له رجل يا سيدي وظّف علي وظائف وأوراداً أعمل بها. فقال: أرسول أنا! الفرائض مشهورة والمحرمات معلومة فكن للفرائض حافظاً وللمعاصي رافضاً واحفظ قلبك من حب الدنيا وحب النساء وحب الجاه وإيثار الشهوات، واقنع بذلك بما قسم الله لك؛ إذا خرج لك مخرج الرضا فكن لله فيه شاكراً وإذا خرج مخرج السخط فكن عليه صابراً، وحب الله قطب تدور عليه الخيرات وأصل جامع لأنواع الكرامات، وحصر ذلك كله أربع: الورع وحسن النية وإخلاص العمل ومحبة العلم، ولا تتم له هذه الجملة إلاّ بصحبة أخ صالح أو شيخ ناصح.

قال أبو العباس سيدي أحمد بن عجيبة: أخذ رضي الله تعالى عنه عن شيخه أبي محمد سيدي عبد الرحمن المدني الحسني الملقب بالزيات –لسكناه بحارة الزياتين يعني بالمدينة المنورة- وكان الشيخ ابن مشيش في صغره انقطع للعبادة في مغارة بجبل العلم بعد أن أدركه الجذب وهو ابن سبع سنين، فدخل عليه بعد مدة رجل عليه سيما أهل الخير والصلاح، فقال له: أنا شيخك الذي كنت نمدك من وقت الجذب إلى الآن ووصف له ما وصل له على يده من المنازلات والمعارف وفصل له ذلك مقاماً مقاماً وحالاً حالاً، وعين لكل حال زمنه. ثم سئل رضي الله تعالى عنه بعد ذلك هل كان يأتيك أو كنت تأتيه؟ فقال كل ذلك قد كان. فقيل له: أطيا لمسافة المكان أم سفراً؟ فقال: طيا ... إلخ. اهـــ. كلام ابن عجيبة.

وترجمه العلاّمة الشريف اللهيوي العلمي في حصن السلام، وأطال في ذلك أيضاً بذكر أولاده وأهل بيته رضي الله تعالى عنه.
أما وفاته فكانت على المشهور سنة 625 هـــ.

ونستطيع أن نأخذ مما ذكرناه من هذه النقول عن حياته ما يلي:

أولاً: ما حصل له من الجذب الإلهي وهو لا يزال صغيراً، وإنه من ذلك الحين وهو منقطع للعبادة في مغارته، وهذا يخالف ما ذكره البعض كالشريف اللهيوي من أن حياته كانت عادية وأن مراحل حياته كانت محصورة في القراءة وطلب العلم أولاً وفي التكسب وخاصة بالفلاحة والقيام بشؤون الحياة ثم المشاركة في الجهاد بمدينة سبتة.

ثانياً: ثم جاءت مرحلته الأخيرة التي كانت مجرد تعبد وانقطاع وزهد وفناء، وعلى هذا فلا نستطيع الجزم بأحد القولين.

ثالثاً: صريح كلام سيدي العربي الفاسي يدل على أن مولانا عبد السلام كان يسكن بعين القشور بينما اللهيوي يقول أنه كان يسكن بقرية أدياز التي خربت والتي تبعد عن ضريحه بميلين لجهة الغروب فالله أعلم.
ويزيد اللهيوي فيقول إنه كان له عزيبان كان يسكن بهما، أحدهما بقرية بوزهري والآخر ببو مهدي قرب عياشة، ويستدل على ذلك بأن هذين الموضعين لا يزالان يحملان اسم دار مولاي عبد السلام وكذا وجود آثاره بهما.

رابعاً: نأخذ مما تقدم أن ضريح الشيخ لم يكن معروفاً حتى عرفه العارف بالله سيدي عبد الله الغزواني تلميذ سيدي عبد العزيز التباع عندما جاء لهذه الديار للدعوة إلى الله تعالى ونشر الطريقة الجزولية وأنه أخبر أن بالروضة ثلاثة قبور: قبر الشيخ ثم قبر ولده الأكبر سيدي محمد ثم قبر خديمه.

خامساً: مسجده الذي كان يتعبد به وهو المعروف اليوم بجامع الملائكة عند المنارة، وما هو شائع على ألسنة العامة من أنه من تأسيس الملائكة وبنائها هو من خرافاتهم، أما مغارته فهي قريبة من المسجد.

سادساً: نأخذ من كلام مولانا عبد السلام ووصاياه بلوغه الكمالات في التوحيد والحقائق الإلٰهية وتوغله في التصوف ومعرفة الله ويحقق ذلك صلاته المعروفة بالمشيشية، فإنها دالة على رسوخه في هذه الميادين.

سابعاً: قد نأخذ له بعض الخوارق من مكاشفاته بحال أبي الحسن الشاذلي وما حصل من الطفل مع أبي الحسن فإن ذلك يرجع إلى الشيخ أيضاً.

ثامناً: ما ذكروه عن قتله رضي الله تعالى عنه، لم يزيدوا على كون ابن أبي الطواجن هو الذي قتله بواسطة بعض أصحابه، ولكننا استفدنا من الشريف اللهيوي أن ابن أبي الطواجن مع كونه كان ساحراً متنبئاً كان مدفوعاً وعاملاً للمسيحيين الذين دبروا مؤامرة ضد مولانا عبد السلام، كان من جرائها القضاء على حياته. قال هذا اعتماداً منه على وثائق وجدت أخيراً بمكتبة أسكوريال بمدريد من إسبانيا، فإن صح هذا كان القول الآخر باطلاً وهو قولهم إن ابن أبي الطواجن اللعين كانت له تابعة من الجن فتأخرت يوماً عن إتيانه فسألها عن سبب ذلك فأخبرته بأن بهذا الجبل رجلاً يتعبد وأنها عندما تقابله في مجيئها تحترق بنوره، فكان ذلك سبباً لبعثه مَنْ قتله، فالله أعلم.

تاسعاً: نأخذ مما ذكروه عن الجيش الذي زحف من سبتة لقتال ذلك الساحر عند قتل مولانا عبد السلام أن الشيخ كان عندهم معروفاً وأنه كان له اتصال بالدولة الموحدية وهذا قد يشهد لما نقله اللهيوي من أنه كان مع عساكر الموحدين بسبتة وإن لم يصح ذلك.

وعلى كل فشهرة مولانا عبد السلام رضي الله تعالى عنه قد عمت المشارق والمغارب وضريحه من أعظم مزارات المغرب المشهورة من أدناه إلى أقصاه، وشدت الرحال إلى زيارته عبر العصور والأجيال بعده إلى عصرنا هذا، فلم تزل الوفود تأتي إليه من سائر الآفاق من كل طبقات الناس من عارفين وصوفية وعلماء وفقهاء وأدباء ومؤرخين وأمراء وعامة رجالاً ونساء كباراً وصغاراً كلها تفد إليه وإلى الوقوف على آثاره والتبرك بزيارته والدعاء عند قبره، حتى إن أكابر العارفين الذين جاءوا بعده كانوا يقصدون زيارته في كل سنة مع أصحابهم.

فترى التاريخ يحدثنا عن سيدنا عبد الله الغزواني أنه كان يزوره دائماً مع أصحابه، حتى كبار العلماء منهم ثم نرى العارف أبا المحاسن سيدي يوسف الفاسي –وهو وما أدراك ما هو- يشد الرحال كل سنة لزيارته في جملة أصحابه، وهكذا العارف سيدي محمد بن عبد الله وولده العظيم سيدي أحمد بن عبد الله. ثم يحدثنا العلاّمة الكبير ولي الله سيدي أحمد بن المبارك في الإبريز رحلتهم لهذا القطب العظيم مع العارف سيدي عبد العزيز الدباغ، وفي كتب التاريخ وتراجم العلماء والصلحاء الشيء الكثير من أمثال هؤلاء.

ولا يخلو هذا الضريح من الزوار والوافدين عليه صيفاً وشتاءً، والدعاء عند قبره مستجاب كالترياق المجرب، وقد شاهدناه وشاهد الجماهير العديدة في كل عصر بركاته، بل شوهدت عنده عجائب الغرائب من الخوارق والاستجابة ولا غرو فإنه الكريم بن الكرماء، وقد زاره العلاّمة الكبير الصوفي الشهير سيدي الحسن اليوسي من رجال القرن الثاني عشر وتحدث عنه وذكره في (محاضرته) (ص 85). وقد أشرنا إلى هذا في ترجمة مولاي أبي يعزى فارجع إليه.

ومن أعجب ما رأيناه في هذا الباب عن كبار العلماء أن العلامة مولاي العربي الفضيلي شيخ المجلس العلمي بفاس سابقاً لما زار مولاي عبد السلام ودعا ما شاء الله خر أمام الضريح ومسح الأرض بلحيته يميناً وشمالاً وقال جاهراً: اللهم إنا برآء ممن يقول بغير هذا.

ولما توجه العلاّمة العارف سيدي محمد بن عطية مع أصحابه لزيارة مولاي عبد السلام ووصلوا إلى خندق الريحان من قبيلة مصمودة اشتغلوا بذكر الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحصل للشيخ حال عظيم اقتطعه عن حسه ثم أفاق فقال لهم: اسمعوا معشر الحاضرين وتحققوا أن القطب مولانا عبد السلام عندنا حاضر، وهذه ساعة الإجابة، فسلوا الله تعالى ما شئتم. فضج القوم بالبكاء والتضرع إلى الله، ثم قال لهم الشيخ: هل تريدون الرجوع؟ فإن حوائجكم قد قضيت، أو تريدون مواصلة السير للوقوف على ضريح الشيخ؟ فاختاروا مواصلة السير ... إلخ. نقله الحمومي في شرح المشيشية.

وكان شيخنا المرحوم الحافظ سيدي أحمد بن الصديق يزوره كل سنة. وكنا نشاهده يخلع نعليه عند دخوله حرم الشيخ ويمشي حافياً حتى الضريح وكان يظهر عند زيارته من الأدب والاحترام ما لا يتعاطاه إلاّ أمثاله رضي الله تعالى عنه.

قال الإمام العارف بالله سيدي محمد بن جعفر في السلوة نقلاً عن بعضهم: إن أهل البصائر أجمعوا على أنه تنبغي زيارته بقدر الاستطاعة كل يوم أو في كل أسبوع أو في كل شهر أو في كل سنة، وتتأكد تعييناً ليلة الجمعة ويوم عرفة وصبيحة العيدين والمولد النبوي وسابعه. وذكر أنه يتعين على جميع الناس ولا سيما الملوك والحكام حفظها يعني روضته ورصدها ودفع أهل الفساد والزيغ عنها وإصلاح ما انهدم منها من بناء ونحو ذلك. قال: لأن ذلك كله من تعظيم الحرمات ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه. ثم قال في النهاية إنه لا شيء أنفع للقلوب من زيارة الصالحين، والعلماء العاملين.

ملاحظة اختتامية:

بقيت هنا قضية وقد تشغل أنظار بعض الباحثين وهي أن يقال: كيف يكون حال هذا القطب بهذه المنزلة، ولم يذكره أحد ممن عاصره ولا عرجوا عليه، وهذا التادلي وهو ممن عاصره لم يشر إليه أصلاً في كتابه (التشوف). وكذا لم يذكره ابن العربي الحاتمي في كتبه وهو ممن عاصره وجال في كثير من بلاد المغرب، وقد يذكر من هو أقل منه. وكذا لم يجر له ذكر أيضاً في (أنس الفقير) لابن قنفذ وقد استوعب فيه حياة أبي مدين وأصحابه وغيرهم، وفي هذا الكتاب الكثير من رجال المغرب والأندلس الذين عاصروا مولانا عبد السلام.

والجواب أن مولانا عبد السلام رضي الله تعالى عنه كان يعيش في جبل العلم بعيداً عن العمران والقرى فضلاً عن المدن والحواضر، وكان كما يظهر مهملاً عند الناس خاملاً لا يعرفه أكثرهم ولم تكن له زاوية رسمية ولا أتباع خاصون حتى يشتهر ويقصده الناس للزيارة والأخذ عنه، ثم إن تلك النواحي الجبلية البدوية لم يكن بها رجال من أهل العلم مؤهلين للاعتناء بالتاريخ والكتابة، ومن لهم عناية بهذا الموضوع من أهل الحواضر -وهم قليلون في مغربنا- لم يكونوا يعرفون عن تلك الناحية شيئاً لبعدها عنهم وعن طريقهم في أسفارهم ورحلاتهم لمدن المغرب، ولولا أن ثورة ابن أبي الطواجن كانت مشهورة لقرب موقعها من تطوان وذيوع مقتل الشيخ على يده لما أشار إليه ابن خلدون في (العبر).

وما لنا نذهب بعيداً وإننا نرى في كل عصر من العصور حتى عصرنا هذا كثيراً من أكابر العارفين والصالحين مهملين مجهولين لا يعرفهم إلاّ آحاد الناس وهم والحالة هذه بالحواضر بين المثقفين والأدباء والمؤرخين والباحثين فكيف بالبادية في رأس جبل العلم الذي يبعد عن سطح المستوى من الأرض بأربع ساعات في غابة عظيمة مع وعر شديد وعقبة كؤود من كل النواحي، فلا نرى في ذلك إشكالاً . والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه.

نسائم الرحمن
28-08-2014, 01:53 PM
شكرا على هذه الترجمة الوافية لولى من اولياء الله الصالحين ونرجو منكم المزيد بارك الله فيكم وفيما خطت اياديكم

ماجد
28-08-2014, 02:48 PM
شكرا اخى واللهم ارض عن ساداتنا أل البيت عليهم رضوان الله تعالى

جنة
28-08-2014, 03:01 PM
شكرا جزيلا على الترجمة والسيرة الشارحة لحياة ومأثر اولياء الله الصالحين عسانا نقتدى بهم فى زمن طغت فيه المادية واساليبها على سمو الروح وعلوها واتصالها بربها عز وجل

ظفار العدوى
29-08-2014, 01:15 AM
شكرا على الطرح القيم بارك الله فيك وفى مجهوداتك معنا بالمنتدى

الفقيه صالح
06-09-2014, 04:26 AM
http://www.alamifamily.com/known/msheish.gif
صورة لمولاي وسيدي عبد السلام بن المشيش استاد الامام الشاذلي صاحب الطريقة الشاذلية وصاحب دعوة المشيشية رضي الله عنه

سامر سويلم
06-09-2014, 06:52 PM
لعلها تشابه اسماء اخي الفقيه
فلم يكن هناك تصوير والصورة هذه غير مرسومة

مركوش
23-10-2014, 12:02 PM
مشكور وبارك الله فيك على الطرح الطيب