المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سير الغزالي الى الطريق



سامر سويلم
21-10-2014, 02:29 PM
هكذا تخلى أبو حامد الغزالي رحمه الله للسير في الطريق

لاحظت أحوالي, فإذا أنا منغمس في العلائق, وقد أحدقت بي من الجوانب, ولاحظت أعمالي –وأحسنها التدريس والتعليم - فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة.

ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت, فتيقنت أني على شفا جُرُف هار، وأني قد أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال.

فلم أزل أتفكر فيه مدة، وأنا بعدُ على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً، وأحل العزم يوماً، وأقدم فيه رجلاً وأؤخر عنه أخرى, لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة، إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فيفترها عشية, فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي:

(الرحيل! الرحيل! فلم يبق من العمر إلا قليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل! فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟)

فعند ذلك تنبعث الداعية ، وينجزم العزم على الهرب والفرار.

ثم يعود الشيطان ويقول: (( هذه حال عارضة، إياك أن تطاوعها، فأنها سريعة الزوال, فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمر المسلم الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليه نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة. ))

فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مائة. وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة إلي، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب: فكان لا ينساغ لي ثريد، ولا تنهضم لي لقمة, وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: (( هذا أمر نـزل بالقلب ، ومنه سرى إلى المزاج ، فلا سبيل إليه بالعلاج ، إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم )).

ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي (( يجيب المضطر إذا دعاه ))، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال (والأهل والولد والأصحاب)، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أدبّر في نفسي سفر الشام حذراً أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي على المقام في الشام, فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً, واستهدفت لأئمة أهل العراق كافة، إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون للإعراض عما كنت فيه سبب دينيّ، إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين, وكان ذلك مبلغهم من العلم.

ثم ارتبك الناس في الاستنباطات، وظن من بعُد عن العراق، أن ذلك كان لاستشعار من جهة الولاة, ( وأما من قرب من الولاة ): كان يشاهد إلحاحهم في التعلق بي والانكباب عليَّ، وإعراضي عنهم، وعن الالتفات إلى قولهم، فيقولون: (( هذا أمر سماوي ، وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام وزمرة أهل العلم )).

ففارقت بغداد، وفرقت ما كان معي من المال، ولم أدخر إلا قدر الكفاف، وقوت الأطفال، ترخصاً بأن مال العراق مرصد للمصالح، ولكونه وقفاً على المسلمين. فلم أر في العالم مالاً يأخذه العالم لعياله أصلح منه.

ثم دخلت الشام، وأقمت به قريباً من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة, والرياضة والمجاهدة، اشتغالاً بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله ( تعالى )، كما كنت حصلته من كتب الصوفية, فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق، أصعد منارة المسجد طول النهار، وأغلق بابـها على نفسي.

ثم رحلت منها إلى بيت المقدس، أدخل كل يوم الصخرة، وأغلق بابـها على نفسي.

ثم تحركت فيَّ داعية فريضة الحج ، والاستمداد من بركات مكة والمدينة. وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله وسلامه عليه ؛ فسرت إلى الحجاز.

ثم جذبتني الهمم، ودعوات الأطفال إلى الوطن، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه. فآثرت العزلة به أيضاً حرصاً على الخلوة، وتصفية القلب للذكر.

وكانت حوادث الزمان ، ومهمات العيال، وضرورات المعاش، تغير فيَّ وجه المراد، وتشوش صفوة الخلوة. وكان لا يصفو لي الحال إلا في أقوات متفرقة. لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها، فتدفعني عنها العوائق، وأعود إليها.

ودمت على ذلك مقدار عشر سنين, وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به: إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله (تعالى) خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق. بل لو جُمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً. فإن جميع حركاتـهم وسكناتـهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من ( نور ) مشكاة النبوة, وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.

وبالجملة، فماذا يقول القائلون في طريقة، طهارتـها - وهي أول شروطها - تطهير القلب بالكلية عما سوى الله (تعالى)، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة، استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟ وهذا آخرها بالإضافة إلى ما يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها. وهي على التحقيق أول الطريقة، وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه.

ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات ( والمشاهدات )، حتى أنـهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة، وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد. ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال، إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه.

وعلى الجملة. ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول ، وطائفة الاتحاد ، وطائفة الوصول، وكل ذلك خطأ. وقد بينا وجه الخطأ فيه في كتاب (( المقصد الأسنى )) ؛ بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول :

وكان ما كان مما لستُ أذكره فظنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبرِ!

سلمى النويشى
22-10-2014, 04:49 PM
بارك الله فيك على الطرح الراقى

بلال
25-10-2014, 07:35 PM
لطيفة جميلة اخى سامر بارك الله فيك