المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الثقافة الروحية



الشيخ درويش عبود المغربى
24-07-2008, 04:12 AM
بسم الله الرحمن الرحيم


اللهم صل على سيدنا محمد وال سيدنا محمد وصحبه وسلم





حين ننظر حولنا نرى كثيرا من ظواهر الظلم والعنف والقسوة والسيطرة التي يمارسها البشر فيما بينهم أفرادا أو مجتمعات.

ولا يخلو الكون من صوت ما ينادي البشر إلى علاقات إنسانية يسودها العدل والرحمة.

ربما نكون غير مبالغين حين نقول:

إن هذا الصوت الداخلي يهمس إلى كل إنسان مهما بلغت درجة أخطائه في حق الآخرين.
إن أعتي المجرمين أو السفاحين ليس محجوبا عن أن تنساب دموعه بغزارة إذا ما رأى طفلا صغيرا يتألم من جرح أو مرض فهناك بقعة ما في وجوده يمكن أن تلمسها الرحمة والمحبة ..بقعة أعمق من وعيه الظاهر.
المشكلة الكبرى هي أننا نستطيع أن نميز صوت الداخل وهو يدعو إلى المعاني الأجمل والأفضل بسهولة، بل ونتشدق بها بوضوح وثقة حين نكون مشاهدين لموقف ما عن بعد وليس طرفا فيما يقع على آخرين حولنا.

ولكن حين نكون طرفا في حدث أو قضية ما فإننا غالبا ما نستجيب بسرعة وحماس لصوت الـ"أنا" التي تريد أن تنتصر لنفسها بأي طريقة، أو تستأثر بالخير أو تسيطر أو تظلم أو تنتقم.

وغالبا ما نغطي ظلمنا للآخرين بمبررات تعطينا الحق في سلوكنا الجائر وتصوره لنا على أنه الحق والعدل المطلق الذي لا يفهمه الآخرون.
وعندها لا نسمع صوت الداخل مهما علا، بل نخرسه ونتجاهله وهو ينادينا إلى توخي العدل أو الإيثار أو التسامح أو الرحمة أو الاتساع أو الكرم أو التعالي على الصغائر.

نحن نفعل ذلك مع أقرب الأقربين فما بالك بالغرباء أو الأعداء!

فكم من أزواج لا يرين من زوجاتهم إلا أنهم وسائل لخدمتهم أو إمتاعهم ويغلفون ذلك باسم "الواجب وحق الزوج"! .....
وكم من زوجات يعتبرن أزواجهم وما يملكون "ملكية خاصة" لهن ولا يحق لهم العطاء لأي مخلوق غيرهن ماديا أو معنويا إلا مما يسمحن هن به!.....
ويبررن ذلك السلوك أيضا بأنها "حقوقهن"! ...

وكم من الآباء يعتبرون أبناءهم لم يخلقوا إلا ليرضوا عندهم غريزة حب البقاء بأن يكونوا امتدادا لهم وبالصورة التي يريدون تشكيلها تماما!...
فإذا ما أراد الأبناء أن يتجاوبوا مع استعداداتهم الشخصية التي يتفردون بها والتي قد تختلف بطبيعة الحال عن الآباء اعتبرهم آباؤهم عاقين أو جاحدين!

كثير من الآباء لا ينجون من نزوع لـ "تجميد" العلاقة مع أبنائهم في صورة الاحتياج الفسيولوجي والنفسي الذي لا ينمو ولا يتطور.
والحقيقة أن هذا الاحتياج يصبح احتياج الآباء أنفسهم لإطار أو دور في الحياة لا يستطيعون الخروج منه إلى رحاب أوسع.
وحين تتحرك الحياة تذكرهم بانقضاء هذا الدور تتسبب في جرحهم بل عذابهم، فهم لا يدرون أنهم يمكنهم التخلص من هذا العذاب إذا ما أتاحوا لأنفسهم رؤية العلاقة بأبنائهم بصورة مختلفة، قد تتطور للأجمل ولأدوم.



وكم من الأبناء لا يميزون بين حقوقهم في الحرية والاختلاف وبين حق آبائهم في أن يحترموهم ويرعوهم ويحافظوا على مشاعرهم ويشعرون بالامتنان لهم ما بذلوا من جهد ومحبة وعطاء وعناية خالصة مخلصة وهم بعد صغار بلا حول ولا قوة! ....
وكم من الأبناء يبررون جحودهم قائلين إن كل جهد بذله الأبوان واجب عليهم لا يستحق منهم أي امتنان أو عرفان بالجميل! ....
إن العلاقة في هذه الأحوال جميعا تتحول إلى نوع من "الاستعمال" المتبادل، لا الحب ولا الرحمة ولا الارتباط المعنوي المنـزه عن أي غرض.

وكم من صاحب عمل لا يرى في مرؤسيه أكثر من "أدوات" لنجاح مصنعه أو شركته فيستنزف جهدهم إلى أقصى درجة حريصا على أن ينزل بأجورهم إلى أقل قدر ممكن؟
يريد أن يأخذ بلا حدود ويعطي في أقل الحدود!...

وكم من سيد لا يرى في خادمه أكثر من "آلة" لراحته وما انشغل لحظة بالتفكير فيه كإنسان أو كلف نفسه مهمة إسعاده أو إدخال السرور إلى نفسه!

هل جال ببالنا أن معظم المشكلات التي نعاني منها في علاقاتنا الإنسانية كأفراد، والتي يعاني منها عالمنا المعاصر كأمم وشعوب مرجعها الجهل بقوانين الروح أو بمعنى آخر الجهل بالقوانين التي تكشف عن الوحدة بين كل جزيئات هذا الكون بما فيها الإنسان ماديا ومعنويا؟

هل من الممكن أن يتغير وجه الحياة البشرية تماما إذا ما انتشرت الثقافة الروحية؟

إن كثيرا من العلوم الحديثة تثبت أن جهل الإنسان بقوانين الروح أدى إلى أنواع متعددة من الخلل الذي يعبر عن نفسه في التلوث البيئي والجفاف وارتفاع درجة حرارة الأرض.
غياب الوعي الروحي يؤدي إلى قصور في فهم الإنسان لعلاقته بالطبيعة، يريد أن يسيطر عليها، لا أن يتناغم معها فتثور عليه مدافعة عن نفسها.
والحروب محصلة قدر هائل من الفشل في العلاقات الإنسانية لأن كل إنسان أو جماعة يريد أن تكون له السطوة وحده.

والمجاعات وحرمان عدد كبير من البشر من أبسط مظاهر الحياة الكريمة هو نتاج غلبة "الأنانية" على بني آدم.

وبالتالي فكثير من الأمراض المنتشرة هي نتاج صراع الإنسان مع نفسه لأنه قلق متوتر متعب وغير متناغم مع صوت داخله يدعوه إلى البحث عن معنى أسمى لحياته لكنه لا يعرف كيف يحققه، وكلما فشل كلما ازداد غضبا وعنفا وكراهية لنفسه ولمن حوله.



وحين نقول "قوانين الروح" فنحن لا نعني عالما مثاليا أو خياليا أو مستحيل التحقيق على الأرضاو حتى نخرج عن مفهوم الاسلام والعلوم الربانيه المحمديه بل نريد العكس تماما وهو أن يجعل الإنسان من كل نشاطاته الحياتية الواقعية مجالاللتطبيق المنهج الربانى و لتطوير كل شيء من حوله إلى الأفضل على جميع المستويات.

فالعلم بقوانين الروح يجعل الإنسان يتفاعل بعمق مع كل شيء حوله وداخله، وهو يوقن أن كل فعل له مردود أكبر مما هو مادي أو لحظي.

فهو مثلا وهو يتقن العمل يشعر براحة لهذا الإتقان لأن حرصه عليه يعطيه الإحساس بأنه اكتسب معنى في وجوده هو معنى الإخلاص الذي يجعل منه كيانا أقوم.

يقول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : « إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه » .
وفي نص آخر: « أن يحكمه » .


والجهل بحقائق الروح هو توقف الوعي الإنساني عند احتياجات الإنسان المادية المُلحة والسطحية التي تلتهم اهتمامه بالكامل.

احد الحكماء قال : "إننا نحاول أن نكشف عن القوى الإلهية الكامنة فيكم، فتكونون خير خلفاء لله في الأرض، ونحاول أن نبين لكم، أن الإنسان ليس مخلوقا ماديا فقط، بل هو في الحقيقة مخلوق روحي، تسربل بلباس المادية.
هو ذلك الجسد الذي يلازمه أثناء حياته الأرضية فقط، والعاقل من يلتفت إلى جسمه الروحي، فيعطيه حقه من العناية، وبذلك يخطو سريعا في معارج الرقي."

﴿لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾



وهنا لا يكفي أن يقول أي منا أنه يدرك أنه روح قبل أن يكون جسدا...
لأن الأمر ليس مجرد ترديد لمعلومة ذهنية...إنه تحول كامل وخلق جديد.

إنه خروج بكيان الإنسان كله من مملكة الحيوان بكل صفاتها إلى مملكة الروح الأعظم...
حيث يكون الإنسان تجليا وتعبيرا عن كل الأخلاق الكريمة...
وتنتفي عنه صفات الأنانية والجشع والتكبر والدونية بكل مستوياتها.

إنها رحلة طويلة نحو الرقي تبدأ بإدراك الإنسان لنفسه كروح.

وحين يدرك الإنسان "أصله" الروحي ويرتبط به فهو يدرك تلقائيا ارتباطه بكل ذرة في الكون... وبالأجدر بأخوته في الإنسانية.
وقتها سيعرف أن كل ما لديه من نعمة العقل والصحة والعلم والمال هو "مسئولية" تجاه نفسه وتجاههم.
فيعمل على تحقيق رسالته على الأرض والتي تتلخص في كلمة واحدة هي "الخدمة". وتلك الكلمة في الرسالة الروحية تشير إلى معنى أكبر من مجرد الحركة الجارحية بأي صورة....
فالخدمة هي التعبير عن معنى عميق يحول كيان الإنسان كله تدريجيا إلى طاقة خالصة من الحب تعبر عن نفسها إلى نفسها التي هي جميع المخلوقات.

إنها طاقة تنبع من الإنسان الذي عرف كيف يهيئ جهازه الروحي للارتباط بالطاقة الكونية اللامتناهية من المحبة فيقول الحكيم أن العالم كله ما خلق إلا ليعبر عن طاقة الحب هذه.
والإنسان يحرم نفسه منها لأنه لا يعرف كيف يعيش رحلته الأرضية من منظور صحيح.

إن كل شيء في الوجود من الممكن أن يكون وسيلة رائعة لتفجير طاقة الحب في الإنسان إذا ما عرف كيف تتحول كل أسباب حياته إلى معنى الخدمة. ( المتصوفون )

والإنسان يفقد قدراته على التطور الروحي تماما إذا ما قطع هذا الإحساس بالتواصل مع طاقة الحب في الكون.
فما الذي يقطع حبل التواصل؟
يقول الحكيم إن "الأنانية" هي أكبر سبب لذلك...
لأن الإنسان حين يسجن نفسه بنفسه في دائرة نفسه يكون كمن يبني من هذه الذات المادية سورا عاليا وكثيفا جدا يحجب عنه أي تفاعل مع المعنى الروحي في أعماقه أو مع من حوله من الناس أو المخلوقات.
فالشخص الأناني لا يستطيع أن يدرك قيمة أي شيء إلا من منظور ما يحققه له من مردود ذاتي محسوس.
وتأتي دوافع سلوكه جميعا من منطلق ما تصبو إليه الذات وهو لا يدري بذلك أنه في الحقيقة لا يكسب إلا ما هو زائل وزائف ويحرم تماما من تحقيق المعاني التي تحقق له معنى إنسانيته.
إن الحاجز العملاق الذي تبنيه أنانيته يحرمه من كل المعاني الأرقى والأكثر رهافة وجمالا.



الإنسان الذي يدرك معناه كروح ويريد أن يعيش الحياة من ذلك المنظور تتكون لديه "رهافة" شعورية وقلبية تؤهله للتمييز بين "الحب" في معناه الحقيقي وبين النـزوع إلى "التملك".

الفرق بينهما شاسع شاسع.

فالأم لا تستطيع أن تحب أبناءها بحق إلا إذا ارتبطت هي نفسها بقوة الحب الخلاقة والبناءة التي تحتضن الجميع.... عندها تسعد بنمو أبنائها وتطورهم إلى كيانات سوية مستقلة.
إنها تدرك أن تحققها لا يكون بسجنهم في ذاتها... بل بنمائهم مثل الشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين ولها الظلال الوارفة... تظلهم بعنايتها وأصلها ثابت في الأرض.
وبهذا الوعي يتكون بينها وبين أبنائها رباط وثيق ومتجدد دائما في كل مرحلة يمرون بها في نموهم الجسماني والمعنوي...تعيش فيها مشاعر متجددة لا متجمدة وهي جميعا ارتباط بالمحبة الخالصة والألفة والانتماء الذي لا يتعارض مع أي مشاعر جديدة تنشأ في حياة الابن لزوجة أو أبناء.


الأب المثقف روحيا يحترم خلق الله المتنوع كما يراه في ولده ويحاول أن يساعده على أن ينمي نفسه في حرية تشملها الرعاية والحنو ليتشكل كما هيأه الله وأهّله.... فتكون رسالته المساعدة لا السيطرة. إنه ينجو من هذا الإطار الثابت الذي يسجن نفسه فيه وبالتالي يسجن أولاده.



إن الثقافة الروحية تستهدف تحقيق "جودة" إنسانية.

فإذا ما كان صاحب العمل واعيا لقوانين الروح لأدرك أن ماله ونفوذه عطاء من الله يجعله سعيدا بأن يكون سببا من الله أيضا لتوفير الرزق لمن هم أقل حظا بلا منّ ولا شعور بأفضلية... بل يشكر الله فيما وهبه من فضل وينعكس ذلك في إقامة علاقة إنسانية جميلة بين الجميع.
رهافة الإنسان المتمتع بحس روحي تجعله يخشى ما يخشى أن يظلم إنسانا أو يستعبد إنسانا

لأنه أولا يوقن فعلا أنه سيدفع ثمن أي ظلم أوقعه على غيره...وسيقع في براثن من يستعبده ليُـرد له أثر فعله.
أي أنه سيدرك أن ما يقوم به من ظلم للآخرين ما هو إلا ظلم لنفسه.
وحين يريد أن يتخلص من ظلمه لنفسه لن يجد سبيلا لذلك إلا أن يعدل مع الآخرين أو يحسن إليهم ويتسامح.

من يتثقف روحيا ربانيا يدرك تلك الوحدة المعنوية أو الروحية القائمة بين البشر بل بين جميع المخلوقات. ويرقى من مرحلة إلى مرحلة أعلى دون توقف... وفي حركته ورقيه يجذب إليه ملايين البشر الذين تتفتح قلوبهم إلى معاني الروح.

نعم الثقافة الروحية قادرة على أن تغير وجه الأرض.

منقول للفائدة

زهرة زمان
24-07-2008, 10:42 AM
بارك الله فيك .. ونعم الموضوع والاختيار

محمود
17-08-2008, 01:35 AM
شكرا لك جزيلا عن هذه المعلومات القيمة وبارك الله فيك أيها الشيخ

خالد الطيب
17-08-2008, 01:36 AM
جزيت خيرا شيخنا الفاضل

الشيخ درويش عبود المغربى
07-09-2008, 11:03 AM
شكرا لمروركم العطر وجميل ردودكم وكل عام وانتم بخير

أمير القلوووب
25-09-2008, 04:18 PM
بارك الله فيك يا مولانا

خالد
25-09-2008, 06:45 PM
يعطيك العافية وجزاك الله خير

هبة سيد2007
07-10-2008, 06:56 PM
جزاك الله خيرا موضوع جميل

نور القلوب
21-07-2020, 06:54 PM
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا ...

امنية
22-07-2020, 12:52 PM
جزاك المولى الجنه يا شيخ ووكتب لك اجر هذه الحروف وجعله المولى شاهداً لك لا عليك ولك احترامي وتقديري

الغزوانى
23-07-2020, 02:36 PM
بارك الله فيك يا شيخ

حنان رشدى
07-09-2020, 10:13 PM
بارك الله فيك يا مولانا

قمر الزمان
10-09-2020, 10:56 PM
جزاك الله خيرا يا شيخ موضوع قيم

nadouche
13-09-2020, 03:24 PM
شكراااا لك

كوثر
15-09-2020, 04:03 PM
جزيت خيرا شيخنا الفاضل

بلبلة
23-06-2021, 11:55 AM
مشكوره وجزاكم الله كل خير

ذكرى
24-06-2021, 12:57 PM
جزاك الله خيرا