المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العين الثالثة بحسب معطيات الحكمة القديمة -2



الشيخ درويش عبود المغربى
27-07-2008, 12:50 PM
العين الثالثة بحسب معطيات الحكمة القديمة
العين الثالثة

ا

تعلِّمنا الحكمة القديمة، على اختلاف مصادرها وتنوُّع أساليب تعبيرها، أن بدء كلِّ شيء كان فيضًا للوجود عن مبدئه، وأن هذا الفيض قد تمَّ لكي تتحقق لهذا الوجود معرفةُ مبدئه، أو بالأصح لكي يعرف المبدأ ذاته في وجود صادر عن ذاته. وتعلِّمنا أيضًا أن المبدأ قد التفَّ على ذاته وانثنى في تضاعيف الوجود، في حركة صادرة عنه، فيه، ترمي إلى ظهور وعي الوعي، أي الوعي المُدرِك ذاته؛ حتى إذا تمَّ للمبدأ ذلك في أدنى العوالم وأغلظها على سلَّم المراتب الكونية، وذلك بظهور الإنسان على أرضنا هذه فيما يُعرَف بفعل الانغلاق أو الانثناء الذي ينطوي على كلِّ الممكنات المبدئية، بما فيها المبدأ ذاته، عاد الوجود من جديد ليتفتَّح عن ممكناته كلِّها، في حركة تصاعدية توَّاقة إلى الرجوع إلى المبدأ الذي انبثقت عنه، غنيَّة بكلِّ الممكنات المتفتِّحة التي تحققت في الوجود، مستغرقة في مآل الأمر في مبدئها حيث تكتمل الدائرة الكبرى، وتلتقي البداية بالنهاية، وتنتهي سلسلة الوجود الغائية العظيمة في امتلاء هو الكل في الكل… وهكذا دواليك، إلى ما لانهاية.


وتعلِّمنا الحكمة أيضًا أن الانثناء أو الانغلاق Involution يتم على “فترات عالمية” كبرى تقيم إبانها “موجة” من موجات الحياة الكونية على كوكب من الكواكب. وتقول لنا الحكمة إنه إبان كل “فترة عالمية” تتوالى على أحد الكواكب – وليكن الأرض مثلاً – سبع “ذرِّيات أمهات” Mother-Races تعبِّر عن المسار الكلِّي الذي تسلكه كلُّ بشرية في انغلاق المبدأ فيها وتفتُّحه على مستوى الوجود الأرضي، ويتضمَّن كلٌّ منها سبع “ذريات تحتية” Sub-Races، ينقسم كلٌّ منها إلى سبعة فروع.
ونجد في كتاب العقيدة السرية للسيدة بلافاتسكي وصفًا عامًّا دقيقًا للذريات البشرية الأولى وهبوطها المتدرِّج في العالم الجسماني. ونشير، في هذا الصدد، إلى أن البشرية ظهرت في الدورة الرابعة – والدورة Rounder هي الفترة التي يستغرقها اجتياز موجة الحياة للأجرام السبعة المتفاوتة الكثافة التي تشكِّل الأرضَ في كلِّيتها –، وأن انفصال الجنسين في الدورة الحالية، بعد أن كان الإنسان كائنًا أحدي الجنس، لم يتم إلا في أواسط الذرية البشرية الثالثة، وأن كلَّ دورة مخصصة في المقام الأول، فيما يتعلق بالبشرية بعامة، لتكوُّن وتفتُّح أحد “المبادئ” السبعة المكوِّنة للإنسان في بنيانه الباطن. وتلمِّح العقيدة السرية إلى أن ظهور حاسة جديدة ونموها مع ظهور كلِّ “ذرية أم” يترافق بتفتُّح معين يقع على الحواس الأخرى التي سبق لها أن تفتَّحت مع ظهور الذريات الأمهات السابقات.
أما المبادئ السبعة[7] التي تكوِّن البنيان الباطن للإنسان فهي اصطلاحًا من الأدنى إلى الأعلى، أو من الألطف إلى الأكثف

المبادئ الباطنية السبعة للإنسان في تَراتُبها المنبثق عن الموناد التي هي شعاع من الروح الكلِّي.
1. الجسم الجُرْمي (أو البدن)؛
2. طاقة الحياة prāna
3. الجسم النجمي astral body
4. الجسم الرغائبي (النفس الحيوانية) kāmarūpa
5. الذهن manas
6. الجسم الإشراقي أو العقل (مبدأ الفهم) buddhi
7. الروح atmā
والمكوِّن الثاني ليس مركبة بالمعنى الدقيق، بل هو “مبدأ الحياة”، المتخلِّل الكيان كلَّه والمحمول على الجسم النجمي. العقل كذلك عقلان: “ذهن أدنى” و”ذهن أرفع” (فكر)، يفصل بينهما جسر من قوام العقل هو “الحاسة الباطنة” antahkārana. ويؤلِّف البدن مع الجسم النجمي والطاقة الحيوية الجسم، والجسم الرغائبي مع الفكر (الجسم الذهني mental body) “النفس الدنيا”، والعقل الأرفع (الجسم العِلِّي causal body) “النفس العليا”؛ وأخيرًا يؤلف اجتماع الجسم الإشراقي والروح[8] ما يسمى اختصارًا بـ”الموناد” Monad أو الإله الباطن.
كذلك تخبرنا تعاليم الحكمة المشرقية القديمة أن الطاقة الكونية، في انثنائها في الإنسان، تنطوي في كيانه الباطن عند قاعدة العمود الفقري على هيئة حيَّة غافية ملتفة على ذاتها تدعى كونداليني. وهذه الطاقة، انسجامًا مع حركة التطور الصاعد في الكون، تقوم لدى استيقاظها بحركة لولبية تصاعدية مقايِسة للحركة الكونية، تنطلق من قاعدة العمود الفقري باتجاه الرأس، حيث توجد الغدتان النخامية والصنوبرية، فتفتح باطن الإنسان على التحقُّق بممكناته الكونية والروحية. وبين القاعدة وهاتين الغدتين توجد ثلاثة مسالك أو قنوات للطاقة في صعودها نحو الأعلى: قناة سوشومنا sushumnā الشاقولية المركزية، التي تقابل القناة الشوكية للعمود الفقري؛ وقناتا إيدا وبِنْغلا الأثيريتان. تقع قناة إيدا idā إلى يسار سوشومنا، وقطبيَّتها مؤنثة أو سالبة؛ وفي رحلتها الصاعدة تحمل الطاقة إلى النخامة في الرأس، وتجذب طاقة برانا الحيوية السالبة من الأرض باتجاه الأعلى؛ بينما تقع قناة بِنْغلا pingalā إلى يمين سوشومنا، وقطبيَّتها مذكَّرة أو موجبة؛ وفي رحلتها النازلة تحمل الطاقة من الصنوبرة في الرأس، وتجذب طاقة برانا الموجبة من الشمس (العقل الأرفع) وتعيدها إلى الأرض.
وتتقاطع هاتان القناتان ستَّ مرات على طول العمود الفقري عند نقاط تشكِّل ما يُعرَف بمراكز الطاقة (تشاكرا chakra).[9] وأصل هذه المراكز في العمود الفقري اللطيف، ويمكننا أن نقول إنها المقابلات اللطيفة للغدد الصم وللضفائر العصبية الرئيسية في جسم الإنسان. وهذه المراكز الستة، التي تقابل ستة من مبادئ البنيان الباطن للإنسان، هي، على التوالي:
1. المركز القاعدي: يقع أسفل الجسم، بين الشرج والعضو الجنسي. يقابل الغدد الجنسية والضفيرة الحوضية؛ ويقابله البدن.
2. المركز العجزي (أو الحوضي): يقع بين السُّرة والعانة. يقابل غدة الكظر والضفيرة الخثلية؛ وتقابلُه النفسُ الحيوانية.
3. المركز السُّري: يقابل الضفيرة الشمسية؛ ويقابله الذهن الأدنى.
4. مركز القلب: يقابل الغدة الصَّعترية والضفيرة القلبية؛ ويقابله الجسم الإشراقي أو العقل.
5. مركز الحنجرة: يقابل الغدة الدرقية والضفيرة البلعومية؛ وتقابله الروح.
6. “العين الثالثة”: موضوع بحثنا، التي كانت عضو البصيرة الروحية أو المشاهدة الصرف، ثم انقطعت عن العمل مع تراجع روحانية الإنسان ونزوعه المتزايد إلى المادية.[10] تقع بين الحاجبين، عند أصل الأنف. تقابل الغدتين النخامية والصنوبرية؛ ويقابلها الذهن الأعلى.
وأخيرًا يشار إلى وجود “مركز” سابع، هو المركز “التاجي”، ليس مركزًا بالمعنى الحرفي، بقدر ما هو حالة التحقق الروحي النهائي والاتحاد بالروح الكلِّي.

مراكز الطاقة في الجسم الإنساني.
فما هي المعطيات التي في حوزتنا عن “العين الثالثة”؟
جاء في الآيات 38-42 من المقطع العاشر من “نشأة الإنسان” في كتاب العقيدة السرية ما يلي:
(38) كذا، اثنين اثنين، على المناطق السبع، وَلَدت الذرية الثالثة أبناء الذرية الرابعة وعَدِم الآلهة ألوهتَهم.
(39) كانت الأولى، في كلِّ منطقة، بلون القمر؛ والثانية صفراء كالذهب؛ والثالثة حمراء؛ والرابعة سمراء، أمست سوداء بالخطيئة. كانت الغراس البشرية السبع الأولى جميعًا ذوات سحنة واحدة. أما السبع التالية فقد بدأت تتمازج.
(40) عندئذٍ صارت الرابعة منتفخة كِبَرًا. “نحن الملوك – قالت – نحن الآلهة.”
(41) واتخذ أبناؤها نساءً جميلات المرأى؛ نساء من بين عديمي الذهن ذوي الرؤوس الضيقة، فولدن مسوخًا، أبالسة خبيثين، ذكورًا وإناثًا، … .
(42) وشيَّدوا هياكل للجسم البشري، وعبدوا إناثًا وذكورًا. وحينئذٍ انقطعت العين الثالثة عن العمل.[11]
هكذا كان أبناء الذرية البشرية الرابعة هؤلاء هم بحق أول بني البشر كما نعرفهم اليوم. وتؤكد العقيدة السرية في صددهم أنهم لم يكونوا على علم بأية عقيدة، ولم يقيَّض لهم أن يتقيَّدوا بمعتقدات قائمة على الإيمان. ولكن عندما أضحى العقل منهم منفتحًا على الفهم الروحي أحسوا بوحدتهم مع الحقيقة الكلِّية الواحدة
لقد كانت البشرية الأولى سلالة من المَرَدَة ذوي قدرة جسمانية هائلة ويملكون عينًا ثالثة، واقعة على سطح الرأس وخلفه، كانت عضو البصيرة الروحية. ولقد كانت هذه الكائنات تتمتَّع بملكات عجيبة، جسمانيًّا ومعنويًّا؛ فكانت العناصر تأتمر بأمرهم، وكانوا يعرفون أسرار السماء والأرض، ويقرأون المستقبل في النجوم. فإن “العين الثالثة”، التي كان دورها متمثلاً في معانقة الأبدية، لم تضمر فيهم إلا حوالى نهاية الذرية الرابعة، عندما أمست الروحانية، بما فيها كلُّ الملكات الروحية وكلُّ صفات إنسان الذرية الثالثة الإلهي، في خدمة الأهواء الغريزية والنفسانية التي استيقظت في الإنسان. عندئذٍ فقدتْ عين البصيرة الروحية قدرتها و”تحجَّرتْ” رويدًا رويدًا وما انفكت تختفي متراجعة إلى داخل القحف، حتى صارت ما يُعرف اليوم تشريحيًا بالغدة الصنوبرية.
لقد كانت عواقب “سقوط” أجدادنا الأقدمين، الذي يُرمَزُ إليه بخطيئة آدم، وبالاً على الذرية الخامسة التي ننتمي إليها اليوم. بيد أن الشروح القديمة تلمع أن هناك في جملة الأرواح الخلاقة أو العقول التي آن أوان تجسُّدها، بوصفها أنيات المونادات التي غرست في الإنسان شرارة الذهن، مَن انصاع لناموس التطور حالما صار أبناءُ الذرية الثالثة على أهبة الاستعداد جسمانيًّا ووظيفيًّا، أي حالما تم انفصال الجنسين، فأضحى طلائع الكائنات الواعية التي، إذ اجتمع فيها العلم والإرادة مع النقاء الإلهي بحكم طبيعتها، أوجدتْ الإنسان نصف الإلهي الذي صار من الأرض ملحها، أي بذرة حكماء سلالة إنسانية مقدسة هي بحق “خير أمَّة أخرجت للناس” بالمعنى الباطني للمصطلح.
وتؤكد التعاليم السرَّانية أن هذه الصفوة الإنسانية كانت أصل جماعة من الحكماء لم تنطفئ جذوتها حتى الساعة، ولن تنطفئ مادامت البشرية لم تحقق بعدُ الغاية من وجودها. وتفرز هذه الجماعة كائنات يتمثل دورها في تبديل أجسامها من حين لآخر؛ وهي لا تعرف راحة ولا غبطة مادام الإنسان رهين جهله، فتبقى على الأرض طوعًا من أجل مساعدة الإنسانية على المعرفة والانعتاق. وهؤلاء هم الفئة التي يدعوها علم الباطن “السلالة الخالدة”، سلالة المسارَرين الكبار وسادة الحكمة. وتقوم رسالتهم على مدِّ يد العون لكلِّ إنسان يعمل على إدراك طبيعته الحق والقدرات الكامنة فيه، ويعلِّموننا أن عين البصيرة، أو “العين الثالثة”، يمكن أن تُنشَّط من جديد بواسطة رياضات خاصة. وتشير السيدة بلافاتسكي إلى الطريقة التي يتم بواسطتها تنشيط الصنوبرة بممارسة اليوغا أو ما يوازيها من المناهج الباطنية – وأسُّها إيقاظ العقل الأرفع بالتأمل وكلِّ ما تشتمل عليه الحياة التأملية من قواعد، وخصوصًا الطهارة الداخلية والعفَّة. فكما تقول السيدة بلافاتسكي، لا بدَّ للنخاع المستطيل الذي يشكل النقطة المركزية بحق، والعقدة التي تشدُّ سائر أقسام الجهاز العصبي بعضها إلى بعض، أن يتأثر بالنشاط الجنسي ويؤثر بفعل تحريضي قوي على الغدة الصنوبرية.[12]
وتؤكد السيدة بلافاتسكي أن “العلم يُمِدُّنا بإشارة إلى أن طلائع الذرية الرابعة ربما كانت مثلَّثة الأعين إبان تطورها وقبل التسوية النهائية للبنية البشرية – التي لم تَصِرْ تامة ومتناظرة إلا في الذرية الخامسة – بدون أن تكون لها بالضرورة عين ثالثة بين الحاجبين شأن الجبابرة ذوي العين الواحدة.” وتتابع قائلة: “يعتقد علماء الغيب أن الانثناء الروحاني النفساني يسير على خطوط موازية للتطور الجسماني، وبأن الحواس الباطنة التي فُطِرتْ عليها الذريات البشرية الأولى أصابها الضمور إبان نموِّ النوع والتفتح المادي عن الحواس الظاهرة؛ أما دارسو الرموز الباطنية أخيرًا، فهذا التصريح ليس عندهم مجرد ظنٍّ أو إمكانية، إنما هو ببساطة طور من أطوار قانون النمو، وباختصار، حقيقة مُثْبَتة.”[13]
وتنقل السيدة بلافاتسكي مقطعًا من كتاب قديم يلخِّص سياق ضمور “العين الثالثة” ينصُّ على أنه
كانت ثمة، في تلك الأيام الأولى، مخلوقات بشرية رباعية الأذرُع من الإناث–الذكور (أحديي الجنس)؛ ذوي رأس واحد لكنها بثلاث أعين. وكان في وسعها أن تبصر أمامها وخلفها. وبعد ذلك بدور (بعد انفصال الجنسين)، وقد سقط البشرُ في المادة، أظلمتْ بصيرتهم الروحية؛ وشرعت العين الثالثة بفقد قدرتها متزامنة مع هذا السقوط… وعندما بلغت (الذرية) الرابعة أواسط عمرها، كان لا بدَّ للرؤية الباطنية أن توقَظ وتُحصَّل بمحرِّضات صنعية كان الحكماء الأقدمون على علم بطريقتها… كذا فإن العين الثالثة، وقد تحجَّرتْ رويدًا رويدًا، سرعان ما توارتْ. وصار ذوو الوجهين أوحدي الوجه، وسُحِبتْ العين عميقًا في الرأس وهي الآن مدفونة تحت الشعر. وإبان نشاط الإنسان الباطن (إبان الغيبات والرؤى الروحية) تتضخم العين وتتوسع. ويراها المنعتق ويشعر بها، ويكيِّف عمله طبقًا لذلك…….. والمريد الطاهر فلا خوف عليه؛ أما مَن لا يحفظ نفسه طاهرة (من ليس عفيفًا) فلن يتلقى مددًا من “عين الإله”.[14]
وتؤكد السيدة بلافاتسكي أن في نموِّ العين البشرية تأييدًا للعلوم الباطنة، من حيث إن نمو عيني الجنين يتم “من الداخل إلى الخارج”. وهما – أي العينان – عند الثدييات استطالتان دماغيتان بدلاً من أن تكونا جزءًا من الجلد كما في الحشرات والرخويات. وتشرح السيدة بلافاتسكي سيرورة تطور الأعين البشرية قائلة:
في البدء كانت كلُّ فئة وأسرة من الأنواع الحية أحدية الجنس وأوحدية العين […]. ففي الحيوان الذي كانت صورته تماثل صورة الإنسان في أثيريتها (نجميَّتها)، قبل أن تبدأ أجسُم الاثنين بتطوير معاطفها الجلدية، أي بصنع أقمصتها من الداخل إلى الخارج بآلية وظيفية داخلية – كانت العين الثالثة في الأصل، كما في الإنسان، عضو البصر الأوحد. أما العينان الجسمانيتان فقد نمتا فيما بعد في كلا البهائم والإنسان الذي كان عضوُ بصره الجسماني في ابتداء الذرية الثالثة في عين الموضع الذي تشغله في يومنا هذا أعينُ بعض ذوات الفقار العمياء، أي تحت جلد سميك.
إلا أن مراحل العين المفردة أو القديمة، في الإنسان والبهائم، مقلوبة الآن، من حيث إن الإنسان قد اجتاز تلك المرحلة الحيوانية اللاعقلانية في الدورة الثالثة؛ وهو يتقدم على الخلائق البهيمية المحضة بمستوى كامل من الوعي. لذا، ففي حين كانت العين “الكِكْلوبية”[15]، ولا تزال، عضو البصيرة الروحية في الإنسان، كانت لدى الحيوان عضو الرؤية الموضوعية. وهذه العين، وقد أدَّتْ وظيفتها، استُبدِلَتْ بها، في سيرورة التطور الجسماني من البسيط إلى المعقَّد، عينان اثنتان، وبذلك استودِعَتْ ووضعتْها الطبيعةُ جانبًا للمزيد من الاستعمال في الدهور الآتية.[16]
إن فيما سبق تعليلاً لبلوغ الغدة الصنوبرية أقصى نموِّها بما يتناسب مع النمو الجسماني الأدنى. فهي في ذوات الفقار على أشد ما تكون بروزًا، وهي في الإنسان على أشد ما تكون اختباءً واحتجابًا. ولا يقدم لنا الحكماء صورة واضحة عن الحالة الجسمانية والروحانية والفكرية لإنسان الذريتين القادمتين، وإن يكن بوسعنا أن نستنتج أنها، إذ تمرُّ على منحنى التطور بنقاط مقابلة لذريات سابقة ، لا بدَّ أن تتحلَّى بعين الخصائص التي تحلَّتْ بها تلك الذريات، مع فارق أنها ستكون قد اغتنتْ بالوعي المدرِك ذاته.

مسار الذرِّيات البشرية بين الدورين النازل والصاعد من التطور.
وتنقل السيدة بلافاتسكي مقطعًا آخر من كتاب الشروح (الشرح العشرون) ما نصُّه:
نحن (الذرية الأم الخامسة) في النصف الأول من (مدَّتنا) إلى الأمام (على القوس الصاعد من الدور) عند نقطة منتصف (أو بين) الذريتين الأولى والثانية الساقطتين إلى الأسفل (أي أن الذريتين كانتا آنذاك على القوس الهابط من الدور)….. احسب بنفسك أيها المريد وتفكَّر.[17]
وتعلِّق السيدة بلافاتسكي على النص مطولاً فتقول:
إذا أجرينا الحساب […]، نجد أنه إبان الفترة الانتقالية – أي النصف الثاني من الذرية الأولى الروحانية الأثيرية النجمية – كانت البشرية الناشئة مجردة من العنصر المخِّي المفكِّر. فلما كانت على خطِّها الهابط، ولما كنا موازين لها على الخطِّ الصاعد، فإننا لذلك مجرَّدون من العنصر الروحي الذي استُبدِل به الآن العنصرُ الفكري. فإننا لما كنَّا في الفترة الذهبية من دورة ذرياتنا، أو في الخامسة، فقد عبرنا نقطة أوج التوافق التام بين الروح والمادة – أو ذلك التوازن بين الفكر المخِّي والإدراك الروحي. على أن نقطة هامة ينبغي ألا تغيب لنا عن بال.
نحن ما نزال في الدورة الرابعة، ولن يتمَّ لنا بلوغ النمو التام للذهن، بوصفه شعاعًا مباشرًا من العقل الكلِّي – شعاعًا لا تقيِّده المادة – إلا في الدورة الخامسة. ومع ذلك فإنه لما كانت لكلِّ ذرية تحتية وكلِّ أمَّة دوراتُها ومراحلُ تطورها التنموي التي تتكرَّر على مقياس أصغر، ينبغي أن يصحَّ ذلك أكثر ما يصح على ذرية أم أيضًا […].
بذلك يصبح مفهومًا الآن لماذا تحولت “العين المفردة” تدريجيًا إلى غدة بسيطة بُعَيْد السقوط الجسماني لأولئك الذين تواضعنا على تسميتهم بـ”الليموريين”.
وإنها لحقيقة غريبة أن يكون نصفا الكرة المخية والبطينان الجانبيان قد نموا في البشر خاصة، وأن يكون السريران البصريان [optic thalami] والحدبات التوأمية الأربع [corpora quadrigeminæ] والأجسام المخطِّطة [corpora striata] هي الأقسام الرئيسية التي نَمَتْ في مخِّ الثدييات [الشكل 1]. زِدْ على ذلك أن من المؤكَّد عليه أن فكر أيِّ إنسان قد يقاس إلى حدٍّ ما بنموِّ التلافيف المركزية والقسم الأمامي من نصفي الكرة المخيين. فقد يبدو من الطبيعي أنه إذا كان للنموِّ والحجم المتزايد للغدة الصنوبرية أن يُعتبَر دلالة على المقدرات النفسانية والمَنازِع الروحية لأحدهم، فسيكون ثمة نموٌّ موافق لذلك القسم من القحف، أو نموٌّ في حجم الغدة الصنوبرية على حساب القسم الخلفي من نصفي الكرة المخية...[18]
على أن السيدة بلافاتسكي تذكِّر هنا بأن كلَّ ما يؤتى على ذكره لا ينأى عن كونه المقابِلات الجسمانية للوظائف النفسانية والروحانية المذكورة، مثلما أن المخَّ البشري العادي هو عضو تسجيل الذاكرة لكنه ليس بالذاكرة نفسها.
وتعلِّمنا السيدة بلافاتسكي أيضًا أن ثمة اتصالاً بين الجسم النخامي والغدة الصنوبرية طوال الحياة الجسمانية. فالبصير روحيًّا والمتأمِّل يستطيع في استغراقه أن يلمح هالة نورانية مذهَّبة حول كلٍّ من هاتين الغدتين: وفي هاتين الهالتين تتولَّد اهتزازات تزداد سعةً بازدياد الجهود المبذولة لتنمية البصيرة، حتى إذا بلغتْ اهتزازاتُ هالة النخامة الغدةَ الصنوبرية حرَّضتْها على النشاط؛ وفي هذا إيذان بانفتاح “العين الثالثة”

مراكز الطاقة على طول العمود الفقري، من المنطقة التناسلية حتى باطن القحف، حيث تقبع الغدتان النخامية والصنوبرية.
وهي تخبرنا أيضًا أن الجسم النخامي هو ركيزة الذهن، أي الحاسة السادسة، فيما الغدة الصنوبرية هي ركيزة الفهم أو العقل الأرفع، الحاسة السابعة أو أداة الكشف العقلي أو الروحي. يمكننا أن نستخلص من ذلك أنه حالما توقِظ الحاسةُ السادسةُ الحاسةَ السابعةَ يستعيد الإنسان استعمالَ ملكاته الروحية الهاجعة منذ أمد بعيد في النوع البشري، بما يجعله يحيا في “آنٍ دائم” أو حاضر أبدي. وتؤمِّن له “العين الثالثة”، كلما شاء، رؤية الماضي والآتي متى استعانتْ بالفكر وبالذهن، وكذلك رؤية أحداث تجري في أماكن بعيدة، لأن نور الفهم يضيء حقل اللانهاية ويصير الإنسان عليمًا بكلِّ شيء، إذا جاز التعبير. ويبقى عليه أخيرًا أن يدفع بـكونداليني حتى تاج الرأس ليحصِّل فعليًّا وإلى الأبد ما حصَّله بالقوة بانفتاح العين الثالثة.
وتُبرز السيدة بلافاتسكي أيضًا الدور الرئيسي الذي تضطلع به كونداليني، أو الطاقة الكونية، في اليقظة الروحية؛ فهي تبيِّن طبيعة هذه الطاقة التي يصحُّ تشبيهها بكهرباء حيوية لطيفة جدًّا. وهذه الطاقة، كما توضح معلِّمتنا، تصدر عن مبدأ الفهم أو العقل الأرفع، باعتباره هنا مبدأ فاعلاً، لا منفعلاً، كما هو بالنسبة إلى الروح. فهل لعين البصيرة أن تُسترجَع في الأزمنة القادمة؟
تجيبنا الحكمة القديمة بأن ما في ذلك ريب؛ فلئن كان الإنسان اليوم يحمل في ذاته الحيوان والملاك، فإن الصراع بين هذين الخصمين لا بدَّ أن ينتهي ذات يوم بالمصالحة بينهما بخضوع الأول لسيادة الثاني ورَوْحَنَته، كما بيَّن ذلك بوضوح كلٌّ من تيار دُه شردان وشري أوروبندو.
لقد صدَّرنا هذه الدراسة بعبارة ميخائيل نعيمه “لي بين حاجبيَّ عين ثالثة. ولولاها لكنت أعمى” لأن “حدسه” هو الذي قاده إليها، على حدِّ قوله، “قبل أن [يـ]ـقرأ أو [يـ]ـسمع عن معلِّمين في الهند وغير الهند يجعلون الاهتمام بـ”العين الثالثة” وتفتيحها نقطة الارتكاز في تعليمهم، ويقولون إنها موجودة فعلاً بين الحاجبين، وإن فتحها مستطاع بتمارين من نوع خاص.”[19]
كذلك السيدة بلافاتسكي، في معرض تعليقها على الآية الثامنة من المقطع الأول من نشأة الكون في العقيدة السرية، حيث يَرِدُ وصفٌ لحالة البدء: “وحدها الصورة الواحدة للوجود كانت ممتدة بلا حدٍّ إلى ما لانهاية، بلا علَّة، غارقة في نوم خالٍ من الأحلام؛ وكانت الحياة الواحدة تنبض غير واعية في الفضاء الشامل من خلال هذا الحضور الكلِّي الذي تبصره العين المنفتحة للنفس المطهَّرة.” – تقول إن “النفس المطهَّرة” هي نفس الإنسان المنعتق و”عينه المنفتحة”، هي العين الروحية للرائي، والملكة المتجلِّية من خلالها هي مَلَكَة الكشف الروحي التي يتم بها تحصيل معرفة مباشرة ويقينية.[20]
تعلِّمنا العقيدة السرية أن في الطبيعة ناموسًا سرمديًّا ينحو دائمًا إلى الجمع بين الأضداد وإعادة توطيد التناغم الأساسي. وبفضل ناموس التفتح الروحي هذا، الذي سينضاف فعلاً إلى ناموسَيْ التفتح المادي والفكري اللذين يحكمان الآن سلوك الإنسان، سيبلغ الإنسان منتهى إمكانياته ويبني حضارة تليق بالجوهر الذي ينطوي عليه.
ولقد بدأت شرارة نور الفهم تتألق في صفوة بشرية، بما يبشِّر بدور إنساني جديد يعود فيه الإنسان ذلك الجبار الروحي الذي كانه؛ إنما ليس قبل أن يعيد التطورُ الدوري التوازنَ المختلَّ بين الطبيعة الجسمانية الأرضية والطبيعة الروحية السماوية إلى نصابه. يومئذٍ سيكون الإنسان منيعًا دون قوى السلب التي تشدُّه إلى أسفل، حصينًا في شخصه، خالدًا في فرديته. على أن الموناد لن تنعتق من المادة نهائيًّا بكلِّ خواصها إلا في نهاية الذرية السابعة والدورة السابعة، إذ تلتقي نقطةُ انتهاء الإنسان بنقطة ابتدائه، غنيًّا بزبدة الخبرات التي حصَّلها في حياته الأرضية، مستعدًّا لإتمام الدورة الكونية في “أماكن” أخرى. على أن هذا يمكن أن يتم من الآن لدى ذوي الاستعداد والهمة للنهوض بالمهمة.
نختتم مع القديس أوغسطينوس، إذ يقول:
إذ ذاك عدت إلى نفسي […] ودخلتُ في الصميم من فؤادي على نور هَدْيِكَ؛ واستطعت الدخول إلى قلبي “لأنك نصرتني”. دخلتُ فيه فأبصرتُ بعين نفسي، مع ما فيها من كدورة، ومن فوق عين نفسي وعقلي، نورًا ثابتًا لا يتغير؛ ولا كالنور الطبيعي الذي يراه كلُّ ذي جسد، حتى ولا نورًا من نوعه. إنما نور يفوقه حدة ولمعانًا وينير بقوة أشعته كلَّ شيء.[21]
*** *** ***
منقول للفائدة

سيد مختار
29-07-2008, 01:19 PM
جزاك الله الف خير

اماريج
29-07-2008, 01:20 PM
ينقطع عمل ابن آدم إلا من ثلاث علم ينتفع به ، وابن بار يدعو له ، وصدقة جارية.
وأنت ياشيخنا علمك سيظل الناس ينتفعون به ، فلك الرحمة في الدنيا والآخرة.

مشهور
29-07-2008, 01:21 PM
افادك الله

نبيل مصطفى
29-07-2008, 01:22 PM
بارك الله بك ولك كل الشكر والتقدي

الشيخ درويش عبود المغربى
02-11-2008, 01:50 PM
شكرا لمروركم وردودكم وبارك الله فيكم وكل عام وانتم بخير