المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الامام ابو العزائم المجدد الصوفى



الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:10 AM
الامام ابو العزائم المجدد الصوفى

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
(32 فاطر)
إِنَّ الرِّجَـــالَ كُنُوزٌ لَيْسَ يَدْرِيـــــهَا
إِلا مُــرَادٌ تَحَلَّى مِنْ مَعَانِيهَــــا
فِى الأَرْضِ أَجْسَامُهُمْ وَالْعَرْشُ مَقْعَدَهُمْ
قُلُوبُهُـمْ صَفَتْ وَاللهُ هَادِيهَــــا
هُمُ الشُّمُوسُ لِشَرعِ الْمُصْطَفَى وَهُـــمُ
سَفِينَةُ الْوَصْلِ بـِسْمِ اللهِ مَجْرِيهَا
أبو العزائم
نسبه
ينتسب إلى العترة الطاهرة من آل البيت الكرام، فهو :
- حسيني من جهة والده.
- وحسني من جهة أمه.
- ونسبه كما هو مثبت في كتبه هو السيد محمد ماضي أبو العزائم:
بن السيد/ عبد الله المحجوب:
بن السيد أحمد، بن السيد مصطفى، بن السيد إبراهيم، بن السيد صالح، بن السيد ماضي، بن السيد درويش، بن السيد محمد، بن السيد علي، بن السيد محمد، بن السيد إبراهيم، بن السيد رمضان، بن السيد أحمد، بن السيد عبد الحميد، بن السيد محمد، بن السيد علي، بن السيد حسن، بن السيد زيد، بن السيد حسن، بن السيد علي الطويل، بن السيد محمد، بن السيد إبراهيم، بن السيد محمد، بن السيد عبد الله العوكلاني، بن السيد أبو الحسن موسى الكاظم، بن السيد جعفر الصادق، بن السيد محمد الباقر، بن السيد علي زين العابدين، بن سيدنا الحسين، بن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، هذا من جهة أبيه رضى الله تعالى عنه
أما نسبه من جهة أمه فهي:
السيدة آمنة المهدية:
ابنة السيد أحمد العربي الفرجاني، بن السيد علي، بن السيد سليمان، بن السيد مصطفى، بن السيد زين الدين، بن السيد محمد درويش، بن السيد حسام الدين، بن السيد ولي الدين، بن السيد زين الدين، بن السيد شرف الدين، بن السيد شمس الدين، بن السيد محمد الهتاكي، بن السيد عبد العزيز، بن السيد عبد القادر الجيلاني، بن أبي صالح موسى جنكي دست، بن السيد عبد الله الجيلي، بن السيد يحي الزاهد، بن السيد محمد، بن السيد داود، بن السيد عبد الله، بن السيد موسى الجون، بن السيد عبد الله المحض، بن السيد حسن المثنى، بن سيدنا الإمام الحسن، بن الإمام علي بن أبي طالب وكرم الله وجهه ....
أسرته وكنيته
ونلاحظ هنا أن اسمه محمد بن عبد الله المحجوب أما ماضي وأبو العزائم، فهما كنيتان تكنى بهما في حياته
وترجع الكنية الأولى (ماضى)
إلى الأمير ماضي بن مقرب من بني هلال:
وهي القبيلة العربية المشهورة، التي كانت تسكن في بلاد الحجاز حتى تمكن الفاطميون من إنشاء الدولة الفاطمية، وجعلوا مصراً مقراً لحكمهم، وكان من سياستهم، جلب كل من ينتسب إلى السيدة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها إلى دولتهم، لإكرامهم وتعويضهم عما شعروا به من ظلم واضطهاد تحت حكم الأمويين والعباسيين، فأرسلوا إلى بني هلال، واستقدموهم إلى مصر
وتحكي الروايات التاريخية، أن عددهم كان يزيد على الأربعمائة ألف، ونظراً لكثرتهم العددية، وجهوهم إلى جنوب البلاد، وأسكنوهم في بلاد الصعيد.
ثم حدثت بعض الثورات على الدولة الفاطمية في بلاد المغرب، فما كان منهم إلا أن طلبوا من إخوانهم من بني هلال، أن يهبوا لنجدتهم، والقضاء على هذه الثورات، خاصة وأنهم كانوا مشهورين بالفروسية والبطولة والفداء والتضحية.
فوافق البعض وذهبوا إلى بلاد المغرب واستطاعوا القضاء على هذه الثورات، وأشهرها القضاء على الدولة الزناتية، التي كانت تسيطر على تونس وجزء كبير من الجزائر، واستقروا هناك في أماكن متفرقة.
فذهب الأمير ماضي بن مقرب إلى منطقة الأغواط، الواقعة على الحدود الآن بين الجزائر والمغرب، وأسس عين ماضي واستقر بها هو وذريته.
بينما انتشر الجزء الذي تبقى في مصر في محافظات سوهاج وقنا وأسوان، وهم ما يسمون بالأشراف الآن
أما الكنية الثانية: (أبو العزائم):
فترجع إلى جده الأعلى (ماضي بن سلطان):
والذي كان له الباع الطويل في خدمة ومصاحبة سيدي أبي الحسن الشاذلي وهو الذي كنَّاه بهذه الكنية نظراً لما لمسه فيه من جد واجتهاد واخلاص في طاعة الله ومن عزيمة شديدة في العمل على نشر محاسن طريقته .
ونظراً لأهمية دوره في حياة الإمام أبي العزائم واعتباره له مثلاً أعلى في حياته الصوفية، نذكر على سبيل التبرك، قبساً من سيرته


جده الأعلى
أبو العزائم ماضي بن سلطان
تعرف على سيدي أبي الحسن الشاذلي في أوائل ظهور دعوته في بلاد المغرب العربي، وذلك أثناء سياحاته الروحية وتجواله في هذه البلاد، ناشراً لهديه، بعد أن أمر بذلك، وسمع النداء ((يا علي انزل اهدِ الناس إلينا)).
وقد كان ذلك الوقت يقيم في جبل بالقرب من ((شاذلة)) بتونس الآن، فاستجاب للنداء، ونزل تنفيذ لأمر الله، فتجمع عليه خلائق لا يحصون، كان من بينهم الشيخ ((ماضي بن سلطان))، وتفرس فيه الشيخ علو الهمة، وصدق الإرادة، فأختاره خادماً ذاتياً له، يطلعه على شئونه الخاصة، ويوكل إليه جلائل الأعمال.
ومنذ ذلك الوقت، لزم الشيخ ماضي أستاذه أبي الحسن الشاذلي، حتى رحل معه إلى الإسكندرية، عندما جاء إليها، ولم يبرح عنه حتى انتقل إلى جوار ربه، وكان يلازمه في كل أسفاره، وخاصة سياحاته في البلاد، ورحلاته لأداء فريضة الحج.
ولذا يعول عليه كتَّاب التراجم والسير، لصدق روايته، عندما يكتبون عن سيدي أبي الحسن الشاذلي ولقد كان له وقائع كثيرة مع شيخه، تدل على علو همته، وصفاء سريرته، وصدق إرادته، وتبين المنهج العظيم الذي أتبعه الإمام أبو الحسن الشاذلي في تربيته لمريديه، والذي اختاره الإمام أبو العزائم نهجاً قويماً، لتربية أبنائه ومحبيه، كما سنذكر فيما بعد.
ومن ذلك على سبيل المثال، هذه الوقائع التي يذكرها ابن الصباغ في درة الأسرار وينقلها عنه ابن عياد في المفاخر العلية في المآثر الشاذلية وتتداولها كتب الطبقات وتراجم الشاذلية إلى يومنا هذا:
قال بن الصباغ ((حدثني الشيخ الصالح أبو العزائم ماضي قال:
تحدث الشيخ في حقيقة الشيخ مع أصحابه فقال:
((أن تكون يده عليهم يحفظهم حيثما كانوا)) قال: فاعترضت على ذلك في نفسي وقلت: لا يكون ذلك إلا لله فلما أصبحت أخذتني ضيقة شديدة في نفسي، فخرجت لخارج الإسكندرية، وجلست على ساحل البحر اليوم كله، فلما صليت العصر، زيقت، يعني أدخلت رأسي في طوقي، وإذا بيد تحركني، فظننت أنه بعض الفقراء يمازحني
قال: فأخرجت رأسي من طوقي، وإذا بها امرأة حسناء عليها لباس حسن، وحلي، فقلت لها: ما تريدين؟
قالت: أنت. فقلت: أعوذ بالله منك. فقالت: والله مالي عنك براح؛ فدافعتها عن نفس، فأخذتني فى حضنها، ولعبت بي كما يلعب الطفل بالعصفور وما ملكت من نفس شيئاً، ورمتنى بين فخذيها، فحنت نفسي إليها، وإذا بيد أخذتني من أطواقي، وإذا أنا بالشيخ يقول لي: يا ماضي، ما هذا الذى تقع فيه..؟ ورمانى عنها، فظننت أن الشيخ أجتاز بذلك المكان، فرفعت رأسي، فما وجدت الشيخ ولا المرأة ..
فتعجبت من ذلك، وعلمت أني أصبت باعتراضي عليه. فاستغفرت الله، وصليت المغرب، وآتيت إلى الباب الأخضر، وقد غلقت أبواب البلد كلها، فلما دنوت منه .. انفتح لي ودخلت المدينه ثم أغلق، وهذا الباب، لا يفتح إلا بعد صلاة الجمعة، يخرج منه الأمير والناس إلى الساحل، ثم يغلق إلى الجمعة الأخرى، قال: وأتيت القلعة، ودخلت بيتى مختفياًعن الفقراء.
فلما صلى الشيخ العشاء الآخرة، صرف الناس، وكان في كل ليلة، يعمل ميعاداً يأتي إليه الناس من البلدان، يستمعون كلامه. قال: ثم دخل الخلوة وقال: أين ماضى..؟ قالوا: مارأيناه اليوم، قال: أطلبوه فى بيته، فأتوا إلي، فقلت لهم: إنني مريض، وكان كذلك، فإني ما أتيت إلا بحال عظيم، فقال: احملوه بينكم، قال: فحملوني إليه، وأدخلونى عليه، وأمرهم بالإنصراف !!
فجلست بين يديه وأنا أبكي، فقال لى: يا ماضي. لما قلت بالأمس كذا وكذا، فاعترضت أنت علي، أين كانت يدي اليوم منك لما أردت أن تقع في المعصية؟ .. من لم يمكن من ذلك فليس بشيخ....
قال ابن الصباغ: وحدثنا أيضا قال:
كنا بدمنهور الوحش، فلما صلينا العصر، أعطانى كتاباً للشيخ الفقيه فخر الدين الفتزي بالإسكندرية، برسم حاجة عرضت له، فقلت له: يا سيدى إذا كان غداً إن شاء الله، أى أسافر غداً - وهذا الموضع مسيرة يوم للفارس - فقال لى: الساعة تسافر وتعود إلى بالجواب إن شاء الله تعالى.
قال: فتقلدت نمشة كانت عندى، وخرجت متوجهاً، فوصلت إلى الإسكندرية في أقرب وقت، وأعطيت الكتاب للشيخ ورجعت إليه قبل اصفرار الشمس. وكنت مررت بجبال الحاجر في طريقي، فأسمع بها دوياً وحس المشي، فأظن أنهم اللصوص يعترضونني في طرف النهار، فأرسل النمشة وأبقى منتظراً، قال: فما رأيت أحداً.
قال: فلما رجعت إلى الشيخ وجلست بين يديه تبسم وقال لي: يا ماضي، تجبز نمشتك تتقي بها اللصوص ..؟ الدوي الذي كنت تسمع دوي الملائكة !!
والله ما خرجت من بين يدي حتى تكفل بك ثمانون ألفاً من الملائكة، يحفظونك من أمر الله حتى وصلت إلى الإسكندرية وعدت إلينا....
وقال أيضاً: حدثنا الشيخ أبو العزائم ماضي رحمه الله قال:
بعثني الشيخ من الإسكندرية إلى دمياط في بعض حوائجه، وكان عندنا رجل من أهلها، فأراد السفر معي، فاستأذن الشيخ، فأذن له في السفر، فلما توجهنا لباب السدرة - باب من أبواب الإسكندرية - اخرج الرجل دراهم ليشتري بها خبزاً وأداماً، فقلت له: ما نحتاج إلى شئ. فقال لي: نجد دكان فلان في الصحراء .... وأشار إلى دكان حلواني بالإسكندرية. فقلت له إن شاء الله.
وكنت مهما سافرت، لا أحمل معي زاداً، فإذا أصابني جوع أسمع كلامه من خلفي يقول: يا ماضي: اخرج عن يمينك تجد ما تأكل، وكذا إذا عطشت، فأجد طعاماً طيباً وماء عذباً.
قال: فخرجنا عن الإسكندرية ومشينا، وجد بنا السير حتى تعالى النهار بنا، فقال لي: يا ماضي: اطعمني فإني قد جعت. وإذا بكلام الشيخ على العادة يقول: يا ماضي: جاع ضيفك، اخرج عن يمينك تجد ما تطعمه، قال: فخرجت عن يميني، فوجدنا محفلة مملوءة بكنافة سكرية مخلطة بالمسك وماء الورد، فأكلنا حتى ملينا، فبكى الرجل وتعجب مما رأى، فقلت له: أيهما أطيب .. هذا الطعام أو ما أشرت إليه في دكان الحلواني .... ؟ فقال: والله ما رأيت مثل هذا قط .... وما صنع مثله في قصر ملك من الملوك، وأراد أن يرفع بقيته فمنعته، وتركتها على حالها.
ومشينا يسيراً فعطشنا. وإذا بكلام الشيخ يقول: يا ماضي اخرج عن يمينك تجد الماء، فوجدنا عين ماء عذب في الرمل فشربنا، واضطجعنا ساعة، وقمنا، فما وجدنا قطرة ماء، فقال الرجل: أين الماء الذي كان ها هنا؟ فقلت: لا علم لي به، فقال: والله لقد مكن لهذا الشيخ تمكيناً عظيماً. والله لا رجعت إلى أهلي، حتى أنال ما نال هذا الشيخ، أو أموت في الله تعالى، فخلى فروته عندي ..!! ، ومشى في البرية يقول: الله ... الله !!!
قال: فلما قضيت سفري، ورجعت إليه قال لي: يا ماضي: ودَّرت (أهلكت) ضيفك .. ، فقلت له: أنت الذي ودَّرته - أطعمته الكنافة السكرية في البرية، وأسقيته الماء العذب في الرمل، فقال لي: مرَّ في الذاهبين إلى الله تعالى ....
وقال: حدثنا الشيخ ماضي رحمه الله أيضاً قال:
حججت سنة من السنين عن إذنه، فلما قضيت مناسك الحج، وأتيت أطوف طواف الوداع، قام أهل مكة على من بقي في الحرم من الحجاج فنهبوهم، وكانت عندي أمانات للناس، فدخلت في الحجر، ووقفت تحت الميزاب وقلت: إن خرجت نهبوني، وإن أقمت أقمت بأموال الناس عندي، فتحيرت في أمري، فناديت بالشيخ.
وإذا به واقف بباب الندوة، وهو يشير إلي، فبادرت إليه، فولى خارجاً، فاتبعته، ولم أقدر على اللحاق به، والوصول إليه، فلم أزل كذلك حتى دخلت الركب، فلما دخلت الركب، طلبته، فلم أجده، فلما وصلت إلى الإسكندرية، أتيت إليه، وسلمت عليه، فسألني عن حالي وقال لي: يا ماضي: لما أشتد الحال عليك وناديت بنا، أتينا إليك وخلصناك مما كنت فيه ...
وهذا نذر يسير مما روى عن الشيخ ماضي بن سلطان في صحبته لسيدي أبي الحسن الشاذلي، وقد ذكرنا ذلك، لعلمنا بشدة تعلق الإمام أبي العزائم بهذه الأحوال وبحثه عنها، وطلبه لها، وتأسيه بأهلها وهو الذي كان يقول لأبنائه دائماً حاثاً لهم على التحلي بها:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالرجال فلاح

ومن شدة تعلقه به تكنى بكنيته، وتشبه بسيرته، ونسب طريقته إلى السادة الشاذلية، رضي الله تعالى عنهم
هذا وقد ظل الشيخ ماضي في محبة شيخه أبي الحسن، حتى كان سفره الأخير إلى الحج، ويحكي ذلك: سيدي ماضي بن سلطان رحمه الله فيقول:
لما توجه رحمه الله في سفرته التي توفى فيها، وكنت تزوجت امرأة من أهل الإسكندرية، وكانت حاملاً، فجعلت تبكي وتقول لي:
تتركني على ولادة وتسافر عني.
قال: فأخبرت بذلك الشيخ فقال: ادعها إلي، فأتيت بها إليه فلما دخلت بها عليه، قال لها: يا أم عبد الدائم. أتركي لي ماضي يسافر معي، وأرجو لك من الله خيراً، فقالت له: يا سيدي السمع والطاعة.
فدعا لها وانصرفت.
فولدت ونحن مسافرون مولوداً ذكراً وسمته ((عبد الدائم))...
وقد انتقل الشيخ أبي الحسن الشاذلي إلى جوار ربه في ذلك السفر في ((حميثرا)) بالقرب من قنا، بعد أن أوصى بأن يخلفه على الإخوان، سيدي أبو العباس المرسي فأكمل بهم السفر.
وبعد أداء فريضة الحج والعودة إلى الإسكندرية ...
استأذن الشيخ ماضي سيدي أبي العباس في الذهاب إلى اقليم دسوق، لنشر طريقة شيخه هناك.
وقد اختار قرية ((محلة أبو علي)) لقربها من النيل، ولأنها كانت ميناء هاماً في ذلك الوقت، واستقر بها، وبنى بها زاوية للطريقة الشاذلية، ينشر فيها تعاليم شيخه، وهديه، وقد توارثها أولاده من بعده، ووسعوها، وجعلوها مسجداً كبيراً.
حتى صار الأمر إلى السيد عبد الله المحجوب والد الإمام أبي العزائم.
والذي كان خليفة الشاذلية على هذا الإقليم، وأحيا الطريقة في زاويته، وظل مجاهداً في نشر مبادئها وآدابها متجولاً في ربوع البلاد، لزيارة الصالحين، والتبرك بهم، والتعرف على آثارهم، حتى لقى الله ، ولا يزال ضريحه إلى يومنا هذا بالمسجد الذي أسسه الشيخ ماضي بن سلطان ------ يتبع ان شاء الله

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:14 AM
مولده ونشأته
مولده
كان والده السيد عبد الله المحجوب يزاول التجارة في الغلال إلى جانب عمله في الزراعة، وكان يجمع الأرز من الفلاحين، ويقوم بتوريده إلى مضرب الأرز بمدينة رشيد، ولما كان يكثر من زيارة الصالحين أحياءاً وأمواتاً، وكانت زوجته السيدة/ آمنة المهدية تشاركه نفس هذا الحب لآل بيت رسول الله وللصالحين أجمعين، فكان يأخذها معه كل عام مرة إلى مدينة رشيد، حيث يباشر عمله، ويمكنها من زيارة الصالحين في تلك البلدة.
ولما حملت بالإمام أبي العزائم وكان ميعاد الوضع يصادف أيام ذهابهم إلى رشيد، أراد أن يصرفها عن الزيارة في هذا العام لقرب أيام وضعها، ولكنها أصرت وتوسلت إليه أن يحملها معه حتى لا تتخلف عن عادتها، وذلك ليقضي الله أمراً كان مقدوراً.
وشاءت إرادة الله تعالى تكريم هذا الولي من لحظة ولادته، وقد ذهبت السيدة آمنة المهدية لزيارة مسجد سيدي زغلول برشيد، وهو أكبر جامع بها، ويزيد عدد أعمدته على الثلاثمائة والستين، وهو المسجد الذي أذن من فوقه مؤذن الجهاد ضد الحملة الإنجليزية عام (1807) ميلادية ((حملة فريزر)) ويتوسطه ضريح سيدي زغلول ولما دخلت رضي الله عنها إلى هذا الضريح المبارك، إذا بآلام الوضع الشديدة تنتابها فجأة بدون مقدمات، حتى أنها لم تتمكن من الخروج من الضريح ولو لأي مكان في داخل المسجد، فأغلق الخادم عليها باب الضريح، وأسندت ظهرها إلى المقصورة الكائنة به وولدت الإمام محمد ماضي أبو العزائم بدون ألم ولا تعب في الوضع كالعادة المرعية، وكان ذلك في صبيحة يوم الاثنين السابع والعشرين من رجب سنة ألف ومائتين وست وثمانين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، والموافق الثاني من شهر نوفمبر سنة ألف وثمانمائة وتسعة وستين ميلادية، فجاءها الخادم بقطعة من القماش الموجود على ظهر الضريح، فلفته فيها وخرجت به في الحال، طفلاً بهيجاً يسر الناظرين.
نشأته
وقد اهتم السيد عبد الله المحجوب بتربية أولاده تربية علمية، وساعده على ذلك ثراؤه الواسع، وثقافته الدينية، وقد اهتم بصفة خاصة بمن أقبل منهم على العلم وهم: أحمد ومحمد وزينب.
فأحضر الشيخ عبد الرحمن عبد الغفار، ليحفظهم المتون كالعادة المرعية في ذلك الزمن، وذلك بعد حفظ القرآن الكريم كله، وقد أتمه الإمام أبو العزائم في ثلاث سنوات، حيث ذهب إلى الكتاب في الرابعة من عمره، وأتم حفظ القرآن الكريم في السابعة تقريباً، وقد أشار الإمام أبو العزائم إلى المتون التي حفظها على الشيخ عبد الرحمن عبد الغفار في مقدمة كتابه أصول الوصول طبعة (1912) ميلادية فقال
((وقد أتممت حفظ متن أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك بن أنس، وقسم العبادات من الموطأ، ومتن السنوسية في علم التوحيد، ومن علم النحو الأجرومية والألفية، ومن علم الحديث المختصر للإمام الزبيدي، وذلك على الشيخ عبد الرحمن عبد الغفار)).
وقد انتهى من حفظ تلك المتون في فترة وجيزة ولما رأى والده شغفه الكبير بالعلم، اهتم بتلقينه العلوم الدينية، فعهد إلى الشيخ محمد القفاص تدريس علم التوحيد له وطلب من الشيخ محمد الخطيب أن يدرس له الفقه، وقام بنفسه بتلقينه الطريقة الشاذلية وأورادها وأحزابها، ودرس معه الكتب الهامة في علم التصوف، وخاصة كتاب ((إحياء علوم الدين للإمام الغزالي)) وكتاب ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي، وركز معه أيضاً على دراسة السيرة النبوية العطرة، فقرأ معه كتاب ((الشفا في التعريف بحقوق المصطفى)) للقاضي عياض، وسيرة الرسول لابن هشام، ((والطبقات الكبرى)) لابن سعد، وساعده على ذلك، المكتبة الضخمة التي كان يحتفظ بها في بيته، والتي تضم أمهات الكتب الدينية واللغوية والصوفية في ذلك الوقت.
ميوله الصوفية
ظهر لنا كما أوضحنا، أن الإمام أبا العزائم نشأ في بيئة صوفية، إذ أن والده كان نائب السادة الشاذلية في إقليم ((دسوق)) وليس هذا فحسب، بل إنه كان يميل إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتاً في مختلف الجهات، حتى أنه أخذه في عام واحد وعنده اثنى عشر سنة إلى رحلة الحج، فرافقه في هذه الرحلة، وبعد رجوعهما، أخذه في سياحة في ربوع البلاد للتعرف على الصالحين وزيارتهم، ويتضح لنا مدى ثقافة السيد عبد الله المحجوب وسعة صدره في أنه رغم أنه من أخلص أتباع الطريقة الشاذلية لم يمنع ولده محمد من الأخذ على الطريقة الرفاعية، وتلقى أورادها وأحزابها من الشيخ غانم الخشاب، عكس ما كان متبعاً في ذلك العصر من تعصب المتصوفة لمشايخهم، وتمسكهم بهم، حتى ولو كانوا على غير ما يتطلبه هذا المقام العالي من شروط وأحوال.
ويظهر أن الذي دفع السيد عبد الله إلى اهتمامه بتغذية الميول الصوفية عند ولده محمد، ما توسمه فيه من الصلاح والهداية، وما رآه عليه من أحوال تنم على شدة التعلق بالطريق وأهله حتى أنه حكى عن نفسه كما جاء في كتاب ((نيل الخيرات .. الطبعة الرابعة عشر 1974 ميلادية صفحة 100)) فقال:
(بينما أنا نائم وأنا لم أشارف العشرة بعد، إذ رأيت رسول الله  وسيدنا علي كرم الله وجهه مؤتزرين، وبين يدي رسول الله عبد أسود اللون قبيح الخلقة، تميز غيظاً وحنقاً، فأخذه رسول الله من يديه، وقال لعلي: اضربه يا علي، فضربه سيدنا علي كرم الله وجهه بالسيف ثلاثاً، فلم يقطع رقبته، ثم التفت إلي وأنا بجواره  فقال: اعط السيف لمحمد، فأخذته منه وضربت هذا العبد ضربة كانت القاضية، فنحاه ، وركله برجله ثم انصرف.
قال الإمام : فأصبحت أحدث أبي بهذه الرؤيا، فقال والدي متمثلاً قول سيدنا يعقوب : (قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً )[5يوسف]. وأقبل أخي الأكبر أحمد فحدثته بها، فضربني على مفرق يدي، فكسر ساق ذراعي، وناداني والدي أن أصحبه إلى المسجد حسب عادته، فوجد يدي مربوطة إلى عنقي فقال: ألم أقل لك من قبل لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين) ...
وقد فهم السيد عبد الله من رؤيا ولده هذه، أن ولده سيكون له شأن في رفعة الإسلام، لأن العبد الأسود إشارة إلى الظلمات التي تنتشر في الكون، وتحجب العقول والأفئدة عن الاستضاءة بنور الإيمان والإسلام، وعجز سيدنا علي عن قتل العبد في الرؤيا واعطائه السيف للإمام أبي العزائم، يعني تسليمه راية الفتح الإلهي، والنور الرباني للإمام أبي العزائم في هذا العصر المظلم.
وإلى جانب هذه الرؤيا وغيرها، فقد ظهرت على مخايل الإمام ، علامات صدق الإرادة في طريق الله ، فكما يحكي عن نفسه فيقول:
(كنت كلما سمعت عن رجل صالح ذهبت إليه لزيارته، وكلما رأيت مجذوباً أو صاحب حال تقربت إليه، وكنت أحب سماع سيرة السلف الصالح، وقصص الصالحين، وداومت على قراءة كتاب ((روض الرياحين في مناقب الصالحين للإمام اليافعي حتى أنني من كثرة ترداده حفظته عن ظهر قلب) ...
ثانياً: دراسته فى القاهرة
تمهيد
انتقل السيد أحمد ماضي بن السيد عبد الله المحجوب الأكبر إلى القاهرة لإتمام دراسته هناك، وترك أخاه محمد لرعاية والده ومعاونته في أمور معيشته لكبر سنه، وهناك لمع نجمه، فأسس مع الشيخ علي يوسف مجلة الآداب عام (1883) ميلادية، وهي مجلة أدبية تاريخية شهرية تصدر في كل شهر مرة، ولما وجدا أنها لا تفي بتطلعاتهما، أنشأ سوياً جريدة المؤيد عام (1889) ميلادية وهي صحيفة يومية كانت تعالج أحوال المجتمع في هذا الوقت، وتدعو إلى اليقظة الفكرية والسياسية في وجه الاستعمار وسياساته التوسعية، وظل الحال كذلك حتى توفيت السيدة آمنة المهدية، فحزن الجميع لفقدانها، وإزاء ذلك، أصر أحمد على أن ينقل الأسرة كلها معه إلى القاهرة، وكان الإمام أبو العزائم في السادسة عشرة من عمره في ذلك الوقت.
فى الأزهر الشريف
بعد الانتقال إلى القاهرة، تعرف الإمام أبو العزائم على كثير من الشخصيات البارزة، التي كانت تجلس في مقر صحيفة المؤيد لتناقش قضايا الساعة، وارتاح بصفة خاصة إلى الشيخ حسن الطويل، أستاذ التوحيد بالأزهر، فكان يرافقه في سيره، ويزوره في بيته، ويجلس معه الساعات الطوال يتناقشان في مختلف القضايا الدينية، وقد أشار الشيخ حسن الطويل، على السيد أحمد ماضي أن يلحق أخيه محمد بالأزهر، ليتزود من علومه الدينية المختلفة، فوافق على ذلك، ودخل الإمام أبو العزائم الأزهر لأول مرة في السابعة عشرة من عمره، وأقبل على العلم بعزيمة لا تعرف الكلل، حتى أنه كان يحصل ما يحتاج إلى سنوات طويلة في أيام قليلة.
فى دار العلوم
وفي تلك الآونة، أنشأ السيد علي مبارك مدرسة دار العلوم، لحاجة وزارة المعارف إلى مدرسين أكفاء، ونوع المناهج بها حتى تخرج المدرس الصالح في نظره للقيام بتربية النشئ، حيث أنه كان يرى أن العملية التعليمية كلها تتوقف على استعداد وكفاءة المدرس.
فأشار السيد أحمد ماضي على أخيه محمد أن يتقدم لمدرسة دار العلوم، وأن يستعد للامتحان الذي يجرى للمتقدمين لاختيار المقبولين في هذه المدرسة، ولم يكن بقى على زمن الامتحان سوى خمسة عشر يوماً، ولكن الإمام واصل الاستذكار ليلاً ونهاراً، حتى استوعب المواد المقررة للامتحان، ودخل الاختبار، واجتازه بمهارة كبيرة حازت اعجاب جميع الممتحنين.
وقد تخرج في أول دفعة من دار العلوم وانخرط في سلك التدريس في وزارة المعارف، حيث عين مدرساً بمديرية المنيا عام (1311) هجرية الموافق عام (1882) ميلادية.
هذا وقد حرص الإمام أيضاً على تنمية ميوله الصوفية أكثر وأكثر، خاصة وأن مدينة القاهرة تعج بالكثير من أولياء الله الصالحين أحياءاً وأمواتاً، فكان يتردد على مزارات آل البيت الكرام، وأولياء الله الصالحين.
كما كان يزور كل من يسمع عن صلاحه وتقواه من الأحياء الموجودين، وقد أستأنس بصفة خاصة بالشيخ حسنين الحصافي صاحب الطريقة الحصافية الشاذلية، ولازمه في معظم أوقاته، وأخذ عنه الطريق، وتلقى منه الأوراد والأحزاب والأدعية ------- يتبع ان شاء الله

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:15 AM
بعد أن عين الإمام أبو العزائم مدرساً في مديرية المنيا، شاءت إرادة الله أن يتوفى السيد أحمد ماضي، الأخ الأكبر رغم صغر سنه، بعد أن بزغ نجمه في عالم الصحافة، حتى سمي (شيخ الصحافة الإسلامية).
فانتقل الإمام بالأسرة كلها، واستقر بهم في بلدة المطاهرة جنوب المنيا.
وفي ذلك الوقت تلقى الأمر من سيدنا رسول الله r بالدعوة إلى الله
فرأى في ليلة الثاني عشر من شهر ربيع الأول (أي ليلة ميلاد رسول الله ) رأى رسول الله وشرح له في تلك الرؤيا كثيراً من معاني الآيات القرآنية.
ولقنه صيغ في الصلاة على حضرته سماها (الفتوحات الربانية والمنح النبوية في الصلاة على خير البرية).
ثم لقنه دعاء الغوث (غوث العصر)، وأمره أن يدعو به، وأن يلقنه لجميع المسلمين، وهو :
{ اللهم باسمك العظيم الأعظم، وبجاه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وبسر أسمائك الحسنى ما علمنا منها وما لم نعلم، أن تعجل بالانتقام ممن ظلم، وأن تهلك الكافرين بالكافرين، وتوقع الظالمين في الظالمين، وتخرج المسلمين من بينهم مسالمين غانمين آمين يا رب العالمين }
بدء دعوته
فبدأ منذ ذلك الحين تبليغ رسالة الله، ودعوة الخلق إلى الله.
كيف كان ذلك ؟
كان يقضي معظم وقته مع الخلق، يقرأ عليهم دروساً في مذهب الإمام مالك بالمسجد، ويتكلم معهم في الأخلاق والتوحيد وغيرها بعد ذلك.
فإذا كان يوم الخميس من كل أسبوع، أخذ زاده معه وذهب إلى إحدى القرى أو المدن المجاورة، فيؤم بيت الله، ويجلس مع المصلين يحدثهم بما يفتح الله عليه من العلوم والمعارف الإلهية في شرح الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، حتى إذا آنس منهم الرغبة في العودة إلى منازلهم، صرفهم بلطف ...
ويصرُّ أن يبيت بالمسجد، فيحي ليله بذكر الله، حتى إذا اقترب الفجر، قام فتوضأ وصلى ما تيسَّر له، ثم يصعد إلى مأذنة المسجد، فيردد بصوته الندي ما يلهمه الله به، من المواجيد الروحانية والقصائد الصوفية، حتى يحين موعد الآذان، فيؤذن للفجر ويصلي بالناس جماعة، ثم يعتكف في بيت الله حتى صلاة الجمعة فيؤدي الخطبة، وينصرف إلى منزله بالمطاهرة.
فكان لهذا الحال دوى كبير وأثر عظيم في نفوس الناس حتى أن دعوته وصلت إلى كل مدن الصعيد، من الجيزة حتى أسوان في وقت قصير جداً، وما ذلك إلا لصدق إرادته وصفاء يقينه، ومدى اخلاصه وفناءه بكله في دعوة الله
ومما يدل على ذلك أنه رضى الله عنه وأرضاه، كان سائراً مع بعض رفاقه بالقرب من سمالوط بمحافظة المنيا، وأدركتهم العشاء بالقرب من الدير الشهير هناك، فأمر أحد أصحابه أن يؤذن، وأمر الباقين بتجهيز المكان والتجهز لأداء الصلاة.
وأثناء قيامهم بأداء الصلاة، أحس الرهبان بدافع غريب يدفعهم إلى الخروج لمشاهدة هذا الشيخ المسلم ورفاقه، وبعد انتهاء الصلاة أخذ يشرح بعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن سيدنا عيسى والسيدة مريم، فما كان منهم إلا أن أخذوا يقتربون رويداً رويداً وهم لا يشعرون، حتى انضموا إلى الحلقة المحيطة بالشيخ ... وظل هذا المجلس لساعات !!! حتى عرضوا عليه استضافته في الدير، فدخل وقضى معهم الليلة حتى مطلع الفجر، وانتهت تلك الليلة المباركة بإسلامهم جميعاً، وتغيير أسمائهم إلى أسماء إسلامية سماها، وسمى كبيرهم: الجنيد.. وقد قال في ذلك معبراً عما حدث له تلك الليلة:
حبيبي قد شرح صدري
وآنسني إلى الفجر

وأطلعني على معنى
من الإحسان والبر

ورقاني إلى أعلى
مقام القرب والسير

سمعت حنين رهبان
لدى نظرى الى الزهر

وعند شهودهم حسني
تمنوا يقتفوا أثري

وناداني الإمام هيا
أتاك الوصل بالبشر

فقم للدير يا ماضي
فإني قد صدر أمري

تملَّى بي وشاهدني
ومل عندي عن الغير

وأنبأ من يرد قربي
بحسني حيث لا يدري
قصة الشيخ الصبيحى ..... ثم انتقل الامام ابو العزائم إلى بلدة الإبراهيمية بمحافظة الشرقية، وكأنما كان النقل لأمور يريدها الله، وأحوال يريد أن يبينها ويظهرها .. فقد تعرف هناك على أول رجل أكمل الإمام تربيته، وشهد له ببلوغه مقام الرجال في هذه البلدة، وهو الشيخ الصبيحي ، وكان الشيخ الصبيحى عالماً من علماء الأزهر، إلا أنه رفض الوظائف الحكومية، وأثر أن يشتغل بالأعمال الحرة، ففتح دكاناً يبيع فيه البضائع المختلفة، وكان مشغولاً بعلوم الكيمياء، وما يدعى بعض المنتحلين إلى هذا العلم، من تحويل المعادن إلى ذهب.
وقد حضر الشيخ الصبيحى درساً للإمام بالمسجد الكبير بالبلدة، وكان الإمام قد ألمح أثناء هذا الدرس إلى علم الكيمياء، وصناعتها، ودور جابر ابن حيان فيها، وكيف أن الأصول التي استنبطها جابر خفيت على من بعده، فلم يتمكنوا من تطبيق قواعده وقوانينه !!
ففهم الشيخ الصبيحي من ذلك، أن الإمام يعرف أسرار الكيمياء التي اخترعها جابر، وبالتالي يعرف تحويل المعادن إلى ذهب، فطلب منه بعد الصلاة أن يتلقى على يديه هذا العلم، وأظهر الإمام الموافقة، ولازمه مدة، والشيخ يريد أن يخرجه من هذا الوهم، بالحكمة الروحانية، ولكنه كان مصراً على ما أراد، حتى حدث له ما ثنى عزمه عن ذلك !! دخل الشيخ الصبيحى دكانه ... فوجد كل أصناف البضاعة في نظره ذهباً خالصاً !!! ، وكلما جاءه مشترى، والمشتري بالطبع يرى الصنف على حالته الطبيعية، فيقول له: اعطني كذا؟ فيذهب الشيخ الصبيحي إلى الصنف فيجده ذهباً. فيقول له: هذا الصنف غير موجود !!، والمشتري يراه !! فيقول له: هذا الصنف موجود ... وهو هذا! وقد ذهبت إليه! فيقول: لا أبيعه لك. !!! ولا زال مستمراً على هذا الحال حتى وصفه الناس بالجنون.
وإذا بالإمام أبي العزائم يأتي إليه ويرده إلى حالته، ويشرح له كيمياء الصالحين ويقول له: { يا بني! إن كيميائنا هي تقوى الله، ومراقبته } ، ولا زال به حتى وصل إلى حال كمل الأولياء في الصدق والصفاء والطهر والنقاء .
ثم حدث أن سرحت وزارة المعارف بايعاز من الإنجليز عدداً كبيراً من المدرسين بحجة ضغط المصروفات الحكومية، فرجع إلى المنيا، وكتب طالباً إعادة تعيينه، فاستجابت الوزارة، وعين بالمنيا ... واستقر بها بعض الوقت .. ثم انتقل إلى أسوان وادفو، وفي تلك الأثناء، طلبت حكومة السودان تعيين مدرسين بها، فتقدم واختارته اللجنة الخاصة بذلك ... وعين مدرساً بحكومة السودان في بلدة ((سواكن)) بجنوب السودان.... يتبع ان شاء الله

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:17 AM
الجهاد المقدس
يجدد الإمام كما سنرى، أحوال الصوفية الصادقين، وتنفيذهم الحق قول رسول الله : { أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقَ عِنْدَ سُلْطَانٍ جائِرٍ }
والحق أن تاريخ الصوفية العظام يسجل لهم أنصع الصفحات في الجهاد في سبيل الله، والمجاهدة للظلمة من الحكام، وحث العامة على عدم الرضا بالواقع المر، لأن شعارهم قول الله فى [11الرعد] :
( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ )
فها هو الإمام الغزالي عندما توالت الهزائم على المسلمين في الأندلس، يكتب إلى ابن تشفين ملك المغرب يستنهضه ويقول له في عنف المؤمن الذي لا يعرف في الحق لومة لائم: ((إما أن تحمل سيفك في سبيل الله، وإما أن تعتزل إمارة المسلمين حتى ينهض بحقهم سواك))، وهذا محي الدين بن عربي،عندما تهاون الملك الكامل في قتال الصليبيين قال له: (( إنك دنئ الهمة، والإسلام لن يعترف بأمثالك، فانهض للقتال، أو نقاتلك كما نقاتلهم)) ، وهذا الإمام أبو الحسن الشاذلي رغم فقد بصره، يذهب هو وأتباعه مع قافلة النور، تضم رجالات من أعظم الرجال في العلم والدين، العز بن عبد السلام، مجد الدين القشيري، محي الدين بن سراقة، مجد الدين الأخميمي، الفقيه الكامل بن القاضي صدر الدين، الفقيه عبد الحكم بن أبي الحوافر، إلى المنصورة في ميدان القتال، ليحثوا الجند على الجهاد، ويعملوا على رفع روحهم المعنوية، حتى تم لهم النصر، ووقع لويس التاسع أسيراً في دار ابن لقمان، بل أن أعظم دولة في بلاد المغرب العربي في عصره الزاهر، وهي دولة الموحدين، أسسها ابن تومرت الداعية الصوفي، وبلغ بها غاية مجدها تلميذه عبد المؤمن.
(( ولم يقتصر دور الصوفية على جهاد أعداء الإسلام، بل أنهم قادوا الثورات ضد الحكام الظالمين، فها هو الصوفي الكبير الإمام الدردير يقود الثورة الوطنية على الأمراء المماليك التي اشتعل لهيبها في عام 1200 هجرية عام 1786 ميلادية، والتي أعلنت فيها لأول مرة حقوق الإنسان، قبل الثورة الفرنسية بثلاث سنوات، وكان من نتائج هذه الثورة المباركة، اعتراف المماليك بأن الأمة مصدر السلطات، وبعدم فرض ضرائب جديدة إلا برأي الشعب، واعترافهم الكامل بحرية الأمة وكرامتها))
والأمثلة في هذا المجال كثيرة وكثيرة، ويكفي أن نسجل هنا شهادة لأحد الأقلام المنصفة في هذا المجال حيث يقول ((يسجل التاريخ لبعض الصوفية المسلمين، مواقف لا تنقصها الشجاعة إيزاء نصح الحاكم ورده عن ظلمه في عزة مدهشة، قلَّ أن توجد، في مثل هذا العصر، وقد كان اتصال أغلب المتصوفة بالقاعدة الشعبية أوثق منه بالقمة، فكانوا أعرف الناس بآلام الناس، وأدى بعضهم دوره الإشتراكي الإنساني في مجال المواساة والإسعاف والإنصاف والإرشاد، ولم يحجم إلا المتصوف ذو المزاج المريض ))....
جهاده الإنجليز في السودان
انتقل الإمام إلى أم درمان، فواصل رسالته، وشرح حكم ابن عطاء الله السكندري، والموطأ للإمام مالك، بمساجدها ثم حدث أن طلبت جامعة غوردون بالخرطوم أستاذاً للشريعة بها فتقدم ، وشغل هذا المنصب.
وبدأ منذ تلك اللحظة الجهاد على أشده مع الإنجليز، حيث أخذ يشرح للناس بالمساجد صحيح البخاري والموطأ، ويحدثهم في التوحيد والأخلاق، وفي نفس الوقت يشرح لخاصة طلابه في الجامعة وفي مقدمتهم الزعيم الوطني السوداني على عبد اللطيف مساوئ الاستعمار، ويطالبهم بالعمل المنظم للقضاء عليه وإجلائه عن البلاد.
وأحسَّ بروحه الشفافة وبصيرته النافذة بأن هناك اتصالات تجري بين الشريف حسين في مكة والحاكم الإنجليزي في مصر (مكماهون) فأعلن أنه ذاهب إلى مكة لأداء العمرة، وإن كان هدفه الحقيقي هو مقابلة الشريف حسين، وفعلاً استطاع مقابلته، وطلب منه أن يكلمه على انفراد، وأخذ ينصحه، وعرفه بالمراسلات التي تمت بينه وبين الإنجليز، وما دار فيها رغم أن أحداً لم يكن يدري بها بعد، وطلب منه في نهاية اللقاء أن يتخلى عن الإنجليز، ويساند إخوانه المسلمين وألا يذكر لأحد شيئاً مما دار في هذا اللقاء.
ولكن الشريف حسين أخبر الإنجليز بما دار بينه وبن الإمام أبي العزائم، فأحسوا بالخطر نحوه، وبدأوا في محاولة استقطابه لجانبهم، لكنه رفض كل ذلك، فطلبه الحاكم العام الإنجليزي في السودان - ريجنالد وينجت - وطلب منه أن يكتب مبيناً للناس مساوئ الخلافة الإسلامية في تركيا، وما يرغبهم في التعاون مع الإنجليز باعتبارهم يعملون لتقدم البلاد ورفاهيتها، فقال له الإمام أبو العزائم : أتكتب ضد الإنجليز؟ قال: كيف هذا وأنا رجل مُتَعَلِّم؟ قال : إذاً كيف تطلب مني أن أكتب ضد وطني وأنا مُعَلِّم؟
ولم ييأس الحاكم الإنجليزي من رد الإمام أبي العزائم فتركه ينصرف ثم دبر مكيدة أخرى، فأقام حفلاً بنادي الضباط بالخرطوم، دعا إليه الإمام أبا العزائم وكبار الشخصيات الإسلامية والإنجليزية بحجة التعارف بين المسلمين والإنجليز، ولكنه رفض حضور هذا الحفل، وعندما سئل عن سبب رفضه قال: سأجيبكم في المسجد الجامع، وذهب إلى المسجد الكبير بالخرطوم، وكان غاصاً بالمصلين، وقرأ عليهم بصوته الندي قول الله : ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[22المجادلة]، وأخذ يشرحها لهم بطريقة أثارت حماس الحاضرين، حتى كانت شبه مظاهرة على الإنجليز وأعوانهم، فأثار ذلك حنق الإنجليز وأقالوه من عمله وردوه إلى مصر في أول أغسطس 1915 ميلادية.
أثره في أهل السودان
غير أنه ترك آثاراً كبيرة في أهالي السودان، حيث أنه جذب القلوب إليه بأخلاقه العالية، وصفاته السامية، خاصة زهده وورعه ، وقد وصل به الأمر إلى أن الفقراء كانوا يتعرضون له في اليوم الذي يقبض فيه راتبه، فيوزعه عليهم ويرجع إلى داره بغير شئ معتمداً على فضل الله.
ولما استاء من حوله من هذا الأمر، عاتبوه ذات مرة، وبينما هو يتحدث معهم، إذ بسيارة محملة بكل ما يتطلبه المنزل من حاجيات، أرسلها رجل كريم من أهل اليسار، فقال : ((لقد أحضر الله لكم كل ما تحتاجون إليه بغير نصب ولا تعب، وكأنه يعاملكم معاملة أهل الجنة))
وخصَّ بحدبه وعطفه الفقراء، حتى كان أكثر من مرة يطلب من أهل بيته تجهيز الولائم الفاخرة بحجة أنه سيزوره بعد صلاة الجمعة نفر من الوجهاء والأمراء، ثم يعود إلى المنزل وليس حوله إلا نفر من الفقراء، فيشمئز أهل المنزل من ذلك الوضع ويقولون له: لم تكلفنا وأنت تعلم أنه لن يأتي معك أحد من الوجهاء؟ .. ولما تكرر هذا الأمر منهم قال منبهاً لهم ومعلماً لنا: ألا ترون؟ أليس عندكم بصيرة؟ هذا! وأشار إلى فقير ذي أسمال بالية، عند الله وجيهاً!، وهذا وأشار إلى مسكين حافي القدمين يلبس المرقعات وجيهاً في الدنيا والآخرة !!، وهذا أمير العباد!، وهذا أمير الزهاد!، وهكذا يضع لكل واحد من الفقراء ما يناسب حاله ومقامه عند الله ، ويتمثل بقول سيدي أبي مدين :
ما لذة العيش إلا صحبةً الفقرا
هم السلاطين والسادات والأمرا

وقد افتتن الناس به في الخرطوم بالذات، نظراً للعلوم الوهبية التي أفاضها الله عليه، حتى أنه كان يتحدث ذات مرة في المسجد الكبير بالخرطوم، فانبهر الحاضرون، حتى قاطعه أحدهم قائلاً: كلام من هذا يا مولانا؟ هل هو كلام سيدي عبد القادر الجيلاني؟ فأشار بيده إليه وقال: انتظر يا بني، ثم واصل الحديث وأتى ببيان أعجب مما تقدم، فلم يتمالك الرجل نفسه، وقال: كلام من هذا يا مولانا؟ هل هو كلام سيدي محي الدين بن عربي؟ فقال: انتظر يا بني، ثم واصل الحديث، وعلا بالعبارة حتى أسكر الحاضرين، فما كان من الرجل إلا أن وقف منبهراً وقال: كلام من هذا يا مولانا؟ هل هو كلام سيدي أبي الحسن الشاذلي؟ فقال سائلاً له: يابني، من الذي أعطى الشيخ عبد القادر الجيلاني؟ قال: الله قال: ومن الذي أعطى سيدي محي الدين بن عربي؟ قال: الله، قال: ومن الذي أعطى سيدي أبي الحسن الشاذلي؟ قال: الله، قال : الذي أعطى الجيلاني والذي أعطى ابن العربي والذي أعطى الشاذلي هو الذي أعطاني))، ففهم الحاضرون أن عطاء الله لأحبابه وأوليائه لا ينقطع ما دامت السموات والأرض، لأن خزائنه لا تفنى ولا تبيد، وإنما ينزل منها على أحبابه وأوليائه بقدر ما يناسب عصورهم وأزمانهم، وحاجة أهل تلك الأزمان والعصور: ( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [74آل عمران].
وهكذا ربى بالسودان رجالاً جاهدوا في الله حق جهاده، عرفوا أنفسهم فعرفهم الله بصفاته العلية، وأطلعه على أنواره القدسية، وأفاض عليهم من علومه الوهبية، وأسراره الحكمية، ما تعجز عنه العبارة، ولا تفي به الإشارة.
يتبع ان شاء الله

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:19 AM
جهاده للإنجليز في مصر
وبعد أن أقاله الإنجليز من عمله في السودان، أصدروا قراراً بعدم اشتغاله في الأعمال الحكومية، وقرروا تحديد إقامته بمديرية المنيا.
فأخذ ينتقل في ربوع تلك المحافظة، ناشراً لدعوته الدينية، وعاملاً على تربية أحبابه على المثل الإيمانية والأخلاق الإسلامية، حيث أن الدعوة الصوفية عند الإمام أبي العزائم ، تتركز في إعداد الأفراد دينياً وسلوكياً وخلقياً لحمل الأمانات التي من أجلها أختار الله الإنسان لعمارة الكون، ويعتبر الامام بناء الإنسان هو حجر الزاوية في أي نهضة أو تقدم لأي مجتمع من المجتمعات.
وكان يذكر إخوانه دائماً بالحوار الرائع الذي دار بين سيدنا عمر وأصحابه، عندما دخلوا بيت مال المسلمين بعد أن وزع سيدنا عمر كل ما فيه على المسلمين، وطلب من الخازن أن يكنسه ويرشه بالماء، ثم دخل فصلى فيه ركعتين، وقال لأصحابه: تمنوا!، فقال بعضهم: أتمنى أن يمتلئ بيت المال ذهباً وفضة ننفقها على الجهاد والمجاهدين في سبيل الله، وقال آخر: أتمنى أن يمتلئ سلاحاً وعتاداً يجهز به المجاهدين في إعلاء كلمة الله، وقال آخر: أتمنى أن يمتلئ طعاماً وكساء يوزع على فقراء المسلمين حتى لا يبقى بينهم فقير أو محتاج، ثم تنبه رجل منهم وقال: وما تتمنى أنت يا أمير المؤمنين؟ فقال :
{ أتمنى أن يمتلئ رجالاً مثل المقداد ! وسلمان! وبلال! وصهيب! }
فالصوفية في جوهرها كما جلاها ووضحها الإمام أبو العزائم هي بناء الفرد على السلوك الحميد والصفات النبيلة والأخلاق الفاضلة والمعاملات الحسنة حتى يكون نموذجاً يحتذى به في نشر كمالات هذا الدين لكل من تقع عينه عليه، وفي سبيل ذلك يكلف بالمجاهدات والرياضات الروحية والعبادات الدينية وغيرها من عوامل تهذيب الفرد وبناء سلوكه.
غير أنه في تلك الأثناء اتصل نفر من ذوي الجاه من أخوانه ومحبيه وهم محمود باشا سليمان وحمد باشا الباسل بالسلطات المعنية، وأفهموهم أن وجود الإمام أبي العزائم في القاهرة يسهل لهم مأمورية متابعته ومراقبة حركاته وسكناته، فسمحوا له بالانتقال إلى القاهرة، وهنا بدأ عهد جديد في الصراع بينه وبين المستعمر.
حيث هيأ له الله منزلاً كبيراً في عطفة الفريق بشارع الخليج المصري (بورسعيد الآن)، وكان هذا المنزل يتكون من عدة منازل، بينها ميدان واسع، وله باب كبير يسمح بدخول السيارات الضخمة المحملة بالبضائع إليه.
فأنشأ الإمام أبو العزائم مطبعة المدينة المنورة بداره، وأسس مجلة السعادة الأبدية ومجلة الفتح ومجلة المدينة المنورة، وأوكل إدارة المطبعة إلى ابنه السيد أحمد ماضي أبو العزائم، وأوكل رئاسة تحرير المجلات إلى ابنه السيد محمد الحسن ماضي أبو العزائم، وعن طريق هذه المجلات أخذ ينشر مقالاته التي تلهب حماسة الجماهير، وتؤلبهم على المستعمرين والمستبدين، وكان ذلك مما مهد لقيام ثورة (1919) م.
ولما شبت تلك الثورة، كان لأبي العزائم الدور الأكبر في إثارة الجماهير وتحريكهم للمطالبة برد الزعماء وهم سعد زغلول ورفاقه من المنفى، والمطالبة بالاستقلال والحكم الدستوري المستقل، وفي سبيل ذلك، سخر مطبعة المدينة المنورة لطباعة المنشورات السرية لزعماء الثورة، وكتب فضلاً عن مقالاته في الصحف اليومية والأسبوعية في تلك الآونة كتاب ((الجهاد)) ولما منعت السلطات إصداره، طبعه ووزعه سراً على المواطنين.
ثم لجأ إلى الأسلوب الرمزي، فكتب مسرحية ((محكمة الصلح الكبرى)) والتي يشير بها إلى مؤتمر الصلح الذي عقد بباريس، وصور فيه الحلفاء والمجتمعين بأنهم مجموعة من الوحوش المفترسة، والشعوب الضعيفة والمغلوبة على أمرها، بأنها هي الفريسة التي تتقاسمها تلك الوحوش.
وكان أبناؤه لهم دور هام في توصيل الرسائل والمنشورات بين أرجاء البلاد طولاً وعرضاً، حتى أن الإنجليز أحسوا بذلك الخطر، فداهموا الإمام في داره فجأة، ويحكي الموقف نجله السيد أحمد ماضي أبي العزائم فيقول: ((بينما أنا مهتم بتنجيز طبع ملحق السعادة الأبدية يوم الخميس 11 ربيع أول 1338 هـ المتضمن حكمة الآيات القرآنية التي أظهرها الله في ليلة مولده صلى الله عليه وسلم ، وما تفضل الله به على العالم أجمع، وكلنا في عمل الاستعداد للاحتفال بليلة ذكرى سطوع أنوار تلك الشمس المحمدية بسراي سيدنا ومرشدنا حجة الإسلام محمد ماضي أبو العزائم، نفعنا الله به، وكأننا لما نحن فيه من المسرات بالحبيب المحبوب نشاهد أنواره المحمدية ونتمثل النعم العظمى التي فاز بها المجتمع الإسلامي بيمن طالعه، وبعد صلاة الظهر مع السيد الوالد، وسماع ما أحيا الأرواح من سيادته في شرح المقامات المحمدية، سارع كل منا إلى تجهيز معدات الاحتفال، وإذا بجيش جرار يقوده ضابط إنجليزي من الضباط العظام ومعه أركان حرب وغيرهم، والجيش مدجج بالسلاح، ثم هجموا على المنزل بعد أن أحاط بعضهم به من الخارج، وصاح الضابط بالنداء العسكري - في صفين - وأمر بالهجوم، فأسرعت فصيلة منهم إلى فوق الأسطح وأخرى على الأبواب وثالثة إلى الحجرات دون حياء وكأن الحرب قد أعلنت، وما شهدت أبصارنا هذا المظهر إلا وتذكرنا عناية الله بأوليائه ورحمته بهم، فاطمئنت قلوبنا، ولديها أقبل علينا الإمام هاشاً باشاً مسروراً قائلاً: قولوا الحمد لله، وبعد أن فرغوا من التفتيش كما يحلو لهم، أخذوا الإمام معهم فأصر أولاده جميعاً على أن يكونوا معه وفي خدمته، ورضخ الضباط لهذا الطلب، وأودعونا جميعاً ثكنات قصر النيل)) ... وتدخل بعض ذوي النفوذ لدى السلطات، وصوروا لهم الأمر وخطورته بأن لزعماء الدين حرمة وحصانة يجب صيانتها، فأفرج عنه الإنجليز فوراً!
وعاد الإمام لنشاطه واتصالاته فألقى الإنجليز القبض عليه مرة أخرى في 17 رمضان من نفس العام ويوافق هذا العام عام (1919) ميلادية، وفي هذه المرة، دخل قائدهم على الإمام شاهراً مسدسه، وطلب تفتيش الدار جميعها، بحثاً عن مكاتبات سرية بين أبي العزائم وبعض الزعماء المسلمين، وكان يضع المكاتبات السرية في صندوق كبير بغرفة نومه، وكانت دهشة الجميع عندما جلس الإمام على الصندوق وقال للقائد: فتش كما تريد فليس عند الشيخ شئ يخفيه، وازدادت دهشتهم عندما خرجوا جميعاً من الغرفة دون أن ينتبهوا إلى أن أبا العزائم يجلس على الصندوق، وبجواره الكرسي الذي اعتاد الجلوس عليه، وأخذوهم إلى قصر النيل مرة أخرى، ولكن سرعان ما أفرجوا عنه.
جهاده الإسلامي
ولم يكتف الإمام بجهاد المستعمر في مصر والسودان فقط، بل أعلنها حرباً شعواء على المستعمر في كل بلد إسلامية، فاتصل بزعماء الإسلام في أنحاء العالم، وتبادل معهم الآراء والرسائل، وحثهم على النهوض بمسئولياتهم الجسام في مواجهة أعداء الله وأعداء الإسلام.
وكان أبرز من اتصل بهم الإمام في ذلك، جمعية العلماء بالهند وكبار الزعماء المسلمين هناك وعلى رأسهم محمد علي جناح، ومحمد إقبال، وشوكت علي، وكفاية الله وغيرهم، واتصل بزعماء أندونسيا، وعلى رأسهم أحمد سوكارنو ورفاقه، واتصل بزعماء المسلمين المجاهدين في مراكش والجزائر وتونس وليبيا وفلسطين ويوغسلافيا وألبانيا وغيرها من البلاد الإسلامية، حتى كانت داره معقلاً يلجأ إليه هؤلاء الزعماء عندما يضطرهم المستعمر لمغادرة البلاد، وكان يفسح لهم صدور مجلاته، لينشروا فيها أفكارهم، ويعبروا فيها عن آرائهم.
وهو أول من حول مؤتمر الحج السنوي إلى مؤتمر عام، لبحث مشاكل المسلمين كما تهدف الشريعة السمحاء من جمع هذه الجموع المختلفة في مكان واحد، ووقت واحد، وقصة ذلك ترجع إلى قيام مصطفى كامل أتاترك بإلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا في 2 مارس عام (1924) ميلادية، وإخراجه لآخر الخلفاء العثمانيين وهو (السلطان عبد المجيد خان)، ومنذ أن سمع الإمام هذا الخبر، لم يهدأ له بال، ولم يرتاح له خاطر، حتى حدد يوم 20 مارس عام (1924) ميلادية لعمل مؤتمر للخلافة الإسلامية في داره، دعا إليه زعماء المسلمين في كافة أنحاء الأرض، وحضرته وفود من كافة هذه البلدان.
وبعد أن شرح لهم أسباب إلغاء الخلافة، ووضح رأيه في أن شخص الخليفة لم يكن يمثل حقيقة هذا المنصب، الذي يعتبر بمثابة الرأس من الجسد الإسلامي، منذ أكثر من مائة عام، واعتبر هذا الأمر فرصة للمسلمين، ليعيدوا لهذا المنصب جلاله وقوته، وكون المجتمعين جماعة الخلافة الإسلامية في وادي النيل، وأصدروا قراراتهم، وقد نشرت محاضر الاجتماعات والقرارات في الصحف اليومية في تلك الآونة.
وطلب أن يحج هذا العام للاتصال والتنسيق مع الزعماء المسلمين في موسم الحج، لكن السلطات المصرية منعته من السفر، لأن الإنجليز أوهموا الملك فؤاد بأنهم سينصبوه خليفة للمسلمين، وجعلوه لذلك ينشئ جماعة مأجورة وأعطاها الصفة الرسمية، واعتبرها الممثل الشرعي للحكومة المصرية في مؤتمرات الخلافة الإسلامية.
وحاول الملك فؤاد استقطابه، فأرسل إليه رئيس الديوان الملكي يطلب منه أن يقابله في القصر الملكي، فرفض هذا العرض، وقال كلمته الخالدة ((بلغه يا حسن أن قوماً فقدوا الإسلام في أنفسهم وأهليهم، لا يستطيعون أن يبلغوه ويعطوه لغيرهم))، حيث أنه كان لا يؤيد ترشيح الملك فؤاد لهذا الأمر ويقول أنه ألعوبة في يد الإنجليز، كما كان أيضاً لا يوافق على ترشيح الشريف حسين، لتعاونه مع الإنجليز ضد إخوانه المسلمين في تركيا.
وحتى إنه عندما ذهب للحج في عام (1924) ميلادية وخرج معه خمسمائة رجل من خاصة إخوانه، أرسل إليه الشريف حسين مدير البرق نائباً عنه لاستقباله في جدة، ويخيره في أي القصور يحب أن يقيم فيه ليهيئه له، فقال بعزة المؤمن الذي لا يخاف في الله لومة لائم: (إن أبا العزائم رجل خديم الفقراء، ولا يحتاج في إقامته إلى القصور) فقال مدير البرق: تلك أوامر سيدنا ولا قدرة لنا على مخالفتها، فقال : (يا بني، إن لك أن تسيد على نفسك من تشاء، أما أنا فأقول إنني في أرض لا سيد فيها إلا الله )، ورفض في تلك الحجة مقابلة الشريف حسين، بل أنه دعا عليه في هذا العام لخيانته للإسلام والمسلمين، فكانت نهايته وخروجه نهائياً من هذه البلاد.
وبعد أن استولى الملك عبد العزيز آل سعود على السلطة في بلاد الحجاز كلها، راسل الإمام أبا العزائم ، وطلب منه أن يواصل جهده من أجل العمل لإحياء الخلافة الإسلامية، واقترح أن تكون مكة مقر هذا المؤتمر، وأن يكون ذلك أثناء موسم الحج في عام (1926) ميلادية عام (1344) هجرية، فأجرى الإمام اتصالاته بالزعماء المسلمين، وسافر هو وإخوانه بعد أن خرج من بيته محرماً بالحج، وألتقوا في مكة المكرمة، وتم انعقاد المؤتمر، نتيجة للاتصالات والجهود الضخمة التي بذلها الإمام ، ولكن تدخلت الأهواء النفسية ومن ورائها المخططات الإستعمارية، فلم يصل المؤتمر إلى قرار حاسم في شأن الموضوع الذي عقد من أجله، بل تحولت الجهود إلى مواضيع فرعية بعيدة كل البعد عن روح المؤتمر التي بثها الإمام أبو العزائم في نفوس الحاضرين.
وهكذا نجد الإمام أبا العزائم يطالعنا بنموذج فريد للصوفي الحق الذي يشارك في أحداث وطنه، ويعمل على رفع الظلم عن إخوانه المسلمين في كل بقعة من بقاع الأرض، ويحاول جاهداً أن يجمع ما تفرق من شملهم، وأن يحي معاليم الإيمان في نفوسهم وقلوبهم...
حتى أنه كان يطالع صبيحة كل يوم جميع الصحف اليومية، والمجلات الأسبوعية والشهرية متلمساً أخبار إخوانه المسلمين في كل بقعة من بقاع الأرض، ويشاركهم في آلامهم ويرسل لهم الرسالة تلو الرسالة، ناصحاً لهم ومحذراً من أعدائهم وشارحاً لهم الطريقة الحكيمة التي ينالون بها أغراضهم مطبقاً بذلك قول رسول الله : {مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ } ، وعاملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : { مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَىٰ مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَىٰ لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّىٰ }. ، ويقول في ذلك رضى الله عنه وارضاه:
بربكم وطني الإسلام أفديه
بالروح والمال والرحمن يعليه

وكل من ناوئ الإسلام غطرسة
فهو العدو بسيف الله أرميه

والمسلمون هم نفسي وحبهم
فرض علي بصدق القول أرويه
يتبع ان شاء الله

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:21 AM
أمراض المجتمع الإسلامي وعلاجها
وكالطبيب النطاسي الماهر، وضع الإمام أبو العزائم يده على الأمراض التي مكنت الأعداء من الأمة الإسلامية، ومزقت بين مجتمعاتها، وجعلت الأخوة بعد الألفة يختلفون، وبعد العزة يذلون، وبعد السيادة يستعبدون، وأرجع هذا الأمر إلى سببين:
أولها: التعصب للقوميات والنزعات العرقية وتفضيلها على الأخوة الإسلامية مما جعل هذا المجتمعات تعمل على إحياء لغاتها القديمة وتاريخها المندثر، وتتخلى في سبيل ذلك عن إسلاميتها، وذلك كما حدث في تركيا وإيران وغيرها.
السبب الثاني: هو سيطرة هذه الفئات على المجتمعات، وهم: العلماء الذين شغلتهم الدنيا عن الدار الآخرة، والدعاة الجهلاء الذين يتعصبون لأفكارهم وآرائهم رغم مخالفتها لإجماع المسلمين، ثم ولاة السوء الذين يحرصون على المناصب ويعملون في سبيل الوصول إليها أو الاحتفاظ بها كل ما يجوز وما لا يجوز من المكر والكيد والدهاء والخداع ويستبيحون ذلك كله في سبيل الوصول إلى أغراضهم، لأن الغاية عندهم تبرر الوسيلة مهما كانت خبيثة، وأخيراً: عبيد المادة الذين ( نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ )[19الحشر].
ويضع الامام الدواء لهذه الأمراض، فيجعل الأساس الأول فيه هو ملاحظة كمالات الإسلام ودراسة الإسلام وأحكام الإيمان دراسة يستقر بها في نفوس الأفراد والمجتمعات أنه لا مدنية حقيقية ولا سعادة نفسية واجتماعية إلا بالإسلام وكما قال الحبيب: { الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } .
وفي ذلك يقول الامام : (( والشفاء من كل تلك الأسقام الروحانية بالرجوع لما كان عليه سلفنا الصالح تمسكاً بالكتاب والسنة، فإن الله الذي خلق الخلق هو أعلم بصالحهم ومصالحهم وإنما يسعد آخر هذه الأمة بما سعد به أولها )) فإذا عشقت النفوس هذا الدين لما فيه من كمالات تعصبت له- أي تمسكت بأن يكون هاديها والمسيطر عليها في كل أحوالها، وقد وضع الامام الوسائل التي تحقق المجتمع الإسلامي ونجملها فيما يلي:
أولاً: أن تكون اللغة التي يتفهم بها جميع المسلمين مع بعضهم بعضاً أو مع غيرهم هي لغة القرآن والسنة.
ثانياً: أن تقام حدود الله، بمعنى أن يكون العمل بكتاب الله وبسنة رسول الله.
ثالثاً: أن تكون تربية المسلمين مؤسسة على التربية الإسلامية بحيث يكون التعليم أولاً مستهدفاً تعليم الإيمان والقرآن، ثم يكون تعليم الصناعات أو الزراعة أو التجارة أو تعليم فنون الجهاد وتدبير المدن وسياسة المجتمعات كله مؤسس على الدين، ويكون تعليم تلك الفنون لأنها وسائل لإعلاء كلمة الإسلام وحفظ ثغوره، وجلب الخير لأهله وقوة سلطان المسلمين))
هذا وقد فصل الإمام أبو العزائم هذه الوسائل ببسط كبير وضع فيه تصوره للمناهج والعلوم التي يجب أن تدرس في المدارس الإسلامية الخاصة بالذكور، والمناهج والعلوم التي يجب أن تدرس للفتاة المسلمة وذلك في كتابه الإسلام نسب فليراجعه من يرجو المزيد في هذا الباب.
وأما الداء العضال الذي أصاب المجتمعات الإسلامية في قلبها وهو مرض التفرقة، فقد شرحه في كتاب" الشفاء من مرض التفرقة" بإسهاب عند تفسيره لقول الله تعالى: ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)[الشورى]، ، وقد أحدث هذا الكتاب عند خروجه دوياً كبيراً حتى أنه قدم بسببه للمحاكمة في محكمة الجنايات، ولكنه لم يستكن ولم يضعف، بل واجه المحاكمة في عزة وبأس، واستطاع بلباقته وذكاءه وأسلوبه البارع، أن يخلص من أذى الحكام وكيد الحاكمين.
وسائل تحقيق المجد الإسلامي
وبعد أن وضع أسس تكوين المجتمع الإسلامي التي أشرنا إليها وضح الوسائل التي نستطيع بها تجديد المجد الإسلامي الذي كان لسلفنا الكرام، وسنوجزها فيما يلي وإن كان قد فصلها في كتبه "الإسلام دين" و"الإسلام نسب" و"الإسلام وطن".
أولاً- الإسلام دين:
فالإسلام في نظره هو الدين الحق لأن الأديان السابقة قد نسخت بعد بعثته صلى الله عليه وسلم ، وهو الدين الوحيد الذي يسع البشرية كلها أحكاماً وتعاليماً صالحة لكل زمان ومكان، ومناسبة لكل فرد من بني الإنسان، وفي ذلك يقول: (( ونحن لا نشك أن الدين الذي يجب أن يؤمن به العالم أجمع، لابد وأن يكون مستوفياً للأحكام التي تكون بها سعادة الإنسان دنيا وأخرى حقاً، فإذا تقرر ذلك يظهر جلياً أن الإسلام هو الدين الحق، وأن الدين هو الإسلام )) ...
ثانياً: الإسلام نسب:
فالنسب حقيقة عنده بين المؤمنين منبثق من قول الله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) [10الحجرات]، لأن الأخ الحقيقي هو من شاكل الإنسان خلقاً وشيمة وعملاً، والمشاكلة لا تكون إلا في مبدأ، ولا يتحقق ذلك إلا في الإسلام، وهذه الأخوة هي التي جعلت سلمان الفارسي من أهل آل بيت رسول الله r في قوله {سَلمَانٌ مِنَّا آلَ البَيْتِ } ، وفي ذلك يقول :
((يظن الناس أن النسب قرابة تدلى إلى الأب والأم والعم والخال، جهل الناس بحقك أيها الأخ الصالح التقي، ليس هذا هو النسب، إنما النسب حقيقة الإسلام، لأن نسيبك في الحقيقة من شاكلك حقيقة وخلقاً وشيمة وعملاً، ولو كان أعجمياً وكنت شريفاً هاشمياً، وحسبنا حجة في ذلك قولا الحبيب (أدخل الإسلام بلالاً في نسبي وأخرج الكفر أبا جهل من نسبي)، وقوله (سلمان منا آل البيت)، فالقرابة يا أخي هي المشاكلة، ولا مشاكلة إلا في مبدأ ينتج السعادة، وفي معنى يحبه الله تعالى ورسوله ، ولا يتحقق ذلك إلا في الإسلام، وليس ابن أمك وأبيك بقريبك إن خالفك شكلاً واعتقاداً وشمائلاً وميولاً، وليست القرابة تصح حقيقة في الدنيا للمعاونة وفي الآخرة بالسعادة إلا بأخوة الإسلام، وكل قريب وصديق وحبيب ولو من أب وأم لم تكن قرابته للإسلام، فهي خسران في الدنيا وهلاك في الآخرة، سرُّ قوله تعالى: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف])).
ثالثاً: الإسلام وطن:
فيعيب الامام على من يتمسك بتراب نشأ على أرضه، ويجعله هو الوطن فيقول له : (( الوطن هو الإسلام وليس هو أرضاً خضراء أو أفقاً من سماء زرقاء، بل ذلك الوطن هو الإسلام، نعم لأن العمل بروح الإسلام يجعل المسلمين رجلاً واحداً، كل فرد منهم عضو لذلك الجسد )) .
ثم يذكر المسلم بالمجد الإسلامي عندما كان الإسلام وطنٌ للجميع فيقول:
(( تذكر أيها الأخ المسلم هذا المجد الذي كنت فيه مذ كان وطنك الإسلام، كان الصيني يلقى المراكشي، فإذا قال السلام عليكم بشَّ في وجهه فرحاً بسماع الكلمة الإسلامية وضمه إلى صدره، وأسرع به إلى بيته، وفتح له عن خزائن المسلمين التي في بيته، كانت كلمة السلام عليكم توجب على سامعها بذل المال والنفس في النصرة والتأييد، ما ذلك إلا لأن الوطن كان الإسلام )).. وبعد أن بيَّن ما ناله المسلم من ودِّ بينه وبين أخيه المسلم بسبب الإسلام، بيَّن العزة التي أضفاها الإسلام على أبنائه فقال :
(( أنت أيها المسلم وحقك كنت أسعد الخلق طراً، مذ كان الإسلام وطنك، كانت تنحني لك الرؤوس التي عليها التيجان رهبة مذ كان الإسلام وطنك، لم يكن ذلك لخصوص الأمير من المسلمين، بل كان والله أيضاً لتاجر حقير في بلاد غير إسلامية، كنت أيها المسلم إذا انتقلت إلى بلاد غير إسلامية، نُبِّهَ على العامة والخاصة أن يمسكوا ألسنتهم، وأن يغضوا عنك أبصارهم، وأن يحتفلوا بك لتنشر عنهم الخير في بلادك، لم يكن ذلك إلا لأن وطنك الإسلام، وإنك تمثل جمال الإسلام وكماله بالوجه الأكمل، فكنت وأنت منفرد كجيش خميس تهتز له رؤوس أهل التيجان ))
وهكذا، فصل الإمام أبو العزائم هذه الحقائق الثلاث: الدين والوطن والنسب، ووضع لكل حقيقة من تلك الحقائق كتاباً خاصاً بها، يبين روح الشريعة فيها، حتى يتحقق كل مسلم أن الدين هو الإسلام، وأن الوطن هو الإسلام وأن النسب هو الإسلام، وأن يسارع إلى الخير الحقيقي الذي سارع إليه أصحاب رسول الله r وتابعوهم بإحسان، طمعاً في نيل العزة لله، والسعادة في الدنيا والتمكين في الأرض بالحق والفوز برضوان الله الأكبر والنعيم المقيم في جوار رسول الله .

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:22 AM
الشيخ المربِّي
نشأ الإمام أبو العزائم رضى الله عنه وأرضاه وقد اندرست أحوال الصوفية الصادقين، وظهرت أحوال البطالين والمنتفعين ممن جعلوا الطريق وسيلة للحصول على شهواتهم وأغراضهم، ولم يبق إلا نذر قليل حفظوا روح التصوف وأحواله ومواجيده وأخلاقه، أما الأغلبية العظمى منهم فقد جعلوه رسوماً وزياً وأكلاً وشرباً، ونسوا الغرض الذي من أجله أسس، وهو السلوك إلى ملك الملوك
فحاول أن يجدد هذه الأحوال التي اندرست، ويبين هذه المكارم التي توارت، ويوضح هذه الأخلاق التي أميتت، وقد طبق هذه المناهج والاتجاهات على ثلاث مراحل عملاً بحديث سيدنا رسول الله الذي يقول: { ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ } وقوله { ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ } وسنوضح هذه المراحل على قدر ضعفنا وتقصيرنا، لا على قدر كماله رضى الله عنه وأرضاه.
يرى الامام أن الشيخ المربي لكي يؤثر فيمن حوله لابد أن يأخذ نفسه بعزائم الأمور، ولا ينزل إلى الرخص، وإن كان يفتي بها لغيره.
وأن عليه أن يعمل أولاً بما يعتقد أنه الصواب، حتى إذا قال وقع القول منه موقع الإجابة وأحدث الانفعال السلوكي المطلوب في نفوس السامعين.
وصفات الشيخ عنده كثيرة نثرها في كتبه الصوفية ككتاب "مذكرة المرشدين والمسترشدين" و "شراب الأرواح" وكتاب "معارج المقربين" وكتاب "الطهور المدار على قلوب الأبرار" وغيرها، ونبرز أبرز هذه الصفات ملمحين إلى تحلِّيه بها كما يلي:
التأدب بآداب الشريعة
أخذ نفسه بالمجاهدات الفادحة، والعزائم الماضية، حتى يكون أسوة حسنة لمن حوله، فما كان يضيع نفساً من أنفاسه في غير طاعة الله ، إما بذكر أو شكر أو درس أو تفقد لأحوال أخوانه أو لأحوال المسلمين أجمعين، أو عبادة قلبية خاصة بينه وبين الله ، حتى أنه ، كان لا ينام إلا إذا جلست إبنته بجواره أو أحد أبنائه أومحبيه يتلون القرآن على مسامعه، ويأمرهم ألا يكفوا عن ذلك حتى إذا استغرق في النوم، ومن العجب أن بعضهم كان يلحن أحياناً في قراءته، فينتبه من نومه ويصحح له القراءة، بل إنه لشدة تعلقه بذكر الله ، كان إذا نام يسمع لتردد أنفاسه نغمة شجية، يسمعها من حوله تقول: الله ... الله.
فإذا كان وقت السحر، استيقظ من نومه وتوضأ وصلى ما شاء حتى يطلع الفجر، فينادي على أهله ومريديه ويقول: الصلاة الصلاة يا غراس الجنة، ثم يصلي بهم، وبعد انتهاء الصلاة يقول للمتكاسلين الذين فاتتهم الجماعة الأولى، موقظاً وموبخاً: الصلاة الصلاة يا غراس النار.
ثم يجلس في مصلاه يقرأ مع أخوانه ورد ختم صلاة الصبح، الذي جمعه من الأحاديث الواردة عن سيدنا رسول الله، وأدعية الأنبياء والمرسلين التي تحققت وأجيبت في كتاب الله، وبعدها يقرأون صيغ الصلوات التي أمده بها سيدنا رسول الله، ثم يشرح لهم ما تيسر من آيات كتاب الله، حتى إذا بزغت الشمس وارتفعت قدر رمح أو يزيد، تناول معهم طعام الفطور وأذن للجميع بالتوجه إلى العمل.
وهو في جميع أحواله لا يخرج عن الشريعة طرفة عين، بل كل حركة وسكنة من حركاته وسكناته كانت مضبوطة بأحكام الشرع الشريف، حتى أنه في أواخر أيامه، وكان قد مرض وشلَّت رجلاه، فأرادوا أن يدخلوه دورة المياه، ولم ينتبهوا إذ أدخلوه من الجهة اليمنى فانتفض، انتفاضة شديدة وقال وهو يتألم: خالفت رسول الله العفو يا سيدي يا رسول الله.
وقد حضر لديه جماعة من العلماء، فأراد أن يبين لهم الأدب العالي الذي ربى عليه أبنائه ومريديه، فأحضر رجلاً أمياً، وقال له ماذا تصنع إذا وجدت أن أبا العزائم يخالف رسول الله ؟ فقال التلميذ الذي تأدب بآداب شيخه: لو خالف أبو العزائم رسول الله لقرعناه بنعالنا، فأحتضنه الامام والتزمه وقال له: أنت ولدي حقاً، ويقول لهم آمراً باتباع السنة : { حافظ على السنة ولو بشرت بالجنة }، ويقول أيضاً:
لسنته فاخضع وكن متأدباً
وحاذر فحصن الشرع باب السلامة

على الجمر قف أن أوقفتك تواضعاً
يكن لك برداً بل سلاماً برحمة

بل أنه يجعل الحكم على المريد، متوقفاً على مدى استجابته لأوامر الشريعة المطهرة، فيقول مبيناً علامة المريد الصادق من الدَّعي المندس في صفوف الصادقين:
من فارق الشرع الشريف فليس من
آل العزائم فافهمن برهاني

ولا عجب في ذلك، حيث أنه، كان يحدث عن جده الصالح أبى العزائم ماضي هذه الواقعة التي دارت بينه وبين ولد شيخه أبي الحسن الشاذلي فقال:
(( كان للشيخ ولد اسمه علي، فلقيته بالإسكندرية سكراناً بالخمر، فأتيت به إلى الدار، وضربته ضرباً وجيعاً حتى تعلق بأمه، فجذبته حتى خرج بخيوط رأسها في يده، فصاحت وبكت فدخل عليها الشيخ فقال لها: ما يبكيك؟ فأخبرته بالقصة ولم تخبره بسكره، فتغير الشيخ لذلك، فلما دخل الزاوية قال لي: يا ماضي لما فعلت كذا وكذا؟ قلت لأني وجدته سكراناً بالخمر، والله لو تعلق بك لجلدته الحد، فقال لي هكذا هو، وتغير وجهه، ودخل الخلوة ساعة، واستدعاني فدخلت عليه فوجدته فرحاً مستبشراً، فقال لي دخلت إلى هذا المكان وهممت أن أدعو على ولدي، فقيل لي: ياعلي مالك ولولي! دعه حتى ينفذ ما قدرته عليه!، فلم تمض إلا مدة يسيرة، حتى خرج في سياحة، وظهر في أرض المغرب وظهرت ولايته ))
ولهذا كان أول ما يأتي إليه المريد يوجهه إلى تعلم الشريعة المطهرة والعمل بها ويقول: طريقنا هذا أوله علم وأوسطه عمل وآخره موهبة، ويحدد مآخذ طريقته في أكثر من موضع في كتبه ويقول:
(( طريق آل العزائم هو ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأساسه مقام الإحسان بعد مقام الإسلام والإيمان، والسالك في هذا الطريق يجب أن يكون محصلاً ما لابد له منه من العقيدة الحقة والعلم بأحكام العبادات والمعاملات والأخلاق كما هي سنة المرشدين، فكذلك السير في كل المساجد والزوايا المعدة لتربية الطريق، فإن خديم الفقراء يبتدئ بتعليم الأحكام الشرعية والآداب النبوية، وتعليم المعاملات والأخلاق بجميع أنواعها )) ، ويقول محذراً لمن يخالف هذا المنهج: (( وكل خديم في بلد خالف منهج المرشد أفسد على الفقراء أحوالهم )) ، ويحدد الأسس التي بنى عليها طريقته فيقول: (( مآخذ هذه الطريقة:
- كتاب الله تعالى بعد علم محكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه عملاً بالمحكم وإيماناً بالمتشابه بقدر الاستطاعة وتركاً للمنهي عنه جملة واحدة إلا لضرورة شرعية.
- أقوال رسول الله بعد العلم بصحة السند فيما يؤدي إلى علم اليقين والأخذ بأقواله بدون ملاحظة إلى السند فيما يؤدي إلى فضيلة أو مكرمة.
- وأعماله التي تثبت من طرقها الصحيحة وأحواله المبينة في كتب السيرة الصحيحة التي يستنير بها المرشد عند مقتضيات ذلك.
- وهدي الخلفاء الراشدين وأئمة الصحابة المأخوذ من تراجمهم أجمعين والأخذ بالعزائم في كل ذلك.
- وأعمال السلف الصالح وأئمة المسلمين ومواجيدهم الصادرة عن عين اليقين وصدق التمكين وصفاء الضمير والإخلاص في المعاملة لرب العالمين.
- ثم طمأنينة القلب بعد العلم بكل ذلك حال الدخول في العمل أو القول أو الحال لأن كل ذلك خالص لوجه الله بحيث أن السالك في هذه الطريقة إذا لم يستبن له الأمر في كتاب الله ولا في سنة رسول الله أو في هدي السلف الصالح يلزم أن يتوقف عنه حتى يطمئن قلبه أنه خير وأنه خالص لله تعالى))
الزُّهد
ويؤكد هنا أن من يقوم لدعوة الخلق إلى الله لابد أن يكون مستغنياً بالخالق عن الخلق، ومتأسياً في أحواله بالسادة الأنبياء حيث يحكي عنهم الله قولهم لأممهم: ( يا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) [51هود] ويقول معرفاً بالشيخ المربي: شيخك من يعطيك لا من يأخذ منك. وقال لمن سألوه عن العلامة التي يعرفون بها صدق الداعي إلى الله في دعوته: (اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ) [21يس].
وضرب بنفسه أروع الأمثال في ذلك، فحينما استقر في القاهرة وقد فصله الإنجليز من عمله، وداره غاصة بالمريدين والأحباب الذين يحتاجون إلى نفقات كبيرة وكثيرة، حتى أن أبرز محبيه وهو محمد محمود سليمان باشا، وكان يسمى في عصره ملك الصعيد لثرائه الواسع، سجَّل حجة ووثقها في الشهر العقاري بمائة فدان باسم الإمام أبي العزائم . وذهب إليه وعرضها عليه وقال: يا سيدي هذا شئ يسير تستعينون به على أمور الدعوة، وحاجات الفقراء، فغضب أبو العزائم غضباً شديداً، حتى أن الشرر كاد أن يتطاير من عينيه، وقال له في حدة: من الذي قال لك أن أبا العزائم يحب الدنيا؟ انظر، وأشار إلى خلفه فنظر فرأى عجباً، رأى أكواماً من الذهب لا حصر لها، فعلم أن تلك عناية الله بأحباب الله وأصفيائه، حتى أنه لشدة زهده ، سجل البيت الذي كان يقطن فيه باسم (آل العزائم) في كل أقطار الأرض، حتى يتأس بسيدنا رسول الله ، ويخرج من الدنيا ولم يصب منها شيئاً، هذا مع أن الضرورات الكثيرة كانت تنتابه المرة تلو المرة، لكنه كان بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه.
وهكذا يجدد أبو العزائم أحوال السلف الصالح في زهدهم في الدنيا وإقبالهم على الله، ويعرفهم بأن الزهد لا يتم إلا بعد وجود الشئ في ذات اليد، فتكون الدنيا في يد الإنسان ولكنها خارجة من قلبه، بمعنى أنه لا يفرح بها عند الوجد ولا يحزن عليها عند الفقد، أما الزهد في غير الوجد أي زهد الإنسان لأنه لا يملك شيئاً فهذا ليس بزهد العارفين، وإنما زهد العوام من الناس، لأنه إذا حصل عليها ربما يتغير حاله.
الورع
وهو عنده للسالكين في ترك الشبهات، وللواصلين في ترك كثير من المباحات، وللمتمكنين في ترك ما سوى الله بالكلية.
فقد كان له رضى الله عنه فيه الباع الأعظم والقدر الأجلُّ، وليس أدلَّ على ذلك من هذه الحادثة الفريدة من نوعها: فقد دعاه صالح سليم باشا في بور سعيد لتناول الغذاء عنده هو وإخوانه، فما كان منه، بعد محاولاته الاعتذار واصرار الباشا ورجاؤه وتوسلاته على التلبية إلا أن أمر ابنه المبارك السيد أحمد ماضي أن يأخذ معه رغيفين من الخبز وقطعة من الجبن، ولما استقروا على المائدة، وقد غصَّت بأصناف الأطعمة الشهية، وأذن الباشا للحاضرين بتناول الطعام بعد استئذانه في ذلك، طلب من السيد أحمد إخراج ما معه من الخبز والجبن ووضعه أمامه، فأسرع الباشا إليه هلعاً وسأله لماذا يأكل هذا الطعام مع أن المائدة حافلة، وفي إمكانه ووسعه أن يأتي بما يريد استجلاباً لرضاء الشيخ ، فقال له بحكمته المعهودة: (إن هذا الطعام أمرني به الطبيب) - ويقصد الطبيب الأعظم .
ولم يكتف بالتخلق بهذا الخلق الكريم والحال العظيم في نفسه وإنما كان يدرب ويمرن أولاده ومحبيه على هذا الورع ويباعد بينهم وبين الشبهات والمحرمات قدر ما يستطيع، فهذا رجل فلاح من أتباعه، وكان يسكن في منطقة بولاق، وكانت قبل عمرانها الحالي منطقة زراعية، وكان أهلها يبيعون اللبن كل صباح لسكان القاهرة، فشكا له الرجل أن زوجته تخرج مع جاراتها باللبن، فيرجعن مسرعات وتتأخر هي حتى ضحوة النهار، مما جعله يشك في أمرها، ويتهمها في سلوكها.
وعرض الأمر على الشيخ ليجلي له الحقيقة، فقال له الشيخ ، ضع غداً قدراً من الماء على اللبن من غير أن تعلمها، فنظر الرجل إليه بدهشة ولكنه رضى الله عنه قال له: افعل ما أمرتك به، فعلم أن هذا لحكمة عالية يعلمها الشيخ، وكانت دهشته أعظم عندما نفذ أمر الشيخ، ووجد زوجته ترجع مع صويحباتها، فأسرع إلى الشيخ وعليه إمارات الدهشة، فقرأ الامام ما يدور بخلده وقال له: يا بني إن جاراتك تغش اللبن بالماء، فيقيِّض الله لهن مالاً حراماً ثمناً له، والمال الحرام كثير هذه الأيام، ولذا يرجعن بسرعة، أما زوجتك فلأنها تراعي حق الله وتتأدب بآداب سيدنا رسول الله فإنها تتعب حتى يهئ الله لها مالاً حلالاً ثمناً للبنها، وذكره بالقول المأثور: { إذا غضب الله على عبد رزقه من حرام، فإذا اشتد غضبه عليه بارك له فيه }.
والورع هو مقام الصديقين عنده لأنه أفضل من كل العبادات على الإطلاق سر قوله : { إِتَّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ }
البصيرة النافذة
كان يرى أن أهم صفة يجب أن تتوفر في الشيخ المربي هي البصيرة النافذة، التي تنفذ بشعاعها النوراني وراء الحواجز والمسافات، لتسهل للسالك قطع العقبات والمفازات والوصول إلى أعلى الدرجات والمقامات، ويستشف ذلك من قول الله لحبيبه r فى محكم التنزيل ( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) [108يوسف].
وهذا هو نهج الصوفيين الحقيقيين قديماً وحديثاً، فهذا سيدنا الجنيد عندما تلقى الإذن من شيخه السري بالإرشاد وجلس في المسجد الجامع وتجمع حوله الخلائق، اندس في وسطهم نصراني، وقد تزيا بزي رجل عربي، وبادره قبل أن يتكلم بالسؤال قائلاً: ما معنى حديث: { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ } ؟ فنظر إليه ودقق النظر وأطرق برأسه إلى الأرض ثم رفعها بعد برهة وقال له: معناه أنَّه قد آن الآن أوان إسلامك يا نصراني؛ فانطق بالشهادتين، وفي ذلك يقول الامام:
إذا رمت أن ترأى بعين البصيرة
فسلم لنا الأحوال في كل حضرة

ومن راحنا الصافي تناول مدامة
يناولها المختار من غير راحة

فقد خصني طه بفيض وداده
وأعلى بمحض الفضل شأني ورتبتي

أنا الباب فرد الوقت من غير ريبة
أنا ساقي الندمان راح الشهادة

ويقول أيضاً رضى الله عنه :
أنا الخبير فسلني عنه أنبيك
وسلمن لي إلى العليا أرقيك

واخلع سواه وكن صبابة مغرم
وبعه نفسك والأموال يعطيك

وكان الامام المثل الأعلى في عصره في الشفافية النورانية والبصيرة الروحانية، بل أن كل حركاته وسكناته تشف عن هذه البصيرة الوضاءة، وخاصة أمام المعارضين والمعاندين، فعندما أوعز الإنجليز لعلماء الأزهر أن يتهموه في عقيدته زوراً وبهتاناً، ليتسنى لهم محاكمته بعد الصاق التهم المزعومة به، تريث عقلاؤهم وآثروا أن يرسلوا عشرة منهم لاختباره، وحضروا الأسئلة التي تكشف لهم حقيقة أمره، وتخيَّروا لذلك الأمر ليلة الإسراء والمعراج، حتى ينكشف أمره حسب زعمهم لمريديه وأحبابه، وكان يوضع له كرسي خاص في وسط السرادق الذي يقام لأجل إحياء هذه المناسبة، فطلب الامام من أبنائه المشرفين على الحفل أن يجهزوا خمسة كراسي عن يمينه وخمسة عن يساره ولا يدعون أحداً يجلس عليها إلا بإذن منه شخصياً
وعندما بدأ الاحتفال، وسط دهشة الحاضرين من هذه الكراسي الفارغة من الجالسين، إذا بالعشرة علماء يحضرون، فأمر باجلاسهم على الكراسي المعدة لهم، وبعد ترحيبه بهم، أخذ يجاذبهم أطراف الحديث قائلاً:
عندما كنت بالسودان، جاء عشرة من العلماء كهيئتكم ليمتحنوني فسألني الأول الذي عن يميني وأشار إلى الذي عن يمينه، عن كذا؟ - وعين السؤال الذي حضره وجهزه هذا الشخص - ثم ذكر الثاني بسؤاله وأجاب عليه، وهكذا حتى أجاب العشرة عن أسئلتهم التي جهزوها بدون أن يطلع عليها أو يتفوهوا بها ... بصيرة من الله ونورانية، وشفافية وإمداداً من سيدنا رسول الله
بل أنه كان يفحم المستشرقين حين يستشف ببصيرته النافذة أغراضهم الخبيثة التي تكمن في أسئلتهم، فهذا أحدهم يتوجه إليه بالسؤال قائلاً: الحي أفضل أم الميت؟ فأجابه على الفور بدون تريث مريم أفضل أم إبليس؟ فبهت الذي كفر .. وتعجب الحاضرون لوجومه, فكشف لهم حقيقة الأمر وقال: إن هذا يريد أن أقول له: الحي! فيصل عن طريق الجدال إلى أن عيسى وهو في نظرنا حيٌّ أفضل من سيدنا محمد، فأجبته بأن إبليس حيٌّ ومريم قد ماتت.
أما عن بصيرته في تربية مريديه وأحبابه فحدث عنها ولا حرج، والأمر فيها أكثر من أن تحويه هذه الصفحات، وحسبنا منها هذا المثال الذي في تسبب في توبة أخص كتابه كامل أفندي وإسلام زوجته الفرنسية، والتي سمت نفسها فاطمة.
فقد كانت أم كامل من الصالحات القانتات، اللاتي تهذبن وتربين على يد الإمام أبي العزائم، وكانت تذكر لابنها في رسائلها إليه كثيراً من النوادر والأحاديث التي تسمعها من الإمام أبي العزائم، فظن ابنها لعدم معرفته بالإمام أنه رجل عادي، وأن هناك علاقة بينه وبين أمه، فصمم وهو في دراسته للحقوق بفرنسا أن يقتل الإمام أبا العزائم بعد عودته إلى مصر، وعند مجيئه أظهر لأمه اعجابه بأبي العزائم، وطلب منها أن تصحبه هو وزوجته ليسلما عليه، وأخفى المسدس في ثيابه، وجهزه للضرب فوراً، وعندما رآه الإمام قال له على البديهة: مرحباً يا كامل أفندي، جئت تقتل أبا العزائم: وتخفي المسدس في ثيابك؟ اخرج مسدسك فإن الله حائل بينك وبين ذلك.
فذعر الرجل وأخرج مسدسه، وسلمه له، وترجم لزوجته الفرنسية ما دار فارتمت على الأرض، وأغمى عليها، وفي تلك اللحظات، رأت أن القيامة قد قامت، والملائكة يأخذونها ليقذفونها في جهنم، وهي تستجير فلا تجد من يدفع عنها، وبينما هي على باب النار، إذا بها تجد الإمام أبا العزائم يقول لهم: خلوا عنها، فأمسكت به ثم أفاقت من سباتها وهي تصيح يا أبا العزائم .. فأسلمت وحسن إسلامها وصارت تكتب باباً ثابتاً في مجلة المدينة المنورة الأسبوعية تحت عنوان ((أوربية أسلمت)).
والإمام يحدد مهمة الشيخ في تصفية قلوب المريدين، وتهذيب نفوسهم وصفاء أحوالهم، فإذا كان هو لم يتمكن من تلك الأحوال ولم يستطع أن يهذب نفسه فكيف يعطي ذلك لغيره؟ وفاقد الشئ لا يعطيه.
وهذه البصيرة هي سلاح العارفين عند ورود الشبهات وقائدهم للوصول إلى مراد الله في تأويل الآيات القرآنية، ومعرفة ما يقصده سيدنا رسول الله في الأحاديث النبوية، وهي التي تحدد الأمراض والحجب والقواطع التي تمنع السالكين وتحجبهم عن الوصول إلى درجات الروحانيين، ويقول في ذلك: (( وإنما إمام المتقين من وصل إلى جناب القدس ثم ورَّثه الله علوم الرسالة والنبوة، فأقام داعياً للحق بالحق دالاً على الحق بالحق، مجدداً للسنة، مبيناً لسيرة السلف الصالح، هذا هو الإمام المقتدى به، وإذا أظهره الله في عصر من العصور وجب على كل طالب أن يقتدى به أو بمن اقتدى به أو بمن اقتدى بمن اقتدى به، فإن هؤلاء في الجنة ما داموا محافظين على تلك الأسرار )) ..
وينعي على كثير من مدعي الصوفية في عصره فيقول: (( هذا وبعض أهل الطريق، إذا مات المرشد أو مات الشيخ المأذون بالطريق، يسلمون لأحد أولاده أو أقاربه، وهذا أمر حسن، لو أن من سلموا له يكون على شئ من العلم والعمل والحال، واجتهد في تحصيل ما به كمال نفسه ونفع غيره، وحافظ على الاقتداء بالمرشد محافظة حقيقية في القول والعمل والحال.
أما إذا سلموا لابن المرشد، أو لأحد أقاربه، وكان صبياً لم يبلغ الحلم، أو كبيراً على غير استقامة، بعيداً عن معرفة الطريق وأهله، فإنهم بذلك يكونون عرضوا من اقتدوا به للهلاك وأهلكوا أنفسهم، لأنهم بذلك يجعلوه يغتر بنفسه، ويتكبر على العلم، ويحتقر العلماء، ولا يزيده الإقبال عليه، إلا غروراً وبعداً عن الله، وكأنهم بذلك أساءوا إلى مرشدهم فإنه جملهم بالعلم والعمل والحال، وهم لم يحسنوا إليه في أولاده وأهله، وكان الواجب عليهم، أن يجتهدوا في تربية ابن الأستاذ أو من يكون من أهله، تربية حقيقية، علماً وتهذيباً وعملاً حتى يكون لسان صدق لوالده، ووارثاً لعلومه وأحواله، وإني لأعجب من رجل لا يرضى أن يجعل الحصرم من العنب زبيباً ويرضى أن يجعل الطفل الصغير المؤهل للتربية والتهذيب والتعليم، مرشداً عظيماً، وظن أنه يحسن صنعاً )) ..
ويأتي الامام بالقول الفصل في هذا الأمر الذي طال فيه الجدل والكلام بين أبناء الطرق الصوفية وغيرهم في شأن من يقوم بتربية المريدين بعد شيخهم فيقول:
((أن الله حكمٌ في كتابه العزيز في ميراث الأرض خاصاً لمخصوصين، وحكم في ميراث السماء أنه فضله يؤتيه لمن يشاء، فحكم في خير الدنيا بما هو واضح، وحكم في ميراث الأنبياء والمرسلين بالفضل العظيم بأنه لمن يشاء ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[21الحديد].))

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:24 AM
الرحمة بالخلق
خلق سيدنا رسول الله من عين الرحمة الإلهية فكان رحمة مفاضة لجميع الكائنات العلوية والسفلية، سرُّ قول الله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) [الأنبياء]، ومن قلبه تفاض الرحمة على قلوب وارثيه فيغمرون الكون بضروب الرحمة المحمدية من الشفقة والعطف والحنان والكرم والبر والإحسان والعفو والصفح والغفران وغيرها من أبواب الرحمة التي لا حصر لها.
وقد كان عين أعيان الرحمة الإيمانية الإسلامية في هذا العصر، مولانا الإمام أبوالعزائم ، فقد وسعت رحمته الصغير والكبير، فكان يقضي جلَّ وقته يؤنس أبناء المريدين والمحبين حتى تعلقوا به من نعومة أظفارهم، وشعاره الدائم في ذلك: (عاشروا الناس معاشرة، إن عشتم حنوا إليكم وإن متم بكوا عليكم)، حتى أنه في سبيل ذلك كان ينسى أبنائه الصلب نظراً لانشغاله بأبناء الفقراء.
وعندما أقامه الله لدلالة الخلق على الله:
اختار نفراً من خاصة أصحابه يعاونونه في أداء هذه الرسالة وأتى بأسرهم، وأسكنهم في داره وتكفل برعايتهم وتربية أبنائهم والإشراف على جميع شئونهم، ليتفرغوا لدعوة الله ، لأنه ، كان يرى أن سريان القيم الإسلامية وانتشار المكارم الإيمانية في المجتمع هما العامل الأكبر لحفظه من الضياع والتفكك، وصونه من الخلاف والشقاق والفساد، وحفظه من الأمراض القلبية كالحقد والحسد والشح والطمع والحرص والأثرة وغيرهما، وهذه المهمة لا يقوم بها إلا الدعاة إلى الله المخلصين الذين أخلصوا لله قلباً وقالباً، والذين يقول فيهم:
عبيد أخلصوا لله ذاتاً
وقاموا صادقين بحسن نية

فلم يشغلهم حظ ووهم
عن الإخلاص للذات العلية

ومن يد سيد الرسل التهامي
سقوا خمر البشائر أحمدية

وكان من شدة حدبه وحرصه على مريديه:
يدخل غرفته الخاصة موهماً خاصة أصحابه أنه سينام، فإذا تأكد من نوم الجميع، خرج من غرفته ماشياً على أطراف أصابعه، يتفقد المريدين، فيغطي من كشف الغطاء عن نفسه، ويصلح من نام على غير هيئة النوم الطبيعية، حتى إذا اطمئن على الجميع، دخل فاستراح في حجرته.
وبلغ به فرط إحساسه بإخوانه:
أنه كان يأمر من يدعوه إلى منزله ألا يحضر الطعام حتى يراه بنفسه، ويمسك المغرفة ويحركها فيه بضع مرات، ذاكراً الله ملتمساً منه البركة، فيكثر الخير ويفيض، وإذا تفرس في فقير أنه يودُّ دعوته إلى بيته، ولكن يمنعه من ذلك ضيق ذات اليد، يخبره أنه سيزوره في ميعاد ويحدده، ويرسل قبل الميعاد نفراً من خاصة أحبابه ويعطيهم المال، ويكلفهم أن يشتروا أصنافاً من المأكولات والفواكه والحلويات تليق بالوجهاء والأغنياء، ولا يخبرون أحداً بهذا الصنيع، ثم يذهب هو ورفاقه، فينبهرون من ضروب الخير وأصناف البر، التي يجدونها عند أخيهم الفقير، ويسر الفقير وأهل بيته سروراً ما بعده سرور، ويقول معلماً لأحبابه ومريديه قول رسول الله :
{ مَا عُبِدَ اللهُ بِشَئٍ أَفْضَلَ مِنْ جَبْرِ الْخَاطِر }
وكمثل السادة الصوفية المحققين والذين يعبر عنهم سيدي أبو العباس المرسي فيقول:
(( لا تمنعوا أحداً من الدخول علينا بليل أوبنهار، فإن المريد يأتي والشوق يملأ فؤاده، فإذا منع فسد حاله وتغير )).
ويمتثل بقول القائل: ((قلوب الأحرار لا تحتمل الانتظار)).
وهكذا أيضاً كان الإمام أبو العزائم ، فقد حكى الأخ الصادق الشيخ عبد الحميد سري وكان كاتباً بمحكمة السويس:
أنه وجد سيارة متجهة إلى القاهرة لقضاء مصلحة ضرورية وترجع في نفس اليوم، فاستأذن في الذهاب معهم ليبلَّ شوقه بملاقاة مولانا الإمام، وعند حضوره إلى دار أبي العزائم، كان وقت القيلولة، وكان الشيخ مفتاح زيدان الخادم الخاص للإمام، يجلس على باب الغرفة حتى لا يترك أحداً يقلق راحة الإمام أثناء قيلولته.
فاستأذنه الشيخ عبد الحميد سري أن ينظر إلى وجه الإمام وهو نائم حتى يمتع نظره بالنظر في وجهه، لأن النظر في وجه العالم عبادة، فامتنع الشيخ مفتاح، وبينما هم كذلك إذا بالشيخ يصفق بيديه ويستدعي الشيخ مفتاح ويقول له: من بالباب؟ فيقول له: عبد الحميد سري. فيقول له: ادخله، فأدخله فصافحه ثم سأله عن أحواله وعن أحوال رفاقه في السويس، ثم قال له مبشراً ومشجعاً على هذه الهمة:
(( يا بني نظرة في الوجه خير من ألف شهر )).
وهذه الرحمة التي امتلأت بها جوانح هذا القلب الكبير وسعت جميع خلق الله حتى قال :
(( آل العزائم لهم حال مع الله يجذب الكافر والنافر فما بالك بالمؤمن المطيع؟))
هذه الرحمة التي كان يفتح بها أبواب التوبة والاقبال على الله للعصاة والمذنبين ويدعوهم إلى الله مشجعاً وحاثاً قائلاً:
(( رب معصية أورثت ذلاً وإنكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً ))
ويقول أيضاً:
اسمعوا فالذنب سر الاقتراب
من هو المعلوم في حل غياب

يكسر الذنب القلوب بوقعه
كسره قرب إلى نور الكتاب

هذه الرحمة وسعت حتى الكافرين لتظهر لهم جمال هذا الدين، فيقبلوا على الله خاشعين مخبتين، فقد كان يسكن فوقه امرأة يهودية وأولادها، ورفضت أن تخرج من السكن، وبالغت في إيذائه أشد الإيذاء، حتى أنها كانت تمسك الهون وتدق عليه في الحجرة التي ينام فيها، في أوقات راحته حتى لا ينام.
ومن كثرة تكرارها لهذا العمل، حدث خرق في السقف، فكانت تنتظر حتى يلبس ملابسه ويتهيأ للخروج فتلقي عليه من الخرق، القاذورات التي تنجس ثيابه، ويتضايق المريدون ويثور بعضهم، فيقول لهم ملاطفاً: قال : { لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ وَلَهُ جَارٌ يُؤْذِيهِ }
ثم يأمرهم أن يبدأوا بها دائماً بعد طهي الطعام، فيعطوها ما يكفيها وأولادها، ويطلب منهم أن يشتروا لها ولأولادها كسوة من الملابس كل عام، حتى أنها لما رأت أن صنيعها لا يغير شيئاً، بحثت عن سكن آخر وتركت المنزل.
وبعد هنيهة من الزمن، فوجئت بأبي العزائم يدق عليها الباب ويستأذن في زيارتها، ويعتذر إليها إن كان قد بدا منه أو من أحد من أولاده شيئاً أساءها فاضطرت إلى مغادرة المنزل - وإزاء هذه الأخلاق العالية، لم تتمالك اليهودية إلا أن تعلن إسلامها إعجاباً بهذا الخلق النبيل.
ويلقن الإمام أبناءه في هذا الأمر درساً عملياً عندما قال له أحدهم مردداً قول القائل: (اتق شر من أحسنت إليه) فقال :
هذه العبارة غير كاملة، اكملها بما يأتي:
(( اتق شر من أحسنت إليه بدوام الإحسان إليه )).
وصدق إذ يقول:
ليس الرقي إلى العليا بأعمال
ولا الوصول بأقوال وأحوال

ولا بعلم به تغوى ولا أمل
ولا جهاد بأبدان وأموال

لكنه منة من فضل واهبه
به تعد جميلاً بين أبدال

خلق عظيم وإيقان ومعرفة
بالله ذي الفضل والاحسان والوالي

إذا عرفت مقام الله خفت وفى
خوف المقام تنال القرب بوصال

هذا الوصال وهذا القرب أجمعه
سعادة أبدا فضلاً بغير زوال

وبالجملة فإن صفات الدعاة إلى الله والعلماء أهل الخشية والحكمة قد أفاض فيها الإمام أبو العزائم في كثير من كتبه وأهمها:
(معارج المقربين) و(مذكرة المرشدين والمسترشدين) و(الطهور المدار على قلوب الأبرار) و(دستور السالكين طريق رب العالمين) و(آداب السلوك إلى ملك الملوك) و(شراب الأرواح من فضل الكريم الفتاح) وغيرها من الكتب.
ومن أراد المزيد فعليه بهذه الكتب.
والله الموفق والهادي إلى أقوم السبيل...
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
يتبع ان شاء الله

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:25 AM
على أن أروع ما قدمه الإمام أبو العزائم من تجديد في العصر الحديث، هو تربية جيل من الصوفية العظام، الذين عرفوا الله حق معرفته، وقاموا في لجة هذا البحر العميق (الدنيا) منارات يهتدي بها الحائرون ويقتدي بها السالكون، فكأنهم المعنيون بقول رسول الله :{ العُلمَاءُ سُرُجُ الدُّنْيَا وَمَصَابِيحُ الآخِرَة }
فقد كان الامام وهو فرد، مدرسة كاملة يترقى فيها المريد من أوائل مقامات السلوك، حتى يصل إلى منتهى الدرجات قربا من ملك الملوك ، وهو في ذلك كله أسبقهم عملاً بما يقول، وأنهضهم عزيمة لما يطلب، وأقواهم حالاً فيما يأمر.
وفي ذلك يقول :
بعض حالي يدك شم الجبال
وبقولي يلوح نور الجمال

وقد أفاض في الحديث على مراتب تهذيب السالكين ومراحل مجاهدتهم، وبين المقامات والأحوال التي يمرون بها في سيرهم وسلوكهم، وذلك في معظم كتبه وأهمها في ذلك الأمر: (معارج المقربين) و(مذكرة المرشدين والمسترشدين) و(الطهور المدار على قلوب الأبرار) و(دستور السالكين طريق رب العالمين) و(آداب السلوك إلى ملك الملوك) و(شراب الأرواح من فضل الكريم الفتاح) وغيرها من الكتب التي لا يتسع المجال لذكرها الآن.
والحديث عن كيفية تربيته للسالكين وإرشاده للواصلين، يحتاج إلى مجلدات كثيرة لما يتصف به من تحليل نفسي وسمو روحي ولاتساع جوانبه، حيث أن السالكين تختلف مشاربهم وأذواقهم، ولكل مشرب ذوقه ومواجيده ومقاماته وأحواله ومنازلاته ومؤانساته وملاطفاته، ولكننا سنجمل ما لابد منه، حتى لا يخلو هذا المختصر من إشارة إلى مراقي الرجال ومجاهداتهم في المدرسة العزمية، وهي بحسب المراحل الإجمالية التي يمر بها السالكون كما يلي:
أولاً: العلم
فيوجه الامام السالك في بدايته إلى تحصيل ما لابد له منه من العلوم الشرعية التي تصحح عمله ويقول في ذلك:
((عمل بلا علم ضلال وعلم بلا عمل وبال)) ويطلب من المريد أن يجد في تحصيل تلك البدايات - وقد لخصها في مقدمة كتابه ((أصول الوصول)) ويقول في ذلك منبهاً ومشجعاً:
حصل العلم بعزم صادق
لا تكن في العلم كسلاناً ملول

حصل العلم بالقدر الذي
يقتضيه الوقت لا قال يقول

ومن لم يستطع أن يحصل هذا العلم بنفسه، كان يوجهه إلى تحصيله عن طريق السماع من العلماء أهل الخشية، ويوضح له أمثل الطرق لتحصيل العلم من هؤلاء العلماء فيقول له في الحكمة ((زك نفسك قبل السماع تشرق عليك أنوار العلوم)).
ويقول أيضاً:
خذ ما صفا لك من نور الإشارة كن
حال السماع قوي العزم والدين

ويطلب من المريد أن يجالس العلماء أهل الخشية ويقول له: كل كلام يخرج من الفم وعليه كسوة من نور القلب الذي خرج منه)) بل يوضح أن تأثير هؤلاء العلماء بحالهم وأنوار قلوبهم، أبلغ من تأثير أقوالهم في نفوس السامعين فيقول: ((تسبق أنوارهم أقوالهم فتجذب القلوب وتطهرها لسماع العلم الموهوب)).
فإذا انتهى المريد من تحصيل ما لابد له منه من علوم الشريعة، نهاه عن البحث في المطولات والمراجع، إلا إذا كان مؤهلاً للدعوة إلى الله، فإن تحصيل العلم بالنسبة للداعي إلى الله عبادة خاصة يتقرب بها إلى الله ، ويحصل له بها من القرب والأجر والثواب ما لا يحصل لغيره من العباد والزهاد.
ثانياً: العمل بالعلم
وهذا هو الركن الأعظم عند الصوفية قديماً وحديثاً، حتى أنه يقول ((لا يكون المريد عندنا مريداً حتى يعمل بما علم)) ، وينوه إلى أن العمل هو الباب الذي يفتح منه للمريد الهبات الإلهية والعلوم اللدنية والألطاف الخفية، فيكرر دائماً على أسماع المريدين، قول سيدنا رسول الله r { من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن يعلم } وحتى يدفع المريد إلى العمل يقول له:
العلم يهتف بالعمل
فاعمل تنل كل الأمل

ثم يبين له شئ من هذا الأمل وهي العلوم التي لا تنال إلا بالمجاهدات والمكابدات فيقول:
علم يقين بعده
عين اليقين لمن وصل

من بعد ذا حق جلي
كبرى الولاية فاتصل

فيبين له أنه بعد أن انتهى من علوم الدراسة، فأمامه علوم الوراثة - وتعريف هذه العلوم باختصار شديد كما يلي:
- أما علم اليقين: فهو الخبر الذي يتلقاه المرء عن صادق,
- وأما عين اليقين: فهو الخبر الذي يشاهده بعينيه ويراه من مسافة قريبة.
- وأما حق اليقين: فهو ما كان عن مجانسة ومخالطة وقرب هو قرب القرابة.
ونضرب لذلك مثلاً ببيت الله الحرام ... ، فالناس في شأنه، وشأن العلم به، على ثلاثة أقسام:
- أما الذي سمع عنه ممن سبق له الذهاب إليه وهو عنده صادق، فتيقن من صدق الخبر لصدق المخبر، فهو في علم اليقين.
- وأما من سافر إلى البيت ورآه من مشارف مكة ولم يصل إليه بعد فذلك يعلمه ويراه عن عين اليقين.
- وأما الذي وصل إليه وتحققه وطاف به فذلك ما يسمى بحق اليقين.
حتى يتشوق إلى نيل تلك العلوم، فيجاهد نفسه على عمل الطاعات والقربات ويفطمها عن الشهوات والمخالفات.
ويوضح في نفس الوقت للدعاة والمرشدين السر الثمين في تثبيت ما حصلوه من علوم، في عقولهم وأفئدتهم فيقول: (العلم يهتف بالعمل اعمل وإلا فارتحل).
وحتى ينال السالك رضاء الله في علمه وعمله، يكشف النقاب عن الباعث الحثيث الذي بسببه يتجمل الأحباب بمواهب الكريم التواب، وهو أنهم يطلبون العلم الذي به يزدادون خشية لله ، لا العلم الذي يورث الجدال ويفتح أبواب النزاع والخلافات بين المسلم وغيره أو بين المسلم وإخوانه المسلمين، فيقول :
العلم يجعلني أخشى من الرب
أراقب الله بالأعضاء والقلب

إن لم أكن أخشى من ربي فمن جهلي
وإن علمت علوم الكشف والغيب

وإن تحصلت من علم ومن فقه
مثل الجبال الرواسى لم يزل حجبي

العلم معراج أهل الحب والحسنى
مهواة أهل الجفا والبعد والريب

تصحيح الوجهة:
وللقصد والنية عند أبي العزائم شأن عظيم كغيره من الصوفية الصادقين.
فهم يوجهون أحبابهم أن يكون عملهم خالصاً لله ، طاهراً من شوائب الرياء والعجب والعلة والغرض، وأصل الأصول في ذلك كله عندهم أن يكون العمل ابتغاء رضوان الله الأكبر أو طلباً لوجهه الكريم عملاً بقول الله ƒ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )[28الكهف].
وفي ذلك يذكر أحبابه بأن الجنة كون كما أن الدنيا كون، ومن وراء ذلك مكون الأكوان فيقول:
(( قال الله { عجباً لمن رآني دون مكوناتي }، قال العارف: سبحانك تنزهت!، قال: { من اتخذني وسيلة إلى جناتي فقد رآني دون مكوناتي } )).
ويبين الامام حاله في هذا المقام ليتأس به السالكون ويقتدي به الواصلون فيقول:
غيري يميل إلى الجنان ويرغب
وأنا الذي منها أفر وأهرب

الكل طمعاً في الجنان تعبدوا
صلوا وصاموا عن رضاك تحجبوا

نار الجحيم مع الرضا هي جنتي
أما النعيم بغيره لا أرغب

ثم يكشف الستار عن حال الواصلين، ومنزلة المتمكنين ليشوق إلى هذه المنازل أهل السلوك والتلوين فيقول عنهم:
وجنة الخلد لو ظهرت بطلعتها
لفارقت حسنها بالزهد همتهم

فمطلب القوم مولاهم وسيدهم
أحد تنزه تعلمه سريرتهم

ويظهر الامام حقيقة الخوف الذي يؤرق بل ويشغل أصحاب هذا المقام فيقول:
أنا لا أخاف وحقه من ناره
كلا ولا أبغي الجنان لطيبها

فالقرب منه جنتي ومحاسني
والبعد عنه ناره ولهيبها

وعلى هذا المنهج يسوق الإمام أبو العزائم أبناءه في أعمالهم التي يتوجهون بها إلى الله ، فيمرنهم على تفريد الله بالعبادة وإفراده سبحانه بالقصد، ثم يكشف لهم عن معونات الحق في العمل لهم حتى يتحققوا بالعجز والمسكنة والاضطرار ويعلمون حقيقة أنه لولا معونة الله وتوفيق الله ما صح لهم عمل واحد في هذه الحياة فيقول:
(لا تفرح بالعمل إلا إذا تحققت بالإخلاص فيه، ولا تفرح بالإخلاص إلا إذا تحققت بإصابة الحق فيه، ولا تفرح بإصابة الحق إلا إذا تحققت بتوفيق الله فيه ومعونته، ولا تفرح بالتوفيق إلا إذا فرحت بالله الذي أقامك مقام العامل لذاته، حتى صرت من عمال الله) .
وهكذا فإن السالك عند أبي العزائم لا يبدأ السير إلى الله إلا إذا صحح الوجهة فجعل عمله وقوله ونيته وماله وكله لله [ إنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام].
وهاكم مثالاً واحداً من آلاف الأمثلة في توجيه الأستاذ لطلابه ومريديه في تصحيح الوجهة لله :
فقد كان الامام يزور الشندويلي باشا بجزيرة شندويل بالقرب من سوهاج، ومعه أحبابه ومريدوه، ورأى واحدٌ منهم على غرة بنت الشندويلي باشا، فهام بها عشقاً حتى ملكت عليه كل جوانحه، فتغير حاله واضطرب باله، وبدت عليه علامات الذبول والنحافة، فلما رآه الامام على هذه الهيئة - وكان يختفي منه ليقينه باطلاعه على حالته - سأله عن سبب تغير حاله فأجابه ولم يدس(يُخْفِ) عنه شيئاَ، وطلب منه أن يطلب من الباشا أن يزوجه بابنته، ولما كان الشندويلي باشا لا يؤخر لإمامه طلباً، فقد استجاب بسرعة، بل إنه هيأ مكاناً للزواج وأقام العرس فوراً بعد عقد القران، ودخل الرجل بزوجته، وفي الصباح إذا به يأتي إلى أبي العزائم مذعوراً! فسأله ما بك؟
قال: لقد ماتت زوجتي، فقال له: امكث معها في حجرتها حتى نأتيك! فأظهر الخوف كطبيعة النفس البشرية تخاف أن تمكث مع الميت بمفردها في مكان، فذهب معه الإمام ، وقال له: بعد أن رأى حالتها: أليست هذه محبوبتك؟ التي من أجلها ذبلت ونحلت وتغير حالك؟ أليست هذه التي كانت شغلك الشاغل وهـمُّك الملازم وفكرك الدائب؟ ... ثم قال له: يا بني ((فتش عن محبوبك)).
وكأن الإنسان ليس له إلا محبوبٌ واحدٌ لذاته وجمالاته وكمالاته وهو الله . وكل محبوب آخر يحبه الإنسان فإنما هو لظهور بعض صفات المحبوب الأول على هذا المحبوب، أو نسبته له سبحانه، قال الحبيب{ أَحِبّوا الله لما يَغْذوكم بِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبّوني لِحبّ الله وَأَحِبّوا أَهْلَ بَيْتي لِحُبّي }
وكي لا تقف همة المريد عند حد ما في طلب العلم، كان دائماً يوجههم إلى طلب المزيد ويقول لهم: إذا كان الله قد أمر حبيبه ومصطفاه وهو الذي أفاض عليه علوم الأولين والآخرين أن يقول: ( رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) فما بالنا نحن؟ وإذا كان سيدنا موسى نبي الله وكليمه عندما سئل من أعلم الناس يا موسى؟ فقال أنا!، أمره الله أن يتوجه إلى سيدنا الخضر لطلب المزيد من العلوم التي قال له فيها الخضر: ((يا موسى أنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا وأنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت وما علمي وعلمك في علم الله إلا كما يأخذ العصفور من هذا اليم)) وأشار إلى عصفور كان يشرب من البحر.
ولذا يقول الامام : (( السالك في طريقنا لا يشبع من طلب العلم أبداً، بل هو دائماً عالم ومتعلم، فهو يتعلم ممن فوقه في المكانة والعلم، ويعلم من دونه، ومن قال أني علمت فقد جهل )) .
وقد روى أن رجلاً من الإخوان أرسل ابنه لطلب العلم في الأزهر وكانت اقامته في دار أبي العزائم، فكان يصافح الشيخ قبل خروجه كل صباح، فيسأله عن اسمه؟ ثم يسأله عن عمله؟ فيقول: طالب علم ..... ومرت السنون ... وبعد أن انتهى من دراسته وتخرج، صافح الشيخ كعادته وسأله كحالته فأجاب: اشتغل عالم، فقال الامام : الآن قد جهلت.
وهكذا فالسالك على معارج الكمالات الإلهية لا يصل إلى مقام إلا بعد أن يكاشف بعلم هذا المقام، ولما كان لا نهاية لكمالات الله ... كان لا نهاية لعلوم الله ، بل أن الإنسان كلما ازداد علماً ! أحس بأن ما يجهله أكثر مما علمه ملايين المرات!!، هذا إذا كان سالكاً على يد عارف رباني وحكيم روحاني يكاشفه بحقيقة نفسه كالإمام أبي العزائم . يتبع ان شاء الله

عجبتُ منك و منـّـي ،، يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي

أدنيتـَني منك حتـّـى ،، ظننتُ أنـّك أنـّــي

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:26 AM
ثالثاً: تزكية النفس
فإذا لمعت على المريد بوادر الصفاء، وظهرت عليه الرغبة الملحة في نوال الكمالات، والعزيمة الصلدة في الوصول إلى المشاهدات، وتعلقت روحه بالمنازل العالية، والمقامات السامية والأخلاق الراقية، انتقل به الامام إلى مرحلة جهاد النفس فيقول له:
هذب النفس إن رمت الوصول
غير هذا عندنا عين الفضول

هذب النفس بتوحيد العلي
عن بيان الآي من فرد قـؤول

سلمن للمرشد الفرد الذي
يجذب الأرواح عنه لا تحول

ومراتب النفس التي ينزل فيها المريد عند الإمام أبي العزائم هي كما يقول : (( وتزكية النفس هي تطهيرها من كثافة الجمادية ووقوف النباتية ورعونات الحيوانية وسعير الإبليسية وتشبيه الملكية، فإن الإنسان الكامل وسط كما قال تعالى:
( وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ] فالنفوس عند الإمام أبى العزائم تنقسم إلى سبعة أنواع :
1- النفس الجمادية
2- النفس النباتيـة
3- النفس الحيوانيـة
4- النفس الإبليسـية
5- النفس الســبعية
6- النفس الملكوتيــة
7- النفس القدســـية
ولكل نفس من هذه النفوس نوازعها وفطرها وشهواتها.فإذا علم السالك هذه الحقائق، استطاع مجاهداتها، ويشرح الإمام بإجمال تلك الحقائق لمن دخل في مقام المجاهدة فيقول:
جاهد نفوساً فيك بالشرع الأمين
واحذر قوى الشيطان في القلب كمين

غل وكيد من حسود ماكر
ظلم العباد بنية في كل حين

هذا اللعين به الهلاك فخله
أسرع إلى القرآن في الركن المتين

والنفس شهوة مطعم أو مشرب
أو ملبس فاحذر بها الداء الدفين

إلا الضرورة فالإباحة إن دعت
فيها الضرورة فأطلبنها من معين

والنفس إن تدعو مساسا فاحذرن
إلا الحلال فإنه الماء المعين

جع اضعفنها واحذرن من غيها
غض الجفون وحاذرن فتك الكمين

والنفس داعية الرياسة فاحذرن
فرعونها تنجو من الداء الدفين

وادخل حصون الشرع قلباً قالباً
تحيا سعيداً في شهود المتقين

تلك النفوس قوية في فعلها
قد تحجب الأفراد كم أردت سجين

والشرع عصمة سالك يهدي إلى
دار الصفا رضوان ربِّ العالمين

في الشيب جاهد كالشباب وحافظن
فالنفس شيطان يبيد السالكين

والجأ إلى مولاك معتصماً به
مستشفعاً بالأنبيا والمرسلين

مولاي إني عاجز عن كبحها
هب لي اعتصاماً منك بالشرع الأمين

هب لي اتباع محمد واجذب إلى
روض الشهود العبد بالعزم المكين

واقبل متاب العبد وامنحني الرضا
والفضل والغفران من فضل المتين

ويحذر المريد من الركون إلى النفس فيقول:
((النفس ككرة ملساء وضعت على قمة جبل عال منحدر أملس كيف يكون حال نزولها؟)) ليبين لنا أن السالك إذا غفل عن النفس نفسا! ربما يغتر بحاله أو يطمئن إلى مقامه، فيكون في ذلك هلاكه !! ... فالمريد الصادق، بل والعارف الواصل، بل والفرد المتمكن، لا يغفلون جميعهم عن جهاد أنفسهم لحظة طالما فيهم نفس يتردد في هذه الحياة!!! وإلى ذلك يشير بقوله: (( كمَّلُ الأولياء لا يرتاحون من جهاد النفس إلا مع خروج النفس الأخير من روحهم في حياتهم الدنيا)).
وموجز تعريف النفس عنده هي:
جملة الأوصاف التي تشير إليها الحقيقة التي تسمت بها.
فالنفس الجمادية:
هي التي تعمل على جمود الإنسان وتراخيه وكسله وقعوده عن العمل.
والنفس النباتية:
(وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً) هي القوى المغذية التي تعمل على تغذية أجزاء جسم الإنسان والمحافظة على نموه.
والنفس الحيوانية:
يجملها ألمام أبو العزائم في قوله:
وابتهاج الحيوان أكل وشرب
ونكاح وذاك قصد القصي

والنفس الإبليسية:
والتي تهتم بالنوازع الشريرة في الإنسان وتغذيها من مكر وخداع وحيل ووقيعة وغيرها، يشير إليها في قوله:
وابتهاج الشيطان حسد وكبر
بفساد وفرقة وبغي

أما النفس السبعية:
فهي القوة الغضبية في الإنسان من حمية وشجاعة وتهور وغيرها، والنفس الملكية: هي النوازع الطيبة في الإنسان من حياء وبذل وإيثار وصدق ووفاء وهلم جرا، ويلمح إليها في قوله :
وابتهاج النفوس بعد زكاها
رغبة الفوز بالمقام العلي

هي نفس إن طُهِّرَتْ وتزكَّتْ
تتهنى في حظوة بالولي

أما النفس القدسية:
فهي من أسرار الحق العلية، وهي نفحته البهية التي جملت الهياكل الإيمانية بالحقائق النورانية وجعلتها تشتاق إلى المقامات العلية وتحن إلى الجمالات والكمالات الوهبية، وهي خاصة بالأفراد أولي العطية الذين يقول في شأنهم رب البرية فى محكم الآيات القرآنية: ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) [15غافر].
والطريق الذي به يستطيع السالك مجاهدة تلك النفوس بعد حصون الشريعة المطهرة والعمل بأحكامها لأنها أكمل حصون الأمن التي يتحصن بها الإنسان في مقامات الجهاد، يلخصها الإمام في هذه المنظومة والتي سماها:
( منظومة السير والسلوك وضوابطهما ):
السير سير السالك الأواب
فوق الصراط بصحة الآداب

في الروض حصن الشرع يسلك ناظراً
للحق لا لظواهر الأسباب

حتى يشاهد مشهد التوحيد في
عين اليقين بصحبة الأحباب

بدء الطريق رعاية للغيب في
حلٍّ وترحال حضور غياب

يسقي مدامة غيب قرآن الهدى
يعطي الولاية بعد رشف شراب

يفنى فيشهد آية في خلقه
فيرى جمال الوجه في المحراب

من بعد ذاك يراقب الغيب العلي
بالنفس والأعضاء والألباب

وتجرد من فطرة من فتنة
من غفوة سهو وظل حجاب

إن الطريق مراحلٌ هي شهوةٌ
حظٌ وآمالٌ بنص كتاب

فوق الرواحل همةٌ علمٌ به
ينجو من الشيطان من مرتاب

سيرٌ واقبالٌ بصدق عزيمة
إحياء ليل فوق سطح تراب

تفريد ربك بالعبادة مخلصاً
ترجوه غفراناً وخير مآب

والصمت معراجٌ وجوعك طهرةٌ
والصمت رفرف حضرة التواب

والذكر منشور الولاية حجة
والخوف حصن الأمن خير جواب

أما الرجا فهو المزاج لواصل
فامزجهما ترقى إلى الأصحاب

هذا الطريق به الوصول لربنا
والقلب طهِّره من الأسباب

اشهد يد المعطي تفز بالاجتبا
تُعْطَى مقام الحب في الترحاب

عمر بذكر الله قلبك تشهدن
نور الولي ترى ضيا الوهاب

ادخل حصون الشرع معتصماً بها
أعضاءك احفظها مع الآداب

لا تصطفي إلا الحبيب محمداً
تابعه ُتعْطَى ثمَّ خير متاب

بالاتباع يحبك الله العلي
وتفوز بالحسنى بنص كتاب

وهكذا يوجز الإمام في هذه المنظومة الرياضات الروحية التي يدخلها السالك ولا يزال يجتازها واحدة بعد واحدة وأبرزها:
- مراقبة الله في الغيب والشهادة.
- ثم التجرد من الشهوات والحظوظ الكاسدة.
- ثم تحصيل العلم النافع.
- ثم العزيمة الصادقة.
- والصمت.
- والجوع.
- والسهر.
- والذكر.
وهم أركان الولاية كما قال القائل:
بيت الولاية قسمت أركانه
ساداتنا فيه من الأبدال

ما بين صمت وسهر دائم
والذكر والجوع العزيز الغالي


ويوضح للسالك الجناحين اللذين يطير بهما في سماء التفريد، وهما الخوف والرجاء، حتى يصل إلى معرفة نفسه، فيعرف ربه بجوده وعطفه وكرمه، فيقول كما قال الإمام أبو العزائم:
عرفت نفسي أني كنت لا شئ
فصرت لا شئ في نفسي وفي كلي

به تنزه صرت الآن موجوداً
به وجودي وإمدادي به حولي

ومن أنا عدم الله جملني
فصرت صورته العليا بلا نيل


وهكذا يحدد الإمام أبو العزائم جهاد النفس والغاية فيه في كلمة واحدة جمعت فأوعت فيقول:
(( المجاهدة للمشاهدة ))
يتبع ان شاء الله

عجبتُ منك و منـّـي ،، يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي

أدنيتـَني منك حتـّـى ،، ظننتُ أنـّك أنـّــي

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:27 AM
الرياضة الروحية
فإذا أراد السالك الوصول إلى الأحوال العالية والتجمل بها، من فراسة صادقة وإلهام بأنواعه، وفتح، وكشف، ومشاهدات، وتجليات، ومؤانسات، وملاطفات، وغيرها مما لا يباح لأهلها التصريح به بعبارة!! .. أو الرمز إليه بإشارة !! ، بل يقولون كما يقول الإمام الغزالي :
فكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر

وكما يقول الإمام أبي العزائم:
احفظن سري فسري لا يباح
من يبح بالسر بعد العلم طاح

علمنا فوق العقول مكانة
كيف لا وهو الضيا الغيب الصراح

خصنا بالفضل فيه ربنا
ذاك سرٌ غامضٌ كيف يباح

والفتى المجذوب بالحب له آية
إن ذاق خمر الحب صاح

وهو مجذوب العناية إن يبح
بالحقائق ما على الفاني جناح

إذا أراد ذلك فلابد له بعد جهاد نفسه، من تصفية قلبه من الشواغل والصوارف الكونية، حتى يتأهل لنزول الفيوضات والتجليات الوهبية، وهي الجنة العاجلة التي يعجلها الله لأوليائه التي يقول فيها الإمام أبو العزائم : ((إن لله جنة عاجلة من دخلها لا يحتاج إلى جنة آجلة إلا وهي المعرفة بالله تعالى)).
والطريق إلى ذلك هو ضروب الرياضات الروحية التي ينزل فيها المرشد السالك بحسب ما تأهل له من مقامات وما يناسبه من رياضات.
وقد كانت الرياضات الروحية عند الصوفية قبل الإمام أبي العزائم ، تكاد ترتكز على التقشف والزهد والبعد عن التنعم، وممارسة العبادات والأعمال الشاقة حتى تنطوي النفس على الطاعة، وتنجلي مرآة القلب من صدأ الغفلة ..
لكنه جدَّد وغيَّر كل هذه الأحوال في نفسه أولاً وفي أحبابه ومريديه ثانياً:
ففي نفسه: كان  يلبس أفخر الملابس، ويضع منظاراً على عينيه في وقت كان لا يملك مثل هذا المنظار إلا نفر قليل من وجهاء مصر، وأقتنى سيارة خاصة يستخدمها في تنقلاته في زمن لم يكن يمتلك فيه السيارة إلا كبار الباشوات، وكان يحرص في أكله أن يكون جامعاً لكل القيم الغذائية المفروض توافرها في وجبة الغذاء أو الفطور أو العشاء صحياً وعلمياً.
وفي تلاميذه كان يوجههم فيقول: (( يا بني لا عليك أن تلبس الثوب البهي وتشرب المشرب الروي وتتغذى بالمطعم الشهي، وتجلس وتتنعم بالفراش الوطي، وتنكح أجمل النساء، ما دمت تحصلهم من الحلال، ثم تعرف فضل الله عليك في كل ذلك، وتشكره سبحانه على ما أولاك )).
ومن هنا نجد أن الرياضات الروحية عند الإمام أبي العزائم تختلف كلاً وبعضاً عن كثير من مناهج الصوفية المعاصرة له، وسنلمح إلى بعض منها لنرى كيف كان  يختصر الطريق لمريديه، ويسهل لهم الوصول إلى المطلوب بأيسر جهاد وأقل عناء.
أولاً: القرآن الكريم
وهو الركن الأعظم في الفتوحات الإلهية، والعلوم الوهبية عند الإمام أبي العزائم. وفي هذا يقول : القرآن المجيد مورد آل العزائم الروي، وروضهم الجني، وحوضهم المورود، وكوثرهم المشهود، ميزان أحوالهم ومرجع مقاماتهم، يسألونه قبل العمل، فإن أذن سارعوا، وإن منع تركوا واستغفروا، فهو الإمام الناطق وإن صمت، لأنهم يسمعونه عن رسول الله ، فتسمعه آذان قلوبهم حضوراً .. ووجوداً ... وإن كان التالي له إنساناً آخر ...وقفت بهم همتهم العلية على القرآن، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، فلو أمرهم بقتل أنفسهم لقتلوها، أو بمفارقة أموالهم وأولادهم لفارقوها، فرحين بالسمع والطاعة، تجلت لهم حقائق القرآن جلية، وانبلجت لهم أنواره العلية ظاهرة، فلم تبق بهم همة إلا في القرآن ولا رغبة إلا فيه.
أحبوا القرآن حباً ينبئ عن كمال حبهم للمتكلم سبحانه، كاشفهم الله تعالى بمراده في كلامه وبحكمته في أحكامه، فكان سبحانه أقرب إليهم من أنفسهم، وتجلى لهم سبحانه في كلامه العزيز حتى كان الرجل منهم إذا سئل لم تعمل هذا؟ يقول أمرني القرآن، ولم تترك هذا يقول نهاني القرآن، وإذا طلب منه أمر يقول: مه حتى أستشير القرآن، فيقرأ القرآن المرة والمرتين، حتى تتضح له حقيقة حاله وسر قصده، فيسارع إلى التنفيذ إو إلى الترك، فالقرآن طهور الحب وحلل القرب ولا يوفق للعمل بالقرآن إلا من جذبته العناية، واقتطعته المشيئة واختطفته محبة الله السابقة له ) ونهجه رضى الله عنه لمريديه، أن يقرأ السالك ما لا يقل عن جزء من القرآن كل يوم، ويقول لهم (:ليس الشأن أن تحفظ القرآن ولكن الشأن أن يحفظك القرآن )فالمهم في التلاوة عنده أن يلاحظ التالي المعاني الآتية:
البهجة بتلاوة كلام ربه، والعزم الأكيد على التباعد عما نهى القرآن، والمسارعة إلى عمل ما أمر به، وأن يشهد عظمة وجلال وكبرياء وعزة المتكلم سبحانه ظاهرة جلية لعيون سره، فيكون تالياً لكتاب الله متلقياً عنه سبحانه متشرفاً بمعيته جل جلاله.وهو بعد ذلك كله، يرتِّله مخلصاً لوجه الله تعالى ... لا لغرض آخر إلا ابتغاء وجه الله العظيم، وقد تحدث عن هذه الآداب بالتفصيل في كتاب: "الفرقة الناجية" وكتاب "شراب الأرواح" فليرجع إليهما من أراد المزيد.
ثانياً: الفكر
وللفكر عند الإمام أبي العزائم مذاقٌ خاص ... فهو عمدة السالكين، وشراب الواصلين ورحيق المتمكنين، ولا يتحقق للمراد هذا القرب والوداد إلا بسلوك الطريق الذي يوضحه للمرادين والأفراد، فعندما يصفو القلب بالمجاهدات من الشهوات والحظوظ والغفلات، تظهر له أنوار رب العباد منبثة في الكائنات، فيشرب من رحيق ] اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ )35النور] .. وينزل في مقام . [فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ] فيشهد أسرار الكائنات، ويعلم حكم الموجودات، وهذا هو المقام الأول في ذكر العارفين، وفي ذلك يقول الذكر هو حضور القلب ويقظته، وحركة الفكر في تزكية النفس أو الاعتبار بالحوادث أو التأمل في مصنوعات الله تعالى في السموات والأرض، من أسرار القدرة وغوامض الحكمة وما فيهم من القدرة وما في مراتب الوجود من النسب والارتباطات مما سخر له وقام لأجله، فسبحان البديع المبدع، الذي أبدع كل شئ خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، هذا هو الروض الزاهر اليانع الذي يطيب فيه ذكر الذاكر وفكر الفاكر...
أما الذكر باللسان عندهم فهو النطق بالاسم المتجلي في الآثار المشهودة التي كوشفوا بها بنور المعرفة، فينطق اللسان بهذا الاسم عن وجد وذوق لمعاني تجلياته، ولهم في كل مشهد اسم يذكر عند حضور القلب، وقد ينطقون الاسم المحيط الجامع اسم الجلالة (الله) عند الاستغراق في شهود معاني جميع الأسماء في أنفسهم وفي الملك والملكوت، فتطيب النفس وتزكو وتتجمل بجمال الأحوال، وتترقى إلى أعلى المقامات من القرب، والحب، والشوق، والوله، والتأله، والخشية، والرهبة، وغير ذلك من مقامات اليقين، وهذا كله هو ذكر المجاهدين) وهذا الذكر الذي أشار إليه الإمام أبو العزائم هو ما يسمى بالفكر، وهو عبادة كمل الأولياء أهل اليقين والتحقيق، وقد بزَّ جميع العبادات بنص حديث سيدنا رسول الله الذي يقول فيه: { لا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّر } ويقول فيه الإمام أبو العزائم أيضاً ( لحظة فكر بيقين خير من عبادة سنين ) وإن كان هذا الفكر لا يتجاوز - مهما بلغ من صفاء الإنسان ولطافته - الحدَّ الذي حدَّه له سيدنا رسول الله في قوله: { تَفَكَّرُوا فِي آلاَءِ اللَّهِ وَلاَ تَفَكَّرُوا فِي الله } فالفكر في آلاء الله موصل إلى السعادة الأبدية، لأن الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكر، وقد عبر عن ذلك نظماً فقال:
زج بالفكر في شئون المعاني
بيقين محصن بالأمان

تتجلى من الشئون شموس
مشرقات بنورها الرباني

لا تجاوز تلك الشئون بفكر
فالمعاني جلَّت عن الإمكان

ورياض التفكير تلك المرائي
وهو كنز مطلسم بالمباني

ودع القلب للمقلب يجلي
فيه ما شاء من شهود بيان

إلى أن يقول :
عَدِّ عن فكرك المقيد وارحل
عن موازين عقلك الإنسانى

وبنور اليقين فاسكن إلى الله
بصدق تفز بالروح والريحان

ما توهمته بميزان كسب
فهو مهواة حاطب حيران

نزِّه الذات والمعاني عن الفكر
وجُلْ في سائر الأكوان

جَلَّت الذات والمعاني تعالت
هي غيبٌ والكون أي البيان

فإذا صفت حضرة الفكر بالرياضة بالذكر، والذكر هنا بحسب ما يلوح للفرد الذاكر، فعندما ينظر الإنسان إلى السماء يشهد سر الرافع فيذكره، وحينما يقع بصره على الأرض يرى سر الباسط فيستحضره، ولما ينظر إلى الماء يجد فيه سر الحي فيتذكره وعندما يلتفت إلى الجبال يتحقق سر القوي المتين فيستعظم قدرته، وأينما ولى وجهه إلى إنسان، لاحظ بعين فكرته ورأى بنور بصيرته نور البصير في بصره وسر السميع في أذنه وجمال المتكلم في لسانه، وغيب المدبر في عقله، وقدرة القادر في قوته، فيكون كما قال الإمام أبو العزائم:
وإن نظرت عيني إلى أي كائن
تغيب المباني والمعاني سواطع

لأن المعاني الشمس والكل أنجم
إذا أشرقت فالنجم بالشمس طالع

وفي هذا المقام ينمو الشوق ويلذ الغرام وتتأجج لواعج المحبة للمليك العلام ، فتتنور البصيرة، وتتجول في أفق السريرة، فترى من غيوب الرحمن في حيطة الإنسان ما يعجز اللسان عن البيان، فيمتثل قول الإمام علي كرم الله وجهه:
أتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر

دواؤك فيك وما تبصر
وداؤك منك ولا تشعر

فيتحقق بحق اليقين بقول سيد الأولين والآخرين { خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } أي خلق الله كل مظهر من مظاهر آدم ، أي كل إنسان على صورته سبحانه، يعني سميعاً وبصيراً متكلماً مع التنزيه الكامل بين العبدية وحضرة الربوبية، فالرب رب وأن تنزل والعبد عبد وإن علا، وهنا يخاطب حقيقته بهذا الخطاب النبيل الذي قال فيه الإمام أبو العزائم:
يا صورة الرحمن والنور العلي
يا سدرة الأوصاف والغيب الجلي

فيك العوالم كلها طويت فهل
أدركت سراً فيك من معاني الولي

خفيت بذاتك من معاني القدس ما
لا يشهدن إلا لذي قلب خلي

أأنست بالأكوان بعد شهوده
وسجود أملاك العلى بتنزل

أولا سمعت ألستُ عند شهوده
تومى بأن القدس أول منزل

فاهجر سكونك للكيان وبادرن
بالعزم كي تسكن بوطن أول

فيك المعاني مشرقات بالذي
يرقى به أهل الصفا بتأهل

فإذا أحس الإنسان في قرارة نفسه تلك المعاني، تذكر أدواره الأولى عندما كان عدماً، وعندما صار ماءاً مهيناً، وعندما صار نطفة في قرار مكين، ويشهد عناية الله به في تلك الأدوار ورحمة الله به في تلكم الأطوار، ثم يتذكر مفارقته لهذا الجسد الفاني، وإقباله على الله، وما له في الدار الآخرة حيث القيامة، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، والنعيم، والجحيم، فيقبل على الله بكله، وينشغل بذكره سبحانه في كل وقت وآن، ... وإلى ذلك يشير الإمام أبو العزائم فيقول:
أيا أيها الإنسان من طين فخار
تكونت كي ترأى مظاهر أسرارى

ومن نطفة أنشأت آياً جلية
بمحض الفضل حصن قرار

تدبر فأنت الطين والماء فأشهدن
جمالي وإحساني وسرى وأنوارى

أكنت سميعاً أو بصيراً وعالماً
ولكنني أنعمت بالمدرار

نسيت جمال الله فيك تيقظاً
فمن ينسه يلقى سعير النار

أيا طينة الصلصال من بجماله
تحليت بالأنوار بعد فخار

أتنسى مفيض الفضل والجود والعطا
وتهجر أورادي وتترك أذكاري

وللدون والدنيا تميل وترتجي
نوال الرضا والعفو إحسان غفار

تذكر جميلي من (ألست) وبعدها
وتابع سبيلي مخلصاً يا سارى

ولا تنسى إحساني إليك ورحمتي
وكن مخلصاً في خفية وجهار

ولا تشتغل بسواي ترفع للعلا
وتحظى بفضلي صحبة الأخيار

فلا ينس إحسان الجميل وفضله
سوى مبعد أو جاهل وممارى

ويشرح الامام للسالك كيف يتحقق بقول الله ( قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) [101يونس]، ويلمح إلى شئ مما يدركه السالك عند نظره إلى الآفاق سواء في الأجرام السماوية من كواكب ونجوم وسيارات، أو في العوالم الأرضية من بحار وأنهار وحيوانات وحشرات وجمادات ومعادن ونباتات، وإلى شئ مما يراه في حقائقه الظاهرة كالعينين والأذنين واليدين والرجلين واللسان ، أو حقائقه الباطنة كالعقل والروح والقلب والفؤاد والنفس والسر ....
حتى يشتد وجده إلى خالق هذه الأنواع، ويتحقق بقول الله :
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) [53فصلت]، وذلك في كتاب النور المبين لعلوم اليقين ونيل السعادتين وكتاب معارج المقربين، فمن أراد المزيد في هذا الباب فعليه بهما.
يتبع ان شاء الله

عجبتُ منك و منـّـي ،، يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي

أدنيتـَني منك حتـّـى ،، ظننتُ أنـّك أنـّــي

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:29 AM
نتائج الفكر
فإذا دخل السالك في رياض الفكر.. وانبلجت له أنوار الذكر ...
ظهرت حقيقة نفسه، فعلم وتيقن ذله وضعفه وعجزه وانكساره وغربته، وتلك أكمل جمالات العبيد، التي ينظر إليهم بها وفيها الحميد المجيد.
فعندما سأله سبحانه سيدنا أبو يزيد البسطامي (:بم يتقرب إليك المتقربون؟قال سبحانه: بما ليس فيَّ، قال وما الذي ليس فيك؟ قال: الذل والتواضع والمسكنة.
وعندما سأله سيدنا موسى قائلاً: { يا رب أين أجدك؟ قال: يا موسى تجدني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي } ، وفي ذلك يقول الإمام أبو العزائم :
بأضداد الصفات أنال قربي
وأحظى من إلهي بالوصال

وقال سيدي أحمد الرفاعي : (طرقت سبعين باباً للوصول إلى الله فلم أدخل إلا من باب الذل )، ويوضح ذلك الإمام أبو العزائم فيقول:
ذلي له عزٌّ وجهلي علمه
وهو الولي بنوره حلاني

ويقول سيدي ابن عطاء الله السكندري على لسان الحضرة العلية:
فحدق أعين الإيمان وانظر
ترى الأكوان تؤذن بالنفاد

فمن عدم إلي عدم مصير
وأنت إلى الفنا لا شك غاد

وها خلعي عليك فلا تزلها
وصن وجه الرجاء عن العباد

ببابي أوقف الآمال طرا
ولا تأتي لحضرتنا بزاد

ووصفك فألزمنه وكن ذليلاً
ترى مني المنى طوع القياد

وكن عبداً لنا والعبد يرضى
بما تقضى الموالي من مراد

أأستر وصفك الأدنى بوصفي
فتجزى ذاك جهلاً بالعناد

وهل شاركتني بالملك حتى
غدوت منازعي والرشد باد

فإن رمت الوصول إلى جنابي
فهذي النفس فاحذرها وعاد

وخض بحر الفناء عسى ترانا
وأعددنا إلى يوم الميعاد

وكن مستمطراً منا لتلقى
جميل الصنع من مولى جواد

ولا تستهدى يوماً من سوانا
فما أحد سوانا اليوم هاد

فهذا هو الجمال الذي يجمل الله أهله بحلل الكمال الإلهي فإذا وقف أمام مولاه جاهلاً، جمله بعلمه، وإذا تأدب بين يدي سيده وأظهر ضعفه، تفضل عليه بقوته، وإذا ناداه مضطراً لباه، وإذا خضع بين يديه وقد ماتت نفسه عن شهواتها وحظوظها وأغراضها، أحياه الحياة الإيمانية التي يقول فيها (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ )122الأنعام].
وفي ذلك يقول الإمام أبو العزائم :
من يمت يحيا باقياً بحياة
وبقاءٍ منعم بالعيان

يحيا بالله سامعاً وبصيراً
ويبقى بالله في مقام التدانى

ذاك سرٌ عن دركه كل عقلٍ
مبعدٌ بالحدود والإمكان

فالفكر هو الذي يجمل المراد بحلة العبودية ومرتبة العبدية وهما أرقى المراتب التي يتفضل الله بها على أهل الخصوصية حتى أنه خصَّ بهذا المقام الكريم حبيبه ومصطفاه في أكثر من موضع في كتابه...
فتارة يثني عليه فيقول: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [1الكهف] ، ومرة يذكر فضله عليه فيقول: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [1الإسراء]، وآونة يبين اختصاصه واصطفائه عنده لنزول كلامه فيقول(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [1الفرقان].فمقام العبدية هو أرقى المقامات الاصطفائية، والنازلون به هم أكمل الناس شبهاً بسيدنا رسول الله r، حيث كان يخلو بنفسه في غار حراء متفكراً شهراً كل عام، حتى قالت قريش في شأنه: (لقد عشق محمد ربه).وهذه العبادة كانت قد اختفت من بين كثير من السالكين حتى أحياها وأظهرها الإمام أبو العزائم وجعلها الركن الأعظم في الوصول إلى الله في نهجه المبارك عندما يعرف بنفسه فيقول:
(( محمد ماضى أبو العزائم: الخوف قوامه، والذل حليته، والرهبة باطنه، والرغبة ظاهره، والحيرة رداءه، والصبر أنيسه، والرضا رفيقه، والشكر زاده، والثقة كنزه، والفكر طريقه، والتسليم مذهبه، والتواضع رفعته، والفقه منهجه، والصدق ضالته، والإخلاص مراده، والسيد r مقصوده، والله سبحانه معبوده، والشكر ذكره، والدعاء عمله، وما يقرب إلى النار عدوه، وما يقرب إلى الجنة أليفه، وبر الوالدين سروره، وصلة الرحم حبوره، وإدخال السرور على عباد الله وصوله، والرحمة بخلق الله تعالى حظوته، والقرآن الكريم خلوته، والحضور بقلبه مع الحق جلوته، يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبه وبلغه مراده، وهكذا فليكن كل ماض أو من يحبُّ ماضي ) .وهذه العبارة الرائعة، قد تفضل بشرحها فضيلة العارف بالله تعالى الشيخ محمد علي سلامة في كتابه ( الإمام أبو العزائم كما قدم نفسه للمسلمين ) وبنى عليها هذا الكتاب، فليرجع إليه من يريد التفصيل.
ثالثاً: الذكر
ذكر الأسماء والصفات:
ظهر الإمام أبو العزائم في وقت غلب فيه على الصوفية ذكر الأسماء الحسنى الإلهية في الخلوات بأعداد معينة يحددها المشايخ، وينقلون السالك من اسم إلى اسم على حسب قواعد معينة وأسماء محددة، تختلف من طريقة إلى أخرى.
وربما ينتج من هذه الأذكار أحوال تجعل السالكين يخرجون عن المألوف، إما بشدة تأثرهم بالواردات التي ترد عليهم، أو خروجهم عن حد الاعتدال في العبادة، وهو الحالة الوسط (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً[143البقرة] فتؤثر هذه الأحوال على الأعضاء، فيخرج الإنسان أشعث الرأس! حافي القدمين أحياناً!، وأحياناً أخرى يهيم على وجهه في القفاري والجبال!!، وأحياناً يترك الخلق !!ويميل إلى العزلة والبعد عن المجتمع!!، وربما يتفوه بعبارات لا تليق أو لا يفهمها العامة من الناس، وغير ذلك من الأمور التي تبعد كثيراً عن حقيقة التصوف الذي كان عليه سيدنا رسول الله r. وأصحابه الكرام ...
فأعلن الإمام أبو العزائم صيحته المدوية والتي حددها في هذا المبدأ الكريم : (إنما يسعد آخر هذه الأمة بما سعد به أولها) وغيَّر مفاهيم الصوفية نحو الذكر بالأسماء الإلهية فقسمها إلى قسمين:
- أسماء للتعلُّق.
- وأسماء للتخلُّق.
أما التعلق: فلا يكون إلا بالاسم المفرد الدال على الذات والجامع لجميع الأسماء والصفات والجمالات والكمالات الإلهية (الله)، وهو الذي أمر الله به حبيبه في قوله سبحانه ( قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ )91الأنعام]، وأمر المؤمنين به في قوله [ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً[41الأحزاب] فهذا الاسم هو الذي يكرره السالك في سيره وسلوكه إلى الله مستحضراً معانيه مراقباً لعظمة الله عند النطق به، متأكداً من خروج الألفاظ كلها من مخارجها الصحيحة عند التلفظ به، لأن سلامة النطق أصل قبول العمل عند الله .وليس للذكر عند الإمام أبي العزائم عدداً مخصوصاً، بل يطلقه لأنه لا يليق عنده أن نعدَّ على الله وهو سبحانه لا يعد علينا نعمه السابغة علينا أناء الليل وأطراف النهار.
وأما الأسماء الآلهية التسعة والتسعون، فيقسمها إلى أسماء جمال وعددها سبعون؛ وهي مثل الرزاق الوهاب والغفار وما يشبهها، وأسماء جلال وعددها تسعة عشر، وهي القهار والمنتقم والجبار وأمثالها، وأسماء كمال وعددها عشرة؛ وهي الفرد - الصمد - الواحد الأحد وهلم جرا.وكل هذه الأسماء عنده للتخلق بحسب مقتضياتها أي أن السالك يتخلق بهذه الأسماء في سلوكه وعمله ومعاملاته للخلائق أجمعين، ونضرب لذلك مثلاً فنقول:
ليس الشأن أن تذكر اسم الله العفو مائة ألف مرة أو يزيد ثم يسئ إليك أخ مسلم فترفض أن تعفو عنه، ولكن التحقق بهذا الاسم أن يكون العبد متأسياً بقوله صلى الله عليه وسلم { وأن أعفو عمن ظلمني } .
وكذا ليس ذكر اسم الله الكريم يجعل الإنسان يتحقق به ولو ذكره ملايين المرات!! وهو لا يفتح بيته للضيفان والمحتاجين، أما الذي يبرز كرمه ويفتح داره متحققاً قول رسول الله :{ يدخل الضيف ورزقه معه، ويخرج بذنوب أهل الدار فيلقيها في البحر } فهذا هو الذي يكاشفه الله بأسرار اسمه الكريم، ويجعل له النصيب الأكبر من فضل الله العظيم المتعلق باسمه سبحانه الكريم!!وهكذا يتخلق السالك بكل اسم من هذه الأسماء عند مقتضياته، فيتخلق مثلاً بالقهار والمنتقم والجبار عند ملاقاته لأعداء الله، ويتخلق بالرحيم واللطيف بأخوانه المؤمنين، ويتخلق بالباسط والودود لذوي رحمه، ويتخلق بهذه الأسماء كلها بحسب مقتضياتها حتى يحبه الله ، فإن الله يتفضل بمحبته على من تخلق بأسمائه الحسنى سر قوله صلى الله عليه وسلم { إن الله يحب من خلقه من كان على خلقه } وقوله فى معنى الحديث: { إن لله تسعة وتسعين خلقاً، من تخلق بواحد منها دخل الجنة ، فقال سيدنا أبو بكر : أفي واحد منها يا رسول الله؟ قال: بل فيك كلها يا أبا بكر }
ويعتبر الامام التخلق بالأسماء الحسنى الآلهية هو أكبر نسب ينتسب به الإنسان، وبسببه يتفضل الله عليه بكل أنواع الكرم والجود والود والعطف الآلهي، فيقول موضحاً هذا النسب الآلهي( نسب به يقبل عليك ونسب به تقبل عليه، فإذا تجمل بهما الإنسان، كان مع الله وكان الله معه، وصار محبوباً لله مراداً لذاته، وأي شرف أعظم وأكمل من اتصال نسب العبد بالله تعالى .النسب الذي يقبل به عليك، إقبال امداد واحسان ووداد وامتنان وشفقة ورحمة ورأفة حتى يمنحك منه ما تشاء أو يكون لك عنده ما تشاء، هو تحققك بحقيقتك وانكشاف معانيك لك حتى لا تنس من أنت نفساً ولا طرفة عين ! فتكون بهذا الانكشاف دائم الاضطرار والتوكل عليه، والتفويض لجنابه العلي والفقر لذاته الأحدية، فإذا تحققت النسب الذي هو حقيقتك، أقبل عليك بمعاني الربوبية، وقابلك بواسع الإحسان والعطية، فكنت ممتعاً بالجنة العاجلة التي يعجلها لأوليائه، لأنك باتصالك بنسبه العالي استحققت الولاية الخاصة وخصصت بالكرامة والعناية.والنسب الذي تقبل به عليه سبحانه هو التخلق بأخلاقه الإلهية في المضايق التي تدفعك بقوة إلى التخلق بأخلاقك الحيوانية أو الأخلاق الإبليسية، عند ذلك تجاهد نفسك في ذات الله وتتخلق بخلقه الكريم عند مقتضى ذلك مقبلاً عليه سبحانه لأنه سبحانه يحب صفاته ويحب أخلاقه خصوصاً إذا ظهرت في شخص يمكنه أن ينفذ مراده السئ وموجب خلقه القبيح بدون أن يحصل له من ذلك مضرة، فيكون تخلقه بخلق ربه في هذا الموطن رفرف أعلى للدخول على حضرته العلية بدون حاجب ولا مانع، ولم يترقَّ مقرَّبٌ على سلم أقرب من هذا النسب، فإن نفساً واحداً يتنفسه الرجل متخلقاً بخلق من أخلاقه  بمقتضاه يكشف عنه جميع الحجب حتى يتشرف بالمواجهة والمشاهدة ). ويشير إلى هذا الإمام في بعض مواجيده النظمية فيقول:
نسبان نسب حقيقتي ومقامي
ثم انتسابي للمقام السامي

فالأول التوفيق للعمل الذي
هو شكر نعمة موجب إكرام

حللٌ بها أنا عبده متحققٌ
بالذل والتكليف بالإسلام

لأقوم بالطاعات مفتقراً إلى
نيل القبول بصحة الإحرام

نسب العبادة للقريب تقربي
لحظيرة الرضوان والإنعام

وبها أكون أنا العبيد لخالقي
عند الصلاة لذاته وصيام

أما انتسابي للمقام تخلقي
بجماله السامي بنص كلام

نسبِ به كشف الغيوب لواصل
وتحققٌ بالكشف لا الأوهام

وكان يحث مريديه على التخلق بهذه الأخلاق العلية في كل فرصة تسنح له، بل ويتابعهم في ذلك من وراء حجاب، وهو الذي يقول في حكمته البالغة الجامعة: ( ليس بشيخ من لم يمدك من وراء حجاب )
فهذا رجل من خاصة أصحابه يريد أن يصافحه، وكان قد حدث بينه وبين أمه خلاف، ولا يعلم أحد بذلك، فيرفض الامام مصافحته ويقول له زاجراً ومؤدبا: (هذه يدٌ عاقة ولا أسلم على يد عاقة، يا بني اذهب فاستعطف أمك واكسب ودها فهو خير لك من ملء السماء والأرض والبحر عبادة لله ) وهذه واحدة من النساء الفضليات حرمت من نعمة الولد، فتذهب إليه تسأله أن يدعو الله لها لتنجب، فيستشف بروحه النورانية أن أم زوجها غير راضية عنها، فسألها عن ذلك فتجيبه بالإيجاب، فيقول لها: اذهبي وارضي حماتك يهب الله لك الولد، فتفعل ويكرمها الله بالولد ببركة هديه وإرشاده.وهذا رجل من أخصِّ أخوانه حرم أيضاً من نعمة بقاء الولد، فكان كلما ولدت زوجته طفلاً مات، وكان يوجد بينه وبين أخ صادق آخر خلاف، فيقول له: إذا أردت أن يعش لك ولد فسمه باسم أخيك فلان، لينبهه بأن ترضية النفوس هي التي تستجلب الخير من حضرة القدوس.وهذا سائقه الخاص وكان مسيحياً فأكرمه الله بالإسلام على يديه وسماه صهيب الرومي تيمناً بسيدنا صهيب ، يكشف له ببصيرته النورانية وشفافيته الروحانية عن سر إسلامه فيقول له: يا بني زر أمك التي أرضعتك لبن الإسلام، فيتعجب لأن أمه مسيحية! ومتمسكة بدينها، ثم يستقصى الأمر فإذا به يعلم أن أمه مرضت وهو طفل صغير، وكانت تسكن بمدينة الإسماعيلية فأخذته جارة لها مسلمة وأرضعته فكان لبنها سر إسلامه، فذهب إليها وودها وبرها لأنها أمه في الرضاعة.وهكذا لا يترك الامام مريداً سالكاً تحقق صدقه عنده إلا ويراقب سلوكه وأخلاقه ببصيرته النافذة، ويوجهه إلى تصحيح حاله وتحسين خلقه وإخلاص قصده، تارة في الدروس العامة إن كان لا يتحمل المواجهة لصغره في مقام التربية، وأخرى فيما بينه وبينه إن كان قد تأهل لهذا المقام العالي، ويلوح للجميع بأسرار الوصول إلى رضى حضرة البديع فيقول:
هي الأخلاق أسرار المعالي
تفاض على أولي الهمم العوالي

ترى الإنسان إنساناً عياناً
وتشهده بها نور المثال

يلوح عليه نور الوصف يجلى
كما يجلى على الْمَلكِ الموالى

بأخلاق المهيمن قد تحلَّى
فحلَّ مقام أعلى بالجمال

فذلٌ للعلي به فخارى
وفقرٌ للغني به نوال

بأضداد الصفات أنال قربي
وأحظى من إلهي بالوصال

بأخلاق المراد وقد أضاءت
بأفق القلب شمس الاتصال

على الخلق العظيم به رقى
لأفق شروق أنوار المجالى

يتبع ان شاء الله

عجبتُ منك و منـّـي ،، يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي

أدنيتـَني منك حتـّـى ،، ظننتُ أنـّك أنـّــي

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:30 AM
مراتب الذكر
ويقسم الامام الذكر إلى قسمين:
1- ذكر اللسان.
2- ذكر القلب.
ويشير إليهما في قوله:
الذكر ذكران ذكر القلب ولسان
هما مقاما شهودي دار رضوان

فذكر فؤادي رؤية الوجه ظاهراَ
وباسم الذي أهواه ذكر لسان

ويقول أيضاً: ((لا يصل أحد إلى الله تعالى إلا بدوام الذكر،
والذكر يكون باللسان ويكون بالقلب، فذكر اللسان به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب، وذكر القلب عليه المعول؛ فإذا كان العبد ذاكراً بلسانه وقلبه فهو الكامل في وصفه حال سلوكه ))
ذكر اللسان:
فيبدأ المريد عنده بذكر الورد القولي لليوم والليلة ويشتمل على:
1- الاستغفار مائة مرة بالنهار ومائة مرة بالليل.
2- قول (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شئ قدير) مائة مرة نهاراً، ومائة مرة بالليل.
3- الصلاة على النبي بهذه الصيغة:
((اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم صلاة تحل بها العقد وتفرج بها الكرب وتزيل بها الضرر وتهون بها الأمور الصعاب، صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا يا رب العالمين)) مائة مرة بالنهار ومائة ليلاً.
فإذا انجلى القلب وحضر مع ربه كاشفه بذكر القلب وبين له مراتبه، والتي يجملها  بقوله: (إذا ذكر اللسان سكنت النفس وإذا ذكرت النفس سكن القلب وإذا ذكر القلب سكنت الروح وإذا ذكرت الروح سكن السر وإذا ذكر السر سكنت نفخة القدس وإذا ذكرت نفخة القدس ذكر الله تعالى)) ...
ذكر القلب:
وذكر القلب عنده له منازل عدة بحسب ما يلوح للسالك من الأنوار وما تتحمله حقائقه من المواجهات والأسرار، وإجمال هذه المنازل هو:
1- ذكر القلب:
وهو استحضار عظمة الله استحضاراً يجعله يسيطر على غاشية القلب؛ فلا يتنفس الإنسان نفساً ولا يتحرك حركة إلا وهو يراقب الله وهو مقام المراقبة.
2- ذكر السر:
وهو انكشاف الستار عن حقائق الأسرار الخافية في المظاهر والآثار. فأينما تقع عين رأسه على أثر من آثار قدرة الله تشهد عين بصيرته ما فيه من أسرار وحكم وخواص أودعها فيه الله.
غض عين الحس واشهد بالضمير
تشهدن يا صبُّ أنوار القدير

3- ذكر الروح:
وهو شهود تجليات الأسماء الإلهية منفعلة في جميع المظاهر الكونية حيث أن الكون كله يدور ويتحرك بسر انفعال هذه الأسماء.
4- ذكر اللطائف البرزخية:
وهذه اللطائف هي الحقائق النورانية غير المرئية والكامنة في الهياكل الإنسانية، فإذا فنى الإنسان عن عوالم الأكوان واتصلت روحه بحضرة الرحمن، ذكرت اللطائف وذكرها في المواجهات بحسب ما يلوح لها من الكشف والعيان.
وتلك المراتب وهذي المنازل لا يستطيع السالك أن ينزلها بمفرده ولكن لابد له من مرشد يوجهه ويلاحظه ويحفظه من الحظوظ الخفية، والقواطع والحجب النفسانية، حتى تستوي حقائقه النورانية على جودى الأمان في لجة الألوهية.
الخلوة
والخلوة عند الإمام أبي العزائم تغاير مفهومها عند السادة الصوفية، فالخلوة عند الصوفية: بناء محاط بالجدران يسع إنساناً واحداً واقفاً أو جالساً أو نائماً، يدخل فيها السالك بإذن شيخه، ليتحقق له الصفاء، ويحدث له الفتح، وهذه الخلوة عند الإمام لا يجب أن يدخلها المريد إلا بعد أن يتحقق الشيخ أن قلبه قد خلا من الصور الكونية، وأن سره قد صفا من الهواجس النفسية، وإلا كان كما يقول :
كم عابد في ظلمة لا يشهدن
إلا وساوس نفسه بخيال

هذا بالإضافة إلى أن هذه الخلوة الموصوفة سابقاً تجعل المريد قاصراً نفعه على نفسه ولا يتعداه إلى غيره، بل ربما قصر في حق من كلفه الله بأمرهم، ولكن الخلوة الحقيقية كما بينها الإمام أبو العزائم هي خلوة القلب وطهارته بالكلية من جميع الشواغل الكونية، والخلجات والخواطر النفسية وتوجهه وانشغاله بالله عز شأنه، ومن كان هذا حاله لا يهمه أن يكون في عمله بين زملائه أو في بيته مع أولاده أو حتى في السوق يقضي حوائجه لأنه لا يشغله شاغل عن الله ، وحاله تعبر عنه السيدة رابعة العدوية فتقول:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي
وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فالجسم مني للخليل مؤانس
وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

ويقول في ذلك أيضاً الإمام أبو العزائم :
أنا حاضر وحبيب قلبي لم يغب نفساً
فما هذا الغرام البادى

يا ذكر لم أك غافلاً عن بغيتي
فلِمَ الهيام وفي الفؤاد مرادى

فأجابني لم تنس نفساً إنما
ذكر الحبيب مدامة الأفراد

يتبع ان شاء الله

عجبتُ منك و منـّـي ،، يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي

أدنيتـَني منك حتـّـى ،، ظننتُ أنـّك أنـّــي

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:31 AM
أنواع الذكر
وحتى لا يمل السالك، نوّع الامام الأذكار والأوراد ليدخل من ورد إلى ورد ومن طاعة إلى قربة، فيكون لسانه أبداً رطباً بذكر الله وقلبه دائماً يستحضر عظمته كأنه يراه سبحانه وتعالى.ومن تلك الأنواع على سبيل المثال، غير ما ذكرناه سابقاً من الفكر وتلاوة القرآن والورد القولي ما يلي:
1- الأحزاب:
والحزب يعني دعاء مخصوص يتوجه به العبد إلى الله إذا حزبه أي أهمه أو شغله أمر فيكشف عنه الله ما نزل به بسر هذا الدعاء.وقد ترك الامام ما يزيد عن الخمسمائة حزب، وإن كان أغلبها ما زال مخطوطاً ولم يطبع حتى الآن إلا أنها تمثل قمة النثر الصوفي، من حيث الصياغة والعبارات إلى جانب ترقيتها للقلوب وإخمادها للنفوس، بما تحويه من تضرع وابتهالات.وسنذكر منها هنا حزباً واحداً كبيان عملي لتوضيح ما سبق أن ذكرناه، وهو الحزب الذي اختاره الامام ليردده أحبابه مع الفتوحات الربانية في الصلاة على خير البرية عند جلوس الإخوان واجتماعهم مع بعضهم البعض ويسمى حزب الحصن الحصين:
حزب الحصن الحصين
بسم الله الرحمن الرحيم
(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) [ يا جبار يا قهار يا منتقم يا شديد البطش يا حي يا قيوم يا علي يا عظيم،(رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى{45} قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الله أكبر (5 مرات) ( كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ)(5 مرات) يا سلام يا حافظ يا قريب يا مجيب يا رءوف يا حفيظ احفظنا من أهل الشر كلهم ومن شرهم وأربط على قلوبهم وألسنتهم وأبصارهم وأسماعهم، واجعلهم خاضعين لنا يا عزيز (3 مرات) ( لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ{87} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وهذا الحزب إذا كرره الإنسان صباحاً ومساء يحفظه من الآفات ويقيه من الحسد والسحر ويلبسه تاج الهيبة وحلة العزة.
2- الفتوحات الربانية في الصلاة على خير البرية:
وللصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم شأن عظيم في تهذيب نفوس السالكين وترقيق حالهم عند الإمام أبي العزائم.
وقد أفاض الله عليه ما يزيد على الخمسمائة فتح في الصلاة على سيدنا رسول الله بعبارات تكشف عن صريح مقامه صلى الله عليه وسلمr، وتبين مقداره العظيم عند الله وتوضح خفي كمالاته التي تجعل القلوب تتعلق بهذا الحبيب المحبوب تعلقاً صورياً أو معنوياً حتى يكاشفها الله ببعض مقاماته العلية.
وقد طبع من هذه الفتوحات المباركة خمسون فتحاً واختار الإمام أربعة منها يتلوها المريدون في جماعة في مجالسهم التي يعقدونها لذلك وهي موجودة بكتاب نيل الخيرات، ويكفي أن نشير إلى صيغة واحدة من تلك الصيغ لنعلم قدر ما ناله الإمام أبو العزائم من حنان وعطف ووداد سيدنا رسول الله وهو الذي يخاطبه فيقول:
عشقت ولكن بعد رأى عيوني
فصح غرامي ثم طاب جنوني

تلك الصيغة هي نهاية الفتح الثاني ويقول فيها:
((اللهم صلِّ وسلم وبارك على الرحمة العظمى لجميع العالم، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، ومتعنا باتباعه صلى الله عليه وسلم واحمنا بحمايته صلى الله عليه وسلم واجعلنا من أهل شفاعته صلى الله عليه وسلم، وأحبنا بمحبته صلى الله عليه وسلم ، وأوصلنا إليه على براق سنته ونجائب محبته وابعثنا محفوفين بأنوراه ملحوظين بعين رأفته وحنانته، فائزين بجواره في مقام يغبطنا عليه الملائكة والمقربون إنك واسع المغفرة والفضل مجيب الدعاء، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون،( لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ{87} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)، وصلى الله على سيدنا محمد أجود الأجودين وعلى آله وصحبه الكرام والتابعين لهم على الدوام آمين)).
وقد تحيَّرت مرة في مبلغ هذه الرحمة فرأيت مناماً كتاباً ضخماً مكتوب عليه بخط كبير ((الرحمة العظمى لجميع العالم)) ثم تصفحته فإذا فيه شرح وافٍ لكيفية إيصال الرحمة المحمدية لكل العوالم العلوية والسفلية مبوبة لكل صنف على حده، فكان شيئاً يبهر العقول ويحير الألباب، فعلمت أن الإمام أبا العزائم ما عبر في هذه الصيغ الكريمة من الصلوات إلا عمَّا شاهده من مقامات الحقيقة المحمدية، فهو يميط اللثام عن أسرارها ويكشف الحجب عن أنوارها ويظهر أسرار كمالاتها في هذه الصيغ المباركة التي نرجو الله أن يقيض لها من يقوم باخراجها وطبعها لينتفع بها المسلمون أجمعون.وليس أدل على رفعة مقامه رضى الله عنه عند سيدنا رسول الله من تقسيمه للصلوات التي تلقاها العارفون من سيدنا رسول الله إلى ثلاثة أصناف:
1- صلوات عددية:
وهي الصلوات التي يهتم فيها صاحبها بأعداد ما حوله من الكائنات ويذكرها في صلواته، ظاناً أنه يعطى من الأجر على قدر أو عدد ما يذكر، وإن كان في الحقيقة لا يأخذ إلا أجراً واحداً على كل صيغة لأنها صيغة واحدة مثل ... :
(اللهم صلِّ على سيدنا محمد عدد ذرات الرمال، وعدد قطرات البحار، وعدد أوراق الأشجار، وعدد بذور الثمار .. الخ).
2- صلوات مددية:
وهي التي يمد بها سيدنا رسول الله r أحبابه من الصالحين عن طريق الإلهام، كالصلوات المنسوبة لسيدي عبد السلام بن بشيش وسيدي أحمد البدوي وسيدي إبراهيم الدسوقي وغيرهم من الأقطاب والأنجاب.وقد جمع كل هذه الصيغ الشيخ يوسف النبهاني في كتابه (سعادة الدارين في الصلاة على سيد الكونين).
3- صلوات شهودية أو (عينية):
وهذه تكون في مقام المواجهات الشديدة لسيدنا رسول الله وأصحابه يتملون به ويشاهدون جمالاته وكمالاته ويفاض عليهم في تلك الحضرة من عيون هباته ومن ميزاب تفضلاته، فيعبرون عما يشاهدون، ليشوقوا السالكين والمحبِّين، وهذا الحال يعبر عنه الإمام فيقول:
من خمر نور جمالك
ومن رحيق وصالك

شربت صرفاً فهمت
وهام أهل كمالك

ومبشرى قال هيا
قم فالحما لك سالك

فسرت وهو إمامي
حتى وصلت هنالك

وأصبح القلب نوراً
والقلب قد كان حالك

ناديت يا ليت قومي
قد يعلمون بذلك

ويقول أيضاً:
وناداني الإمام هيا
أتاك الوصل بالبشر

فقم للدير يا ماضي
فإني قد صدر أمري

تملَّى بي وشاهدني
ومل عندي عن الغير

وأنبأ من يرد قربي
بحسني حيث لا يدري

ومن ذلك نعلم أن الصلوات الممنوحة للإمام أبي العزائم :
إنما هي عبارات .... تكشف عن أسرار ... ومشاهدات ...!! وتبين جمالات وكمالات الحقيقة المحمدية والأنوار الأحمدية التي خصَ بها سيدنا رسول الله خاصة المحبين والمهيمين والعاشقين لذاته المحمدية .
يتبع ان شاء الله

عجبتُ منك و منـّـي ،، يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي

أدنيتـَني منك حتـّـى ،، ظننتُ أنـّك أنـّــي

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:32 AM
تجدد الدعوة إلى الله
يرى الامام أن الدعوة إلى الله تتجدد في كل زمان ومكان لأنه ما من زمان إلا وتجدُّ فيه أحداث لم تكن على عهد السلف وتظهر فيه شئون تقتضيها سعة العمران والتغيرات الزمانية والمكانية والعلمية.ولما كانت تلك الأحداث والشئون لابد وأن ينظر إليها بعين الشريعة ليثبت حكمها من حيث الحل والحرام والندب والكراهة والوجوب والمنع، وكان لابد لكل زمان من أفراد يصطفيهم الله بنفسه فيفقههم في دينه ويلهمهم الصواب في القول والعمل، ويقيمهم مقام رسله صلوات الله وسلامه عليهم، فتنطوي النبوة في صدورهم، إلا أنه لا يوحى إليهم ...ولذلك نظائر في الأمور المحسوسة فإننا لو عرضنا أمراض هذا العصر على ابن سينا وابن بختيشوع وغيرهما من كبار الأطباء، لجهل هذا المرض ولما علم له دواء، فكما أن الله سبحانه يحدث في كل زمان أطباء للأشباح لطفاً بالخلق ورحمة بهم، فهو سبحانه أرحم الراحمين بعباده، فيجدد لهم رجالاً يستنبطون الحكم على كل حدث حدث، أو شأن تجدد، وهم ورثة رسول الله سر قول الصادق المصدوق :
{ العلماء ورثة الأنبياء } ومعلوم أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا دينار، وإنما ورثوا نوراً وهدى، والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم)) وإننا نرى دون تحيز أو عصبية، وإنما إحقاقاً للحق، أن الإمام السيد محمد ماض أبو العزائم هو المجدد لهذا العصر، لأنه جدد أحوال السلف الصالح في أخلاقهم وعقيدتهم وعباداتهم ومعاملاتهم، وأحيا ما اندرس من أحوال الأئمة السابقين سواء في جهاد الأعداء أو في محاربة الظالمين أو في تهذيب السالكين، أو في التبشير بالإسلام بين غير المسلمين أو محاججة ومعارضة المستشرقين.وقد كان الامام مدرسة كاملة تتشعب من جوانبها جميع العلوم الإسلامية النظرية والعملية إلى جانب ما أفاضه الله عليه من العلوم الوهبية والأحوال السنية، فرضي الله تعالى عنه وجزاه الله عنا وعن المسلمين أجمعين خير الجزاء.هذا ولا تزال دعوته موصولة في صدور الدعاة الصادقين من خاصة أتباعه الذين أشار إليهم فقال: ((من أراد الوصول فعليه بعبد موصول، وعليه بحفظ الأصول، وأول أصل من الأصول (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)
تهذيب الدعاة إلى الله
وفي سبيل ذلك كان جهاد الإمام أبى العزائم في إعداد الدعاة إلى الله بالصفة والكيفية التي وضحها فيما ذكرناه، فبعد أن ينزلهم في منازل الجهاد والرياضات الروحية، يكشف لهم بين الآونة والأخرى الحجب والقواطع التي تعوقهم عن بلوغ المراد وهي كما بينها عقبات للسالكين لخصها فيما يلي:
1- الحرص على الدنيا والجاه والرياسة ونظره إلى خصوصيته.
2- غرور المريد بعمله وعلمه وبثناء الخلق عليه.
3- ميله إلى حب الكرامات وشهرتها بين الناس.
4- الانشغال باقبال الخلق عليه فيرغب فيما في أيديهم.
5- الاشتغال بالجدل مع الخلق ومعاداتهم.
6- أن يصرف المريد وقته ملتفتاً عن المرشد مشغولاً بما يبعده عن منازل القرب ومشاهد الحب.
7- تمكن العدو من المريد وايهامه بأنه يدافع عن الحق وعن السنة، فيرى أن عمله هذا هو الحق، فيعتقد في نفسه أنه خدم المرشد ونفعه، ولولاه لم يكن له طريق وينسى نفسه))
أما حجب الواصلين وقواطع المنتهين، فقد فصلها في كتابيه شراب الأرواح ومذكرة المرشدين والمسترشدين فمن أراد المزيد فعليه بهما.
ونشير هنا إلى شئ من طريقته في تربية الدعاة إلى الله فقد كان الامام إذا صحبه السالك وأخلص في صحبته وصدق في إرادته، يمن الله عليه ببركته، فيفتح الله له باباً من الإلهام يجعله يعجز العلماء بل ويدهش الحكماء عندما ينطق بالحكمة العالية التي أفيضت على قلبه من الله سر قوله سبحانه ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً)[65الكهف].وأخطر ما يحيق بالسالك في هذا الوقت، أن يرى نفسه صاحب هذا العطاء، أو يتيه على غيره بالفضل الذي حظى به من ربه، أو ينس حقيقته الطينية ويطلب من الخلق عطاءاً أو ينتظر منهم التعظيم له، فكان يلاحظ أولاده ليخرجهم من هذه العقبات ويجعلهم لا يلتفتون إلى دنيا أو آخرة أو كرامة أو منزلة فيقول لهم: (من كان الله مراده فمقعد صدق وراءه):
ويحذرهم فيقولإذا كان لك غير الله مراد، فكيف تبلغ منه منازل القرب والوداد؟).فإذا نسى السالك أو تناسى لانشغاله بنفسه هذه القواطع والحجج أخرجه بطريقة أو بأخرى .... وخذوا أمثلة نيرة على ذلك ...:مرة يؤدب العلماء الذي رأوا لأنفسهم شأناً نتيجة علمهم وإقبال الخلق عليهم مع أنه حذرهم من ذلك فقال:
فإذا دعاهم أن يدلوا غيرهم
قاموا بحول منه لا بفخار

يدعون والرهبوت ملء قلوبهم
بالهدى هدي المصطفى المختار

وإذا رأيت الخلق مقبلة فلا
تركن ركون مقرب من نار

فالخلق فتنة من أردت صدوده
وشهود أهل البعد في الأدوار

ولذلك حادثة وقعت في مدينة منفلوط، وهي بلدة تشتهر بالعلم والعلماء ...فأتى الامام برجل صياد من بلدة برج البرلس، وهو الشيخ عرفات الجمال، وأمره أن يلقي الدرس بالمسجد الجامع، ووجه الإخوان جميعهم، بما فيهم الدعاة والعلماء لاستماعه !!!، فأتى بالعجب العجاب حتى أبهر الحاضرين، وأضمحلت أنفس العلماء والدعاة في أعينهم، عندما رأوا هذا الأمي الذي كان لا يقرأ ولا يكتب، وقد أفاض الله عليه من العلوم ما لم يقرأوه في كتاب، أو يسمعوه من عالم، فذهبوا وأثنوا عليه عند الشيخ !!!وأحس الامام بشفافيته النورانية بأن هذا الثناء حرك نفسه نحو العجب (أي اعجاب المرء بنفسه) وهو من أخطر الأمراض والعقبات على السالكين، بل إنه أكبر قاطع عن اللحاق بمنازل المقربين، فخرجه من هذا العائق في الحال بقولهعرفات لقد كان يشرب الجوزة ويعلق فيها حلق ذهب !!) وهذا أمر لم يكن يدريه إلا عرفات فقد كان قبل أن يتوب الله عليه على يد الإمام، يشرب المسكرات مع صديق له ويتناوبون الجلوس في منازلهم، وذات مرة، تنافس مع زميله على أيهما يبقى مدة أطول مع الشرب المتواصل لا يؤثر فيه الشراب ولا يسكر، وكانا بمنزل صديقه فشرب وعبَّ حتى ثمل صديقه وبقى هو على حالته، ولكي يثبت لصديقه صحوه، قام فخلع الحلق من أذن زوجة صديقه وهي نائمة وعلقه في الجوزة، وذكره الامام بهذا الأمر الذي يدل على قوة بصيرته، حتى يتذكر بدء حقيقته فيعلم فضل الله عليه فلا يغتر ولا يعجب بنفسه ...وهذا الأمر أيضاً كشف لنا شدة ملاحظة العارفين لمريدهم، وأن هذه الملاحظة ليست من بدء سلوكهم معهم، بل أنها من بداية ظهورهم ووجودهم، وفي ذلك يقول سيدي سهل التستري (إني أعرف أبنائي من يوم ألست بربكم، وأربيهم وهم في أصلاب أبائهم منذ ذلك اليوم))وقد كان يقول الإمام أبو العزائم مطابقاً لهذه الحقيقة:
(أبنائي في أصلاب أبائهم لما يأتوا بعد).وأحياناً كان يتدخل تدخلاً مباشراً على بعد، ليخرج السالك من غفوته، تارة في اليقظة وأحياناً في النوم.ونضرب مثالين على ذلك من آلاف الأمثلة التي يرويها أحبابه ومريدوه، فأما في اليقظة فتدل عليه هذه الحادثة:فقد طلب أهل ههيا بمحافظة الشرقية منه في بيته بالقاهرة وهم يزورونه أن يرسل معهم واعظاً يذكرهم، فأمر ابنه المبارك السيد أحمد أن يبحث في ثنايا الإخوان الحاضرين عن واعظ يكلفه بهذا الأمر، وبعد جهد قال: يا سيدي لا يوجد أحد على الاطلاق لا من الدعاة ولا من الإخوان الواعظين، فقال: من عندك من الإخوان؟ فقال: لا يوجد إلا الشيخ عبد العليم. (وهو تاجر بصل أمي من منطقة بولاق) فقال: أحضره. فأتى به وخلع عليه جبة كانت له وعمامة يحتفظ بها في دولابه الخاص، وذوده بالنفقات وأمره أن يتوجه مع إخوانه إلى ههيا ليذكرهم.فأفاض الله عليه من العلوم الوهبية والأسرار العلية، حتى أنه وكان يتحدث في الجامع الكبير بههيا، وكان بالمسجد أسرتان تتربص كل منهما بالأخرى لعداوة قديمة بينهما، لكنهما تأثرا بما سمعا، فما كان منهم إلا أن قاموا يعانق بعضهم بعضاً، ويصافح بعضهم بعضاً وهم نادمون على ما فرطوا في أنفسهم...واستمر هذا الحال المبهر مع الشيخ عبد العليم تاجر البصل الأمي ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث، وكان جالساً في غرفته التي خصصها له الإخوان، تحركت نفسه فأعجب بنفسه، فوضع العمامة بناحية على رأسه من شدة إعجابه بحاله وشأنه، وإذا به يرى ويتحقق أن ما عنده وما في صدره قد ذهب ولكنه كان حصيف الرأي، فعندما علم أن أمره سينكشف، طلب الإخوان وأخبرهم بأن الشيخ طلبه ولابد أن يسافر في الحال !!!وسافر ليجد الشيخ مستعداً للقائه، وأخبره بما وقع في نفسه وأعطاه درساً في هذا الأمر حتى لا يتبع رعونات نفسه، ولا يركن إلى عجبه طرفة عين ولا أقل من ذلك ولا أكثر.وأما مناماً:فكما حدث في مدينة المنيا عندما دعت جمعية الشبان المسلمين الإمام أباالعزائم لإلقاء محاضرة بها، ولشدة إعجابهم بحضرته، طلبوا منه أن يحدد لهم ميعاد لقاء آخر، فأشار عليهم أنه لن يتمكن في ذلك الوقت، ولكنه ينيب عنه الشيخ محمد أبوشريف (وهو ترزي عربي بمدينة المنيا).وذهب الشيخ أبو شريف، وألقى محاضرة في بر الوالدين أذهلت السامعين، حتى أنهم لشدة إعجابهم به طلبوا منه تحديد موعد آخر لمحاضرة أخرى، فضرب لهم موعداً دون أن يستأذن من الشيخ، وشعر في نفسه بأنه صار عالماً جهبذاً لا يحتاج إذناً، وإذا به يرى الشيخ في المنام يؤنبه ويزجره ويقول له: كيف تحدد ميعاداً بدون إذن من الشيخ والله يقول( [وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)62النور]، ثم لطمه على خده فقام من نومه وقد أصاب وجهه ورقبته شلل، حتى أنه لا يستطيع أن يحرك رقبته أو يلفت وجهه، فأحس بجرمه وعرض نفسه على الأطباء لاستحيائه من الذهاب إلى الشيخ، ولكنهم عجزوا جميعاً عن تحقيق الشفاء.وبعد خمسة عئر يوماً، أخذه الإخوان إلى الشيخ وكان بمنزله في المطاهرة في ذلك اليوم، فوبخه وعنفه ليستيقظ ويتوب من هفوته، ثم صفح عنه ولطمه على الجهة الأخرى لطمة عادت بها رقبته إلى حالتها الطبيعية.وهكذا كان لا يغفل عن ملاحظة الدعاة والمرشدين حتى في اخص شئونهم، تهذيباً لنفوسهم وتخليصاَ لهم من عثراتهم حتى كان يخبرهم بخلجات نفوسهم وأحاديثهم مع غيرهم ... وخذوا مثالاً:كان الامام في دسوق نائماً، وإذا به يستيقظ فجأة ويقول لخادمه أئتوني بعبد الحي، فقالوا إنه يزور سيدي إبراهيم الدسوقي، قال: أعلم، فلما أحضروه وامتثل واقفاً بين يديه، قال له: لم تشكوني إلى سيدي إبراهيم الدسوقي؟ قال: يا سيدي لي شهران لم أزر أولادي في الإسكندرية واشتقت إليهم، قال: وهل منعتك من ذلك؟ أو قد طلبت أنت ذلك ورفضت أنا؟ قم الساعة !واذهب لترى أولادك، وذوَّده بالزاد والنفقة اللازمين لذلك.
يتبع ان شاء الله

عجبتُ منك و منـّـي ،، يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي

أدنيتـَني منك حتـّـى ،، ظننتُ أنـّك أنـّــي

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:33 AM
أحوال الدعاة الروحانية
فإذا وصل الداعي إلى مقامات الحقيقة، وفتحت لعين بصيرته أنوار الطريقة، وجهه إلى المحافظة بشدة على أداب الشريعة، لأن أكبر ما يقطع السالك عن الله في هذا المقام هو الحال أو الاعتقاد أو القول الذي يخالف أحكام الشريعة.فيقول لهمإذا تعارض كشفك مع القرآن والسنة، فاضرب به عرض الحائط، وقل لنفسك إن الله ضمن لي العصمة في اتباع القرآن والسنة ولم يضمنها لي في الكشف).ويحذر من تحدثه نفسه في هذا المقام بالكرامات والرغبة في ظهورها على يديه لشهوة في نفسه، ولكنها شهوة خفية لا يطلع عليها، بل ولا يتنبه إليها إلا كمل الواصلين يقول لهمليست الكرامة أن تطير في الهواء، لأن الطير يفعل ذلك وليست الكرامة أن تمشي على الماء، لأن السمك يفعل ذلك وليست الكرامة أن تطوى لك الأرض لأن إبليس وهو عدو الله يفعل معه ذلك، وإنما الكرامة: أن يكرمك الله بالاستقامة، فالاستقامة خير من ألف كرامة).أما من تحدثه نفسه بأنه وصل واتصل، ومادام قد وصل واتصل فلا عليه من ترك العبادات الشرعية لأنها في نظره، وسائل للوصول إلى الحقيقة وهو يعتقد أنه قد وصل إليها يقول لهمن ترك الصلاة وقال إني قد وصلت فقل له: قد وصلت ولكن إلى سقر، لأنه لو كان أحد يرفع عنه التكليف، لكان الأولى بذلك سيدنا رسول الله أو الخلفاء الراشدين أو العشرة المبشرين بالجنة، وهؤلاء كان أكمل الناس قياماً بالأحكام الشرعية والعبادات الإسلامية) ويوجه إلى ذلك نظماً فيقول:
لسنته فاخضع وكن متأدباً
وحاذر فحصن الشرع باب السلامة

على الجمر قف إن أوقفتك تواضعاً
يكن لك برداً بل سلاماً برحمة

وهكذا يوضح أن العصمة والحفظ في المنازل والمقامات لا يكون إلا بالمحافظة على أحكام وأوامر الشريعة المطهرة.
الشرع عصمة سالك يهدي إلى
رضوان رب العالمين
ويبين لهم أن الأحوال تنقسم إلى ثلاثة:
1- أحوال ربانية وهي المحفوظة بالآداب والتعاليم الإلهية.
2- أحوال طبيعية أو (نفسانية):
وهي التي توسوس بها النفس الأمارة أو تصورها للإنسان أوهامه وخيالاته الفاسدة من أشياء يراها في نفسه وليس لها وجود في عالم الحقيقة.
3- أحوال شيطانية:
وهي أحوال الأدعياء التي يخدعون بها الناس ليصلوا بها إلى أغراضهم وأهدافهم الخبيثة.
ويبين الامام المقامات والمنازل التي يمر بها الواصل ويشرح لكل منزلة آدابها، ويبين عقباتها حتى يكون السالك على علم بما يعرض عليه، وذلك في كتاب شراب الأرواح وكتاب الصوفية والتصوف وكتاب مصطلحات الرجال، وإن كان الأخيرين لم يطبعا بعد.
آداب وأوصاف الدعاة إلى الله
وضع الامام أوصافاً وآداباً للدعاة إلى الله ينبغي أن يكونوا عليها حتى يستطيعوا أن يؤثروا في الناس، فمن جملة هذه الآداب التي يتجملون بها مع الناس:
1-(أن يكون الداعي إلى الله تعالى: حكيماً رحيماً حريصاً على النفوس. معتقداً عند الناس. مشهوراً باتباع السنة والكتاب والعمل بهما. متباعداً عما ينفر القلوب من كل الأعمال والأخلاق والأحوال. وأن يكون متمكناً من أصول التوحيد.طبيباً حاذقاً بأمراض النفوس ودوائها. خبيراً بمداراة الناس، فاهماً منزلة كل إنسان، له معرفة بسيما الناس التي تدل على خفى طباعهم وغرائزهم ومكنون أخلاقهم)
2- أن يألف الناس، ويتحمل أذاهم ... حتى يألفوه، ويرغبهم في الأخلاق الكريمة.
3- أن يجاهد نفسه ليعمل أولاً بعلمه ثم يدعو الناس إلى ذلك.
4- ألا يفرق بين الناس بسبب الفقر أو الغنى أو الجاه أو النسب في الاقبال عليهم والبشاشة لهم.
5- لا يستحي إذا كان لا يعلم أن يقول لا أعلم، كما لا يستحي أن يطلب العلم ممن فوقه دون التعصب لشيخه.
6- أن يتحصن بالحصون الشرعية عند دواعيها، وفي ذلك أمور كثيرة فصلها الإمام في وصيته الجامعة حيث يقول لإخوانه وأحبابه:
(الواجب علينا أن نتباعد عما يريبنا أو يوقعنا في الريبة عند الناس، بأن نتحصن بالحصون الشرعية، فلا نتكلم أمام الناس بخصوصياتنا ولا بخصوصيات المرشد.ولا نفضل طريقتنا أو أستاذنا على الطرق الأخرى ولا على الرجال، لأن ذلك يوقع المسلمين في فتنة وشغل في غير الحق.وأن نحافظ على إخواننا المسلمين من الوقوع في غيبتنا وظن السوء بنا، بترك الأعمال التي لو عملناها لا تضرنا ولكنها تلفت المسلمين إلى ذمنا مثل:أن نترك الصلاة في المساجد بالتلذذ بها في الخلوة.
ومثل أن نترك الكلام مع الناس اشتغالاً بالأنس بالله.ومثل أن نترك العمل في الدنيا توكلاً على الله.ومثل الخلوة بالأجنبيات تحصناً بمراقبة الله تعالى واعتقاد أنه لن يضره ولن يضرها ذلك، لعلمه بنفسه ومعرفته بالكبائر المحرمة شرعاً.
فإن ذلك موجب لوقوع الناس في الشر وفساد اعتقادهم في الطريق وأهله.ومثل ترك الملابس وتكلف لبس المرقعات، مما يجعل الناس يقعون فيه، فإن ذلك مخالف لطريقتنا ومبدأنا لأننا نحب اقبال الخلق على الله ودعوتهم جميعاً إلى الحق.
ومن كان هذا طريقه وحاله، فالواجب عليه أن يؤلف الخلق اجمعين لا فرق بين المسلم وغيره من المجوسي واليهودي والنصراني، وأنَّ تأليفهم يكون بالمحافظة على وصايا القرآن الشريف، وكمال الاقتداء بسيدنا ومولانا محمد في السر والعلن، وبأن يخفي مواجيده وأحواله وأسراره عن العامة حتى يكون مع الخاصة)
7- بذل ما في اليد للناس تأليفاً لهم وعدم التطلع إلى ما في أيديهم.
8- ترك الجدل مرة واحدة إلا ما كان لبيان حكم من الأحكام الشرعية مختلف فيه ويكون بالتي هي أحسن.
أما أخلاقهم التي يتحلون بها في ذواتهم وأنفسهم، فلقد أجملها في قوله واصفاً الدعاة الصادقين إلى اللهالصبر مطيتهم، وجمال الأخلاق رائدهم، والحلم سفيرهم، والحياء وزيرهم، والخشية من الله قوامهم، ووجهه الكريم قبلتهم، وفضله ورضوانه مبتغاهم، سرورهم اقبال الخلق على الله فهي تجارتهم التي يبذلون لأجلها النفس والنفيس، وهي كما وصف الله تعالى : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ إلى قوله: [ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً{75} خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ) [63 - 76 الفرقان].وقد اشتاق إليهم رسول الله ووصفهم بإخوانه r، فهم أبداله وخلفائه وخلفاء ربنا، قاموا مقام الرسل عليهم الصلاة والسلام بالرحمة والعاطفة والرأفة والحرص على المؤمنين والزهد فيما سوى الحق، يحببون عباد الله في الله ورسوله ، ويرغبونهم فيما عنده  بين خوف لا يبلغ درجة اليأس وطمع لا يؤدي إلى أمن من مكر الله.أخلصوا لله سرائرهم، فجمل الله ظواهرهم وبواطنهم وأخلصوا له المعاملة فأكرمهم سبحانه بالمواجهة والمنازلة.نظروا الدنيا بعين شهدت الحق فاحتقروها، وسكنوا فيها بأبدان قلوبها في الملأ الأعلى فاستوحشوها، وأقاموا فيها بآمال غايتها الأنس بالله فهجروها، فهم في الدنيا وليسوا فيها.ظهر الحق لهم جلياً فاتخذوا الله ولياً، وعلموا مرتبتهم فتولوا خالقهم، علموا الناس بأعمالهم قبل أقوالهم وبأحوالهم قبل أعمالهم، فالرجل منهم واحد في الخلق وهو أمة عند الله تعالى.هذه هي صفات الدعاة إلى الله تعالى وأحوالهم، فمن ظفر بواحد منهم فقد وصل إلى الله تعالى وعرفه سبحانه)
يتبع ان شاء الله

عجبتُ منك و منـّـي ،، يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي

أدنيتـَني منك حتـّـى ،، ظننتُ أنـّك أنـّــي

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:34 AM
أنواع الدعاة إلى الله
وقد قسم الامام الدعاة إلى الله إلى أربعة أصناف هم:
1- العلماء بالله:
وهم الذي عرفوا حقيقة أنفسهم فكاشفهم الله بذاته سبحانه وأسمائه وصفاته.
2- العلماء بأيام الله:
وهم الذين فقهوا قول الله عز وجل: ( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ ) فعلموا الأيام التي لها شأن وقدر عند الله، فذكروا بها انفسهم حتى لانت جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وإلى طاعة الله، ثم قاموا يذكرون بها غيرهم حتى يخرجونهم من ظلمات الشكوك والأوهام إلى نور الطاعة والقرب من الملك العلام، وقد فصل تلك الأيام تلميذه النجيب الشيخ محمد علي سلامة في كتابه (أيام الله) فليراجعه من يريد الاحاطة بتفصيل ذلك.
3- العلماء بأحكام الله:
وهم حملة الشريعة الأمناء الذين يحفظون أحكام الله في العبادات والمعاملات ويفصلونها للناس بحسب الوقائع والمناسبات.
4- العلماء بحكمة أحكام الله:
وهم الذين عملوا بالأحكام ليصلوا بها إلى معرفة الحاكم سبحانه، فكاشفهم الله بالحكمة التي من أجلها أوجد وفرض هذه الأحكام على عباده.
وقد أشار الامام إلى الحكم المختلفة للصلاة والزكاة والمعاملات في كتابه (أسرار القرآن) وأشار إلى حكمة أحكام الصيام في كتابه (صيام أهل المدينة المنورة) وأشار إلى حكمة أحكام الحج في كتابه (هداية السالك إلى علم المناسك).
الحاجة إلى الطريق
يرى الامام أن الناس جميعاً لا يحتاجون إلى سلوك طريق القوم، وإنما يحتاج إلى ذلك أصحاب الهمم العالية من المؤمنين، وأصحاب العزيمة الصادقة من المخلصين، والذين تنبعث من نفوسهم الرغبة الصادقة في الوصول إلى ما كان عليه السلف الصالح من أحوال ومقامات عند الله ، وفي ذلك يقول :
وليس الكل مطلوباً لهذا
ولكن خص لبعض أفراد قليلة

فدارِ أهل عصرك واجتنبهم
وواصلهم على قدر الضرورة

فمنكرهم يسئ ومن يسلم
فقربه ولا تأمن شروره

ومن طُلْبَتْهُمُ عين العناية
يروك بعين أنوار السريرة

وهو يقسم مراتب الدين إلى أربعة هي:
1- الإسلام.
2- الإيمـان.
3- الإحسـان.
4- الإيقــان.
ويرى أن أهل الطريق هم أهل مقام الإحسان وأهل مقام الإيقان.
أما مقامات الإسلام والإيمان فيكفي أهلها العمل بظواهر الشريعة والاستقامة على الطريقة، لعدم علو همتهم إلى هذه الأحوال العالية التي لخصها في قوله:
الحب مبدأنا والوجه قبلتنا
والمصطفى قدوتي فاعلم مراقينا
ولما كان الإنسان لا يستطيع أن يلج هذه المقامات، وأن يدخل هذه المنازلات بمفرده، لعدم علمه بمزلاتها وعقباتها لزمه أن يبحث على المرشد الحي القائم الذي خبر هذا الطريق وسلك دروبه ومفازاته واقتحم صعابه وعقباته، ورده الحق إلى الخلق ليدعوهم إلى حضرة ذاته كما قال ابن البنا السرقسطي في منظومته:
إنما القوم مسافرون
لحضرة الله وظاعنون

فاحتاجوا فيه إلى دليل
عالم بالسير وبالمقيل

قد سلك الطريق ثم عاد
ليخبر القوم بما استفاد

فيقول الامام مبيناً حاجة السالكين إلى الطريق: (يلزم لمن أراد أن يسلك طريق الله تعالى - لتحصل له النجاة والفوز والسعادة والوصول - أن يبدأ أولاً بالبحث عن الرجل الحي العالم بكتاب الله وبسنة رسول الله ، والعالم بتزكية النفوس وتخليصها من أمراضها ورعوناتها، والعالم بالأخلاق المحمدية المتجمل بها، الممنوح الحال الذي به يجرد النفوس من أوحال التوحيد، العالم بعلوم اليقين ومشارب الأبرار ومشاهد المقربين، العالم بحقيقة التوحيد الخالص من الشرك الخفي والأخفى، فإذا وجد هذا الرجل، فهو إمام أهل عصره جميعاً، والواجب عليهم جميعاً أن يتركوا الحظ والهوى والعلو في الأرض والتعصب للأباء والأجداد إقبالاً على الله تعالى، وتحقيراً لكل لذة يعقبها العذاب، وكل سيادة تنتج الشقاء، وكل شهرة تؤدي إلى حرمان الرحمة والغفران، وكل وظيفة تبعد عن دار الكرامة والإحسان الأبدي) وهذا الرجل هو ما يسمى في اصطلاح القوم الشيخ أو المربي أو المرشد أو الدليل أو الرفيق في السفر إلى الله ، وقد كان السلف الصالح يسافرون آلاف الأميال بحثاً عن هذا الرجل، فهذا الإمام أبو الحسن الشاذلي يأتي من تونس إلى مصر بحثاً عنه، ثم إلى بلاد الشام وبلاد العراق، وهناك أخبره الشيخ أبو الفتح الواسطي أن شيخه في بلاد المغرب وقال له: (جئت تبحث هنا عن القطب، والقطب عندكم).وهكذا نجد كمل الرجال لا يصلون إلى بغيتهم إلا بعد البحث عن الرجل الحي الذي أقامه الله لدلالة الخلق على الله والذي يقول فيه الإمام علي رضى الله تعالى عنه وأرضاه وكرم الله وجههاللهم لا تخل الأرض من قائم لك بحجة إما ظاهراً مشهوراً وإما باطناً مستوراً لئلا تبطل حجج الله تعالى وبيناته).
حالة أهل الطريق في عصره
لكنه في العصر الذي ظهر فيه الإمام أبو العزائم ، اندرست كثير من معالم الطريق، وأصبح الناس يشتغلون بأمور لا تمت إلى طريق القوم بصلة، وجعلوها هي أساس الطريق، فمثلاً: جعلوا لكل طريقة زياً خاصاً بها إذا لبسها المريد صار من أهل هذا الطريق وإن كان لم يتحقق باطناً بأحوال أهلها، ومن ذلك ما يقول ومن الدعاة الجهلاء من يجلسون في وسط العامة فيذكرون اسم ولي من أولياء الله ويبثون عنه الأقاصيص المفيدة بأنه ينفع ويضر، وأن من اتبعه يكثر ماله وولده، وأن من زار قبره تقضى حوائجه ويموت أعدائه، ويذكرون لهم من الكرامات ما هو حق وباطل، حتى يرغب الناس فيكون الضرر بذلك من جهتين: من جهة أنهم يتبعون طريقه لعاجل فان، فيكونون ممن يعبدون الله على حرف، ومن جهة أخرى أنهم يتبعونه لينتفعوا به من الجهة التي لا يمكنه أن ينفع نفسه ولا غيره منها، لأن النافع هو الله ويحرمون النفع من الجهة التي ينتفع منها لأن الله أقامه سبباً للنفع فيها، وهي جهة تلقي العلوم وفهم فقه القرآن الكريم وتزكية النفس وفهم أسرار التوحيد، وكشف حكم الأحكام أو التجمل بعلوم اليقين مما به السعادة الأبدية التي لا تذكر الدنيا بجانبها بشئ إلا كما يذكر العدم مع الوجود، وقد يحصل ضرر ثالث لا يقل عن هذين الضررين، وهو أن يكون الرجل الذي يدعون إليه متوفياً وليست له كتب علمية ينتفع بها من يقتدي به، فيحصل الضرر لمن اتبعه بحرمانه من طلب الرجل العالم الذي جعله الله نوراً والانتفاع بعلمه والاقتداء بعمله) فانكر هذه الأحوال التي ظهرت من هؤلاء المدعين ووضحها وبينها، إحقاقاً للحق وإزهاقاً للباطل، فقد كان مرة في مدينة دمياط، وجاءه نفر من الأدعياء ومعهم بعض الثعابين والحيات وقالوا له: نحن نمسك الثعابين والحيات فماذا تفعل أنت؟فقال لهم : إمساككم للحيات والثعابين هديتم به كم رجل إلى الله عز وجل؟ فسكتوا. فقال ( أما أنا فأخرج حيات الحقد من القلوب وانزع ثعابين الحسد من الأفئدة، وأمسك بعقارب الحظ والشهوة من النفوس وأخرج الناس من هذه الظلمات إلى نور الطاعة في حصون الشريعة ))وأنكر على من ينتسبون للعلم أو الطريق ويجعلون العلم أو الطريق باباً من أبواب جلب الدنيا، وأنكر أيضاً على من يشغلون أنفسهم بالمفاضلة بين فلان وفلان أو التعصب لشخص على آخر لحظ أو هوى مستكن في نفسه، فقام بجهود كثيرة لإصلاح الطريق وأهله بعد أن نعى عليهم وقال لهمأصبح اسم الطريق مرذولاً وأهل الطريق محقرين وأقوالهم مردودة، وأحوالهم منكرة، وأعمالهم مقبحة عند أهل الغرة وأهل الدنيا، لم ذلك؟ وكيف كان ذلك؟ لم يكن ذلك إلا لأن رجالاً اتخذوا الطريق مغنماً ومكسباً، فزينوا ظاهرهم للناس لخراب سرائرهم وباعوا الدين بالدنيا، وعملوا أعمال الآخرة بالدنيا، فذهبت أنوار الطريق، ومحيت أسراره وانطمست معالمه وجهلت أحوال أهله، وحجبت الامدادات السماوية، والفيوضات الربانية التي كانت تفاض على القلوب العامرة باليقين، والأبدان العاملة بسنة سيد المرسلين، والعقول الجائلة في الفكر في آيات السموات والأراضين، والأنفس السابحة في ملكوت السموات والأرض، والأرواح المواجهة لقدس الجبروت.أما الآن فأصبحت أجسامهم بلا أرواح.
كل ذلك للاشتغال بالدنيا عن الآخرة وترك البحث عن الرجل المرشد العامل الدال على الله بقوله وعمله وحاله، كثر الحفاظ والمرشدون، وقل الراغبون والطالبون، يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم يجلسون مجالس الأنبياء والقلوب قلوب الشياطين) وأنكر ايضاً على الذين يستخدمون المخدرات في مجالسهم ليفسدوا على الناس القوى التي بها إدراك الحكمة العالية وكشف خدعهم التي يزخرفونها لأهل التسليم ليستدرجوهم إلى أن يتمكنوا من قلوبهم فيتصرفون في أموالهم، ويلعبون بعقائدهم.واشتد انكاره على من يأمر تلاميذه بترك العلم والتعليم وترك الوظائف والرواتب، بل وترك الأعمال الشرعية موهماً أن ذلك يحجب عن الأنوار، وأرجع كل ذلك إلى جهل الناس بحالة الطريق وأهله وما كان عليه السلف الصالح من أحوال ومجاهدات ومقامات، فقام يوضح ذلك كله على ما سنبينه في ما يلي:
يتبع ان شاء الله

عجبتُ منك و منـّـي ،، يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي

أدنيتـَني منك حتـّـى ،، ظننتُ أنـّك أنـّــي

الشيخ درويش عبود المغربى
30-09-2012, 07:49 AM
جهوده لإصلاح أهل الطريق
وضع الامام خطته لإصلاح أحوال أهل الطريق على عدة مراحل:
المرحلة الأولى:
بيان أحوال السلف الصالح
فقد أخذ يذكرهم في كل واد وفي كل ناد ....بما كان عليه أهل الطريق من السلف الصالح من أحوال علية وأخلاق ربانية وعلوم وهبية، جعلت لهم المنزلة العظيمة والمكانة الكريمة، ليس عند العامة فقط بل عند العلماء الأجلاء، وحتى عند الحكام، ويضرب لهم الأمثلة الكثيرة على ذلك.نذكر منها على سبيل المثال:(كان الرجل من أهل الطريق يمشي فيجتمع الناس عليه، فيردّهم الناس عنه بالسياط فلا يرتدون، ويمر بعده أمير المؤمنين والناس يضربون الناس بالسياط ليجتمعوا عليه فلا يجتمعون كان أمير المؤمنين يزور أهل الطريق في بيوتهم فيسمع منهم القوارص من الوعظ حتى يبكي، وفي زيارة أمير المؤمنين هارون لفضيل، وما واجه به ابن جريج أبا جعفر المنصور، وما كتبه بعض الصحابة لأمير المؤمنين عمر، كل هذا دليل على أن أهل الطريق كانوا أئمة للأمراء، وسادة للخلفاء لأنهم خافوا الله فأخاف منهم كل شئ، وأقبلوا على الله فأقبل بقلوب الخلق عليهم، وجملوا سرائرهم لله، فجمل الله علانيتهم لعباده.أنت تسمع من أسرارهم وكراماتهم ما دونه أهل التاريخ عنهم، خصوصاً من ترجموا لأهل الطريق، واعتنوا بآثارهم، كانوا إذا جلسوا في مجلس، لاحت أنوار الحكمة، وظهرت أسرار المعرفة وامتلأت القلوب إيماناً، وذكر الله لرؤيتهم، وكره الناس الدنيا بما فيها، ورغبوا في الآخرة وما فيها، وكم أسلم يهودي ونصراني ومجوسي عند سماع عباراتهم، وعلم أحوالهم وبيان أخبارهم.هكذا كان الطريق وكان أهل الطريق، حتى بلغ من التعظيم في القلوب أن الناس كانوا إذا أقسموا يقولون: وحياة أهل الطريق)
وهذا ما ذكره أيضاً الإمام الشعراني في كتابه الأنوار القدسية حيث يقول:((وقد أدركنا بحمد الله جملة من أشياخ الطريق أول هذا القرن، وكانوا على قدم عظيم في العبادة والنسك والورع والخشية وكف الجوارح الظاهرة والباطنة عن الآثام حتى لا تجد أحدهم قط يعمل شيئاً يكتبه كاتب الشمال، وكان للطريق حرمة وهيبة، وكان الأمراء والملوك يتبركون بأهلها ويقبلون بطون أقدامهم، لما يشهدونه من صفاتهم الحسنة.وقد رأيت بعيني السلطان الغوري، وهو يقبل يد سيدي محمد بن عنان، ورأيت السلطان طومان باي الذي تولى بعده يقبل بطن رجله، وطلعت مرة مع سيدي الشيخ أبي الحسن الغمري للسلطان الغوري في شفاعة، فقام للشيخ وعضده من تحت إبطه وقال: يا سيدي عززتني في هذا النهار، فأنا ومملكتي كلها لا تفي حق طريقك)) ولو استقرأنا صفحات التاريخ لوجدنا تصديقاً لهذا الكلام العجب العجاب:فهذا هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي يطوف بالبيت الحرام، فلا يتمكن من الطواف. إلا بمشقة بالغة، ويحاول الجند أن ينحوا الناس عن طريقه فلا يستطيعون، وبعد انتهائه من الطواف، جلس بالقرب من البيت يستريح قليلاً من التعب، وإذا برجل يريد أن يطوف، فيخلي له الناس المطاف بأكمله، بل ويتركون الحجر ليستلمه بمفرده وهم في ذلك كله يتمسحون به ويتبركون بآثاره، فيسأل أهل الشام هشام بن عبد الملك عن هذا الرجل، فيقولون من هذا؟ فيقول: لا أعرفه - مع أنه يعرفه معرفة جيدة - خوفاً عليهم أن يقعوا في حبه، فلا يسع الفرزدق الشاعر المشهور إلا أن يقول على البديهة:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم

يكاد يمسكه عرفان راحته
عند الحطيم إذا ما جاء يستلم

إذا رأته قريش قال قائلها
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

إن عد أهلي التقي كانوا أئمتهم
أو قيل من خير أهل الأرض قيل: هم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله
بجده أنبياء الله قد ختموا

وليس قولك من هذا بضائره
العرب تعرف من أنكرت والعجم

يغْضِى حياءاً ويُغْضَى من مهابته
ولا يكلم إلا حين يبتسم

ما قال: (لا) قط إلا في تشهده
لولا التشهد كانت (لاؤه) نعم
وقد كان هذا الرجل الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين وهذه عمة الخليفة المأمون ترى سيدنا موسى الكاظم يمشى في موكبه، وحوله ما يزيد عن السبعين ألفاً، فإذا فتح فاه بكلمة، أسرع ما يزيد على العشرة آلاف قلم يسجلونها في حينها، فانبهرت من هذا الموقف وقالت: هذا هو الملك لا ملك ابن أخي !
عبيد ولكن الملوك عبيدهم
وعبدهم أضحى له الكون خادماً
ولعل قائل يقول أن هذا قد كان في الزمن الفاضل وقد انقضى وقته وذهب أمده، فنقول له: إن هذا يجدده الله في كل زمان ومكان مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم:{ وَلاَ تَزَالُ طائفةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله تَعَالَى } وإليك مثالاً واحداً حدث في عصرنا الحديث:فقد دخل الخديوي عباس الثاني ساحة الأزهر وحوله الجند، ولكن طلبة العلم والعلماء والناس بالأزهر، لم تأخذهم صولة الحكم، ولا رهبة السلطان، فظلوا في أماكنهم لم يتحرك منهم أحد، وفي غضون ذلك، دخل الشيخ محمد البهي، فانفضت الحلق، وتجمع الطلبة والعلماء والناس حول الشيخ، يسعون لتقبيل يده والتماس بركته، فاغتاظ الخديوي من هذا الأمر، وطلب من رئيس الديوان أن يدعوه لزيارته في قصره، وصمم في نفسه أن يتخلص منه حقداً وحسداً على مكانته، فأوعز للخادم أن يدس له السم في قدح القهوة ففعل ما أمره به، وأتى به ووضعه أمام الشيخ، فنظر إليه الشيخ ثم قال للخديوي انظر: !! وفتح فاه فذعر الخديوي من هول ما رأى، فقد رأى فم الشيخ وقد تحول إلى بحر عظيم هائج الأمواج، فالتفت إليه الشيخ وقال له بلطف: ماذا يصنع فنجانك في هذا البحر العظيم؟ وشربه فلم يؤثر فيه ! ، فتاب على يديه وبنى له مسجده في طنطا، وأوقف عليه الأوقاف وكان يذهب إليه دائماً لزيارته والتماس بركته.أما عن احترام العلماء لهم وتبجيلهم لمكانتهم، فحدث عن ذلك ولا حرج، ويكفي أن نذكر ما كان يكنه الشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما لشيبان الراعي وما دار بينهما من مساجلات تسجل بماء الذهب.ويكفيك أن تعلم أن ما كان يعجز عنه أحمد بن حنبل، كان يرسل به لأبي حمزة الصوفي فيجيبه عنه إلهاماً من الله.وهذا العز بن عبد السلام سلطان العلماء، يتحير عندما يسمع كلام الشيخ أبي الحسن الشاذلي، ويخرج من الخيمة مندهشاً ينادي على الناس ويقول: هلموا فاسمعوا هذا الحديث فإنه قريب عهد من الله.والأمثلة في هذا الباب طويلة وكثيرة، وفي هذا النذر اليسير ما يكفي صاحب القلب البصير، والمؤمن يكفيه قليل الحكمة.
المرحلة الثانية:
بيان أوصاف أهل الطريق وأهدافهمثم يبين الامام الأوصاف التي إذا اتصف بها إنسان صار من أهل الطريق، وأفاض الله عليه من إمداداتهم فيقول:((أهل الطريق: قوم صفت قلوبهم، فلم يحقد أحدهم على الآخر لأن كل واحد منهم عون للآخر على مقصوده، وقال الله تعالى( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ) [2المائدة] وكل واحد منهم مرآة لأخيه، يشهد فيها ما من الله به عليه من المنن فيشكره، أو ما ألم بنفسه من العيوب فيتطهر منها، أو من الأمراض فيتداوى منها، فالأخ منهم يحن إلى أخيه أكثر من حنينه إلى الماء البارد في اليوم الصائف لأن لقاء أخيه: إما مزيد من المواهب وإما تخلص من الأمراض والقطيعة والبعد، لم تقع أبصارهم إلا على محاسن إخوانهم وفضائل أصحابهم، لاشتغال كل واحد منهم بعيوب نفسه عن عيوب أخيه، إذا أغضبتهم اجتهدوا في أن يرضوا الله فيك، وسعوا في أن يداووك من فساد أخلاقك، ويرغبوك في ربك فهم يدرأون السيئة بالحسنة، وإن أرضيتهم اجتهدوا في أن يرضوا الله فيك، فلا أذيتك لهم تخرجهم عن مراقبة ربهم، ولا إرضائك لهم يلفتهم عن مواجهة مولاهم سبحانه، اجتمعت قلوبهم وإن تفرقت أبدانهم، وتآلفت أرواحهم لأنها بالست تعارفت، قد بلغ بهم الحب في الله حتى منحهم الله من المواهب ما غبطتهم عليه الملائكة والأنبياء، هذه علامتهم، وتلك صفاتهم، فأين هم؟ ومن هم؟)) ثم يوضح لهم الأعمال التي يجب أن يتنافسوا فيها فيقول:((اعلموا أن المزاحمة والمنافسة، إنما تكون في الفرار من الدنيا إلى الآخرة، وفي التخلي عن الرذائل النفسانية للتجمل بالفضائل الروحانية في عمل الخير النافع لجميع الإخوان وفي السبق في عمل القربات والمسارعة إلى المنافسة في رفعة الدرجات عند الله لا عند الخلق، وفي احتقار نفسه ليعظمه الله، وفي الرضا بالفقر ليغنيه الله وفي التواضع لعباد الله ليرفعه الله، وفي بغض الشهرة والسمعة والرياسة خوفاً من القطيعة عن الله، وفي اعتقاد أن الدار الدنيا فانية زائلة، وفي ذلك تكون المنافسة والمزاحمة، ينافس في ذلك أهل الله الصالحون وأحباب الله المقربون ! ( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) [26المطففين] وليست المنافسة والمزاحمة في جمع ما يفني من المال، وما لا ينفع من الشهرة والسيادة وما لا يدوم من ملاذ المأكل والمشرب والمنكح والملبس والمسكن)) وهكذا يبين الإمام للصوفية أحوالهم، لتعلوا هممهم، ويوضح لهم أعمالهم ليتمسكوا بهدى سلفهم، ويوجههم إلى الميادين التي يجب أن ينزلوا فيها أنفسهم ليتمتعوا بأحوال الصالحين ويحظوا بصفات المتقين، ويكونوا من حزب الله المفلحين الذين قال الله فيهم:(لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [62البقرة].
يتبع ان شاء الله

منقول للافادة

الحزين
30-09-2012, 11:23 PM
مشكور شيخنا عبود المغربى على الطرح الرائع وبارك الله فيك وعليك

نسائم الرحمن
01-10-2012, 10:25 PM
بارك الله فيك يا شيخنا على هذه السيرة الذاتية للامام ابو العزائم ونفعنا الله بعلمك

وعد المحبة
02-10-2012, 03:05 AM
مشكور شيخنا الجليل على الطرح الطيب وبارك الله فيك وعليك

زهرة الربيع
02-10-2012, 03:20 AM
بارك الله فيك شيخ عبود على هذه المعلومات القيمة ونفعنا الله بعلمك

يحيى الناصرى
02-10-2012, 03:55 AM
الف شكر شيخنا الكريم على الطرح والمعلومات بارك الله فيك

سيد مختار
02-10-2012, 05:26 AM
الف شكر شيخنا الكريم على الطرح والمعلومات بارك الله فيك

الشيخ درويش عبود المغربى
02-10-2012, 04:35 PM
مشكورين للمرور العطر وبارك الله فيكم جميعا ودمتم بكل خير وود

الشيخ درويش عبود المغربى
03-10-2012, 04:40 PM
مشكورين للمرور العطر وبارك الله فيكم جميعا ودمتم بكل خير وود