شكرى
23-02-2016, 05:30 PM
علم الحرث وحساب الشثور
د. إبراهيم بن عبدالله السماري(*)
علم الفلك والنجوم والحرث من العلوم التي ترجع نشأتها إلى تاريخ نشأة البشرية ذاتها، لأنه يعالج أخَصَّ خصوصيات الإنسان في مأكله ومشربه ومسكنه وتحركاته، بحكم أنه يتعلق بالمناخ والبيئة، وهذا يؤثر بشكل كبير في سلوك الإنسان وفي تحصيل قوته وأسباب رزقه. والسائد في أذهان كثير من الناس أن منطقة نجد في الجزيرة العربية عانت من التأخر العلمي حقبة تاريخية طويلة، غير أنه في مجال العلوم الشرعية والعلوم الأدبية واللغوية تؤكد لنا المصادر المعرفية من وثائق محلية ومخطوطات بين فينة وأخرى أن هذا التصور السائد في الأذهان لا يخلو من مبالغة بدليل الكشف عن علماء كان لهم تأثير ومنزلة رفيعة في مجتمعاتهم وربما في سير الأحداث التاريخية. كما توصل الباحثون إلى العثور على كتب غنية بالمادة العلمية التي تؤكد ازدهار الحياة العلمية في المجتمع النجدي في تلك الحقبة التي يصفها البعض بأنها الحقبة المظلمة. ومن المؤكد أن المنطقة عاشت مدداً وربما فترات زمنية وهي تعاني من الجهل وفشو البدع والخرافات. لكن الذي يدعو إلى الاعتراض وبالتالي ينشأ بسببه عدم القبول هو التعميم والمبالغة في وصف الجهل السائد. وتصبح الصعوبة أشدَّ في وصف الحياة العلمية في المناطق المنعزلة كمنطقة نجد في عصور سلفت حين يتعلق الأمر ببعض العلوم ذات الصبغة العلمية البحتة. ولنضرب لذلك مثالاً بعلم الفلك والنجوم والحرث، فقد يصعب التصديق بأن في نجد في حقبة تاريخية موغلة في القدم عدداً من المبرزين في هذا العلم وفق رؤية علمية صحيحة في ظروف حقبة يصفها بعض الباحثين بأنها العصور المظلمة. غير أنه ربَّما ندَّ عن أذهان هؤلاء الباحثين حقائق تكاد تكون من المُسَلَّمات، وفي مقدمتها أن (الحاجة أم الاختراع) وبيئة نجد بيئة زراعية، ويمكن وصفها بعدل بأنها بيئة شبه منغلقة. فهي بهذه الصفة ولظروف موضوعية أخرى تتعلق بالمعتقد والموروثات بحاجة ماسة إلى الإفادة من الأرض الاستفادة القصوى لتحقيق اكتفائها الذاتي، فكانت الضرورة داعية بإلحاح إلى المعرفة الواعية بعلم الفلك والحرث لتحقيق هذا الهدف. ولأن هذا العلم كما أسلفت من العلوم القديمة وفيه مؤلفات كثيرة، فقد كان من المفهوم أن يتجه إليه بعض النبهاء من أفراد هذا المجتمع ومحاولة تطبيق معطياته في ظروف بيئتهم المحلية بهدف تحقيق ما يصبو إليه مجتمعهم من سلامة التعامل مع المناخ والبيئة بما يكفل حسن الإنتاج وجودة الثمرة، وبالتالي برز بشكل لافت بعض العارفين بعلم الحرث وأسامي الأنواء وما يتبع ذلك من معرفة فصول السنة وأوقات الزرع ولقاح الأشجار وحصاد الثمار ونحو ذلك من معطيات هذا العلم المهم.
وتعدُّ أسرة آل شثري من الأسر المعروفة بنبوغ أفراد منها في هذا العلم يتوارثونه كابراً عن كابر منذ القرن الحادي عشر الهجري، ولم ينقطع نبوغ بعضهم فيه حتى بعد أن تحولت الأسرة فيما بعد من حقل الزراعة إلى حقل التجارة، وتبوأ البعض منهم المناصب العليا في الدولة قضائية وإدارية، وأصبح بعضهم من كبار التجار ورجال الأعمال، فهجروا مزارعهم إلى مناطق الاستقرار الحضري. غير أنهم لم يقطعوا ارتباطهم بالزراعة كلياً، كما لم ينقطع حنينهم إلى مرابع الآباء والأجداد. وممن يشار إليه اليوم منهم بالبنان في هذا العلم معرفة وبحثاً معالي الشيخ ناصر بن عبدالعزيز الشثري.
ولتأكيد معرفة أسرة الشثري بهذا العلم ونبوغها فيه كشف الدكتور محمد بن ناصر الشثري الستار عن مخطوطة مهمة عنوانها (جدول في علم الحرث على حساب الشثور) ألَّفها الشيخ صالح بن محمد الشثري من علماء القرن الثالث عشر الهجري، فقام بتحقيقها ونشرها في كتاب صدر عن دار الحبيب بالرياض عام 1427 هـ (2006م). بدأ المحقق كتابه بالإشارة إلى أهمية علم الحرث والتطورات التاريخية في علاقة أسرة الشثري به، مورداً بعض الأدلة على نبوغ بعضهم فيه، وضارباً مثلاً بالمؤلف الشيخ صالح الشثري عندما مرَّ على أناس من أهل بلده قبل العصر وهم يقطعون شجر الآثل فأقرهم على ذلك، فلما مرَّ بهم بعد العصر وهم يقطعون نهاهم عن ذلك، فأرادوا أن يتأكدوا من علمه فوسموا الأثل المقطوع قبل العصر بعلامة ووسموا الأثل المقطوع بعده بعلامة أخرى، وبعد مدة وجدوا أن المقطوع بعد الصلاة قد نخره السوس، في حين أن المقطوع قبل الصلاة لم يؤثر فيه السوس، وسبب ذلك أن الذي عنده معرفة بالحساب يعرف الوقت الذي يقطع فيه الأثل ولا يؤثر فيه السوس ودابة الأرض، فإن قُطع في غيره نخره السوس وربما تكسر وأنهد السقف المقام عليه حيث كان الناس يستخدمونه في بناء أسقف بيوتهم.
ثم يذكر المحقق طرفة تدل على علم المؤلف الذي كان جالساً مع صديقه الشيخ عبداللطيف آل الشيخ مفتي نجد وكبير علمائها في زمانه وقت نزول المطر، فقال الشيخ صالح: إن هذا المطر نزل في وقت الإكليل وحريٌّ أن ينبت الكمأة (الفقع)، فاعترض الشيخ عبداللطيف محتجاً بأن وقت إنبات الكمأة قد انقضى، وأضاف مازحاً: إلا إذا كان سينبت تحت مقطار قربة الوالدة. ثم إن هذا المطر أنبت الكمأة -بإذن الله- وجلب بكميات إلى السوق، فاشترى منه الشيخ صالح وأرسل منه للشيخ عبداللطيف وكتب معه رسالة قال فيها مداعباً صديقه: ويصلكم -إن شاء الله- كمية من الفقع وجدناها تحت مقطار قربة الوالدة. وبعد المقدمة ترجم المحقق للمؤلف ترجمة تناول فيها نسبه وحياته ومشايخه وتلاميذه ومؤلفاته، كما أورد نصوص رسائل متبادلة بين المؤلف وبعض حكام وعلماء عصره تبين منزلته العلمية الرفيعة ومشاورته في الملمات والاعتداد برأيه والاستشهاد به في مواجهة المخالفين، وفي تأييد بعض المسائل الفقهية المختلف فيها. ثم أثبت المحقق نَصَّ المخطوطة حيث تحدَّث المؤلف عن المسار الفلكي للقمر والشمس ظهوراً واختفاءً ومنازلَ مع المقارنة بين السنوات القمرية والشمسية والرومية، كما فصَّل القول في عدد البروج وأسمائها والنجوم الطوالع والأنواء ومدة وخصائص وصفات كل منها وما يختص به كل فصل من فصول السنة من ذلك. ومن اللافت للنظر المتأمل أن المؤلف ركَّز على ما تحتاج إليه بيئته، فكان يذكر من خصائص الطوالع والأنواء ما يفيد مجتمعه كذكره الأوقات الملائمة لزراعة كل نوع من أنواع المزروعات وطريقة التعامل معها بحسب البروج والطوالع والأنواء، وكإشارته إلى الوقت الذي تهيج فيه فحول الإبل لحاجتهم إلى تكثير نسلها، وإلى الوقت الذي يقطع فيه الأثل فلا ينخره السوس لاعتمادهم عليه في بناء بيوتهم، وما يحسن أكله أو تجنبه من المطعومات والمشروبات بحسب اختلاف البروج والطوالع والأنواء، وهكذا. وبعد ذلك يقال: إن المحقق الدكتور محمد بن ناصر الشثري قد بذل جهداً كبيراً لإخراج المخطوطة في حلة علمية جميلة وإدناء فوائدها للقراء، فأحسن المعالجة العلمية والخدمة التوثيقية للنص، وظهرت قدراته البحثية عن طريق تخريج الآيات والأحاديث والنقول والتعليق والتوضيح لما يحتاج إلى شيء من ذلك. وبالتالي فإن هذا الكتاب المحقق يعدُّ إضافة علمية مهمة للمكتبة الوطنية.
(*)عضو الجمعية السعودية للدراسات الدعوية عضو اللجنة العلمية
د. إبراهيم بن عبدالله السماري(*)
علم الفلك والنجوم والحرث من العلوم التي ترجع نشأتها إلى تاريخ نشأة البشرية ذاتها، لأنه يعالج أخَصَّ خصوصيات الإنسان في مأكله ومشربه ومسكنه وتحركاته، بحكم أنه يتعلق بالمناخ والبيئة، وهذا يؤثر بشكل كبير في سلوك الإنسان وفي تحصيل قوته وأسباب رزقه. والسائد في أذهان كثير من الناس أن منطقة نجد في الجزيرة العربية عانت من التأخر العلمي حقبة تاريخية طويلة، غير أنه في مجال العلوم الشرعية والعلوم الأدبية واللغوية تؤكد لنا المصادر المعرفية من وثائق محلية ومخطوطات بين فينة وأخرى أن هذا التصور السائد في الأذهان لا يخلو من مبالغة بدليل الكشف عن علماء كان لهم تأثير ومنزلة رفيعة في مجتمعاتهم وربما في سير الأحداث التاريخية. كما توصل الباحثون إلى العثور على كتب غنية بالمادة العلمية التي تؤكد ازدهار الحياة العلمية في المجتمع النجدي في تلك الحقبة التي يصفها البعض بأنها الحقبة المظلمة. ومن المؤكد أن المنطقة عاشت مدداً وربما فترات زمنية وهي تعاني من الجهل وفشو البدع والخرافات. لكن الذي يدعو إلى الاعتراض وبالتالي ينشأ بسببه عدم القبول هو التعميم والمبالغة في وصف الجهل السائد. وتصبح الصعوبة أشدَّ في وصف الحياة العلمية في المناطق المنعزلة كمنطقة نجد في عصور سلفت حين يتعلق الأمر ببعض العلوم ذات الصبغة العلمية البحتة. ولنضرب لذلك مثالاً بعلم الفلك والنجوم والحرث، فقد يصعب التصديق بأن في نجد في حقبة تاريخية موغلة في القدم عدداً من المبرزين في هذا العلم وفق رؤية علمية صحيحة في ظروف حقبة يصفها بعض الباحثين بأنها العصور المظلمة. غير أنه ربَّما ندَّ عن أذهان هؤلاء الباحثين حقائق تكاد تكون من المُسَلَّمات، وفي مقدمتها أن (الحاجة أم الاختراع) وبيئة نجد بيئة زراعية، ويمكن وصفها بعدل بأنها بيئة شبه منغلقة. فهي بهذه الصفة ولظروف موضوعية أخرى تتعلق بالمعتقد والموروثات بحاجة ماسة إلى الإفادة من الأرض الاستفادة القصوى لتحقيق اكتفائها الذاتي، فكانت الضرورة داعية بإلحاح إلى المعرفة الواعية بعلم الفلك والحرث لتحقيق هذا الهدف. ولأن هذا العلم كما أسلفت من العلوم القديمة وفيه مؤلفات كثيرة، فقد كان من المفهوم أن يتجه إليه بعض النبهاء من أفراد هذا المجتمع ومحاولة تطبيق معطياته في ظروف بيئتهم المحلية بهدف تحقيق ما يصبو إليه مجتمعهم من سلامة التعامل مع المناخ والبيئة بما يكفل حسن الإنتاج وجودة الثمرة، وبالتالي برز بشكل لافت بعض العارفين بعلم الحرث وأسامي الأنواء وما يتبع ذلك من معرفة فصول السنة وأوقات الزرع ولقاح الأشجار وحصاد الثمار ونحو ذلك من معطيات هذا العلم المهم.
وتعدُّ أسرة آل شثري من الأسر المعروفة بنبوغ أفراد منها في هذا العلم يتوارثونه كابراً عن كابر منذ القرن الحادي عشر الهجري، ولم ينقطع نبوغ بعضهم فيه حتى بعد أن تحولت الأسرة فيما بعد من حقل الزراعة إلى حقل التجارة، وتبوأ البعض منهم المناصب العليا في الدولة قضائية وإدارية، وأصبح بعضهم من كبار التجار ورجال الأعمال، فهجروا مزارعهم إلى مناطق الاستقرار الحضري. غير أنهم لم يقطعوا ارتباطهم بالزراعة كلياً، كما لم ينقطع حنينهم إلى مرابع الآباء والأجداد. وممن يشار إليه اليوم منهم بالبنان في هذا العلم معرفة وبحثاً معالي الشيخ ناصر بن عبدالعزيز الشثري.
ولتأكيد معرفة أسرة الشثري بهذا العلم ونبوغها فيه كشف الدكتور محمد بن ناصر الشثري الستار عن مخطوطة مهمة عنوانها (جدول في علم الحرث على حساب الشثور) ألَّفها الشيخ صالح بن محمد الشثري من علماء القرن الثالث عشر الهجري، فقام بتحقيقها ونشرها في كتاب صدر عن دار الحبيب بالرياض عام 1427 هـ (2006م). بدأ المحقق كتابه بالإشارة إلى أهمية علم الحرث والتطورات التاريخية في علاقة أسرة الشثري به، مورداً بعض الأدلة على نبوغ بعضهم فيه، وضارباً مثلاً بالمؤلف الشيخ صالح الشثري عندما مرَّ على أناس من أهل بلده قبل العصر وهم يقطعون شجر الآثل فأقرهم على ذلك، فلما مرَّ بهم بعد العصر وهم يقطعون نهاهم عن ذلك، فأرادوا أن يتأكدوا من علمه فوسموا الأثل المقطوع قبل العصر بعلامة ووسموا الأثل المقطوع بعده بعلامة أخرى، وبعد مدة وجدوا أن المقطوع بعد الصلاة قد نخره السوس، في حين أن المقطوع قبل الصلاة لم يؤثر فيه السوس، وسبب ذلك أن الذي عنده معرفة بالحساب يعرف الوقت الذي يقطع فيه الأثل ولا يؤثر فيه السوس ودابة الأرض، فإن قُطع في غيره نخره السوس وربما تكسر وأنهد السقف المقام عليه حيث كان الناس يستخدمونه في بناء أسقف بيوتهم.
ثم يذكر المحقق طرفة تدل على علم المؤلف الذي كان جالساً مع صديقه الشيخ عبداللطيف آل الشيخ مفتي نجد وكبير علمائها في زمانه وقت نزول المطر، فقال الشيخ صالح: إن هذا المطر نزل في وقت الإكليل وحريٌّ أن ينبت الكمأة (الفقع)، فاعترض الشيخ عبداللطيف محتجاً بأن وقت إنبات الكمأة قد انقضى، وأضاف مازحاً: إلا إذا كان سينبت تحت مقطار قربة الوالدة. ثم إن هذا المطر أنبت الكمأة -بإذن الله- وجلب بكميات إلى السوق، فاشترى منه الشيخ صالح وأرسل منه للشيخ عبداللطيف وكتب معه رسالة قال فيها مداعباً صديقه: ويصلكم -إن شاء الله- كمية من الفقع وجدناها تحت مقطار قربة الوالدة. وبعد المقدمة ترجم المحقق للمؤلف ترجمة تناول فيها نسبه وحياته ومشايخه وتلاميذه ومؤلفاته، كما أورد نصوص رسائل متبادلة بين المؤلف وبعض حكام وعلماء عصره تبين منزلته العلمية الرفيعة ومشاورته في الملمات والاعتداد برأيه والاستشهاد به في مواجهة المخالفين، وفي تأييد بعض المسائل الفقهية المختلف فيها. ثم أثبت المحقق نَصَّ المخطوطة حيث تحدَّث المؤلف عن المسار الفلكي للقمر والشمس ظهوراً واختفاءً ومنازلَ مع المقارنة بين السنوات القمرية والشمسية والرومية، كما فصَّل القول في عدد البروج وأسمائها والنجوم الطوالع والأنواء ومدة وخصائص وصفات كل منها وما يختص به كل فصل من فصول السنة من ذلك. ومن اللافت للنظر المتأمل أن المؤلف ركَّز على ما تحتاج إليه بيئته، فكان يذكر من خصائص الطوالع والأنواء ما يفيد مجتمعه كذكره الأوقات الملائمة لزراعة كل نوع من أنواع المزروعات وطريقة التعامل معها بحسب البروج والطوالع والأنواء، وكإشارته إلى الوقت الذي تهيج فيه فحول الإبل لحاجتهم إلى تكثير نسلها، وإلى الوقت الذي يقطع فيه الأثل فلا ينخره السوس لاعتمادهم عليه في بناء بيوتهم، وما يحسن أكله أو تجنبه من المطعومات والمشروبات بحسب اختلاف البروج والطوالع والأنواء، وهكذا. وبعد ذلك يقال: إن المحقق الدكتور محمد بن ناصر الشثري قد بذل جهداً كبيراً لإخراج المخطوطة في حلة علمية جميلة وإدناء فوائدها للقراء، فأحسن المعالجة العلمية والخدمة التوثيقية للنص، وظهرت قدراته البحثية عن طريق تخريج الآيات والأحاديث والنقول والتعليق والتوضيح لما يحتاج إلى شيء من ذلك. وبالتالي فإن هذا الكتاب المحقق يعدُّ إضافة علمية مهمة للمكتبة الوطنية.
(*)عضو الجمعية السعودية للدراسات الدعوية عضو اللجنة العلمية