-
اشتمل البيت على خمسة فصول متضمنة لجواب خمس سؤالات و هي ما في الكلمة المشرفة من أقسام المد و ما من حروف المد فيها , و ما حد المد الذي فيها, و هل يجوز تركه أم لا , و ما يجب قصره فيما لا يجوز مده . فهذه خمسة من السبعة المتقدمة . فهي اثنى عشر فصلا . قوله أقسام مد , أي و ما في الكلمة المشرفة من أقسام المد . الفصل الثامن المتضمن لجواب السؤال الثامن في بيان أقسام المد , أي و ما في قول لا اله الا الله من أقسام المد . اعلم أن المد قسمه بعضهم الى ستة عشر قسما , و قسمه الشيخ خالد الأزهري في شرحه للجزرية الى أربعة عشر قسما . الأول , مد حجز كقوله تعالى : " آانذرتكم " , و سمي بذلك لدخول الألف بين الهمزتين حاجزة بينهما . الثاني , مد عدل كقوله تعالى : " و لا الضالين " , و سمي بذلك لأنه يعدل حركته و يسمى اللازم المشدد . الثالث , مد التمكين و يسمى المتصل أيضا , كقوله تعالى : " و السماء " , سمي به للتمكين من تحقيق الهمزة . الرابع , مد البسط , و يسمى المنفصل أيضا , كقوله تعالى : " بما أنزل اليك " , سمي به لأنه يبسط بين الكلمتين بساطا , أو لأنه يفصل بين الكلمتين . الخامس , مد الروم , كقوله تعالى : " هانتم " , سمي به لأنهم يرومون الهمزة و لا يحققونها , و انما يثبتونها و يشيرون اليها . السادس , مد الفرق , كقوله تعالى : " الله خير " , سمي به لأنه يفرق بين الاستفهام و الخبر . السابع , مد البنية , كقوله تعالى : " و زكرياء " , سمي به لأنه يبين بنية الممدود من المقصور . الثامن , مد البدل من الهمزة في نحو قوله تعالى : " آدم , و آمن , وايمان , و أوتوا العلم " , سمي به لأنه يبدل الهمزة الثانية من جنس حركة ما قبلها . التاسع , مد الأصل , نحو جاء و شاء , كان أصله جيء و شيء . العاشر , المد العرض المخفف , نحو نستعين , سمي به لعروض السكون في الوقف . الحادي عشر , المد الطبيعي كالألف من قال , و الواو من يقول , و الياء من العالمين , سمي بذلك لأن صاحب الطبيعة السليمة لا ينقص المد في ذلك عن مقدار حركتها . الثاني عشر , مد لازم مخفف , نحو ص , ق , يس . الثالث عشر , مد تعظيم , كالله , سمي به لأنه أوتي به لتعظيم الجلالة . الرابع عشر , مد مبالغة , كقوله تعالى : " أنه لا اله الا الله " , سمي بذلك للمبالغة في نفي الألوهية عما سوى الله تعالى . قلت و كلها ترجع الى قسمين , أصلي و فرعي . فالأصلي هو الذي لا تقوم ذات الحرف الا به , و يعرف بالمد الطبيعي , و لا يتوقف على سبب , نحو الذين آمنوا , و عفا , و هو كل ألف قبله فتحة , و لا يكون الا ساكنا . و كل واو ساكنة فبلها ضمة , و كل ياء ساكنة قبلها كسرة . قال بن الجزري :
فألف الجوف و أختاها وهي حروف مد الهواء تنتهي
و الفرعي خلاف ذلك , و له سببان , اما همزة و اما سكون . و المد للسكون قسمان , لازم و عارض . و المد للهمزة قسمان , واجب و جائز . فاللازم ما لزم حالة واحدة في المد عند جميع القراء , و سمي لازما للزوم سببه , و الوجب ما اجتمع القراء على مده , لكن اختلفوا في مقداره , و سيأتي بيانه , و سمي واجبا لأنه لا يجب قصره . و الجائز ما جاز مده و قصره عند جميع القراء , و العارض من قسم الجائز و حكمه مثله , و هو ما عارضه السكون للوقف , و سيأتي ان شاء الله تعالى . قال ابن الجزري :
و المد لازم و واجب أتى و جائز و هو قصر ثبتا
و المد اللازم الذي سببه السكون كما تقدم , ينقسم أيضا قسمين , الى كلي نحو الحاقة و الصاخة , و الى حرفي نحو ص و ق و ن . و المد الذي سببه الهمز ينقسم قسمين , لاحق له و سابق عليه . فالأول كآمن و ايمانا و أوتوا العلم و غيره . فلورش فيه المد و القصر و التوسط . و الثاني , و هو قسمان أيضا , الى متصل نحو جاء و سيءو ابءوا. سمي متصلا لاتصال الهمزة بحرفالمد في كلمة واحدة , و هو الوجب المتقدم ذكره , و سمي واجبا لوجوب مده عند القراء , و انما الخلاف في مقداره كما تقدم . و الى منفصل , و هو ما كان حرف المد في آخر كلمة و الهمزالذي هو سببه في أول كلمة أخرى , نحو أتى أمر الله , و هو من المد الجائز لاختلاف القراء فيه . فمنهم من لا يرى فيه الا المد و هو ورش و حمزة و عاصم و ابن عامر و الكسائي . و منهم من لا يرى فيه الا القصر , و هو ابن كثير و السوسي . و منهم من يرى الوجهين , و هو قالون و الدوري . فتلخص أن في الكلمة المشرفة من أقسام المد مد المبالغة , و هو مد لا كما تقدم , و باضافة اله صار مدا منفصلا . و قد عرف أن المد المنفصل من أقسام الجائز لاختلاف القراء فيه على ما تقدم . و في اله المد لأنه لحق سببه الذي هو الهمزة و هو من الجائز أيضا و الله أعلم , لأن الواجب خصصه ابن الجزري بقوله رحمه الله تعالى :
و واجب ان جاء قبل همزة متصلا ان جمعا بكلمة
كجاء مثلا يفهم منه الذي لا توجد فيه هذه القيود , فهو من المد الجائز , و لم أر من نبه عليه , و في حرف الاستثناء المد الطبيعي الأصلي المتقدم ذكره , و ترك النطق به لالتقاء الساكنين المتجانسين . و لذلك يظهر في الوقف و المد في الجلالة للتعظيم كما تقدم . و هو مد طبيعي أصلي , و اذا عرض له السكون للوقف صار المد لازما , أي حمل على الازم . قال الشيخ زكرياء : " و في المد للسكون المذكور ثلاثة أوجه , الطول حملا له على اللازم بجامع اللفظ , و التوسط لعروض السكون المنحط عن لزومه , و القصر بجواز التقاء الساكنين في الوقف . فاستغني عن المد , فتعين في الكلمة المشرفة أربعة أقسام , المد اثنان من الأصلي الطبيعي , و اثنان من الفرعي السببي " . و هذا معنى قوله أقسام مد , و الله أعلم . ثم قال حرفه , أي وما من حروف المد فيها . الفصل التاسع : في الجواب على السؤال التاسع , اعلم أن حروف المد ثلاثة يجمعها قولك (واي) , و تسمى حروف المد و اللين , لامتداد الصوت بها و لينه , أي سهولته . و أصل هذه الحروف الألف , لأنها لا تكون الا ساكنة و لا يكون ما قبلها الا مفتوحا . و أما الواو و الياء فلا يكونان حرفي مد الا بشرطين : أن يكونا ساكنين و أن يكون ما قبلهما حركة من جنسيهما , لأنهما لو تحركتا فلا تكونان حرفي مد , و ان كان ما قبلهما حركة غير مجانسة لهما , كذلك قال ابو العباس , و لا يمكن أن يدخل المد في هذه الحروف . و انما كان ذلك , لأن هذه الحروف أصوات و الحركات مأخوذة منها , بامتداد الصوت بها يتمكن و يسوغ فيها التطويل و التوسط و القصر , و لا يسوغ ذلك في شيء من الحروف سواهن . قال , و لذلك جاز وقوع الساكن المدغم بعدهن من أجل أن المد عوض عن الحركة و امتنع اجتماع الساكنينن اذا كانا حرفي سلامة . يعني به , و مع حرف العلة لا يمتنع اجتماع الساكنين . قال سيبويه : " و هذه الحروف الثلاثة أخفى الحروف لاتساع مخرجها " . قال : " و أخفاهن و أوسعهن مخرجا الألف , ثم الياء , ثم الواو " . قال ابن الجزري :
فألف الجوف و أختاها و هي حروف مد للهواء تنتهي
يعني أن هذه الحروف ليس لها مخرج محقق , و لا حيز تنتهي اليه كغيرها من حروف الهجاء , بل مخرجها الجوف أي داخل الفم , و تنتهي بانتهاء هوائه , أي هواء الفم و هو الصوت . قال الامام شمس الدين البقري : " الجوف هو الخلاء الداخل في الفم لا حيز له محقق " . و تسمى هذه الثلاثة جوفية , لخروجها من الجوف و لأن النفس ما دام موجودا كانت موجودة , و اذا انقطع النفس انقطع المخرج . قال الشيخ زكرياء : " و تميز بتصعد الألف و تسفل الياء و اعتراض الواو بين التصعد و التسفل , و نسبت الى الجوف لأنه آخر انقطاع مخرجها , و سميت حروف المد و اللين لأنها تخرج بامتداد و لين من غير كلفة على اللسان لاتساع مخرجها . فان المخرج اذا اتسع , انتشر الصوت و امتد و لان . و اذا ضاق انضغط فيه الصوت أي انحبس و صلب . و كل حرف مساو لمخرجه الا هي و لذلك قبلت الزيادة " , انتهى . حروف المد هي التي لا يتصور وجود الحروف الا بها . فاذا لو قلت مثلا ب ت ث و لم تشبع الحروف , كانوا حركات , فاذا أشبعت الحركات الثلاثة التي على الحروف , و هي الفتحة مثلا , أوالكسرة أو الضمة , تولدت من حروف المد الثلاثة لأنها تنشأ عنها اذا أشبعت و الله أعلم . فتعين أن في الكلمة المشرفة من حروف المد الألف و هو أصلها و أوسعها مخرجا كما تقدم . و هذا معنى قوله أقسام مد حرفه , أي ما حرف المد الذي في لا اله الا الله , ثم قال ما حده , أي السؤال العاشر و ما حد المد فيها . الفصل العاشر : في جواب على حد المد في الكلمة المشرفة , أي مقداره . اعلم أن الأصل في المد ما أخرجه سعيد ابن منصور في سننه , قال : " حدثنا شهاب بن خراش , حدثني مسعود بن يزيد الكندي , قال : كان ابن مسعود يقرىء رجلا , فقرأ الرجل " انما الصدقات للفقراء و المساكين " , مرسلة , فقال ابن مسعود ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم . فقال كيف أقرأها يا عبد الرحمان . قال اقرأنيها " انما الصدقات للفقراء و المساكين " , فمدها . هذا حديث جليل في الباب أخرجه الطبراني في الكبير . و المد عبارة عن زيادة مط في حرف المد على المد الطبيعي , و هو الذي لا يقوم ذات حرف المد دونه , و القصر ترك الزيادة و ابقاء المد الطبيعي على حاله . و حروف المد الألف مطلقا و الواو و الياء بشرطين كما تقدم . و سببه لفظي و معنوي . فاللفظي اما همز أو سكون . فالمد يكون بعد حرف المد و قبله . فالثاني نحو آدم و آمن و اله , و الأول ان كان معه في كلمة واحدة فهو المتصل , نحو أولئك , يشاء الله , السوءى , كما تقدم . و ان كان حرف المد آخر كلمة و المد أول كلمة أخرى , فهو المنفصل , نحو يا أيها , قالوا آمنا و لا اله . و وجه المد لأجل الهمزة ان كان حرف المد خفي و الهمز صعب , فزيد في الخفي ليتمكن من النطق بالصعب و السكون , و ان تقدم , لكن زيادة بيان ينفع وجودها و لا يضر سقوطها . اما لازم وهو الذي لا يتغير في حاليه , نحو الضالين و دابة و أ لم , أو عارض و هو الذي يعرض للوقف و نحوه , نحو العباد و الحساب و نستعين و يوقنون . حالة الوقف , و فيه هدى , و قال لهم , و يقولون ربنا . حالة الادغام و وجه المد للسكون التمكن من الجمع بين الساكنين , فكأنه أي المد قام مقام حركة. و قد أجمع القراء على مد نوعي المتصل و ذي الساكن اللازم , و ان اختلفوا في مقداره و اختلفوا في مد النوعين الأخيرين , و هما المنفصل و ذو الساكن العارض , و في قصرهما . فأما المتصل فاتفق الجمهور على مده , قولا واحدا مشبعا من غير افحاش . و ذهب آخرون الى تفاضله كتفاضل المنفصل . فالطول لحمزة و ورش , و دونها لعاصم , و دونها لابن عامر و الكسائي , و خلف دونها لأبي عمرو و الباقين , و ذهب بعضهم الى تفاوته . و أما المنفصل , و يقال له مد الفصل , لأنه يفصل بين الكلمتين , و مد البسط و مد الاعتبار لاعتبار الكلمتين من كلمة , و مد حرف بحرف أي مد كلمة لكلمة , و المد الجائز من أجل الخلاف في مده و قصره . فقد اختلفت العبارات في مقدار مده اختلافا لا يمكن ظبطه . و الحاصل أن له سبع مراتب : الأولى , القصر و هو حذف المد العرضي و ابقاء ذات حرف المد على ما فيها من غير زيادة , و هي في المنفصل خاصة لأبي جعفر و ابن كثير , و لأبي عمرو عند الجمهور . الثانية , فويق القصر قليلا و قدرت بألفين و بعضهم بألف و نصف , و هي لأبي عمرو في المتصل و المنفصل عند صاحب التيسير . الثالثة , فويقها قليلا و هي التوسط عند الجميع , و قدرت بثلاث ألفات , و قيل بأفين و نصف و بألفين على أن ما قبلها بألف و نصف , و هي لابن عامر و الكساءي في الضربين عند صاحب التيسير . الرابعة , فويقها قليلا و قدرت بأربع ألفات , و قيل بثلاث و نصف , و قيل بثلاث على الخلاف فيما قبلها , و هي لعاصم في الضربين عند صاحب التيسير . الخامسة , فويقها قليلا و قدرت بخمس ألفات و أربع و نصف , و بأربع على الخلاف , و هي فيهما لحمزة و ورش عنده . السادسة فويق ذلك , و قدرها الهذلي بخمس ألفات على تقدير الخامسة بأربع , و ذكر أنها لحمزة . السابعة , الافراط , قدرها الهذلي بست و ذكرها لورش . قال ابن الجزري : " و هذا الاختلاف في تقدير المراتب بالألفات لا تحقيق وراءه , بل هو لفظي , لأن المرتبة الدنيا و هي القصر اذا زيد عليها أدنى زيادة , صارت ثانية , ثم كذلك حتى تنتهي الى القصوى , فعلم من هذا أن الكلمة المشرفة كيفما نطق بها , جاز ما لم يخرج عن المراتب السبعة المذكورة . و أما المد العارضي فيجوز فيه لكل من القراء كل من الأوجه الثلاثة , المد و القصر و التوسط , و هي أوجه تخيير . فعلم أن الاسم الأعظم كيفما نطق به جاز ما لم يخرج به عما ذكر , أو يوصله كما تقدم . و أما السبب المعنوي , فهو قصد المبالغة في النفي , و هو سبب قوي مقصود عند العرب و ان كان أضعف من االلفظ عند القراء . و منه مد التعظيم في نحو لا اله الا الله , و لا اله الا هو , و لا اله الا أنت . و قد ورد عن أصحاب القصر في المنفصل لهذا المعنى , و يسمى مد المبالغة لأنه طلب للمبالغة في نفي الاهية ما سوى الله تعالى " . قال و هذا مذهب معروف عند العرب , لأنها تمد عند الدعاء و عند الاستغاثة و عند المبالغة في نفي شيء , يمدون ما لا أصل له بهذه العلة . قال ابن الجزري : " وقد ورد عن حمزة مد المبالغة في النفي في لا التي للتبرئة , نحو لا ريب فيه , لا شية فيها , لا مرد له , لا جرم , و قدره في ذلك وسط لا يبلغ الاشباع , لضعف سببه , نص ابن المقضاع " .
و قد يجتمع السببان اللفظي و المعنوي في نحو لا اله الا الله , و لا اكراه في الدين , و لا اثم عليه , فيمد لحمزة مدا مشبعا على أصله في المد لأجل الهمزة , و يلغي المعنوي اعمالا للأقوى و الغاء للأضعف . قاعدة : اذا تغير سبب المد جاز المد مراعاة للأصل , و القصر نظرا للفظ , سواء كان السبب همزا أو سكونا , و سواء تغير الهمز بين بين أو بابدال أو بحذف . و المد أولى فيما بقي لتغيره اثر نحو " هاؤلاء ان كنتم " في قراءة قالون و البزي , و القصر فيما ذهب اليه , نحو " ها " في قراءة أبي عمرو . قاعدة أخرى : متى اجتمع سببان قوي و ضعيف , عمل بالقوي و ألغي الضعيف اجماعا , و يتخرج عليها فروع , منها الفرع السابق في اجتماع اللفظي و المعنوي , و منها نحو جاءوا أباهم , و رأى ايديهم , اذا قرىء لورش لا يجوز فيه القصر ولا التوسط بل الاشباع عملا بأقوى السببين و هو المد لأجل الهمز بعده , فان وقف على جاءوا , و رأى , جازت الأوجه الثلاثة بسبب تقدم الهمزة على حرف المد و ذهاب سببية الهمزة بعده , انتهى , من " الاتقان في علوم القرآن " . هذا معنى قوله ما حده و الله أعلم . فتعين في الكلمة المشرفة و في اسم الجلالة الذي هو آخرها , اذا استعملا في الذكر , يجوز فيهما الثلاثة الأوجه , و كذلك اله على ما تقدم . فمن علم ذلك فلا يعترض على ذاكرها بوجه , و الله الموفق للصواب و اليه المرجع و المئاب . قوله و هل يجوز تركه , أي ترك المد في لا اله الا الله . الفصل الحادي عشر : في الجواب على السائل هل يجوز ترك المد في الكلمة المشرفة أم لا . اعلم أنه تقدم في الكلمة المشرفة ثلاثة أمداد و الرابع لا يظهر الا عند الوقف عليه و هو الا للتقاء الساكنين المتماثلين على ما تقدم , و بقي الثلاثة أمداد . الأول منفصل , و هو مد لا التبرئة و الخلاف فيه على سبعة مراتب كما تقدم . الأول من المراتب , ترك المد و الابقاء على القصر و هو ترك المد الزائد على الطبيعي على ما تقدم . و الثاني , مد اله , و هو من المد المتصل و هو الذي سببه مد بشرط , كون السبب و حرف المد في كلمة واحدة , الا أنه أي الهمز تقدم على حرف المد فهو من الجائز على ما تقدم من الخلاف فيه . قال في " الاتقان في علوم القرآن " : " و قد أجمع القراء على مد نوعي المتصل و ان اختلفوا في مقداره " , الخ . نعم نوعا المتصل هو ما تقدم , السبب فيه نحو آدم و آمن و اله , وما تأخر نحو جاء و شاء و سيء . فاتفق الجمهور على المد فيهما مشبعا من غير افحاش , و ذهب آخرون الى تفاضله فيها كتفاضل المنفصل , و كل ذلك تقدم في الفصل قبل هذا . و الثالث مد الجلالة , و هو لا يسقط بحال لأنه مد طبيعي و يعرض له الطول و التوسط و القصر لأجل السكون العارض للوقف كما تقدم تفصيل ذلك كله , و سيأتي الكلامليه ان شاء الله تعالى , لأن بعض العرب نطقت به في أشعارها من غير مد أصلا . و هل ينعقد به الذكر أم لا , يأتي ان شاء الله تعالى . فتعين جواز ترك المد في الكلمات الثلاث في لا اله الا الله , فتلخص أن الكلمة المشرفة كيفما استعملت جاز , و من هذا قيل مهما قل العلم كثر الاعتراض و العكس بالعكس و الله أعلم . قال في الجوهر الخاص , أن للعلماء في كلمة لا اله الا الله ثلاثة أقوال , أحدها استحباب المد لقوله صلى الله عليه و سلم : " من قال لا اله الا الله مادا بها صوته دخل الجنة " , و قوله : " يغفر الله للمؤذن مادا صوته " . و الثاني , استحباب القصر خوفا من فجأة الموت في النفي . و الثالث و ان كافرا استحب له القصر لألا يموت قبل اتمامها , و ان كان مسلما استحب له المد كالمؤذن . قوله ما قصره , أي ما يجب قصره فيما لا يجوز مده . الفصل الثاني عشر : في الجواب على قول السائل و ما جب قصره فيما لا يجوز مده من لا اله الا الله , اعلم أن الذي يجب قصره مما لا يجوز مده فيها , الهاء من اله , لأنه اذا مد عليها صار مثنى , و الألف من الا أيضا للتقاء الساكنين و فقد سبب المد , قاله في الجوهر الخاص . قلت , و لا خصوصية لهذين الحرفين , فان كل حرف مقصور على معناه , اذا زيد عليه المد خرج عن معناه . فان الهمزة من اله اذا مد عليها خرجت عن معناها , فيجب القصر عليها , و كذلك الهمزة من الا فاذا مد عليها خرجت عن معناها . و كذلك الهمزة المبتدأ بها اسم الجلالة اذا مدت صارت استفهاما , الا الهاء منه في الوصل , فانها لا تخرج عن المعنى في الحركات الثلاث , بل وفي السكون . ففي النصب تشير الى الشهود في الاصطلاح عند أهل الاشارات بالهاء التنبيهية , و في الرفع الى الهوية المطلقة , و في الخفض الى الذات المشرفة , و في السكون الى الفناء عن الفناء و الله أعلم , و هذا معنى قوله ما قصره . قال عفى الله تعالى عنه :
( و هل يجوز ابدال الهمزة بيا تلاوة ذكرا كمد الا بيا )
اشتمل البيت على ثلاث سؤالات على لا اله الا الله . الأول , هل يجوز ابدال الهمزة ياء من لا اله , و من الا الله بعد فتح الهاء عند تلاوة القرآن أم لا . الثاني , هل يجوز ذلك في الذكر أم لا . الثالث , هل يجوز مد همزة الا الله المكسورة أم لا . و يجاب عليها أيضا في ثلاثة فصول مع الاثني عشر فصلا السابقة , فهي خمسة عشر فصلا . قوله و هل يجوز ابدال الهمزة بيا تلاوة . الفصل الثالث عشر , في الجواب على قوله و هل يجوز ابدال الهمزة ياء من لا اله و من الا الله في تلاوة القرآن أم لا . اعلم أنه يجوز ذلك عند جميع القراء لأنها تصيرالكلمة لا يلاه يلله , و هذا خلاف ما أنزل الله تعالى في كتابه و كلامه الفصيح . تنبيه : انما سأل السائل عن جواز ابدال الهمزة ياء في الكلمة المشرفة لأنهما , أي الهمزة و الياء من حروف الابدال . قال ابن مالك :
حروف الابدال هدأت موطيا فأبدل الهمزة من واو ويا
فلجواز ابدال الهمزة بالياء و العكس سأل , لكن لما لم تتوفر شروط الابدال في لا اله الا الله التي اشار اليها بقوله :
و افتح ورد الهمزيا فيما أعل لا ما و في مثل هراوة جعل
الخ , قلنا لا يجوز ذلك عند جميع القراء كما تقدم . قلت , و ذكر الامام تاج الدين ابن عطاء الله رحمه الله تعالى في مفتاح الفلاح في اشتقاق اسم الجلالة , أن اله أصله ولاه بالواو , فأبدلت همزة , كما قالوا في وشاح أشاح مثلث الفاء . و الوله هو المحبة الشديدة , و كان يجب أن يقال مألوه كما يقال معبود الا أنهم نقلوه كما قالوا في مكتوب كتاب و محسوب حساب , انتهى كلامه . فحينئذ لا مرية في جواز ابدال الواو ياء للقواعد المقررة في قواعد التصريف . فعلى هذا ما يسمع من أكثر العوام كأهل البدو , خصوصا الجبليين منهم , و أكثر النساء من الحاضرة و البادية . ابدال الهمزة ياء من اله و عدم حسن النطق بها لا ينكر عليه أشد نكير اذا لم يكن أهلا للتعليم , و لا يحكم له بعدم الانتفاع بها و الثواب عليها , بل يثاب عليها و يكفيه قدرته على النطق بها كيف ما كان , يؤيد هذا حديث الامة التي سألها صلى الله عليه و سلم عن الرسالة , أشارت اليه و سألها عن الألوهية أشارت الى السماء , فقال صلى الله عليه و سلم : " اعتقها فانها مؤمنة " . فاكتفى منها صلى الله عليه وسلم بما وسعها من غير زيادة عليه و الله أعلم . فان قلت ان من لا يحسن النطق بها فلا يحسن الوقوف على معناها غالبا , و ما ذكرتم من الثواب و الانتفاع منوط بالمعنى . و قد ذكر في المعيار الامام أبو العباس الونشريسي جواب فقهاء بجاية , سيدي أحمد ابن عيسى و سيدي عبد الرحمان الوغليسي فيمن ينطق بالشهادتين يصلي و يصوم , و قد نشأ بين أظهر المسلمين و لم يقف لهما على معنى , و انما رأى الناس يقولون فقال , و رآهم يفعلون ففعل , فقال , أي علماء بجاية المذكورين , مثل هذا لا يضرب له في التوحيد بسهم , و لا يفوز منه بنصيب و لا ينسب الى الايمان و لا الى الاسلام , بل هو من جملة الهالكين و زمرة الكافرين , و حكمه حكم المجوسي في جميع أحكامه الا في القتل , فانه لا يقتل الا اذا امتنع من التعليم . هذا ملخصه باختصار و تمامه في الكتاب المذكور . قلت نعم و لابد من معرفة التوحيد فقط من الكلمة الكريمة مع التفرقة بين الرسالة و الألوهية , كما في حديث الأمة المذكورة سابقا و لو بالتقليد و الا فلا . و لا يشترط في حق هذا معرفة اندراج العقائد فيها و غيره , لأن معرفة ذلك فرعية و الله أعلم . و قد علمت الخلاف في ايمان المقلد , و لكن الذي عليه المعول صحيح معتبر كما هو معلوم في كتب الكلام . قال في بدا الأمالي :
و ايمان المقلد ذو اعتبار بأنواع الدلائل كالنصال
-
انتهى و الله أعلم . قوله ذاكرا , أي و هل يجوز ابدال الهمزة ياء من لا اله الا الله في الذكر أم لا . الفصل الرابع عشر , في الجواب على سؤال السائل هل يجوز ابدال الهمزة ياء من الكلمة الكريمة في الذكر أم لا . اعلم أنه تقدم لا يجوز ذلك في التلاوة و كذلك في الذكر لا يجوز , و لا فرق بين الذكر و التلاوة الا أن الذكر له حالتان , حالة اختيارية و حالة اصطلاحية . فالأولى لا يجوز له ذلك , و الثانية مسامح فيها بل بجميع ما يسمع منه ذكر صحيح مثاب عليه , بل سر من الأسرار , و قد تقدم طرف من ذلك في الأدابات . قال في السر المصون في قوله صلى الله عليه و سلم " اذكروا حتى يقولوا مجنون " , في الفائدة السابعة و الستين أن أنواع الواردات تختلف باختلاف الذكر و صدق الذاكرين , حتى أن منهم من يجن و منهم من يئن و منهم من يصيح و منهم من يصوت بلسان فصيح , و كل ذلك صحيح من قلب جريح . و منهم من يخرق و منهم من يمزق الخ . و قال في الحادية و السبعين أن الانسان اذا تعشق تحقق , و كلما زاد الفضل عليه دقق , لأن الفضل اذا كثرت مواهبه استطال فرفع نوره الحجاب و الحجال لسر سرى في التابع من المتبوع المختار صلوات الله عليه و سلامه في هذه الدار و في تلك الدار , لأنهم تحققوا بكنائن كنين الاحسان , حسنت ألسنتهم بالذكر و القرآن , فرقت مراقهم لجمال الحضرة الالهية و تشوفت أسرارهم و أرواحهم و نفوسهم الدائرة المحمدية , فزجوا في هول لجار العظمة , فتلاطمت عليهم لججها فصاحوا فتغربوا عن الجنس , فلما ظفروا بالمحبوب باحوا فلربما ناحوا فاستراحوا , و لهم في الحضرة زفير و شهيق بقدر ما أولي كل واحد من التصديق . فمن باك لا راحة له الا به و من مصفق لا يسكن جأشه الا له , و من راد للشيطان في تدبيره قائلا لا , لا , و من محسن ما أطلع عليه من الجمال يقول دهشا من حسن ما رأى آه آه , و من فان عن شهود الكل يقول متأسفا عن شهوده الأول آواه آواه لما فاته من ضياع الشهود في حضرة المعبود , و من ذاكر شكر النعم المسدلة يقول يا حبيبي يا محبوبي , و من عاجز عن الوصول يقول أف أف تف تف , يعني رداءة نفسه و خستها , و من قائل يا ويلتاه على ما فرطت في جنب الله , و هي كلها أنوار و أسرار , و قد يجتمع جميع ذلك للصادق في مجلس واحد , و يعمر قلبه في تلك الساعة بما لا يعمره بالمجاهدة في ثلاثين سنة . و حكم الذاكر مع الوارد أن يسلم نفسه لوارده ثم لا يأمن مكر الله تعالى طرفة عين . و الوارد حاكم و لا يحكم على وارداته الا من تغلغل في المعرفة فغرقت وارداته فيها و قليل ما هم كالجنيد الذي يتمثل بقوله تعالى " و ترى الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب " , يشير الى نفسه حيث قيل له لم لا تهتز كما يهتز غيرك , فقال " و ترى الجبال تحسبها جامدة " . و من مستريح يقول آح آح , و هو و ان كان قد قيل أن آح اسم الشيطان , لكن القوم عند هجوم الواردات لا يستقيم للشيطان حال لأن الحضرة لا يتطفل عليها من ليس منها , و لا نصيب للمحجوب منها فيها من البشر , فأحرى الشيطان , لأن لها حفظة ملائكة غلاظا شدادا يذودون عن الذاكرين أهل الحضرة الالهية جميع الشياطين , حتى أن القرين يكون حينئذ مهينا , ضربت عليهم الذلة و المسكنة لأن سلطان القهر تولى الحضرة فلا يدخل فيها غير أهلها , و الوارد من حضرة قهار , فهو حق و شانيه باطل و الباطل زهوق . قال تعالى : " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق " , و قال تعالى : " ان الباطل كان زهوقا " . فالحضرة هي الجنة حقا , لأنه لا صخب فيها و لا نصب , و لا معوق فيها و لا تعب . ألم تسمع قوله تعالى " و لمن خاف مقام ربه جنتان " , فهي هي الجنة الأولى التي للذاكرين أولي الحضرة الربانية . شيء لله يا أولياء الله عند طيبكم هذا , لا تنسوا محبكم الغريب و قد كسوتموه حلة التصويب و لا ملاذ له الا بالسيد الحبيب , الخ كلامه الى أن قال , الحذر الحذر عباد الله من اذاية أهل الله و ما ذكرناه حق الخ , انتهى كلامه و الله أعلم , و هو عجيب . فتعين منه أن الذاكر ينبغي أن لا يعترض عليه كيف ما كان لاتفاقهم من أعطي الذكر فقد أعطي منشور الولاية , و اذا ثبتت ولايته يخاف من الاعتراض عليه ولو بالقلب , لقوله عليه السلام : " من آذى وليا فقد حارب الله تعالى " , أو كما قال , و الله أعلم . فعلى هذا ان ابدال الهمزة ياء لا يجوز لا في التلاوة و لا في الذكر في الكلمة المشرفة حالة الاختيار , اللهم الا اذا اعترى الذاكر وارد اصطلام , فلا يضره ما ينطق به و يسمع منه , سواء أبدل الهمزة ياء أو غير ذلك لما تقدم و الله أعلم . قوله كمد الا بيا , أي و هل يجوز مد همزة الا الله المكسورة أم لا . الفصل الخامس عشر , في الجواب على قول السائل و هل يجوز مد همزة الا الله المكسورة أو لا . اعلم أنه لا يجوز ذلك اختيارا كما تقدم في الفصل قبله , لاختلال المعنى , فاذا مدت الهمزة تصير اي لا الله , فان اي حرف جواب مثل نعم , فتخرج الكلمة الكريمة على المعنى المقصود بها و هو الاستثناء الى معنى الجواب , و هذا خلاف ما أنزل الله تعالى , انتهى , من الجوهر الخاص بالمعنى و الله أعلم . قلت و انما يشترط هذا في الذكر باللسان و أما ذكر القلب فلا يشترط فيه جميع ما ذكر . و قال شيخ شيوخنا سيدي مصطفى البكري في ألفيته , رحمه الله و نفعنا به : " اعلم أن كلمة الاخلاص تذكر بالقلب مع الاخلاص " . قال الامام العارف بالله الشهير بالشطيبي في كتاب مفتاح الجنة المتوقف على الكتاب و السنة : " ذكر الله تعالى باللسان من غير تقصير و لا غفلة و لا توان " , الى أن قال : " فان دمت في هذه الرتبة على الذكر , انتقل ذكرك من اللسان الى القلب و سلب اللسان النطق فلا يتكلم البتة و لا يذكر شيئا بلسان المقال , و انما يصير الذكر يجري في قلبك و يمازج لحمك و دمك كامتزاج الماء بالنبات , و اذا صار الذكر قلبا يظن الذاكر أنه قريب من الحق عندما يرقى لمقام الهيبة , و يصير يسمع الأصوات في سره و جهره بالعبارات المختلفة , كلها ذاكرة معه , و ربما سمع ذلك بأصوات غير مفهومة و لا معهودة , و تراه لا يفرق بين ذكر نفسه و ذكر الأكوان . فليصبر في هذا المقام على ملازمة ذلك بتحفظه عن القواطع و الشواغل , انتهى باختصار و الله الموفق للصواب . قال عفى الله تعالى عنه :
(و هل فيهما تسكين الهاء من اله و هل تأويل خبر في ذكر الله )
اشتمل البيت على ثلاث سؤالات عن لا اله الا الله و عن ذكر اسم الله الأعظم . السؤال الأول هل يجوز تسكين الهاء من اله في حال التلاوة أم لا . السؤال الثاني , و هل يجوز ذلك في حال الذكر أم لا . السؤال الثالث , و هل قول الذاكر الله الله يحتاج الى تأويل خبر أم لا . و الجواب على ذلك في ثلاثة فصول , فهي مع الخمسة عشر , ثمانية عشر فصلا جوابا لثمانية عشر سؤالا . قوله و هل فيهما , أي في التلاوة و في الذكر , فالظمير عائد عليهما , تسكين الهاء من اله في التلاوة أولا . الفصل السادس عشر , في الجواب على قوله و هل يجوز تسكين الهاء من اله في لا اله الا الله في التلاوة , أو لا بد من تحريكها و ما هو الحذر منه في تسكينها . اعلم أنه قد تقدم أنها مبنية على حركة الفتح أو معربة على مذهب الزجاج , و حذف التنوين تخفيفا كما تقدم , و لا وجه للسكون حينئذ الا اذا كان للوقف و الوقف قبيح منهي عنه في مثل هذا , و ان كان جائزا لسبب عي أو انحصار نفس . قال ابن الجزري رحمه الله تعالى :
و ليس في القرآن من وقف وجب و لا حرام غير ما له سبب
يعني أنه لا يوجد في القرآن وقف واجب يأثم القارء بتركه . و لا وقف حرام يأثم بالوقف عليه , لأن الوصل و الوقف لا يدلان على معنى يختل بذهابهما الا أن يكون لذلك سبب يستدعي تحريمه , كأن تقصد الوقف على أني كفرت و لا اله و نحو ذلك من غير ضرورة , اذ لا يفعل ذلك مسلم . فان لم يقصد لم يحرم . فالأحسن أن يجتنب التالي الوقف على مثل ذلك للايهام , فتعين منه أنه يجوز تسكين الهاء من اله للسبب المذكور و هو العي أو انحصار نفس , و يكره لغيره و يحرم للقصد المذكور و الله أعلم , انتهى قوله . و هل فيهما تسكين الهاء من اله و قد تقدم أن الضمير من فيهما عائد على التلاوة و الذكر المذكورين في البيت قبله , و قد تقدم الجواب على التلاوة في الفصل قبله و أراد الآن أن يسأل هل يجوز ذلك في الذكر لأن باب الذكر أوسع من التلاوة أم لا , فقال السائا و هل يجوز ذلك في الذكر أم لا . الفصل السابع عشر , في الجواب على قوله هل يجوز تسكين الهاء من اله في الذكر أم لا , اعلم أنه لا يجوز ذلك اختيارا لأن الكلمة بنيت على حركة الفتح , و السكون لا يكون الا عن كلام تام فلا يجوز تسكينها اختيارا من التالي و الذاكر بغير سبب , كسكتة نفس أو اعياء و نحو ذلك كما تقدم , لأنه اذا تعمد الوقف عليها بالسكون فكأنه أتم الكلام فيلزم عليه نفي جميع الآلهة , و هو تعطيل , و نعوذ بالله من اعتقاده , فليحذر الذاكر من ذلك والله أعلم , كذا في الجوهر الخاص . قلت , و قد تقدم , أن للذكر حالتين , حالة اختيارية و خالة غير اختيارية , و في حالة غير الاختيار كل ما نطق به ذكر و لا يلزمه شيء مما ذكر , سواء سكن أو حرك , و تقدم ذلك كله . تنبيه : الفرق بين التلاوة و الذكر . فالتلاوة المقصود منها تصحيح الألفاظ و الحروف للمعنى , و الذكر المقصود منه تصحيح المعنى و احتضارها باللفظ . فالمقصود بالأول التعبد بالألفاظ و الحروف , و ان جمع ذلك بالمعنى تضاعف الأجر كما هو معلوم في محله , لما ثبت أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم لا يعلمون كثيرا من معنى القرآن العظيم , و كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : " علمت معنى كتاب الله من أوله الى آخره الا أربع آيات " . و لما يال أبو بكر عن الأب في قوله تعالى " و فاكهة و أبا " , قيل له " فاكهة عرفناه و أما الأب ... " , فقال : " ما كلفنا لمثل هذا " , أو كلاما يقرب منه , رضي الله عنه , و غير ذلك . قال السبكي رحمه الله تعالى في حد الكتاب , هو القرآن الخ , المتعبد بتلاوته ليدخل المنسوخ . و ثبت عن الامام أحمد بن حمبل رضي الله عنه , أنه رأى رب العزة كما يليق بجلاله في المنام فقال : " يا رب بما يتقرب اليك المتقربون " . فقال تعالى : " يا أحمد بكلامي " . فقال : " يا رب بفهم أو بغير فهم " . فقال تعالى : " يا أحمد بفهم أو بغير فهم " , أو كما قال . و أما المقصود من الثاني الذي هو الذكر , التعبد بالمعنى و احتضارها باللفظ , فان حقيقة الذكر هو التخلص من الغفلة و النسيان بدوام حضور القلب مع الله تعالى , و قيل تردد اسم المذكور بالقلب , و سواء في ذلك ذكر الله تعالى أو صفة من صفاته أو حكما من أحكامه أو فعلا من أفعاله , الى أن قال , أو شعرا أو غناء أو محاضرة الخ . فكله مع الحضور ذكر و قد تقدم طرف منه و الله أعلم , كذا في مفتاح الفلاح . فتعين من هذا أن المقصود بالذات في الذكر المعنى , فلا يضر تغير اللفظ مع صحتها بخلاف التلاوة و الله تعالى أعلم , انتهى باختصار . قوله و هل تأويل خبر في ذكر الله , أي السؤال الثامن عشر و هو قول الذاكر الله الله يحتاج الى تأويل خبر أم لا . الفصل الثامن عشر , في الجواب على قوله هل يحتاج ذاكر اسم الجلالة الله الله الى تأويل خبر أم لا . اعلم أنه قال في الجوهر الخاص , أما من حيث الأكمل فيحتاج الى تأويل خبر ليتم المعنى لا من حيث أنه يسمى ذكرا , فانه يسمى ذكرا بدون ذلك لأن صيغ الذكر و ضعت للتعبد بها و لو من غير تأويل خبر . لطيفة : قال الجويري قدس سره , كأن رجلا من أصحابنا يكثر ذكر الله الله , فوقع على رأسه جذع فشجه فكتب دمه على الأرض الله الله , انتهى و الله أعلم . قلت و هكذا كان يقول شيخنا الأزهري نفعنا الله به , آمين . و لا بد من تقدير خبر في الأسماء السبعة كما ذلك في لا اله الا الله بلا معبود أو لا مطلوب أو لا موجود الا الله على ما تقدم قريبا , كذلك في الأسماء الستة بعدها التي هي الله , هو , حق , حي , قيوم , قهار . فيقدر عند ذكر كل اسم من هذه خبر يناسب الذاكر و المذكور , و سيأتي بيان ذلك بعد ان شاء الله تعالى . و هذه الأسماء خاصة بالطريقة الخلوتية . فان الطرق غير الخلوتية مدارها على ثلاثة أسماء فقط و هي لا اله الا الله , الله , هو . و زاد أهل الطريقة الخلوتية أربعة أسماء عليها كما ذكرت أولا , و فائدتها و حكمتها خرق الحجب السبعين أو السبعين ألفا على الروايتين التي أشار اليهما بقوله صلى الله عليه و سلم " أن لله سبعين " , و في رواية " سبعين لف حجاب من نور و ظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه " . المراد من الحجب التي هي الظلمة , الذنوب و الخطايا , و المراد من الحجب التي هي النور التفاتات السالك للذات الأخروية الجنانية و الى الكرامات و التجليات و الوصال و غير ذلك من المقامات والأحوال , فكل ذلك حجاب , و من في قلبه شيء غير الله تعالى فهو به محجوب و لو كان حجابا نورانيا , فالحجب الظلمانية هي الذنوب كما تقدم , الحجب النورانية هي التفاتات القلب الى غيره تعلى , اللهم الا ان كان ذلك الغير طريقا اليه كالنبي صلى الله عليه وسلم . تنبيه : ان هذه الحجب منقسمة على سبعة نفوس باعتبار ترقيتها بعد كمال تنزلها و هي نفس واحدة , فغاية تنزلها الى مقام ظلمة الاغيار تسمى أمارة بالسوء , فاذا ترقت منه الى مقام الأنوار تسمى لوامة و هي أيضا محجوبة الأنوارعن الاسرار كما كانت في المقام الأول محجوبة بظلمات الأغيار عن الأنوار , فاذا ترقت منه الى المقام الثالث الذي هو مقام الأسرار , تسمى النفس فيه بالملهمة , فاذا ترقت منه الى المقام الرابع الذي هو مقام الكمال تسمى فيه بالمطمئنة , و هي أيضا محجوبة بالكمال عن الوصال . فاذا ترقت منه الى المقام الخامس الذي هو مقام الوصال تسمى فيه بالراضية , و هي أيضا محجوبة بالوصال عن التجليات , فاذا ترقت منه الى المقام السادس الذي هو مقام تجليات الأفعال , تسمى فيه بالمرضية و هي أيضا محجوبة بتجليات الافعال عن تجليات الأسماء و الصفات . فاذا ترقت الى المقام السابع الذي هو مقام تجليات الاسماء و الصفات , تسمى فيه النفس بالكاملة و هي أيضا محجوبة بالأسماء و الصفات عن الذات , و هنا انقطع السلوك و لم تنقطع التجليات , و كل حجاب اكتنف ما بعده , و هكذا الى آخر الحجب . فائدة : لا يفتق هذه الحجب السبعين أو السبعين ألفا الا الاسماء السبعة المذكورة . فكل عشرة آلاف حجاب يخرقها اسم من الاسماء السبعة . فحجب ظلمات الاغيار لا يخرقها الا " لا اله الا الله " , و حجب الانوار لا يخرقها الا اسم الجلالة و هو " الله " , و كذلك حجب الأسرار يخرقها " هو " , و كذلك حجب الكمال يخرقها " حق " , , و حجب الوصال يخرقها " حي " , و تجليات الأفعال " قيوم " , و تجليات الصفات و الأسماء " قهار " , و لهذه الفائدة العظيمة , زادت الطريقة الخلوتية بأربعة أسماء على جميع الطرق , و لو لا يعد ضيق المحل عن المناسبة لاستوفيت الكلام على ذلك , و لكن فاذا دعت المناسبة اليه أذكر طرفا منه ان شاء الله تعالى في غير هذا , انتهى و الله أعلم . قال عفا الله تعالى عنه
( و هل من غير نية عنه يثاب و ما هو التأويل يا أولي الألباب )
اشتمل البيت على سؤالين عن اسم الجلالة , و هو الله تعالى . السؤال الأول , هل يكون الله الله ذكرا يثاب عليه بغير نية و تأويل أم لا . السؤال الثاني , و ما هو التأويل ان جاز ذلك . فكان هذا البيت تمام العشرين سؤالا من الخمسة و الأربعين المتقدم ذكرها . قوله و هل من غير نية عليه يثاب . الفصل التاسع عشر , في الجواب على قوله هل يكون الله الله ذكرا يثاب عليه بغير نية و تأويل الخ , اعلم أنه ذكر ابن حجر العسقلاني في شرحه على البخاري في الكلام على حديث الأعمال بالنيات عن عبد السلام عن الامام الشافعي رحمهم الله تعالى , أن النية انما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها , و أما ما يتميز بنفسه فانه ينصرف بصورته الى غير ما وضع له , كالأذكار و الأدعية و التلاوة لأنها لا تتردد بين العادة والعبادة , و لا يخفى أن ذلك انما هو بالنظر الى أصل الوضع , أما ما يحدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا . و مع ذلك فلو قصد القرب الى الله تعالى لكان أكثر ثوابا و من ثم قال الامام رحمه الله تعالى , فحركة اللسان بالدكر مع الغفلة عنه يحصل به الثواب لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة بل هو خير من السكوت المجرد عن التفكر , و انما هو غير نافع بالنسبة لعمل القلب . و سأل بعض المريدين , فقال انا نذكر الله تعالى بألسنتنا و لا نجد في قلوبنا حلاوة , فقيل له احمد الله تعالى على أذ زين جارحة من جوارحكم بطاعته . ففيه أنه أمره بالحمد على دوام الذكر و لو مع العفلة في القلب , و ليس معها نية و لا تأويل . و قال ابن عربي قدس سره : " ما قصدوا بذكرهم الله الله أو هو هو الا من حيث علموا أن المسمى بهذا الاسم و بهذا الضمير من لا تقيده الأكوان و من له الوجود العام التام . و باحضار المعنى في نفس الذاكر عند ذكر الاسم تحصل الفائدة , فانه ذكر عري عن تأويل . فان من تقيد بشيء لم يفتح عليه الا بما تقيد به فقط , لأن هذا مطلبه من الله تعالى فقط . و قال بعض الصوفية ذكر لا اله الا الله على كل حال بقصد القرب يحصل بها الثواب , فيكون ذكر الله الله كذلك . ثم فال : " لكن الأكمل الذي ترد به على القلوب المواهب اللدنية , أن يعظم الذاكر ما عظم الله تعالى و أن يحسن أدبه مع ما شرف الله تعالى " . ففي ذلك اشارة الى ن الأكمل في الذكر يتوقف على التأويل و الله أعلم . تنبيه : قال الحراني في رسالته : " لا يجوز للذاكر في مذهب أهل الذكر و الخلوة أن يتفكر في معنى آية أو حديث أو غيرهما الا اذا ورد عليه معنى من المعاني في أثناء الذكر من التنبيهات الالهية و الواردات الخفية من التأنس بالأفكار البشرية , فيفهم و يشتغل بالذكر بل و يرجع الى اكر , انتهى , من الجوهر الخاص . قلت , فتعين أن ذكر الجلالة لا يفتقر الى نية و لا الى تأويل و هو من الأشياء الموضوعة للعبادة دون العادة , و لكن النية و التأويل من شرط الكمال و زيادة الثواب لعموم ورود السنة بحديث " انما الأعمال بالنيات " , الخ , و منها أشياء لا تفتقر اليها . قال ابن نجيم في الأشباه و النظائر , رحمه الله تعالى , بعد كلام : " ثم التقرب الى الله تعالى يكون بالفرض و النفل و الواجب , فشرعت النية لتميزها عن بعضها , فتفرع على ذلك أن ما لا يكون عادة و لا يلتبس بغيره لا تشترط فيه كالايمان بالله تعالى و المعرفة و الخوف و الرجاء و النية و قراءة القرآن و الأذكار , لأنها متميزة لا تلتبس بغيرها " . و قال ابن وهبان : " ان ما لا يكون الا عبادة لا يحتاج الى النية " . و ذكر أيضا أن النية لا تحتاج الى نية . و نقل العيني في شرح البخاري الاجماع على أن التلاوة و الأذكار و الأذان لا تحتاج الى نية , انتهى و الله أعلم . قاعدة : قال الطيبي : " قال بعض أهل الحقيقة , العل سعي الاركان الى الله تعالى , و النية سعي القلب اليه تعالى , و القلب ملك و الأركان جنوده و يحارب الملك الا بالجنود و لا الجنود الا بالملك . و قال بعضهم : " النية جمع الهمة ليقيد العمل للمعمول له و أن لا يسبح في السر ذكر غيره " . و قال بعضهم : " نية العوام في طلب الأغراض مع نسيان الفضل , و نية الجهال التحصن عن سر القضاء و نزول البلاء , و نية أهل النفاق التزين عند الله و عند الناس , و نية العلماء اقامة الطاعة لحرمة ناصبها لا لحرمتها , و نية أهل التصوف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من الطاعات " . تتمة : قال في الاحياء : " النية انما مبدؤها من الايمان , فالمؤمنون يبدؤهم من ايمانهم ذكر الطاعة فتنهض قلوبهم الى الله تعالى من مسقر النفس , فان قلوبهم مع نفوسهم , و ذلك النهوض هو النية . و أهل اليقين جاوزوا هذه المنزلة و صارت قلوبهم مع الله تعالى مزايلة لنفوسهم بالكلية , ففرغوا من النية اذ هي النهوض , فنهوض القلب من معدن الشهوات و العادات الى الله تعالى بأن يعمل طاعة هو نيته و الذي صار قلبه في الحضرة الأحدية مستغرقا , محال أن يقال نهض الى الله تعالى في كذا , بل هو ناهض بجملته مستغرق في جزيل عظمته , قد رفض ذلك الموطن الذي كان موطنه و ارتحل الى الله تعالى . فالمخاطب بالنية الذين يحتاجون أن يخلصوا ارادتهم من أهوائهم و يميزوا عبادتهم من عاداتهم " . خاتمة : في حقيقة النية , فهي في اللغة كما في القاموس , نوى الشيء ينويه نية , و يخفف قصده . و في الشرع كما في التلويح قصد الطاعة و التقرب الى الله تعالى في ايجاد الفعل . و لا يرد عليه النية في التروك , لأنه لا يتقرب بها الا اذا صار المتروك كفا و هو فعل المكلف به في النهي لا الترك , بمهنى العدم لأنه ليس داخلا تحت القدرة للعبد كما في التحرير , و عرفها القاضي البيضاوي بأنها شرعا الارادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء لوجه الله تعالى و امتثالا لحكمه . و لغة انبعاث القلب نحو ما يراه موفقا لغرض من جلب نفع أو دفع ض ر حالا أو مئالا , انتهى و الله أعلم . قوله , و ما هو التأويل يا ألي الألباب , أي بينوا لنا ان جاز التأويل , أي تقدير خبر في قول الذاكر الله الله , ما يكون ذلك التأويل . الفصل العشرون , في الجواب على قول السائل ما هو التأويل في ذكر الله الله ان كان و لا بد منه , اعلم أنه قال الامام المحقق زين الدين محمد سبط المرصفي في كتابه الجوهر الخاص , أن التأويل يكون بحسب اللائق به تعالى , نحو الله حق أو الله مطلوب أو موجود أو الله مقصود . و فال الصوفية كالغزالي و غيره فيه تفصيل . فان كان القائل الله من أهل العموم فايعين بها المعبود بحق أو الغني عن كل ما سواه المفتقر اليه كل ما عداه على الخلاف في لا اله الا الله , و ان كان من أهل السلوك فليعين بها المطلوب مثلا أو المعبود أو المشهود أو الموجود كما تقدم ذلك في لا اله الا الله . قلت , و قد كنت أقدر الخبر حين الذكر باسم الجلالة كما ذكر و تارة المحبوب , فأخبرت الأستاذ رحمه الله تالى و نفعنا به آمين , فنهاني و قال لا تزد عن قولك دائم الوجود , يعني اذا قلت بلسانك " الله " , تقول بقلبك دائم الوجود و هكذا , و هددني بقوله و الا أنت أخبر , رحمه الله تعالى و نفعنا به , و قد وجدت و الحمد لله بعض هذا التأويل و السر كله في اتباع أمر المشايخ نفعنا الله تعالى بهم . و من هذا كان يجب على كل من دخل تحت نظر شيخ و أخ نصيح خمية أمور : اتباع أمره و ان ظهر خلافه . الثاني : اجتناب نهيه و ان كان فيه حتفه . الثالث : حفظ حرمته غائبا أو حاضرا حيا أو ميتا . الرابع : القيام بحقوقه حسب الامكان بلا تقصير . الخامس : عزل عقله و علمه و رآسته الى ما يوافق ذلك من شيخه . قاله الشيخ زروق نفعنا الله تعالى به في الوصية . و قال قبله أصول المعاملة خمسة : طلب العلم للقيام بالأمر و صحبة المشائخ و الاخوان للتبصر , و ترك الرخص و التأويلات للتحفظ و ضبط الأوقات بالأوراد للحضور , و اتهام النفس في كل شيء للخروج من الهوى و السلامة من العطب و الغلط الخ . قلت المعاملة هي القيام بحقوق الربوبية بالعبودية . و لأهل الطرق معاملات و لكن صولها هذه , فمن بنى على غير أساس فلا يتم له بناء , و من أحكم الأصل انتفع بالفرع , و من لا فلا . و لهذه الأصول آفات مذكورة في الاصل فلا نطيل بها و الله أعلم . و قوله يا الي الألباب تتميم للنظم معناه يا اصحاب العقول , المراد به العلماء المخاطبون بالسؤال القادرون على الجواب . لأن الألباب جمع لب بالضم و الخالص من كا شيء , و من النخل و و الجوز و اللوز و نحوها قلبها , و العقل . و يجمع على ألباب و ألب وألبب ألخ . كذا في القاموس و لما كان الباعث لألي الألباب من أهل الايمان على تقويهم لله تعالى شهود الجلال و الجمال على سبيل الهيبة و الحياء منه تعالى بحفظ القلب من الهفوات و الخطرات , خاطبهم بقوله تعالى " فاتقوا الله يا ألي الألباب " , بخلاف أهل مقام الاسلام , فهم مخاطبون بقوله تعالى " قاتقوا الله ما استطعتم " , لأن لهم أعمال الجوارح , فتقويهم حفظ الجوارح من المخالفات اتقاء سخط باريء المخلوقات فالواجب عليهم حفظ الجوارح كما الواجب على ألي الألباب حفظ القلوب , لأنهم أرباب قلوب و قد عرفت تقويهم و الله أعلم . قال عفا الله عنه آمين :
-
( و ما هو الأفضل للذاكر من هيللة أو مفرد له زكن )
اشتمل البيت على سؤال واحد وهو , ما الافضل للذاكر الاكثار من لا اله الا الله , أو من الله الله , و الهيللة مصدر مركب كالبسملة و الحسبلة و الحوقلة . قال الجوهري هلل الرجل أي قال لا اله الا الله , و يقال قد أكثرت من الهيللة , أي من قول لا اله الا الله , انتهى كلامه . و قوله أو مفرد , المفرد هو اسم الله تعالى الفرد , و هو الاسم الأعظم الذي اذا دعي به أجاب , و اذا سئل به أعطى . و قال صلى الله ليه وسلم : " سبق المفردون " , قالوا و ما المفردون يا رسول الله , قال : " الذاكرون الله تعالى كثيرا " . هذه رواية مسلم , و رواية الترمذي : " م المستهترون بذكر الله تعالى " . و قيل الموحدون الذين لا يذكرون الا الله تعالى , انتهى من مفتاح الفلاح باختصار . و معنى زكن علم . الفصل الحادي و العشرون , في الجواب على قوله و ما هو الأفضل للذاكر الاكثار من لا اله الا الله أو من الله الله . اعلم أنه اختار امام الطائفة أبو القاسم الجنيد و جماعة رحمهم الله تعالى , للمبتدء الاكثار من لا اله الا الله , و المتوسط الله الله , و هو ذكر ينفي الحظوظ و يبقي الحقوق , و يسرع ذهاب الأغيار بالأنوار . و اختار للمنتهي هو هو , و صنف في ذلك كتاب التجريد . و اختار الامام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب الميزان الاكثار من ذكر الله الله , و ذكر أنه تلقن عن بعض مشائخه الله الله , و قال نها متضمنة لكلمة الشهادة و كان بو الحسن الشاذلي قدس سره يقدمها في التلقين على لا اله الا الله , و قال في رسالة القصد , يقول المريد الله الله , و كما تلقنها لقنها و عمل بها و اختارها هو و جمع من الصوفية لا يحصون و قالوا هي معظم أركانهم من الذكر في التوجه لسلامة قلوبهم مما ينفي , حتى قالوا هي أنفع للمريد و أجمع لخاطره و أصفى بشهوده لناظره , لأنها اثبات محض و مدلولها الذات المقدسة التي الألوهية صفة من صفاتها . قال بو العباس المرسي لبعض أصحابه : " ليكن ذكرك الله , فان هذا الاسم سلطان الأسماء و له بساط و ثمرة , فبساطه العلم و ثمرته النور , ليس مقصودا لنفسه و انما يقع به الكشف و العيان و الله أعلم . فينبغي له الاكثار من ذكرها و ختيارها على غيرها لتضمنها جميع ما في لا اله الا الله من العقائد و العلم و الأدب و الحقوق و ما يفي بها و غير ذلك , فانه يأتي في الله و في هو ما لا يأتي في غيرهما من الأذكار اذا أمعنت النظر و دققت فيهما . و اختيار الأستاذ أبي الحسن رجحه طائفة , و ان كان ابن تيميه من علماء الحنابلة غلطهم في ذلك , فقال : " هذا من الغلط الذي دخل بسببه فساد كبير على السالكين حتى آل بعضهم الى الحلول و الاتحاد " . قلت , و ليس في عقائدهم شيء من الحلول و الاتحاد المنكر , و انما يريدون بالاتحاد الفناء الذي هو محو النفس و اثبات الأمر كله له تعالى و ترك الارادة و الاختيار معه و الجواز على مواقع أقداره من غير اعتراض و ترك نسبة شيء الى غيره . و فوق هذا الفناء فناء آخر و هو أن السالك اذا انتهى سلوكه الى الله وفي الله , يستغرق في بحر التوحيد و العرفان , بحيث يضمحل العبد فيغيب عن كل ما سواه و لا يرى في الوجود الا الله , و هذا يسمونه الفناء في التوحيد , و حينئذ فربما يصدر عنه عبارات تشعر بالحلول أو الاتحاد لقصور العبارة عن بيان تلك الحالة و بعد الكشف عنها بالمثال . و فوق هذا درجات ثلاث في الفناء , و هو لخواص الأولياء و أئمة المقربين , و هو الفناء عن ارادة السوى سالكا سبيل الجمع على ما يحبه و يرضاه , فيأتي بمراد محبوبه منه عن مراده هو من محبوبه , أعني المراد الديني الأمدي , لا المراد الكوني القدري . قلت , معناه و الله أعلم هو البقاء الذي يعقب الفناء , و هو ان يفنى عن ما له و يبقى بما لله تعالى , فتكون حركاته في موافقة الحق دون مخالفته , فكان فانيا عن المخالفات , باقيا في الموافقات , فصار المراد واحدا . فمن ثم علم أن الصوفية يطلقون الاتحاد في اصطلاحهم و يريدون به معنى ما تقرر , و لا مانع من الاصطلاح و لا مشاحة فيه شرعا , و لو كان ممنوعا لم يجز لأحد أن يتلفظ به , و كم استعمل المحدثون و الفقهاء و النحويون لفظه , كقول المحدثين " اتحاد مخرج الحديث " , و كقول الفقهاء اذا " اتحد نوع الماشية " , و " اتحاد القابض و المقبض " , و كقول النحاة " اتحاد العامل لفظا و معنى " , و " أنت بيني و بين فلان اتحاد " . فحين ما وقع الاتحاد في كلام الصوفية فانما يريدون به معنى الفناء كما قررته لك , و ما قاله ابن تيمية من أن أفضل الكلام بعد القرآن سبحان الله و الحمد لله و الله أكبر , و هو بالكلام التام لا بالاسم المفرد و لا بالضمير و ان خلاف ذلك غلط , حتى آل بعضهم بسببه للحلول و الاتحاد مدفوعا بأخبار الكمل . قلت , بل بالكتاب و السنة و اجماع الأئمة الا نادرا من الفقهاء لا يعتد به . و لاعتناء أئمة الصوفية بالذكر المفرد و هو الله الله , أو الضمير و هو هو , و ترجيحهم لها على النفي و الاثبات , حتى أن منهم من استحي من ذكر النفي و الاثبات لو لا ما أذن الله تعالى لهم به في التلاوة , خوفا من أن يقبض الذاكر لها في وحشة النفي , اذ ليس لهم مشهود سواه تعالى حتى ينفوه , و من كان هذا حاله فلا بد من أن يستحيي من لا اله حيث نظر الى نفسه قبل نظره الى خالقه , و هو أشد الحياء , قاله ابن عربي رحمه الله تعالى . قال فكانت من ثم أرفع شعب الايمان كما أنها أرفع شعب الحياء من الله تعالى , و ما قصدوا بذكرهم الله أو هو الا نفس دلالته على العين . فانهم علموا أن المسمى بهما لا تقيده الأكوان و من له الوجود التام , و باحتضار هذا المعنى و نحوه بنفس الذاكر عند ذكر الاسم , تحصل الفائدة . فانه ذكر غير مقيد بلا اله الا الله , و ما يعطي المقيد من الفتح الا ما تعطيه هذه الدلالة , و لا يفتح عليه الا بما تقيد به , و لا يمكن أن يجتني صاحب بستان الا ثمرة ما غرس لا كل الثمرات , اذ ليست في مغارس بستانه , و قد تقدم دلالة قوله تعالى " أذكروني أذكركم " على ذلك , و تقدم أن الذكر ما أتى قط مقيدا بشيء , كقوله تعالى : " قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " . و كقوله : " اذكروا الله " , و لم يقل بكذا و كذا , " و لذكر الله أكبر" , " و اذكروا الله في أيام معدودات " , " واذكروا اسم الله عليها " . و في الحديث : " لا تقوم الساعة و على وجه الأرض من يقول الله الله " , و لم يقل في الكل بكذا و لم يقيده تعالى بأمر زائد على هذا اللفظ . و قال ابن عربي أيضا : " هذا الذكر ذكر الخاصة من عباده الذين عمر الله تعالى بأنفاسهم العالم , و ما قصدوا الا استحضار ما يستحقه المسمى , و كم من يقول الله من غير استحضار لما ذكر , فلا يعتبر دون استحضار المعنى المذكور . و كان أبو العباس العربي الأندلسي التزم ذكر الله الله , و التزم آخرون الهاء منها لدلالتها على الهوية , و تقدم أن الغزالي رحمه الله تعالى نبه على أن لفظة هو تدل على الذات من حيث هو و لا حاجة في معرفته الى اعتبار حال غيره , فلفظ هو الذكر به يوصلك الى الحق سبحانه و تعالى , و يقطعك عما سواه , و سائر أسماء الصفات ليس كذلك . فمن ثم صح قول ابن العربي أنه أشرف و لأنه هو دال على الموصوف , و الموصوف أشرف من الصفة , و لهذا كان ذكر خاصة الخاصة . و قال تعالى : " قل هو الله أحد " , فلفظ هو عبارة عما يكون يجده النبي صلى الله عليه وسلم من اطلاع الحق سبحانه و تعالى على قلبه و نظره اليه من الحقيقة . ثم اعلم بأن هذا الاسم له هيبة عظيمة عند أرباب المكاشفات و له شرف عظيم و جلالة تامة و هو ينبىء عن كنه الحقيقة المبرأة عن جميع جهات الكثرة . فهو أشرف الألفاظ و أقرب العبادات الى الحقيقة و الله أعلم . قلت , و التحقيق ما قاله العارف بالله تعالى سيدي أحمد ابن أخت سيدي مدين , نفعنا الله به في رسالة الخلاصة , أن هذا أمر راجع الى الذاكر , فان وجد التأثير في قلبه بلا اله الا الله أكثر لزم ذلك , و ان وجد التأثير بلفظة الله أكثر لزمها . قلت , او بلفظة هو لزمها , و لا ينتقل من ذكر الى آخر الا بوارد حق ينقله اليه . لطيفة : ابتدأ سبحانه و تعالى اسمه الشريف الله بحرف الألف لما فيه من الدلالة عليه و الاشارة اليه , فان معاني الربوبية مندمجة و مندرجة في هذا الاسم مودعة فيه , و لذلك ابتدأ بظهوره لعباده يستدلون به عليه و يصلون به اليه . اذ لا سبيل لذاته تعالى , فدلهم بأسمائه و صفاته , فجعل حرف الألف أول اسمه تعالى , اذ هو أول حروف المعجم و أول ما خاطب الله تعالى به عباده بقوله تعالى " ألست بربكم قالوا بلى " , فأشار به الى أوليته و جعله ممتدا طويلا اشارة الى سرمديته و ديموميته , و جعله لا تجويف فيه اشارة الى صمديته , و جعله مفردا اشارة الى أحديته , و جعل الحروف تتصل به و لا يتصل هو بحرف اشارة الى افتقار خلقه اليه . فالطائف حول كعبة اسم الله تعالى أول ما يكشف له في طوافه عن سر الحرف " ليشهدوا منافع لهم و يذكروا اسم الله " , ثم يسعى بين صفا اللام الأول و اللام الثاني , فاذا تم سعيه و قطع مدرجة الألف و اللامين وقف على عرفات هاء اللاهوتية , فكأن قائلا يقول عند الوصول الى الهاء ها هو المطلوب الذي تعرفه القلوب و تنكشف به الغيوب . و في الهاء معنى لطيف و هو أن قولك هو , حرفان هاء و واو . فالهاء من آخر مخارج الحروف , و الواو من بين الشفتين و هو أول مخارج الحروف , اشارة الى أنه الأول و الآخر , و أنشد في المعنى :
و اسمع اذا غنت المثاني تقول يا هو لبيك ياهو
و ما قلت للقلب أين حبي الا قال الضمير ها هو
و قيــــــــله :
يا ساقي القوم من شذاه الكل لما سقيت تاهو
صاحوا و بالحب فيك باحوا و صرحوا بالهوى و فاهو
يا عاذلي خلني و شربي فلست تدري الشراب ماهو
قم فاجتلي صفوة المعاني من صفوة الكأس اذا جلاه
تنبيه : اعترض على الذاكر بلا اله الا الله دون محمد رسول الله , و أجيب بأن محمدا رسول الله اقرار يكفي مرة واحدة في العمر مع أن قول العبد لا اله الا الله لقول الرسول هو عين اثبات رسالته . و لهذا قال صلى اله عليه و سلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله " , و لم يقل محمد رسول الله , لتضمن هذه الشهادة الرسالة , انتهى من الجوهر الخاص , و قد تقدم طرف منه في الأدبات و أعيد لاختلاف النقلين و الله أعلم . فتبين أن ملخص الجواب على سؤال السائل فيما ينبغي الاكثار للذاكر منه لا اله الا الله , أو الله الله , ما تقدم ذكره أولا عن امام الطائفة أبي القاسم الجنيد رحمه الله تعالى ونفعنا به آمين . و قال شيخنا الأزهري نفعنا الله به : " أما المبتدأ فلا ينفعه الا الاكثار من لا اله الا الله الى أن تصفى عناصره الأربعة أو بعضها التي هي النار و التراب و الهواء و الماء . فحينئذ ينبغي أن ينقل الى الاسم المفرد , و هكذا علامة كل اسم من الأسماء السبعة التي يحصل بها الترقي و السلوك و خرق الحجب , كما تقدم بعض ذلك . و كيفية الوصول الى معرفة صفاء عناصر الذاكر هو من جهة اخباره لنصيحه بمنامه و خواطره المكررين من مرتين فأكثر . و علامة صفاء هذه الأربعة مرموزة في كتبهم لئلا يدعيها من ليس أهلا له , و قد أشرنا الى بعض من ذلك في الرحمانية ليتفطن بها اللبيب , و لو لا خوف الاطالة التي تفضي الى السآمة لذكرنا طرفا من ذلك كما وعدنا به , و ان وجدنا محل المناسبة نأتي به ان شاء الله تعالى بمنه و يمنه . ثم قال عفا الله تعالى عنه :
( و هل حروفه مفسرا تكون و هل آخره محركا يكون )
اشتمل البيت على سؤالين عن اسم الجلالة . السؤال الأول , و هل يشترط في الذاكر بالجلالة أن تكون مفسرة الأحرف كلها أم لا . السؤال الثاني , وهل آخر الجلالة يكون بالسكون أو بالتحريك , و بها تمام ثلاثة و عشرين سؤالا . قوله و هل يشترط في حروفه , أي اسم الجلالة , مفسرا تكون أي و هل يشترط في الذكر بالجلالة أن تكون مفسرة الأحرف كلها أم لا . الفصل الثاني و العشرون : في الجواب على ذلك قال العالم العلامة زين الدين أبو محمد سبط العارف بالله تعالى سيدي علي المرصفي في كتابه الجوهر الخاص : " نعم يشترط ذلك ما دام واعيا " . قال : " و قال شيخ مشائخنا العارف بالله تعالى سيدي يوسف العجمي رحمه الله تعالى في رسالته أدب الذكر , انما تلزم الذاكر ما دام واعيا في عقله , فللغيبة أحكام يدركها صاحبها , و أما اذا سلب الذاكر اختيار الذكر فلا حرج على الذاكر ما دام مسلوب الاختيار يستعمله كيف يشاء على أنواع مختلفة كلها محمودة و صاحبها مشكور عليها , فانها كلها أسرار , فربما جرى على لسانه الله الله , أو هو هو , أو لا لا , أو أه أه , أو ه ه , أو عياط بغير حرف أو صرع أو تخبط . فدأبه في ذلك الوقت أن يسلم نفسه لوارده يتصرف فيه كيف شاء . و كذا بعد سكون وارده , يكون في تسليمه بالسكوت و السكون ما استطاع , مرتقبا للوارد أيضا , و قد تتفق هذه الأنواع للصادق في مجلس واحد . فهذه الآداب تلزمه ما دام يحتاج الى ذكر اللسان , فاذا استغنى بذكر القلب و الاستغراق في المذكور فلا حاجة الى شيء منها , بل يكون مع ما هو فيه من غير اعتراض و لا التفات الى شيء مطلقا . فان لم تتخلص نفسه الى البشرية , فلا حاجة له الى ذكر الظاهر الا حين عود البشرية اليه , فانها تفنى حينا و تعود حينا الى أن يكمل الفناء ثم البقاء , ثم بعد كمالها يبقى حكم القلب مع حضرة الربوبية كحكم البشرية مع القلب , و بعد هذا أخذ العلم من صدور الرجال بالذوق و الله أعلم . قلت , و قد تقدم طرف منه في الادابات و أعيد للمناسبة الداعية اليه , فتعين منه أنه يجب على الذاكر ما دام واعيا تحقيق حروف الجلالة و خصوصا الهاء منه فان بسقوطها سقوط المعنى فيبقى اللا و ليس هو الاسم الموضوع لها , و أيضا و بسقوط حرف منها سقوط سر من أسرارها , فان كل حرف دال على أسرار لا تحصى , يعلمه أربابه منها , اللهم الا اذا كان مع الوله و الاصطلاح , فكل ما يسمع منه سر من الأسرار , اما من المكتومة و لذلك ينكرها كل سامع , أو من المشار اليها ينكرها بعض و يسلمها بعض , انتهى و الله أعلم . قوله و هل آخره محركا يكون , أي و هل يكون آخر اسم الجلالة في الذكر محركا أم لا بل ساكنا . الفصل الثالث و العشرون : في الجواب على قوله وما يكون آخر الجلالة في الذكر محركا أو مسكنا , قال في الجوهر الخاص , بالتحريك وصلا و بالسكون وقفا و الله أعلم , انتهى كلامه رحمه الله تعالى . قلت , و ذكر العارف بالله تعالى سيدي عبد الرحمان بن الصغير الأخضر في شرحه على الجوهر المكنون في صدف الثلاثة فنون في علم المعاني و البيان و البديع , قال : " (التنبيه التاسع ) ذاكر اسم الجلالة أو غيره من أسماء الله تعالى تارة يذكره مركبا مع العوامل , كأستغفر الله , و هذا لا اشكال فيه , و تارة يذكره مجردا عن التركيب
, و قياسه حينئذ أن يكون ساكن الآخر , لأن حق الأسماء العارية عن التركيب سكون اعجازها كأسماء الأعداد و أسماء الحروف المذكورة في فواتح بعض السور من كتاب الله عز و جل . و هذا الحكم عام لكل اسم قصد تسمية مسماه فقط , لأن جوهر اللفظ موضوع لجوهر المعنى , و حركة اللفظ دالة على أحوال المعنى .فاذا أريد افادة مجرد جوهر المعنى وجب اخلاء اللفظ عن الحركات غير أنهم اختلفوا في حكمها على ثلاثة أقوال ثالثها موقوفة لا مبنية و لا معربة , لأبي البقا و الامام الرازي و المتأخرين , وعلل البناء بالشبه الاهمالي و الاعراب بأن سكونها لو لم يكن وقفا بل كان بناء , لأجريت مجرى كيف و أين , و الوقف بفقد موجب الاعراب و علة البناء . غير أنها قابلة لأن تدخل عليها العوامل فتعرب , انتهى كلامه . قلت , و عليه ان كل لفظة منها عبادة مستقلة , فلا وصل و ان وصلت بمثلها , أي حركت للاكثار و الاستراحة في الذكر , فينبغي أن تكون حركة مجانسة لما بعدها و هو الفتح لفتح همزة الجلالة و ذلك علامة على عدم دخول الاعراب و البناء الدالين على أحوال المعنى , فالمراد استفادة جوهر معنى الحروف الدالة على مسماها من غير التفات الى الأحوال التي يقتضيها الاعراب و البناء من أنواع التجليات الصفاتية بحسب الأسماء في أطوار التعينات و الله أعلم . ثم قال عفا الله تعالى عنه :
( و ما هو التحريك من اشكال و كم له من أحرف يا تال )
اشتمل البيت على سؤالين . الأول , و ما هو التحريك ان جاز الوصل , هل الرفع و النصب و الخفض . السؤال الثاني , كم للجلالة من أحرف فيها , و بهما تمام الخمسة و العشرين سؤالا . قوله و ما هو التحريك من اشكال . الفصل الرابع و العشرون : الجواب على قوله ان جاز حركة اسم الجلالة في الذكر عند الوصل , ما هي الحركة , هل رفع أو نصب أو خفض . اعلم أنه قال في الجوهر الخاص , أما الخفض فلا وجه له هنا الا أن يكون الداكر مغلوبا غلى لسانه حيث تعلم فلم يمكنه التعلم , فهو لحن لكن لا يمنع من الذكر لذلك , اذ العبرة عند الله تعالى بالمقاصد و كذلك اذا كان مغلوبا عليه غائبا عن عقله. فقد حكي عن بعض العلماء أنه حضر مجلس ذكر مع بعض الصوفية فسمع ذاكرا في المجلس يذكر الله الله بكسر الهاء , فعلم الشيخ من العالم الانكار لذلك الذكر الملحون , فالتفت اليه و قال العبرة عنكم بالمقاصد أو بالوسائل فقال العالم , بالمقاصد , فقال الشيخ هو جوابك , فاستغفر في حقه من انكاره و بر حتى بالجواب , اذ المراد الأعظم و المقصود الأهم صدق المقاصد و الاخلاص فيها , و من هنا أنفاسهم فضلا عن ألفاظهم تعد عند الله تعالى ذكرا ان شاء الله تعالى , ليجزي الله الصادقين بصدقهم . و من ثم قال أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى : " بالمقصد الصحيح تصل الى الله تعالى " . و أما النصب فله وجه اذا أراد الذاكر أطلب الله , أو أقصد الله , أو نحو ذلك . و أما الرفع فوجهه ظاهر على الابتداء اذا وصلها بما بعدها , نحو الله لا اله الا هو , أو الله ربي أو مطلوبي أو مقصودي و نحوها . و يجوز رفعها على الخبر , نحو المطلوب الله أو المقصود الله و نحو ذلك و الله أعلم . قلت , و قد تقدم أن الأسماء المجردة عن التركيب قياسها سكون اعجازها كأسماء الأعداد و فواتح بعض السور , و هو لمن يقصد تسمية مسماها فقط . فان جوهر اللفظ موضوع لجوهر المعنى , و تقدم . و ان تحركت اعجازها تحركت بحركة من جنس ما بعدها ليكون ذلك دليلا على عدم دخولها الاعراب لأنه مشعر بارادة قصد أحوال المعنى لا جوهرها , فينافي المقصود . و لذلك نقول الله الله بالفتح لا بغيره للمعنى المذكور في حضرتنا عند التوسط بالاسم الثاني , فافهم ذلك , و لأن الالتفات الى أحوال المعنى علة في فقد الاخلاص المعني بقوله تعالى : " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا " . و بالحديث الوارد أن الله تعالى أوحى الى داوود " لو لم أخلق جنة و لا نارا , ألم أستحق العبادة لذاتي , قال بلى يا رب " , او كما قال , انتهى و الله أعلم . فاذا علمت ذلك علمت أن ما أمرنا الأستاذ رحمه الله تعالى بتقديره في ذكر الاسم المفرد كما تقدم , هو عين جوهر المعنى لاحالها المؤذن بالالتفات الحقيقي , لا عبارة عنه و لا اشارة اليه , اذ كل ما دخل فلك العبارة أو تحت ايماء الاشارة , فهو شيء . و كلما تعينت شيئيته مع الحق تعالى فهو مزيل للتوحيد من حيث ذلك الشيء , لأن رفض السوى فرض و رفضه يمحو الشرك و الشك , و اذا كان الخبر نفس المبتدا و هو هو , فلا خبر في الحقيقة و لا مبتدأ , و به يذهب اتلاسم و يبقى الرسم . فان قلت اذا كان المطلوب سكون اعجاز الأسماء في الذكر للمعنى المذكور , فلم لم يصرح به الامام العارف بالله تعالى زين الدين في الجوهر الخاص , و انما أحال الجواب على ثبوت الحركة نصبا و رفعا و التمس للخفض وجها , رحمه الله تعالى . قلت , انما قال ذلك مطابقة للسؤال . فان السؤال سأل ما هي الحركة , فأجاب بجواز الحركات المذكورات . فان قلت و قد قال عند قوله و هل آخره محركا يكون , أي في السؤال الذي قبله , و جوابه عنه بقوله بالتحريك وصلا و بالسكون وقفا , و هو مؤذن بالاعراب المشعر بالالتفات الى حال المعنى كما تقدم ولم يتعرض لما ذكرتم . قلت كان خطابه للمبتدا و جوابه على قدر السؤال و لا يسع المبتدأ الا ما ذكرلأنه لا يستطيع أولا أن يلتفت الى جوهر المعنى قبل أن يلتفت الى حالها , و لا يكون ذلك الا للمجذوب , و أما السالك في حال ابتدائه أولا يستدل بالأثر على المؤثر , فاذا توسط صار يستدل بالمؤثر على الأثر , و كلامنا هذا مع المتوسط . و أما أهل النهاية فلا تسأل عن أهل الفراذيس و ما عندهم من العلم النفيس , من الله تعالى علينا بذلك بفضله و جوده , آمين , انتهى و الله أعلم . قوله و كم له من أحرف يا تال , أي و كم للجلالة من حرف . و قوله يا تال , يا تتميم و هو من تلوت القرآن اذا قرأته , أي و كم من حرف في اسمه تعالى الله في اللفظ و النطق و في الكتابة و الرسم . الفصل الخامس و العشرون : في الجواب على قول السائل و كم من حرف في اسم الجلالة , اعلم أنه قال الامام زين الدين في الجوهر الخاص هي في الرسم أربعة أحرف , و هي الألف و لامان و هاء , و في اللفظ خمسة أحرف يزاد على هذه الأربعة ألف بعد اللام الثانية لفظا لا خطا , انتهى كلامه و الله أعلم . قلت , و اختلف العلملء رحمهم الله تعالى في سبب حذف هذه الألف خطا . فقيل تخفيفا لكثرة الاستعمال , و قيل حذفت كراهة اجتماع الحروف المتشابهة في الصورة عند الكتابة , كما كرهوا اجتماع الحروف المتشابهة في اللفظ عند القراء . و قيل لئلا يلتبس باللاهي اسم فاعل . و قيل لئلا يلتبس بخط اللات , قاله ابن عطية . و القول بأنها لغة استعملت لفظا لا خطا غريب , انتهى من الجوهر المكنون . قال سيدي عبد الكريم الجيلي في الانسان الكامل : " واعلم بأن هذا الاسم خماسي لأن الألف التي قبل الهاء ثابتة في اللفظ و لا يعتد بسقوطها في الخط لأن اللفظ حاكم على الخط . و اعلم بأن الألف الأولى عبارة عن الأحدية التي هلكت فيها الكثرة و لم يبقى لها وجود بوجه من الوجوه , و ذلك حقيقة قوله تعالى : " كل شيء هالك الا وجهه " , يعني وجه ذلك الشيء و هو أحدية الحق فيه . و لما كانت الأحدية أول تجليات الذات في نفسه لنفسه بنفسه , كان الالف في اول هذا الاسم و انفراده بحيث أن لا يتعلق به شيء من الحروف تنبيها على الاحدية التي ليس للأوصاف االحقية و لا للنعوت الخلقية فيها ظهور . فهي أحدية محضة , اندحض فيها الأسماء و الصفات و الأفعال و التأثيرات و المخلوقات و ألسنة اشارات بسائط هذه الحروف باندحاضها فيه , اذ بسائط هذه الحروف ألف و لام و فاء . فالألف من البسائط تدل على الذات الجامعة للبساط و المنبسط فيه , و اللام بقائمته تدل على صفاته القديمة و بتعريفه يدل على متعلقات الصفات وهي الأفعال القديمة المنسوبة اليه . و الفاء تدل على المفعولات بهيئته و تدل بنقطتها على وجود الحق في ذات الخلق , و تدل باستدارة رأسه و تجويفه على عدم التناهي الممكن مع قبوله للفيض الالهي , لأن الدائرة لا يعلم لها ابتداء و لا انتهاء , و تجويفه محل الاستدارة لقبوله , اذ المجوف لابد أن يقبل شيئا يملأه . و ثم نكتة وهي أن النقطة التي في رأس الفاء هي التي دائرة رأس الفاء , خصت بحملها , و هنا اشارة لطيفة الى الامانة التي حملها الانسان و هي , أعني الأمانة , كمال الألوهية , كما أن السماوات و الأرض و أهليهما من المخلوقات لم تستطع حمل هذه الأمانة , و كذلك جميع العوالم . ليس محلا للنقطة سوى رأسها المجوف الذي هو عبارة عن الانسان , و ذلك لأنه رئيس هذا العالم , و فيه قيل " أول ما خلق الله تعالى روح نبيك يا جابر " . و كذلك القلم من يد الكاتب , أول ما يصور راس الفاء . فحصل من هذا الكلام و ما قبله أن أحدية الحق تعالى يبطن فيها حكم كل شيء من حقائق أسمائه تعالى صفاته و أفعاله و مأثراته و مخلوقاته , و لا يبقى سوى صفة ذاته المعبر عنها بوجه بالأحدية . الحرف الثاني من هذا الاسم اللام الأولى , فهو عبارة عن الجلال , و لهذا كان الاسم ملاصقا للألف , لأن الجلال أعلى تجليات الذات , و هو أسبق اليها من الجمال . و قد ورد في الحديث النبوي على صاحبه أفضل الصلاة و السلام , " العظمة ازاري و الكبرياء رداءي " . و لا أقرب من ثوب الازار و الرداء الا الشخص . فثبت أن صفات الجلال أسبق اليه من صفات الجمال و لا يناقض هذا قوله " سبقت رحمتي غضبي " , فان الرحمة السابق انما هي بشرط العموم و العموم من الجلال , و اعلم أن الصفة الواحدية الحمالية اذا استوفت كمالها في الظهور أو قاربت سميت جلالية لقوة ظهور سلطان الجمال بمفهوم الرحمة من الجمال عمومها , و انتهائها هو الجلال . الحرف الثالث هو اللام الثاني , و هو عبارة عن الكمال المطلق الساري في مظاهر الحق سبحانه و تعالى و ميع أوصاف الكمال راجع الى و صفين , العلم و اللطف . كما أن الأوصاف الجلالية راجعة الى وصفين , العظمة و الاقتدار . و نهاية االوصفين الأولين راجع اليهما , فكأنهما وصف واحد . و من ثم قيل أن الجمال الظاهر للخلق انما هو جمال الجلال , و الجلال انما هو جلال الجمال , لتلازم كل منهما للآخر . فتجلياتهما في المثل كالفجر الذي هو مبادي ضياء الشمس الى نهاية طلوعها , فنسبة الجمال نسبة الفجر , و نسبة الجلال الاشراق . فهذا معنى جمال الجلال و جلال الجمال . و لما كان اللام اشارة الى هذين المظهرين , لكن باختلاف المراب , كانت بسائط لام ألف ميم , و جملة هذه الأعداد أحد و سبعون عددا , و تلك هي عدد الحجب التي أسدلها الحق تعالى دونه و بين خلقه . و قد قال النبي صلى اله ليه و سلم , " أن لله نيفا و سبعين حجابا من نور , و هو الجمال و الظلمة و هو الجلال , لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره " , يعني الواصل الى ذلك المقام , فلا يبقى له عين و لا أثر . و هي الحالة التي يسمونها الصوفية المحق و السحق . فكل عدد من أعداد هذا الحرف اشارة الى مرتبة من مراتب الحجب التي احتجب الله تعالى بها عن خلقه . و في كل جمرتبة من مراتب الحجب ألف حجاب من نوع تلك المرتبة , كالغرة مثلا فانه أول حجاب قيد الانسان فيالمرتبة الكونية و لكن له ألف وجه , و في كل وجه حجاب , و كذلك بواقي الحجب , لولا قصد الاختصار لشرحناه على أتم وجوهه و أكمله و اخصه و أفضله . الحرف الرابع من هذا الاسم هو الألف المسقوطة خطا الثابتة لفظا , و هي ألف الكمال الذي لا نهاية و غاية له , و الى عدم غايته الاشارة بسقوطه في الخط . لأن المسقوط لا يدرك له عين و لا أثر , و في ثبوته في اللفظ اسارة الى حقيقة وجود نفس الكمال في ذات الحق سبحانه و تعالى . فعلى هذا الكمال من أهل الله تعالى في أكمليته يترقى في الجمال , و الحق تعالى لا يزال في تجلياته , و كل تجل من تجلياته فان الثاني يجمع الأول , فعلى هذا تجلياته أيضا في الترقي . و لهذا قال المحققون أن العالم كله في ترقي في كل نفس , لأنه أثر تجليات الحق تعالى و هي في الترقي , فلزم من هذا أن يكون العالم في الترقي . و ان قلت بهذا الاعتبار أن الحق سبحانه و تعالى وارد بالترقي ظهوره لخلقه , جاز هذا الحديث في الجناب الالهي تعالى عن الزيادة و النقصان و جل أن يتصف بأوصاف الاكوان . الحرف الخامس من هذا الاسم هو الهاء , فهو اشارة الى هوية الحق تالى الذي هو عين الانسان . قال تعالى : يا محمد هو , أي الانسان , الله أحد . فهاء الاشارة راجعة الى فاعل قل و هو أنت , و الا فلا تجوز اعادة الضمير الى غير مذكور , و أقيم المخاطب هنا مقام الغائب التفاتا بيانيا اشارة الى أن المخاطب بهذا ليس نفس الحاضر وحده , بل الغائب و الحاضر في هذا على السواء . قال تعالى : " و لو ترى اذ وقفوا " , ليس المراد به محمد وحده بل كل راء . فاستدارة راس الهاء اشارة الى دوران رحى الوجود الحقي و الخلقي على الانسان . فهو في عالم المثال كالدائرة التي أشار الهاء اليها . فقل ما شئت , ان شئت قلت الدائرة حق و جوفها خلق , و ان شئت قلت الدائرة خلق و جوفها حق . فهو حق و هو خلق , و ان شئت قلت الأمر فيه الابهام . فالأمر في الانسان دوري بين أنه مخلوق و له العبودية و العجز و هو أنه على صورة الرحمان , فله الكمال العز . قال تعالى : " و هو الولي " , يعني أن الانسان الكامل الذي قال له " الا أن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون " , لأنه يستحيل الخوف و الحزن و أمثال ذلك على الله تعالى , لأن الله تعالى هو الولي الحميد , و هو يحي الموتى و هو على كل شيء قدير , أي الولي . فهو حق منصور في صورة خلقية , أو خلق متحقق بمعاني الهية . فعهلى كل حال هو الجامع لوصفي النقص و الكمال الساطع في أرض كونه بنور شمس المتعال , فهو السماء و الارض و هو الطول و هو العرض و في هذا المعنى قلت شعرا :
لي الملك في الدارين لم أر فيهما سواي فأرجو فضله أو فأخشاه
و لا قبل من قبلي فالحق شاوه ولا بعد من بعدي فالحق معناه
و قد حزت أنواع الكمال و انني جمال جلال الكل ما أنا الا هو
فمهمى ترى من معدن و نباته و حيوانه مع انسه و سجاياه
و اني لرب للأنام و سيد جميع الورى اسم و ذاتي مسماه
لي الملك و الملكوت جلت تحيتي لي الغيب و الجبروت مني مناه
و ها أنا فيما ذكرت جميعه عن الذات عبد ءايب الى مولاه
فقير حقير خاضع متذلل أسير ذنوب قيدته خطاياه
فيا أيها العرب الكرام و من هم لصبهم الولهان أفخر ملجاه
قصدتكم قصدي أنتم و جيرتي و أنتم مناءي في الذي أتمناه
عليكم سلام كل يوم و ليلة يزيد على مر الزمان محياه
انتهى مع اختصار جدا و الله أعلم . انما أطلت الكلام فيه تبركا و اتحافا للمعتني بشيء من كلام أهل الحقيقة في الاسم الاعظم لجامع لجميع الأسماء . تنبيه : يجب على من نظر في كلام أهل الحقيقة أن لا يبادر الى الانكار اذا لم يصل فهمه الى اشاراتهم و ايمائهم فيما لا تسعه العبارة من كلامهم رضي الله عنهم , فحسبه الوقوف مع التسليم الى أن يفتح الله تعالى عليه بمعرفته . و فائدة التسليم هنا و ترك الانكار , أن لا يحرم الوصول الى معرفة ذلك , فان من أنكر شيئا من أهل الحقيقة حرم الوصول اليه ما دام منكرا عليه و لا سبيل له لى غير ذلك , بل و يخشى عليه الحرمان للوصول مطلقا بالانكار أول و هلة , و لا طريق الى الايمان الا التسليم , و بهذا اتفق أهل الحق . فافهم ذلك و اعمل به و الله يتولى هدانا و هداك و هو الموفق للصواب و اليه المرجع و المئاب . ثم قال عفا الله تعالى عنه :
-
( و هل يجوز مد همز قبل لام و هل يجوز حذف ها و ي بعد لام )
اشتمل البيت على سؤالين عن اسم الجلالة الأول , هل يجوز مد الهمزة منه . السؤال الثاني , و هل يجوز حذف الالف الهاوي الذي بعد اللام الثانية و قبل الهاء أم لا و بهما يكون سبعة و عشرون سؤالا . قوله و هل يجوز مد همز قبل لام , أي الهمزة الأولى منه التي قبل لام التعريفية أو التعظيمية على قول , كما سيذكر ان شاء الله تعالى . الفصل السادس و العشرون : في الجواب على قوله , و هو يجوز مد الهمزة من اسم الله تعالى أم لا . اعلم أنه قال الامام زين الدين في الجوهر الخاص : " اذا مدت الهمزة منه لا يكون ذكرا , بل يكون استفهاما , كقوله تعالى " قل الله أذن لكم ام على الله تفترون " , و الله أعلم , انتهى كلامه . قلت اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في جواز الكلام على تركيب هذا الاسم المعظم و في معناه و عدمه . قيل ينبغي الامساك عنه اجلالا و تعظيما , أو لعدم الاذن فيه شرعا , و الصحيح الجواز , قاله غير واحد ثم اختلفوا في أصل وضعه , فقيل عجمي , و قيل عربي . و اختلف القائلون بأنه عجمي اللفظ , فقيل عبراني , و قيل سرياني , و الصحيح أنه عربي . و اختلف القائلون بأنه عربي هل هو علم أم لا , و الحق أنه علم و هو مذهب سيبويه و الخليل و أكثر الأصوليين و الفقهاء لوجوه مذكورة في المطولات . و احتج نفات العلمية أيضا بوجوه مذكورة في محالها , ثم اختلفوا أهل هو مرتجل أو منقول . الأصح أنه مرتجل و ليس منقول و لا مشتق . قال فيه زائدة لازمة لا للتعريف بل كذلك وضع , قاله السهيلي . و القول بأنه منقول اختلفوا فيه , فأما الكوفين فقالوا أصله الاه , فأدخلت الا عليه للتعظيم , ثم حذفت الهمزة الاصلية استثقالا لكثرة جريانها على الألسنة كما تقدم , فاجتمع لامان أدغمت أولاهما ثم غلضت اللام تعظيما . و أما البصريون فقالولا صله لاه فألحقوا به ال و أنشدوا :
و لاهك قد يغشى العشيرة نوره و نورك نور في الجديدين ساطع
أي ارتفاعك و سؤ ددك علو شأنك . و القول بأنه مشتق , قال فيه زائدة لازمة , و عليه في مادته ربعة اقوال . أحدها ن مادة لام و ياء وهاء من لاه يليه اذا ارتفع . الثاني , أن مادته لام و واو و هاء من لاه يلوه اذا احتجب , فألفه على الأول منقلبة عن ياء , و على الثاني منقلبة عن واو لتحركها و انفتاح ما قبلها . الثالث أن مادته همزة و لام و هاء من أله أي عبد . فالاه فعال بمعنى مفعول ككتاب بمعن مكتوب كما تقدم , و الألف التي قبل الهاء على هذا زائدة , و الهمزة التي بين اللامين أصلية أي التي بين لام التعريف و لام الاصل . وحذفت اعتباطا بالعين المهملة من الحذف الآخر للشيء من غير استحقاق عارض و الله أعلم . قال في المصباح , الاعتباط أن ينحر البعير و غيره من غير علة , كما في ناس أصله أناس . الرابع , أن مادته واو و لام و هاء من وله , ادا اضطرب , فالهمزة فيه على هذا مبدلة عن واو . و زعم بعضهم أن ال فيه من نفس الكلمة , و وصلت الهمزة لكثرة الاستعمال . و رد بأنه لو كان كذلك لنون , لأن وزنه حينئذ فعال كعلام و أواب , و لا مانع من تنوينه , انتهى و الله أعلم . تنبيه : و لما جاز الكلام في تركيبه و معناه , فلا مانع أن يجوز الكلام في حكم تركيبه مع حروف النداء ما عدى يا و الميم المشددة , و هي ستة . الهمزة و اي مقصورتين و مدودتين , و أيا و هيا . و قوله في الجوهر الخاص " اذا مدت الهمزة من الجلالة لا يكون ذكرا " , فيه نظر, لأنه اذا قصد به النداء كسائر الأعلام , فالصناعة النحوية لا تمنعه كسائر حروف النداء , و يكون ذكرا , فان العبرة بالمقاصد كما تقدم . الا أن يقال أنه لم يرد به السماع , اذ لم يأت اسم الجلالة في القرآن و لا في السنة منادى الا بيا أو الميم المشددة , اما يا . قال سيدي عبد الرحمان الثعالبي, نفعنا الله تعالى به في مفردات مقدماته في علم الاعراب : " هي حرف موضوع لنداء البعيد حقيقة أو حكما , و قد ينادى بها القريب توكيدا , وهي أكثر أحرف النداء استعمالا . و لهذا لا يقدر عند الحذف سواها , و لا ينادى اسم الله تعالى الا بها و ليس نصب المنادى بها و بأخواتها بل ادعوا محذوفا " , انتهى كلامه نقلا من كتب ابن هشام " كالمغني " و " التوضيح " و غيرهما , هكذا قال . قلت , و حكم اسم الجلالة معها ففيه أربعة أوجه . الأول , يا الله باثبات ألفين , أعني ألف النداء و لف الجلالة مقطوعة لأنها لما كانت لازمة أشبهت الأصلية . الثاني , يلله بحذفهما . الثالث , يا لله بحذف الف الجلالة فقط . الرابع , حذفها أي يا و تعوض عنها الميم المشددة زائدة في آخر الجلالة , فتقول اللهم , و هو الكثير و لم يذكر في القرآن سواه . و هل يجمع بينهما أي بين يا و الميم , و لا تجوز الا في ضرورة الشعر . قال ابن مالك رحمه الله تعالى :
و الأكثر اللهم بالتعويض و شذيا اللهم في قريض
يشير بذلك الى قول أبي خراش الهذلي
اني اذا ما حدث الما أقول ياللهم ياللهم
و هذا مما يحفظ و لا يقلس عليه . فائدة : يجوزحذف حرف النداء و هو يا خاصة , سواء كان المنادى مفردا أو جاريا مجراه أو مضافا نحو " يوسف أعرض عن هذا " , " سنفرغ لكم أيها الثقلان " , " أن أدوا الي عباد الله " , الا في ثمان مسائل . منها اسم الجلالة , فلا يجوز حذف يا الندء عنه الا اذا عوض عنها الميم المشددة كما تقدم , و تمامه في التوضيح و غيره . و ما ذكرت هذا و ان كان بعيد المناسبة الا لكثرة المعترضين على الذاكرين , ليكون تبصرة للمبتدا و تذكرة للمنتهي و حجة و محجة للمعتني . فائدة : ذكر الفقهاء أن مد الهمزة من الجلالة في تحريمة الصلاة لا تنعقد به , فالتحريمة , و هو قولنا الله أكبر , شرط أو ركن على الخلاف و الأصح شرط عند الحنيفية , و شرط صحتها أن لا تمد همزة الجلالة كما لا تمد همزة أكبر . و كذلك مد الباء منه , فيقول أكبار , مثلا . قالوا لا يصير شارعا , و ان قال في خلال الصلاة تفسد صلاته , قيل لأنه اسم من أسماء الشيطان , و قيل غير ذلك . قيل لا تفسد , و الأصح الأول , و أما اشباع حركة الهاء من الجلالة في التكبير خطأ من حيث اللغة , و لا تفسد به و كذلك تسكينها في التكبير أيضا , لأن محله الوصل , ليتنبه و الله أعلم . واختلف العلماء في جواز انعقاد الصلاة بالجلالة فقط , قال به أبو حنيفة رحمه الله تعالى , و بكل لفظ يدل على التعظيم , كالعظيم و الجليل و غيره . و قال الشافعي رحمه الله تعالى " تنعقد بالله أكبر " , و قال قال الامام مالك و أحمد رحمهما الله تعالى " تنعقد الا بقولنا الله أكبر " . فعلى هذا ينبغي زيادة تنبيه في التكبير في الصلاة التي هي خالص الذكر و لبه , كما قال تعالى : " أقم الصلاة لذكري " , انتهى و الله أعلم . قوله و هل يجوز حذف هاوي بعد لام , أي و هل بعد اللام الثانية من الجلالة و قبل الهاء ألف أم لا . هكذا في الأصل , كأنه يقول , و هل يجوز حذف ذلك الألف أم لا , بدليل جواب الامام العارف بالله تالى زين الدين سبط المرصفي رحمه الله تعالى , و سمى الألف هاوي , لأنه يخرج من هواء الفم و هو جوفه كما تقدم . الفصل السابع و العشرون : في الجواب على قوله و هل يجوز حذف الحرف الهاوي من الجلالة أم لا . اعلم أنه قال الامام العارف بالله تعالى زين الدين أبو محمد سبط علي بن خليل المرصفي , رحمه الله تعالى و نفعنا به : " قد تقدم أن بعد اللام الثانية ألف لفظية لا خطية , و حكمها أن حذفها في اللفظ لحن لا تنعقد به الصلاة و لا اليمين و لا يكون ذكرا بدونها , و لا يعتد في جواز حذفها بقول الشاعر :
ألا لا بارك الله في سهيل اذا بارك الله في الرجال
فان ذلك لضرورة الشعر و الله أعلم , انتهى كلامه . قال الامام العارف بالله تعالى , سيدي عبد الرحمان بن الصغير الأخضري في القدسية :
و من شروط الذكر ألا يسقطا بعض حروف الاسم أو يفرطا
في البعض من مناسك الشريعة عمدا فتلك بدعة شنيعة
و الرقص و الصراخ و الصفيق عمدا بذكر الله لا يليق
وانما المطلوب في الأذكار الذكر بالخشوع و الوقار
و غير ذا حركة نفسية الا مع الغلبة القوية
فواجب تنزيه ذكر الله على اللبيب الذاكر الأواه
من كل ما تفعله أهل البدع و يقتدي بفعل أرباب الورع
و قال رحمه الله تعالى في شرحه على الجوهر المكنون (تنبيه) : " لا يجوز حذف ألف الجلالة الذي قبل الهاء لفظا الا في ضرورة الشعر عند الوقف عليه , كقوله :
أقبل سيل بماء من مر الله دل على ذلك حرف الروى
و ينبني على هذه المسألة فروع منها : من قال في يمينه بله , هل تنعقد أم لا . فقيل لا تنعقد لأن لفظ بله اسم للطوبة , قيل تنعقد لأن اللفظ يحسب أصل اللغة جائز , و قد نوى فيه الحلف . و منها قوله عند الذبح أو الاحرام أو الشهادة هل يكفي أم لا . و منها هل يثاب ذاكر ذلك أم يعاقب , لأنه قيد اسم الله تعالى . قال : قلت في استدلالهم على جواز حذف ألف الجلالة للضرورة بوروده في بعض أشعار العرب , نظر لأنها مسئلة شرعية تعبدية لا تأخذ الا من دليل شرعي , فلا تأخذ من أشعار العرب , انتهى كلامه و الله أعلم . قلت , و حيث وجد الخلاف وجب الانصاف , فالعبرة للمقاصد لا لوسائل , و لا خفاء في أن اللفظ وسيلة للمعنى لا العكس , و أن الله تعالى تعبدنا بالمعاني كما قاله امام دار الهجرة مالك رضي الله عنه , و حيث صح القصد فلا التفات الى الضد , و من تأمل قوله صلى الله عليه وسلم : " أذكروا الله حتى يقولوا مجنون " , و نظر شرحه في كتاب السر المصون , فلم يبق له اعتراض على ذاكر حيث ما يكون , و من أمعن النظر في نصرة الفقير للعارف بالله تعالى الشيخ سيدي محمد السنوسي فلا يبقى له ازدراء بفقير . لقد أحسن العلامة بو سعيد رحمه الله تعالى حيث قال :
لكن سر الله في صدق الطلب كم رءي في أصحابه من العجب
اللهم الا اذا تغير القصد و نقص العهد , فيستوجب حينئذ البعد و يقام الحد و الى ذلك أشار العارف بالله تعالى الجامع بين الشريعة والحقيقة , سيدي عبد الرحمان بن الصغير الأخضري في رسالته القدسية كما تقدم فقال :
فقد رأينا فرقة ان ذكروا تبدعوا و ربما قد كفروا
و صنعوا في الذكر صنعا منكرا طبعا فجاهدهم جهادا أكبرا
خلوا من اسم الله حرف الهاء فألحدوا في أعظم الأسماء
لقد أتوا و الله شيئا ادا تخر منه الشامخات هدا
و الألف المحذوف قبل الهاء قد أسقطوه و هو ذو خفاء
و غرهم اسقاطه في الخط فكل من يتركه فمخطي
قد غيروا اسم الله جل و علا و زعموا نيل المراتب العلا
تغرهم مذاقة طبعية سببها حركة نفسية
فزعموا أن لهم أسرارا و أن في قلوبهم أنوارا
و زعموا أن لهم أحوالا و أنهم قد بلغوا الكمالا
و القوم لا يدرون ما الأحوال فكونها لمثلهم محال
حاشى بساط القدس و الكمال تقدمه حوافر الجهال
فقد ادعوا من الكمال منتهى يكل عن ادراكه ألوا النهى
و الجاهلون كالحمير الموكفة و العارفون سادة مشرفة
و هل يرى بساحل الأنوار من لج في بحر الظلام ساري
و قال بعض السادة المتبعة في رجز يهجوا به المبتدعة
و يذكرون الله بالتغيير و يشطحون الشطح كالحمير
و ينبحون النبح كالكلاب مذهبهم ليس على الصواب
قلت و شاع أمر الاشتباه في المتراسلين في اسم الله
و قد تقدم قبله في شروط الذكر
والرقص والصراخ والتصفيق عمدا بذكر الله لا يليق
الخ , انتهى ما قصدنا من كلامه , رضي الله عنه , و لو لا الاطالة التي تفضي الى السآمة لتتبعنا كلامه بالشرح , و ملخصه ما شرنا اليه أولا و هو ظاهر لمن كان له قلب يفهم به عن الرب , و كلام العارفين , أي و نهيهم تحذيرهم . و اعتراضهم ذو وجهين بين الاشارة و العبارة من اللوامة الى الأمارة و هم رضي الله عنهم تارة يوجهون الاشارة الى المطمئنة اللوامة العبارة الى الأمارة كهذا , و تارة بالعكس و لذلك يتوقف في كلامهم , رضي الله عنهم , و يقولون لا يفهم كلام الأخرس الا أمه . قال في الحكم , عبارتهم اما لفيضان وجد و لقصد هداية مريد . فالأول حال السالكين و الثاني حال أرباب المكنة و المتحققين . قال ايضا قبله تسبق انوار الحكماء أقوالهم , فحيث صار التنوير وصل التعبير . الحكماء هم العارفون بالله تعالى , واعلم أنه من لم يبلغ مقاما لا يستطيع أن يعبر عليه . و المقامات سبعة و من بلغ الى السابع له أن يعبر عن جميعها و له أن يعترض على ما دونها , لقوله عليه السلام : " حسنات الأبرار سيآت المقربين " , الخ . و من كان في الأول لا يفهم أيضا حال من هو في المقام الثاني . فاذا اعترض عليه فهو من جهله به , و اعتراضه لم يصادف محلا , و لهذا لما اعترض على سيدنا يوسف عليه السلام , " و ما أبرىء نفسي ان النفس لأمارة بالسوء الا ما رحم ربي " , الآية , و لما كانوا في الامارة لم يفهموا حله فلم يجدوا جوابا الا ما ذكر و ان كان الوجب عليه أن يقول لم أفعل , لأنهم لم يفهموا ذلك . و بيان ذلك على سبيل التقريب و الاختصار , أن غاية تنزل النفس الناطقة الى المقام الأول و هو مقام ظلمات الأغيار و تسمى فيه أمارة بالسوء , ثم تأخذ في الترقي بسبب الأذكار و الطاعات و التقرب الى الله تعالى بالرياضات بعد الايمان و اليقين و السلوك في زمرة المتقين . فلا تزال تترقى مقاما بعد مقام الى السابع الذي هو مقام تجليات الاسماء و الصفات , و تسمى هذه الأمارة بالكاملة فيه , و هذا الكامل من العارفين . فاذا كان ذلك , فمن كان في المقام الاول الذي هو مقام ظلمات الاغيار فلا يقدر أن يعبر عن المقام الثاني الذي هو مقام الأنوار , ولا يفهم كلام من هو فيه للمنافاة التي بين ظلمات الأغيار و بين الأنوار . و من كان في المقام الثاني الذي هو مقام الأنوار فلا يقدر أيضا أنيعبر عن المقام الثالث الذي هو مقام الأسرار , و لا يفهم كلام من هو فيه . و من كان في المقام الثالث الذي هو مقام الاسرار , فلا يستطيع أن يعبر عن المقام الرابع الذي هو مقام الكمال , و لا يفهم كلام من هو فيه أيضا . و من كان في المقام الرابع الذي هو مقام الكمال فلا يقدر أن يعبر عن المقام الخامس الذي هو مقام الوصال , و لا يفهم كلام من هو فيه أيضا . ومن كان في المقام الخامس الذي هو مقام الوصال , فلا يقدر أن يعبر عن المقام السادس الذي هو مقام تجليات الأفعال , و لا يفهم كلام من هو فيه أيضا . و من كان في المقام السادس الذي هو مقام تجليات الأفعال فلا يقدر أن يعبر عن المقام السابع الذي هو مقام تجليات الأسماء و الصفات , و لا يفهم أيضا كلام من هو فيه , و يعبر على كل مقام سلكه وما دونه لا ما فوقه , فافهم و الله أعلم , و بسببه وقع الانكار و الخلاف . و العارف لا يخرج عن مركز دائرة الانصاف و الانتصاف , و أسماء النفس في هذه المقامات قد تقدم , و هذا معنى قولهم " كل مقام له مقال " , فافهم و الله تعالى يتولى هدانا و هداك , و لا ينزل القياس على كل الناس , و انما سنح بنا الكلام حتى خرج عن المقام حماية للذاكرين و شفقة عن المنكرين . واعلم أن من بلغ الى المقام الثالث الذي تسمى النفس فيه ملهمة لم يبق له اعتراض على أحد , لأنه يشهد بأن الله تعالى آخذ بناصية كل دابة , فلم يبق له اعتراض على مخلوق أصلا , حتى اذا اعترض , انما يعترض في حال الفرق الذي هو بعد الجمع عملا بظاهر الشرع مع التسليم القلبي . و انما تقع كثرة الاعتراض من المقام الثاني الذي هو مقام الانوار , و تسمى النفس فيه لوامة . و اللوم انما هو على الأول و بقية شيء منه في المقام الثاني كما هو معلوم في صناعة السير و السلوك . و انما و قع اللوم و الانكار في المقام الثاني على الأول , لأنه علم الحق حقا و الباطل باطلا و لم يقدر على الانفصال منه , أي من الباطل و لذلك لام نفسه . و لأن الثاني مقام الأنوار , و بالأنوار ينكشف ما في ظلمة الاغيار , فيقع الاعتراض و اللوم و الانكار الى الثالث , و هذه فائدة الترقي . و هذا كله قطرة من بحر علم شيخنا الازهري نفعنا الله تعالى به , آمين . و لولا خيفة الاطالة و الخروج عن المناسبة لبينا كل مقام على لسان العلم , و لكن ان دعت المناسبة اليه أشرنا الى ما يحتمله المقام , و الله علم . فالملخص من هذا الكلام أن الانكار و اللوم و الاعتراض انما يتوجه الى أهل المقام الأول و بعض اهل المقام الثاني لأنه لا يستطيع أن يميز بين الحق و الباطل , فهو كما قيل :
يغبى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
و العارفون لا يعنون الا ما ذكر , و ان عمموا بقولهم فذلك للتأنس و عدم الايحاش و سلوك الأدب مع الحق و الناس . ألا ترى قوله تعالى , " و الوالدات يرضعن أولادهن " , الى قوله " و على المولود له رزقهن و كسوتهن " , الآية , ايناسا و رحمة بالأمهات سبحانه و تعالى و تعليما لنا . فقد اشار باللام لدالة على اختصاص الولاد بالوالد دون الوالدة رحمة بالم ي لا تحزن و تتألم بصريح الخطاب الوارد و لا شك أن الاشارة أغمض من و لأجل أن لا يفهمها كل
كان عليه السلام يقول : " ما بال أقوام " كذا و كذا , و يعني به واحدا . و هكذا سيرة العارفين , لا يعنون الا الأمارة , وهو معنى قولنا اذا تغير القصد و نقض العهد الخ . و كذلك قولنا لا ينزل القياس على كل الناس . و لذلك كان يجب قبل كل شيء بعد الايمان بالله و تعلم ما يجب تعلمه أولا , على كل مكلف أن يأخذ في السير و السلوك و يفحص عليه و على أهله حتى يجده , فان من جد وجد . و ينبغي له أن لا يقول لا وجود له و لا لأهله , فان الله تعالى لا يعجزه شيء , و لو يبعث له من رجال لغيب . و قد صرحت السنة بذلك بحديث " لا تزال طائفة من أمتي " ... الخ . و بالصدق و النية و الاخلاص تدرك مراتب الخواص و خواص الخواص و الله أعلم . ثم قال عفا الله تعالى عنه :
-
( و ما هو الافضل في الاكثار ذكر صلا تعلم أو قاري )
اشتمل البيت على سؤال واحد و هو ما هو الأفضل لطالب الآخرة , الاكثار من ذكر لا اله الا الله , أو من صلاة النافلة المطلقة , أو الاشتغال بالعلم الشرعي تعليمه و تعلمه , أو قراءة القرآن و تلاوته و به تمام ثمانية و عشرين سؤالا . و قوله صلا أي صلاة , فان الصلا وسط الظهر منا و من كل ذي أربعة أو ما عن يمين الذنب و يساره , و هما صلوان (قاموس) . قيل الصلاة مأخوذة من تحريكهما عليه , فهو اصل لها و جائز في النظم أن ترد الأشياء الى أصولها . الفصل الثامن و العشرون : في تالجواب على قوله و ما هو الأفضل لطالب الآخرة . هل الاكثار من ذكر لا اله الا الله , أو الاكثار من الصلاة النافلة المطلقة , أو الاكثار من قراءة القرآن و تلاوته , أو الاكثار من قراءة العلم الشرعي تعلما و تعليما . اعلم أنه قال الامام زين الدين في الجوهر الخاص أن جميع ما ذكر في هذا السؤال أعمال تتوقف على العلم , اذ هو رأس العمل . فمن ثم كان الأفضل للمكلف أن يتعلم من العلم ما لا يسعه جهله , و هذا القدر فرض عليه . و ما ذكر في السؤال نوافل و الفرض افضل من النافلة و لحديث الآتي ذكره , و قال صلى الله عليه و سلم : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " . ثم بعد العلم لا يخلو طالب الآخرة اما أن يريد العمل بأفضل العمال , فالأفضل من الأعمال بعد الايمان , كما قال امامنا الشافعي رحمه الله تعالى ,الصلاة فرضا و نفلا لحديث " ما تقرب الي عبدي بشيء أحب الي مما افترضته عليه مازال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه , فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به و يده التي يبطش بها و رجله التي يمشي بها , و ان سألني لأعطينه و ان استعاذني لأعيذنه , و ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن يكره الموت و أنا أكره مسائته " . و قال الامام أحمد رحمه الله تعالى : " لا شيء بعد فرائض الاعيان أفضل من العلم و الجهاد , و الأفضل الأذكار من القرآن , سيما اذا كان في الصلاة . و أما ان يريد سلوك طريق الصوفية فالأفضل له في مذهبهم الاكثار من الذكر بعد تعلمه ما لا يسعه جهله من العلم , فان الله تعالى أمر بذلك فقال : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا " , الآية . و قد ورد في كتاب الترمذي و ابن ماجة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه , قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : أفضل الذكر لا اله الا الله " , و قال الترمدي حديث حسن . و قد أجمع المشائخ المرشدون على أنه ما سلك المريد طريقا أصح و أوضح من الذكر , فينبغي للسلك أن لا يشتغل بشيء سواه ما عدى الفرائض و السنن , و ما للمحب شأن أشرف و أعلى من الاشتغال بذكر محبوبه على رجاء وصله و مشاهدة جماله , حتى قال الغزالي في الاحياء : " و يمنع الشيخ المريد من تكثير الأوراد الظاهرة بليقتصر على الفرائض و الرواتب و يكون ورده وردا واحدا و هو لب الأوراد و ثمرتها , أعني ملازمة القلب لذكر الله تعالى بعد الخاو عن ذكر الغير حتى يشتغل به لسانه و قلبه فيجلس مثلا و يقول الله الله , و لا يزال يواظب عليه حتى تسقط حركة اللسان و تكون الكلمة كأنها حادثة على اللسان من غير تحريك , ثم لا يزال يواظب عليها حتى يسقط الأثر عن اللسان و تبقى صورة اللفظ في القلب . ثم لا يزال كذلك حتى تنمحي من القلب حروف اللفظ و صورته , و تبقى حقيقة معناها لازمة للقلب حاضرة معه غالبة عليه قد فرغ القلب عن كل ما سواها , لأن القلب اذا اشتغل بشيء خلا عن غيره . فاذا اشتغل اللسان أولا بذكر الله تعالى فبالمواظبة عليه يسكن في القلب , فيلشتغل بذكر الله تعالى , فاذا اشتغل به كان هذا هو المقصود . فمن ثم لم يخل القلب لا محالة عن ذكر الله تعالى , و عند ذلك يلزمه أن يراقب وساوس القلب و الخواطر التي تتعلق بالدنيا , ما يتذكر فيمكا مضى في أحواله و احوال غيره
, فانه مهما اشتغل بشيء منه و لو في لحظة , خلا قلبه عن الذكر في تلك اللحظة و كان نقصانا , فليجتهد في دفع ذلك . ثم قال : (فائدة) لبعض المحققين و هي أن النصف الأول من كلمة التوحيد لتطييب الأسرار و تنزيهها , و النصف الثاني لتنوير القلب . و الأول فناء و الثاني بقاء , و الول انفصال عن ما سوى الحق و الثاني اتصال بالحق . و الأول اشارة الى قوله " ففروا الى الله جميعا " , و الثاني اشارة الى قوله تعالى " قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " . (منزع ) " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا " . يا نداء من الحبيب للحبيب , و أيها تنبيه من الحبيب للحبيب , و الذين اشارة من الحبيب للحبيب , و اذكروا الله أمر من الحبيب للحبيب . و الذكر الكثير باللسان أ، لا يذكر مع الله تعالى غيره . و الذكر الكثير من القلب أن لا يفتر على المشاهدة و لا يغفل عن الحضرة بحال , و قيل في المعنى :
الله يعلم أني لست أذكره و كيف أذكر شيئا لست أنساه
قلت و اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في العلم الذي يجب أولا في قوله صلى الله عليه و سلم : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " , الخ . قيل علم الحال و قيل علم الحلال و الحرام , و قيل علم التوحيد , و قيل علم السر , و قيل علم الخواطر , و قيل علم غير ذلك . قال الامام حجة الاسلام أبو حامد الغزالي في كتابه منهاج العابدين : " فاعلم أن العلوم التي في الجملة فرض طلبها ثلاثة : علم التوحيد , و علم السر , أعني به ما يتعلق بالقلب و مساعيه و علم الشريعة . و أما حد ما يجب من كل منها , فالذي يتعين فرضه من علم التوحيد ما تعرف به أصول الدين , و هو أن لك الاها عالما قادرا مريدا حيا متكلما سميعا بصيرا واحدا لا شريك له , متصفا بصفات الكمال , منزها عن دلالة الحدوث , منفردا بالقدم على كل محدث , و أن محمدا صلى الله عليه و سلم عبده و رسوله الصادق فيما جاء به عن الله تعالى و في ما ورد على لسانه من أمور الآخرة , ثم مسائل في شعائر السنة يجب معرفتها . و اياك أن تبتدع في دين الله تعالى ما لم يرد به كتاب و لا أثر , فتكون مع الله تعالى على أعظم خطر . و جميع أدلة التوحيد موجودة , أصلها في كتاب الله عز و جل , و قد ذكرها شيوخنا رحمهم الله تعالى في كتبهم التي صنفوها في أصول الديانات و على الجملة كل ما لا يؤمن الهلاك مع جهله من العلوم فطلبه فرض لا يسوغ تركه . و أما الذي يتعين فرضه من علم السر فمعرفة مواجبه و مناهيه حتى يحصل لك تعظيم الله تعالى و الاخلاص له في النية و سلامة العمل . مواجبه كالتوكل و التفويض و الرضا و الصبر و التوبة و غير ذلك . و مناهيه هي أضدادها كالسخط و الرياء و الامل و الكبر و العجب و غيرها . و أما ما يلزم من علم الشريعة , فكلما يتعين عليك فرض فعله وجب عليك تعلمه لتؤديه كالطهارة و الصلاة و الصيام , أما الحج و الجهاد و الزكاة ان تعين عليك وجب عليك عمله تؤديه و الا فلا . فهذا ما يلزم العبد تحصيله من العلم لا محالة , و يتعين فرضه بحيث لا بد له من ذلك " , انتهى و الله أعلم . ثم قال عفا الله تعالى نه :
( هل اكتساب مع لزوم الواجب و ما هو الترتيب في الأفضليات )
اشتمل البيت على سؤالين , الأول , هل الاكتساب و القيام على من يلزمه مؤنته مع القيام بالواجبات أفضل أم التوكل و ترك ذلك و الاشتغال بأحد الأمور المتقدم ذكرها قبله . الثاني , و ما هو الترتيب في الافضل من الاعمال , و ما يجب تقديمه على غيره منها لطالب الآخرة و بهذين السؤالين تمام ثلاثين سؤالا . قوله هل اكتساب افضل مع لزوم واجبات منها القيام على من تلزمه مؤنته , أم توكل واشتغال بالعبادة . الفصل التاسع و العشرون : في الجواب على قوله هل الاكتساب افضل أم التوكل الخ , اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى في كتابه الجوهر الخاص في أجوبة كلمة الاخلاص , الاكتساب لأجل ما ذكر واجب , لقوله صلى الله عليه و سلم : " كفى بالمرء اثما أن يضيع من يعول " , و في رواية " من يقوت " , مع أنه يحتاج الى العلم . كما قال العلماء , المتسبب يحتاج الى شيئين , علم و تقوى . فالعلم يعرف به الحرام و الحلال , و التقوى تصرفه عن ارتكاب الآثام و الضلال . و روي عن الامام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال : " الافضل من
الاسترزاق الكسب بالحرف و الصنائع و الزراعة و التجارة و نحو ذلك , دون السؤال . و عند بعض الصوفية الكسب بالسؤال أقوى في كسر النفس من الكسب . بما ذكر وحده تحصيل الكفاية التي تقوم به و بمن تلزمه نفقته أو الكفاف , فانه صلى الله عليه و سلم قال : " اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا " , و من ثم عد الكسب من الرخص في مذهبهم , و ان تعين في حق المبتلى بالعيال و الأولاد و من يجب القيام عليهم , لأن التجرد و التسبب ليسا رتبة واحدة عندهم , و لن يجعل الله تعالى من تفرغ لعبادته و شغل أوقاته كالمتداخل في الاسباب و لو كان فيها متقيا . اذ المتجرد و المتسبب و ان استويا في مقام المعرفة بالله تعالى , فالمتجرد أفضل و ما هو فيه أعلى و أكمل , اذ مثلهما كعبدين لمالك قال لأحدهما اعمل و كل من كسبك , و قال للآخر الزم أنت خدمتي و حضرتي و أنا أقوم لك بما تريد , فلا مزية أن هذا قدره عند المالك أجل و صنعه بتلك الغاية أدل , و ان لم يستويا في المعرفة . فالمريد المتجرد كالمسافر المتجرد ينهض في سيره الى قطع المسافات البعيدة , يمد السير دون المسافر المثقل , فلا يصح له ذلك . و المراد بالرخصة في مذهب الصوفية الرجوع عن حقيقة العلم الى ظاهره , و يعدون ذلك نقصا في حالهم و الانحطاط الى الظاهر عن درجة الحقيقة من سوء الادب عند بعضهم و الله اعلم . قلت , و قد قال العلامة الجلال السيوطي في اتمام الدراية : " و فضل قوم التوكل على الاكتساب بالاعراض عن أسبابه اعتمادا للقلب على الرب تعالى . و عكس قوم ففضلوا الاكتساب على تركه و فضل آخرون باختلاف الأحوال . فمن يكن في توكله لا يسخط عند ضيق الرزق عليه و لا يطلع الى سؤال أحد من الخلق , فالتوكل في حقه أفضل لما فيه من الصبر و المجاهدة للنفس . و من يكون في توكله بخلاف ما ذكر فالاكتساب في حقه أفضل حذرا من السخط و التطلع " , ثم قال : " و المختار عندي أنه لا ينافي التوكل , بل يكون مكتسبا متوكلا بأن يرضى بما قسم له و لا يتطلع الى أكثر منه . و قد قال عمر رضي الله تعالى عنه لقوم قعدوا و ادعوا التوكل , " بل أنتم المتواكلون , انما المتوكل الذي يلقي بذره في الأرض و يتوكل " , رواه البيهقي . و في رسالة الامام القشيري عن سهل ابن عبد الله رحمهما الله تعالى , التوكل حال النبي صلى الله عليه و سلم و الكسب سنته . فمن قوي على حاله فلا يتركن سنته . و يقرب من ذلك حديث " أدع ناقتي و أتوكل , فقال عليه السلام , اعقلها و توكل " . ولا ينافي التوكل أيضا ادخار قوت سنة , فقد كان صلى الله عليه وسلم يدخر قوت عياله سنة كما في الصحيحين , و هو سيد المتوكلين . و كل من الخلق أقامه الله تعالى على ما يريد سبحانه من الحالة التي هو عليها من كسب و ترك و علم و عمل وارتفاع و انخفاض و غير ذلك لانتظام الوجود , اذ لو ترك الناس كلهم الكسب لتعطلت المصالح و المعايش و تفاوتت المراتب في الدنيا و الآخرة , لا راد لقضائه بالدفع و لا معقب لحكمه بالنقض سبحانه و تعالى , انتهى و الله أعلم . قوله , و ما هو الترتيب في الأفضليات , أي و ما ترتيب الأفضلية في ما تقدم في قوله وما هو الأفضل في الاكثار , ذكر صلا تعلم أو قاري . يعني ما يجب تقديمه أولا من الأعمال , و ما يكون بعده على الترتيب الخ . الفصل الثلاثون : في الجواب على قوله أي السائل , وما ترتيب الأفضلية الخ , اعلم أنه قال الامام العارف بالله تعالى زين الدين في كتابه الجوهر الخاص في الجواب على هذا السؤال , يأخذ مما تقدم في الجواب قبل هذا , أن علم ما لا يسع المكلف جهله أفضل اذ هو الأصل و العمل فرع , و لا يصح فرع بدون أصل , يعضد ذلك ما أخرجه تقي الدين بن مخلد عن عبد الله بن عمرو بن العاص , أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بمجلسين أحدهما يدعون الله تعالى و يرغبون اليه , و الآخر يعلمون العلم و يتعلمونه , فقال صلى اله عليه و سلم : " كلا المجلسين على خير و أحدهما أفضل من الآخر " , يريد مجلس العلم و الله أعلم . و قد علم أيضا مما تقدم أن القرآن أفضل الأذكار , و ان كان المفضول قد يكون أفضل في بعض الاحوال باعتبار آخر و هذا متفق عليه , و لم ينازع في ذلك الا بعض المتأخرين , حيث جعل الذكر أفضل , اما مطلقا أو في بعض الخواص كما يقوله الغزالي رحمه الله تعالى , أو في حق المبتدء و هو أقرب . فان المفضول قد يكون أفضل في بعض الأزمان و الاشخاص كالقراءة في الركوع , فانها تكره تعظيما و تشريفا أن يقرأ القرآن في حالة الخضوع , و هو الذل . كما كره أن يقرأمع الجنابة و الله أعلم " , انتهى كلامه . فلت , لم يستوعب بهذا الجواب من السؤال المراد , لكن لا ينبغي لمثلنا عليه اعتراض كما قال سيدي قاسم بن غانم في معارضته للشيخ سيدي علي النوري في تحريم الدخان :
و لم أرض خلف الشيخ حبا و هيبة فما رؤية الزرقا كرؤية أرمد
الخ . و الغريب في ترتيب الأفضليات ما ذكره العلامة العارف بالله تعالى الجلال في خاتمة شرحه اتمام الدراية على النقاية في فن الت . قال رحمه الله تعالى : " العلم أس العمل , فلا يصح عمل بدونه . وهو أي العمل ثمرة العلم , فلا ينفع علم بلا عمل بل يضر . و قليل العمل مع العلم خير من كثيره مع الجهل . لأن من عمل بلا علم ففساده أكثر من صلاحه . فمن ثم كان العلم كما قال الامام الشافعي , رضي الله عنه , أفضل من صلاة النافلة لأنه فرض عين أو كفاية . و الفرض أفضل من النفل لحديث : " و ما تقرب الي عبدي بشيء أحب الي مما افترضته عليه " , الخ كما تقدم , رواه البخاري . و قال صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " . و قال عليه السلام : " لفقيه واحد أشد على الشيطان من لف عابد " , رواهما الترمذي و غيره . و قال عليه السلام : " فضل العلم أحب الي من فضل العبادة " , رواه الحاكم , و في لفظ عند الطبراني " قليل العلم خير من كثير العبادة " . و كفى بالمرء فقها اذا عبد الله و كفى بالمرء جهلا اذا أعجب برأيه . و كان صلى الله عليه و سلم يدعو : " اللهم اني أعوذ بك من علم لا ينفع " , رواه الحاكم و غيره . و قال عليه السلام كل علم وبال على صاحبه يوم القيامة الا من عمل به " , رواه الطبراني . و أفضل العلم أصول الدين , لتوقف أصل الايمان و كماله عليه . فالتفسير لتعلقه بكلام الله تعالى , أشرف الكلام , فالحديث لتعلقه بكلامه صلى الله عليه و سلم , فالأصول فالفقه , فالآلات من النحو و اللغة و المعاني و غيرها على حسبها , أي قدر الحاجة اليها , فالطب لأنه من فروض الكفاية . و الصلاة أفضل من الطواف و سائر العبادات على الأصح , لحديث " خير أعمالكم الصلاة " , رواه الحاكم و غيره . و الطواف أفضل من غيره من العبادات حتى من العمرة . روى الأزرقي أن أنس بن مالك قدم المدينة , فركب اليه عمر بن عبد العزيز , فسأله الطواف أفضل أم العمرة فقال : " الطواف و النفل بالبيت أفضل من خارجه , حتى من مسجد مكة و المدينة , لحديث الصحيحين : " ياأيها الناس صلوا في بيوتكم فان أفضل صلاة المرء في بيته الا المكتوبة " , و نفل الليل أفضل من نفل النهار , لحديث مسلم : " أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة اليل ثم وسطه " , أي الثلث الاوسط أفضل من طرفيه . فآخره أفضل من أوله و هو ما بعد الوسط . سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم , أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة , فقال : " جوف اليل " , رواه مسلم . و قال عليه السلام : " أحب الصلاة الى الله تعالى صلاة داوود , كان ينام نصف اليل و يقوم ثلثه و ينام سدسه " . و قال عليه السلام : "ينزل ربنا كل ليلة الى السماء الدنيا حين يبقى ثلث اليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له , من يسألني فأعطيه , من يستغفرني فاغفر له " , رواهما الشيخان . و القرآن أفضل من سائر الذكر , للحديث الآتي , و هما أي القرآن و الذكر أفضل من الدعاء , حيث لم يشرع لما روى الترمذي و حسنه عن أبي سعسد الخذري قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم , يقول الرب تبارك و تعالى , " من شغله القرآن و ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " , و فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه " . و في لفظ في مسند البزار , يقول الله تعالى : " من شغله قراءة القرآن عن دعاءي أعطيته أفضل ثواب الشاكرين " . و روى البيهقي حديث " قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة , و قراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من التسبيح و التكبير . أما الدعاء حيث شرع و كذا الذكر فهو فهو أفضل اتباعا , و حرف تدبر خير من حرفي غيره . قال تعالى : " كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته " . و قال تعالى : " ورتل القرآن ترتيلا " . و روى أبو عبيدة عن أبي حمزه , قال : " قلت لابن عباس اني سريع القراءة , فقال : لان أقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها و أرتلها , أحب الي من أن أقرأ القرآن أجمع هدرمة " . و روى أصحاب السنن الأربع حديث : " لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث " . و روى البخاري عن أنس , قال : " كانت قراءة النبي صلى لله عليه وسلم مدى " . و روى أبو داوود و الترمذي و النسائي عن أم سلمة أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم , قراءة مفسرة حرفا حرفا . و القراءة بالمصحف أفضل منها على ظهر قلب , لأن النظر فيه عبادة , حتى كره جماعة من السلف أن يمضي على الرجل يوم لا ينظر في مصحفه . و روى أبو عبيدة حديث فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرأ مظهرا , كفضل الفريضة على النافلة , و اسناده ضعيف . و روى " أعطوا أعينكم حظها من العبادة , قالوا وما هو , قال النظر في المصحف ".
و فيه بسند صحيح موقوف على ابن مسعود : " أديموا النظر في المصحف " . و الجهر افضل من السر حيث لا رياء , فان نفعه متعدد للسامعين . أما اذا خاف الرياء فالاسرار أفضل , و غليه يحمل حديث الترمدي : " الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة , و السر بالقرآن كالمسر بالصدقة " . و السكوت أفضل من التكلم و لو استوت مصلحتهما الا في حق . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل كلام ابن آدم عليه لا له الا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله تعالى " . و قال عليه السلام تكثروا الكلام بغير ذكر الله , فان الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب و ان أبعد الناس من الله القلب القاسي , و مخالطة الناس و تحمل أذاهم أفضل من اعتزالهم " . قال عليه الصلاة و السلام : " المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس و لا يصبر على أذاهم " , رواه الشيخان في الادب , و هو أفضل أي الاعتزال حيث خاف الفتنة في دينه بموافقتهم على ما هم عليه , يحمل عليه حديث عقبة : " واليسعك بيتك " , الخ . و روى ابن ابي الدنيا في كتاب العزلة , حيث " أن أعجب الناس الي رجل يؤمن بالله و رسولهو يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة و يفر بماله و يحفظ دينه و يعتزل الناس " . و روى البيهقي في الزهد من حديث أبي هريرة مرفوعا : " يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه , الا من هرب بدينه من شاهق الى شاهق و من حجر الى حجر . فاذا كان ذلك الزمان لم تنل المعيشة الا بسخط الله تعالى . فاذا كان ذلك كذلك كان هلاك الرجل على يد زوجته و ولده . فان لم يكن له زوجة و لا ولد كان هلاكه على يدي أبويه , فان لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي قرابته أو الجيران " , قالوا : " كيف ذلك يا رسول الله " , قال : " يعيرونه بضيق المعيشة فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها نفسه , و الكفاف أفضل من الفقر و الغنى " . قال عليه السلام : " أفلح من أسلم و رزق كفافا و قنعه الله بما رزقه " . و قال عليه السلام : " طوبى لمن هدي للاسلام و كان عيشه كفافا و قنع " . روى الاول مسلم و روى الثاني الترمذي . و قيل الفقر مع الصبر أفضل لما في الصحيحين : " يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمس مائة عام " . و قيل الغنى مع الشكر أفضل لحديث الصحيحين : " ذهب أصحاب الدثور بالأجور " , الخ , انتهى و الله أعلم . فهذه نبذة من ترتيب الأفضليات تومى الى قوله و ما هو الترتيب في الأفضليات . ثم قال عفا الله تعالى عنه:
( و هل ما بعد مغرب و فجر سن احياؤه و أي فيهما حسن )
اشتمل البيت على سؤالين . الاول , هل احياء ما بين المغرب و العشاء و ما بين الفجر و طلوع الشمس سنة أم لا . السؤال الثاني , ما هو الأفضل فيما بين المغرب و العشاء من الاشتغال بالصلاة أو بقراءة القرآن أو الذكر أو التسبيح أو غيرهما , و فيما بعد صلاة الصبح بالذكر أو بالقرآن أو مطالعة الكتب الشرعية أو تعلمها و تعليمها أو غير ذلك , مما فيه نفع في الدارين . و زاد هنا سؤالا ثالثا و هو , و هل تكره القراءة بعد العصر أم لا , و لكن ذكره استطرادا , و حديث لم يعقد له بابا في الأصل لم نعقد له فصلا في النظم تبعا له . و بتمام السؤالين المذكورين في النظم ما عدى الثالث , بلغت اثنان و ثلاثون سؤالا . قوله و هل ما بعد مغرب و فجر سن احياؤه , أي وهل ما بعد مغرب الى العشاء , وما بعد فجر الى طلوع الشمس سنة احياء هذين الوقتين أم لا . الفصل الحادي و الثلاثون : في الجواب على قوله و هل يسن احياء ما بين المغرب و العشاء و ما بين الفجر و الطلوع أم لا الخ . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى في كتابه الجوهر الخاص : " نعم انه سنة فيما ذكر لما ورد فيه من الأحاديث الآتي ذكرها ان شاء الله تعالى , انتهى كلامه و الله أعلم . قلت أما احياء ما بين المغرب و العشاء , فقد بالغ الصوفية رضي الله عنهم و أكدوا في المحافظة على تعمير هدا الوقت و حذروا و نهوا عن الكلام المباح فيه فضلا عن المكروه و خلاف الأول حتى قال بعضهم : " كلما تكلم العبد كلمة فيه الا خرج من قلبه نور و نزل مكانه ظلام , و هكذا حتى يمتلأ قلبه ظلاما و هو لا يشعر . فليحذر المريد الطالب طريق الآخرة من الكلام فيه و أن يعمره بما يأتي ان شاء الله تعالى في الفصل الثاني و الثلاثين , و لعله و الله أعلم ليحصل له الحضور في صلاة العتمة , لأنها خاتمة صلاة يومه , و الأمور تعتبر بخواتمها , و لأنه , أي الوقت المذكور احياؤه و تعميره وسيلة لها , و من ضيع الحضور في الوسائل لا يستطيعه في المقاصد , و من ذلك شرطوا الحضور في الوضوء ليستعان به على الحضور في الصلاة كما ذكرهفي العوارف . قلت , و اذا حصل له حضور و خشوع في صلاة , كان و الله أعلم كمن صلاها في جماعة , لما ورد في الأخبار أن العبد اذا قام الى الصلاة رفع الله تعالى الحجاب بينه و بينه و واجهه بوجهه الكريم , و قامت الملائكة من لدن منكبيه الى الهوى يصلون بصلاته و يؤمنون على دعائه . و أن المصلي لينشر عليه من البر من عنان السماء الى مفرق رأسه و يناديه منادي لو علم المصلي من يناجي ما التفت أو ما انفتل , الخ . هذا ما لم يسرق من صلاته , لقولهم : " أقبح السرقة سرقة المصلي من صلاته " , و هو أن يلتفت قلبه الى غير ما هو بصدده . و قد قال عليه الصلاة و السلام : " تفضل صلاة الجماعة صلاة الفذ بسبع و عشرين درجة " , و خصوصا اذا وافق ليلة القدر , فانها تنتقل على الصحيح في جميع ليالي السنة خلافا لمن حصرها في افراد النصف الاخير من رمضان , أو في العشر الأواسط , أو في العشر الأواخر منه أو في ليلة السابع و العشرين منه , أو ليلة النصف من شعبان أيضا . أقوال و الصحيح ما ذكرناه , قاله سيدي عبد الله بن أبي جمرة نفعنا الله تعالى به آمين . و قد قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه : " من شهد العشاء في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر , و ليلة القدر كما قال تعالى خير من ألف شهر , و مبلغها ثلاثون ألفا من الايام و ثلاثون ألفا من الليالي , و مجموعها ستون ألفا من الدهر , أوزعنا الله تعالى شكر نعمه و جعلنا من أهلها و أعاننا عليها بمنه آمين . و لهذا ينبغي للمريد الطالب طريق الآخرة أن لا يتقاصر عن نيتها كل ليلة , أو ينويها أي ينوي قيامها أول ليلة من السنة فيقول ان كانت الليلة ليلة قدر فأنا أقومها ايمانا و احتسابا , و ينوي أن يفعل ذلك في ليالي السنة , ثم يستصحب قيام ليالي تلك السنة كلها بناء على كفاية نية واحدة في العمل المتتابع كالصوم في رمضان و هو مذهب مالك رضي الله عنه لقوله عليه الصلاة و السلام : " من قام ليلة القدر ايمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " , رواه البخاري من حديث أبي هريرة . قوله ايمانا يعني لما جاء فيها من الثواب , و احتسابا يعني ثوابه عند الله تعالى . فخرج من قامها عادة أو مباهاة أو مستأجرا أو غيره , قاله الشيخ زروق . و اختلف في قيام ليلة القدر هل الليل كله أو بعضه , و اذا كان بعضه هل أوله و هو ما بعد صلاة العشاء كالتراويح , و تسمى قيام رمضان , أو آخره و هو ما بعد النوم و يسمى التهجد , الصحيح الاخير عندي . يصح الاول لما نقل الواحدي في قوله تعالى " و الذين يبيتون لربهم سجدا و قياما " . قال : " و ذكر الكلبي عن ابن عباس أنه قال : " من صلى ركعتين بعد العشاء فقد بات لله ساجدا و قائما " . و اختلف هل يجزي غير الصلاة من أنواع العبادات في قيام هذه الليلة من الدكر و التلاوة أو المراقبة أو غيرها . الظاهر أنه يجزي لكن ذكر العلامة الولي العارف بالله تعالى سيدي عبد الله ابن أبي جمرة , أن الصلاة هي المطلوبة في قيام هذه الليلة , و لا يجزي غيرها عنها من أفعال البر آخذا من قول سعيد بن المسيب : " من صلى العشاء في جماعة " , الخ , كما تقدم . واختلف أيضا في القدر المجزي منها , أي من الصلاة لتحصيل ثوابها المذكور في اللآية و الحديث على أقوال , و الصحيح نهايته قيام النبي صلى الله عليه وسلم بما ثبت عنه من الاحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعات على اختلاف الروايات , و أنه لم يزد عليها في رمضان و لا في غيره , بدليل أنه عليه الصلاة و السلام , لا يأخذ في حق نفسه المكرمة الا بالأعلى و الأرجح . و أقل ما يجزي فيها ركعتان , لقوله عليه الصلاة و السلام : " من قام بالآيتين من آخر سورة البقرة " , و في رواية , " من آخر سورة آل عمران , كفتاه " , أي أجزتاه عن قيام الليل . و اختلف فيمن صلى أقل من ركعتين هل يحصل له فضلها كله أم بعض . الصحيح أنه يصح له بعض لقول سعيد بن المسيب : " فقد أخذ بحظه منها " , كما تقدم , و هو على قول من يجوز التنفل بركعة , خلافا للحنفية . و أما احياء ما بين الفجر و طلوع الشمس فلا تخفى سنية احياء هذا الوقت على من له أدنى ممارسة بكتب الشريعة و رسائل أهل الصوفية , لما جاء في ذلك من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية و الصحف الابراهيمية , كما سيأتي بعده ان شاء الله تعالى في الفصل الرابع و الثلاثين منها ما ورد , و مما أنزل الله تعالى في صحف ابراهيم عليه السلام . و على العاقل أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربه . قال الشيخ زروق : " هي من السحر الى طلوع الشمس " . و ساعة يحاسب فيها نفسه , قال : " و هي من العصر الى الغروب " , الخ , فلا نطيل به . و قوله تعالى : " و اذكر اسم ربك بكرة و أصيلا " , الآية . قالوا , البكرة من طلوع الفجر الى حلول النافلة . و قال له الصلاة و السلام : " واستعينوا بالغدوة و الروحة و بشيء من الدلجة " , الخ . و كذلك قوله تعالى في الحديث القدسي : " اذكرني ساعة بعد العصر " , الخ . فالغدوة و ساعة بعد الصبح هو من الفجر الى الشمس و الله أعلم . و كثير مما لا يحصى من اللآيات و الأحاديث الدالة على سنية احياء هذا الوقت تركناها اختصارا , و الله تعالى الموفق للصواب . قوله و أي فيهما حسن , الضمير في قوله فيهما عائد على ما بين المغرب و العشاء , و ما بين الفجر و طلوع الشمس . كأنه يقول , فاذا ثبت سنية احياء هذين الوقتين , أي عمل من أعمال البر يحسن تعميرهما به , و هو السؤال الثاني و الثلاثون على الكلمة المشرفة . الفصل الثاني و الثلاثون : في الجواب على قوله ما هو الافضل فيما بين المغرب و العشاء , الاشتغال بالصلاة أو بقراءة القرآن أو الذكر أو التسبيح أو غيرهما . و فيما بعد صلاة الصبح , أبالذكر أو بالقرآن أو مطالعة الكتب الشرعية أو تعلمهما أو تعليمهما أو غير ذلك مما فيه نفع في الدارين , بل في الدين , و هل تكره القراءة بعد العصر أم لا . اعلم أنه قال الامام العالم العارف بالله تعالى , زين الدين رحمه الله تعالى , في الجوهر الخاص , قال الامام النووي , رمه الله تعالى , في الأذكار : " روى بن السمني عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها , أن النبي صلى الله عليه و سلم كان اذا انصرف من صلاة المغرب يدخل فيصلي ركعتين ثم يقول فيما يدعو: " يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ". و في غير الأذكار قال أنه صلى الله عليه و سلم كان يصلي بين المغرب و العشاء ست ركعات . و روى السلمي عن أنس رضي الله عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى بعد المغرب ثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل " قل هو الله أحد " أربعين مرة , صافحته الملائكة يوم القيامة و أمن الصراط و الحساب و الميزان " . ففي هذا دليل على أن الصلاة في هذا الوقت أفضل , الا أنه ورد ما يدل على أن الذكر فيه أفضل . ففي الترمذي عن عمارة بن شبيب قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قال لا اله الا الله وحده لا شريك , له
الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير عشر مرخات اثر صلاة المغرب , بعث الله تعالى مسلحة يكفلونه من الشيطان حتى يصبح , و كتب الله له عشر حسنات موجبات و محى عنه عشر سيئات موبقات و كانت له بعدل عشر رقبات مؤمنات " . لكن قال الترمذي لا نعرف لعمارة بن شبيب سماعا من النبي صلى الله عليه و سلم . و في كتابه عمل اليوم و الليلة من طريقين , أحدهما هذا , و الثاني عن عمارة عن رجل من الأنصار , قال ابن عساكر أن هذا الثاني هو الصواب . و قوله مسلحة هو الحرس , انتهى كلامه . قال في القاموس , المسلحة بالفتح هم االقوم ذوو السلاح . قلت , و ذكر الامام العارف بالله تعالى أبو الحسن علي الخروبي في شرحه على أصول الشيخ أحمد زروق رحمهما الله تعالى , و اختار المشائخ , رحمهم الله تعالى و نفعنا بهم آمين , في هذا الوقت الى صلاة العشاء الأخيرة النافلة , لأنه وقت غفلة و من شاء ذكر الله تعالى فليفعل , و كذلك الصلاة على سيدنا و مولانا محمد صلى الله عليه و سلم . و من كان له عيال أو أولاد و أراد أن يعلمهم ما يجب عليهم من أمور دينهم , فذلك أفضل الأعمال و أعظمها ثوابا عند الله تعالى . و ذكر الامام العالكم الجامع بين الحقيقة و الشريعة , العارف بالله تعالى الخوافي في رسالته الوصية في صرف الأوقات لما يليق بها , قال : " في هذا الوقت و هو بعد المغرب الى العشاء , يأتى بسنتي المغرب ثم يصلي لبقاء الايمان , يقرأ في كل ركعة منها بعد الفاتحة آية الكرسي مرة و الاخلاص مرة , و المعوذتين كل واحدة منهما مرتين , ثم اذا سلم يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم عشر مرات , ثم يدعو بهذا الدعاء ثلاث مرات : " اللهم أستودعك ديني و ايماني فاحفظهما علي في حياتي و عند وفاتي و بعد مماتي " , ليثبته الله تعالى على الايمان و يأمنه من النزع و الخذلان . قال كذا أفاده شيخنا قدس سره . ثم اذا كان طالب العلم يشتغل فيما بين العشائين بالمطالعة و التكرار و لا يتكلم في هذا الوقت فان الكلام فيه يكدر القلب و يذهب بنظارة الوقت , فلا يصفو الى آخر الليل . و زاد , قال : " و كذا فيما بعد العشاء الأخيرة لا يتكلم البتة , الا ذا عرض عارض شرعي فذلك لا يضره اذا كان مقتصرا على قدر الحاجة . قال , و ان لم يكن طالب علم فالأولى الاشتغال بذكر لا اله الا الله على الوصف الذي تقدم , فان الذكر في هذا الوقت يصفي قلبه عما طرأ عليه من الأمور الطبيعية في النهار فيتهيأ بالصفاء للحضور فيما يعمل بالليل الى آخره . و أما فيما بعد صلاة الصبح فالافضل الذكر لما روى الترمذي في كتابه عن أنس رضي الله تعالى عنه , أنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من صلى الفجر في جماعة , ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس , ثم صلى ركعتين , كانت له كأجر حجة و عمرة " , ثلاثا . قال الترمذي حديث حسن . و أخرج البيهقي و ابن أبي الدنيا و الأصبهاني عن أنس رصي الله تعالى عنه , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لان أجلس مع قوم يذكرون الله تعالى من بعد صلاة الصبح الى أن تطلع الشمس , أحب الي مما طلعت عليه الشمس . و لان أجلس مع قوم يذكرون الله تعالى بعد صلاة العصر الى أن تغيب الشمس , أحب الي من الدنيا و ما فيها " . و قال النووي رحمه الله تعالى في الاذكار في كتاب تلاوة القرآن : " و القراءة بين المغرب و العشاء محبوبة , و أما قراءة النهار فأفضلها بعد صلاة الصبح , و لا تكره القراءة في وقت من الأوقات , و لو في وقت النهي عن الصلاة " . و أما ما حكاه ابن داوود رحمه الله تعالى عن معاذ بن أبي رفاعة رحمه الله تعالى عن مشائخه أنهم كرهوا القراءة بعد العصر , و قال انها دراسة اليهود . فغير مقبول و لا أصل له و الله أعلم , انتهى كلامه فان قلت انما قال صاحب الجوهر الخاص في الجواب على هذا السؤال و هو , ما الافضل من الأعمال فيما بعد المغرب و فيما بعد صلاة الصبح . و الأول العموم كما يفهم من النظم , و هو قوله و هل ما بعد مغرب , أي وقت الغروب , و فجر أي طلوع فجر , سن احيائه الخ , و هو مشعر بالتغاير . قلت لا تغاير بينهما , و يجاب عنه بجوابين : الأول على حذف مضاف تقديره في النظم و هل ما بعد مغرب أي صلاة سنة مغرب و فجر , أي سنة فجر . أما الفرض لا خلاف بأنه أفضل ما تحيى به أوقاته لقوله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم : " و ما تقرب الي عبدي بشيء أحب الي مما افترضته عليه " , رواه البخاري و غيره . و الثاني أنه معلوم في الشرع ضرورة , لا أفضل من هذين الركعتين اللتين بعد المغرب و بعد طلوع الفجر . و هذا آكد , حتى قيل أن المشتغل بالفتيا يترك سائر السنن الا سنة الفجر . أما الأولى , لقوله صلى الله عليه وسلم : " من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن ينطق مع أحد , يقرأ في الأولى بالحمد و قل يا أيها الكافرون , و في الركعة الثانية بالحمد و قل هو الله أحد , رج من ذنوبه كما تخرج الحية من سلخها " , أخرجه ابن النجار في تاريخه من حديث أنس . دليل أفضلية الثانية و تأكيدها على الأولى ما رواه الطبراني عن عائشة رضي الله عنها , قالت : " كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي و يدع , و لكن لم أره ترك الركعتين قبل صلاة الفجر في سفر و لا حضر , ولا صحة و لا سقم " . و قالت رضي الله تعالى عنها : " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم , لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين قبل الفجر" , رواه الشيخان . و قال صلى الله عليه وسلم : " ركعتا الفجر أحب الي من الدنيا و ما فيها " , و في لفظ " خير من الدنيا و ما فيها " , رواه مسلم . فتعين من هذا المراد من احياء الوقتين ما بعد صلاتهما فرضا و نفلا , لكن بقي عليه أدعية هناك , ثبت أفضليتها في السنة , و اتخدها الصوفية وظائفا تقرأ بين سنة الفجر و فرضه , و لو لا خيفة الاطالة , لذكرنا منها نبدة , و من أراد شيئا منها فعليه برسالة الامام الخوافي نفعنا الله تعالى به , و كتاب عوارف المعارف و غيرهما . و رسائل شيخ شيوخنا سيدي مصطفى البكري نفعنا الله تعالى به , أغنت عن غيرها , لأنه رحمه الله تعالى جعل لكل وقت وظيفة , كحزب السحر و حزب الشروق و غيرهما , و لكن كان الاستاذ رحمه الله تعالى , يقول لا تليق بالمبتدء هذه , لا ينبغي له الا الاكثار من الاسم الذي لقنه الشيخ , فان السر و الفتح فيه , و يعبر عليه بالغذاء الذي تقوم به البنية . و غيره من الأذكار و الوظائف كالأبزار التي تكون على الطعام فلا تغني عن الطعام , كذلك الورد و الوظيفة . و مما أقر الشيخ رحمه الله تعالى التلاميذ من الأدعية التي تقرأ سنة , هو بعد أن يسلم يأتي بالاستغفار و الشهادة , و يقول آمنت بالله ربا و بالاسلام دينا و بالكعبة قبلة و بالقرآن اماما و بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا و رسولا , اللهم اني أصبحت أشهدك و أشهد حملة عرشك و ملائكتك و أنبيائك و كتبك و رسولك و جميع خلقك أنك أنت الله الذي لا اله الا أنت وحدك لا شريك لك , و أ، محمدا عبدك و رسولك , أستغفرك و أتوب اليك , الحمد لله الذي نور قلبي و جعلني من المؤمنين و لم يجعلني ضالا , الحمد لله الذي خلقني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم , الحمد لله الذي لم يجعل رزقي على يد غيره , الحمد لله الذي غفر لي ذنوبي و ستر علي عيوبي , ثم يقرأ دعاء صحيفة القاضي عبد الوهاب , و هو " لا اله الا الله المعبود في كل مكان , لا اله الا الله الموجود في كل زمان , لا اله الا الله المذكور بكل لسان , لا اله الا الله المعروف يالاحسان , لا اله الا الله الحنان المنان لا اله الا الله ذو الجلال و الاكرام , لا اله الا الله كل يوم هو في شأن , لا اله الا الله أمان الأمان أعوذ بك من زوال الايمان و من الرجيم الشيطان ( ثلاثا ) , يا عزيز يا غفور يا رحمان يا رحيم " . أما هذا يأكد و يوصي به سائر التلاميذ بعد سنة الفجر , و بعد صلاة العصر (ثلاثا) تقرأ بعدهما , و زاد لبعض التلاميذ قراءة دعاء الخضر عليه السلام مع هذه الأدعية المذكورة بعدهما , و هو " اللهم اسبل لينا سترك و أدخلنا في مكنون غيبك و احجبنا من جميع خلقك , بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الارض و لا في السماء و هو السميع العليم , يا حفيظ يا حفيظ يا حفيظ احفظنا بما حفظت به أوليائك و استرنا بما سترت به عبادك الصالحين , يا حفيظ (ثلاثا) " . و اما المسبعات فهي من الورد , تقرأ الى نصف النهار و العصرية الى نصف الليل , و هي معلومة تحفظ من الفقراء في الطريقة الخلوتية . و انما ذكرت هذا لنعين ما ينبغي أن يكون عليه المريد في الطريقة المذكورة , و لو لا خشية الاطالة لذكرت ورد السحر و ورد الشروق و غيرهما , و لكن من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم , انتهى و الله أعلم . ثم قال عفا الله عنه :
-
( و ما هو الأفضل سرا او علن و هل في مسجد جماعة علن )
اشتمل البيت على سؤالين , الأول و هل الافضل القراءة أو الذكر سرا أو جهرا , أو يختلف باختلاف السالكين . و الثاني و هل ما اعتاده الصوفية من حلق الذكر و الجهر به في المساجد و غيرها , و رفع الصوت فيه أو في غيره مستحب أو مكروه أولا , و اذا قلتم باستحبابه , فما معنى قوله تعالى " واذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول " , الآية . و قوله صلى الله عليه وسلم : " خير الذكر الخفي " , و بهما تمام أربعة و ثلاثين سؤالا . قوله و ما هو الأفضل من القراءة أو الذكر , سرات يكونان أو علنا , أي لنا بمعنى جهرا . قال في القاموس , علن الأمر كضرب و نصر و كرم و فرح علنا , و اعتلن ظهر , و اعلنته أظهرته الخ . الفصل الثالث و الثلاثون : في الجواب على قوله ما هو الأفضل في الذكر و القراءة , السر أو الجهر , أو يختلف باختلاف السالكين . اعلم أنه قال الامام زين الدين في الجوهر الخاص , قال النووي في الذكار المشروعة و غيرها , لا يجب شيء منها و لا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه اذا كان صحيح السمع لاعراض له , انتهى كلامه . قلت , و الكلام الآن في الجهر الذي فوق هذا المقدار , فوردت أحاديث تقتضي الجهر و أحاديث تقتضي الاسرار , و جمع بينهما بأن الذاكر أو القارء ان خاف الرياء أو تأذي مصلي , فالاخفاء أفضل والا فالجهر أفضل , و سيأتي الكلام على ما ورد في ذلك في الفصل الرابع و الثلاثين . و فرق الصوفية بين المبتدء و غيره , فقالوا يستحب للمبتدء الجهر به , فقال الغزالي في كدتاب ثمرات الأعمال , قال صلى الله عليه و سلم : " مفتاح الجنة لا اله الا الله " . فمن حافظ على قول لا اله الا الله ظاهرا و داوم على ذكرها و جعل لسانه مستغرقا فيها , فتح الله تعالى على قلبه نورا يكشف به عن سرها الخ . و قال سيدي يوسف العجمي في آداب الذكر : " العاشر أن يختار من الذكر لا اله الا الله مع التعظيم بقوة تامة جهرا و تصعيدا " . و قال في الخلاصة أن من لم تتخلص نفسه على البشرية يحتاج الى ذكر الظاهر و البطن . و قال العجمي , قدس سره , أن الأولى للجماعة اذا اجتمعوا للذكر , و للمبتدء , رفع الصوت بالذكر , فان ذلك أشد تأثيرا في القلب لينفي الخواطر و جلاء للقلب و رقته , و رفع الحجب عنه , لأن الله تالى شبه القلوب بالحجارة في قوله تعالى : " ثم قست قلوبهم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة " . و معلوم أن الحجر لا ينكسر الا بالقوة . فقوة ذكر جماعة مجتمعين على قلب واحد , أشد تأثيرا من قوة ذكر شخص واحد , و لهذا قال الأستاذ نجم الدين كبرى , قدس سره , أن القوة شرط واستدل بهذه الآية , و بما روي أن الناس كانوا يذكرون الله عند غروب الشمس , لا يرفعون اصواتهم بالذكر , فاذا خفت أرسل اليهم عمر ابن الخطاب , رضي الله عنه , أن نوروا الذكر أي ارفعوا أصواتكم به و في قوة الذكر جلاء القلب من صدئه , اذ القلوب تصدأ من الغفلة عن ذكر الله تعالى كما يصدأ الحديد , و صقالها ذكر الله تعالى بالقوة التامة حتى تصفو كالمرآة , لا يحصل جلائها و صفائها حتى ترى فيها الاشياء الا بقوة الصقل . فكذلك القلب لا يصفو الا بدوام الذكر بالقوة المذكورة . و صفائها و طهارتها من جميع الأدناس شيء منهم مطلوب , فقد قال عليه الصلاة و السلام : " ان الله لا ينظر الى صوركم و لكن ينظر الى قلوبكم " . و قال صلى الله عليه و سلم : " ألا و ان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله , و اذا فسدت فسد الجسد كله , ألا و هي القلب " . و قال تعالى : " و ثيابك فطهر " , قيل قلبك . و قال تعالى : " الا من أتى الله بقلب سليم " . و في الحديث القدسي يا داوود طهر لي بيتي ما وسعني أرضي و لا سمائي , و وسعني قلب عبدي المؤمن " . و انما تأكدت طهارة القلب لأنه مورد الايمان و التوحيد و العرفان و الاستسلام و الرضى و الايقان و خزانة السرار و منبع الحكم و مهبط الانوار . و من المعلوم المصور أنه لا يصلح أن يكون خزانة الاسرار و محلا لسلطان الاذكار الا بيت طاهر من جميع الأدناس و الاقذار , فالبدار البدار الى تنظيفه من سيء الاخلاق كالكبر و الغل و الغش و الحقد و خوف الفقر و الغضب و خشية الاملاق و الغفلة عن ذكر الملك الخلاق , و حب التمدح بما ليس فيه و سوء الخلق و النفاق و الشقاق . فمتى ظهر القلب بالتخلي منها و تحلى بمحمود الصفات , خلص من رق الهوى و النفس الى يوم التلاق , و سمي الصوفي صوفيا لصفاء قلبه و سلامة لبه و أنشد في المعنى :
تخالف الناس في الصوفي واختلفوا و كلهم قال قولا غير معروف
و ليس يمنح هذا الاسم غير فتى صافي فصوفي حتى سمي الصوفي
و ملخص الجواب أن الحكم في هذه المسألة يختلف عند الناسكين و الله أعلم , انتهى كلامه . قلت و قد ألف الامام السيوطي رسالة في ذلك , و جمع بين الاحاديث التي تقتضي الاسرار و التي تقتضي الجهر بالذكر كما فعل النووي في ذلك بالقراءة و سماها نتيجة الفكر في الجهر بالذكر , و رجح الجهر على الاسرار لفوائد مذكورة هناك , و الحق ما قاله شيخنا الأزهري نفعنا الله تعالى به , آمين . فما ورد من الآيات و الأحاديث التي تقتضي الجهر بالذكر و القراءة , انما ذلك في حق المبتدأ , و ما ورد من الآيات و الأحاديث التي تقتضي الاسرار به انما هي في حق المنتهي . و المبتدأ لا يسمع الا بأذن رأسه فالأفضل في حقه الجهر , و المنتهي لا يسمع الا بأذن قلبه فالأفضل في حقه السر , لأن من كان في أذن قلبه وقر الخواطر و الهواجس و حديث النفس لا ينفعه الا الجهر لينفعها , و من لا فلا . تنبيه: قال الامام تاج الدين في مفتاح الفلاح : " و ينبغي للذاكر اذا كان وحده , ان كان من الخاصة , أن يخفظ صوته بالذكر , و ان كان من العامة أن يجهر به . و ان كان الذاكرون جماعة , فالأولى في حقهم رفع الصوت بالذكر مع توافق الأصوات بطريقة واحدة موزونة . قال بعضهم , مثل ذكر الواحد وحده و ذكر الجماعة , كمثل
مؤذن واحد و مؤذنين جماعة , فكما أصوات المؤذنين جماعة تقطع الهواء أكثر مما يقطعه صوت واحد , كذلك ذكر جماعة على قلب واحد أكثر تأثيرا و أشد قوة في رفع الحجب عن القلب من ذكر واحد وحده . و أيضا يحصل لكل واحد ثواب ذكر نفسه و ثواب سماع الذكر من غيره , الخ " , انتهى كلامه . فائدة : عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " من دخل السوق فقال لا اله الا الله وحده لا شريك له , له الملك و له الحمد , يحيي و يميت و هو حي لا يموت , بيده الخير و هو على كل شيء قدير , كتب الله تعالى له ألف ألف حسنة و محى عنه ألف ألف سيئة , و رفع له ألف ألف درجة " , و في رواية عوض الثلاثة , " و بنى له بيتا في الجنة " , أخرجه الترمذي . في رواية , " من دخل السوق و نادى بأعلى صوته " , الى قوله " قدير " , " كتبت له ألف ألف حسنة " , انتهى و الله أعلم . وقوله وهل في مسجد جماعة علن , يعني وهل يجوز الذكر في مسجد جماعة , أي ما اعتاده الصوفية من عقد حلق الذكر في المساجد بالجماعات . علن أي مع العلانية به و رفع الصوت و الجهر به , أو لا يجوز ذلك , و هو السؤال الرابع و الثلاثون . الفصل الرابع و الثلاثون : في الجواب على قوله و هل في مسجد جماعة علن الخ , اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى في الجوهر الخاص : " لا كراهة في شيء من ذلك , وقد وردت أحاديث تقتضي استحباب الجهر في الذكر , و أحاديث تقتضي الاسرار به , و الجمع بينهما يختلف باختلاف الأحوال و الأشخاص . كما جمع النووي بين الأحاديث الواردة باستحباب الاسرار , و الواردة باستحباب الجهر بقراءة القرآن . و وردت أحاديث باجتماع الناس و تحلقهم للذكر في المسجد و غيره . فأما أحاديث الجهر به , فمنها ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه , قال قال رسول الله صلى الله عليه ومسلم : " أنا عند ظن عبدي بي و أنا معه اذا ذكرني , فان ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي , و ان ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منهم " , و الذكر في الملا لا يكون الا جهرا . و أخرج الحاكم و البيهقي و صححه في شعب الايمان عن أبي سعيد الخذري ضي الله تعالى عنه , قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " أكثروا ذكر لا اله الا الله , حتى يقولوا مجنون " . و أخرج البيهقي أيضا في الشعب عن أبي الجوزاء رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : " أكثروا ذكر لا اله الا الله حتى يقول حالمنافقون أنكم مراؤون " . قال الجلال السيوطي رحمه الله تعالى : " وجه الاستدلال من هذا و الذي قبله , أن ذلك انما يقال عند الجهر دون الاسرار " . و أخرج البزار و البيهقي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما , قال قال تعالى : " عبدي اذا ذكرتني خاليا , و اذا ذكرتني في ملا , ذكرتك في ذملا خير منهم و أكثر " . و أخرج البيهقي عن ابن مسعود رضي اله تعالى عنه , أن الجبل ينادي الجبل باسمه , يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر لله , فان قال نعم استبشر " , الحديث . و قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى " فما بكت عليهم السماء و الأرض " , أن المؤمن اذا مات بكت عليه المواضع التي كان يصلي فيها . و أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي عبيد , قال : " ان الوؤمن اذا مات تنادت بقاع الأرض و السماء , فيقول الرحمان ما يبكيكما على عبدي , فيقولان ربنا لم يمش في ناحية منا قط الا و هو يذكرك " . قال السيوطي رحمه الله تعالى ان سماع الجبل و الأرض للذكر لا يكون الا عن جهر . و أخرج البيهقي عن جابر رضي الله تعالى عنه , أن رجلا كان يرفع صوته بالذكر فقال رجل لو أن هذا أخفض من صوته , فقال النبي صلى الله عليه و سلم : " انه أواه " , و معنى الأواه الرحيم رقيق القلب . و أخرج الحاكم عن شداد , قال : " بينما أنا عند النبي صلى الله عليه و سلم , اذ قال ارفعوا أيديكم فقولوا لا اله الا الله , فقلنا , فقال اللهم انك بعثتني بهذه الكلمة و أمرتني بها و وعدتني عليها الجنة انك لا تخلف الميعاد , ثم قال ابشروا فان الله تالى قد غفر لكم " . و أخرج أحمد و أبو داوود و الترمدي و صححه النسائي و ابن ماجة عن السائب , أن
رسول الله صلى اله عليه و سلم قال : " جائني جبريل فقال : مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية " . و أخرج الحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه و سلم قال : " من دخل السوق فقال لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك و الحمد يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير , كتب الله له ألف ألف حسنة , و محى عنه ألف ألف سيئة , و رفع له ألف ألف درجة و بنى له بيتا في الجنة " , و بعض طرق الحديث " فنادى " . و أما أحاديث اجتماع الناس للذكر , فمنها ما أخرجه البيهقي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه , قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ما من قوم يجتمعون يذكرون الله تعالى الا ناداهم منادي من السماء , قوموا مغفورا لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات " . و منها حديث " منكرني في ملا ذكرته في ملا خير منهم " , و منها ما أخرجه الامام أحمد في الزهد عن ثابت , قال : " كان سليمان في عصابة يذكرون الله تعالى , فمر النبي صلى الله عليه و سلم فكفوا , فقال اني رأيت الرحمة تنزل عليكم و أحبت أن أشارككم فيها " , ثم قال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معه " . و روى أنه قال ذلك لما نزل عليه صلى الله ليه و سلم و هو في بعض بيوت أزواجه " و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه " . كما أخرجه الطبراني في الكبير , و ابن جرير عن عبد الرحمان ابن سهل بن حنيف , " فخرج يلتمسهم فوجد قوما يذكرون الله تعالى , منهم ثائر الرأس و جاف الجلد " , الحديث . تقدم حديث " لان أجلس مع قوم يذكرون الله تعالى بعد صلاة الصبح الى ان تطلع الشمس , أحب الي مما طلعت عليه الشمس " , الحديث . و منها ما أخرجه البزار و الحاكم في المستدرك و صححه عن جابر , فال : " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : " يا أيها الناس ان لله ملائكة سيارة تحل و تقف على مجالس الذكر في الأرض , فارتعوا في رياض الجنة " ,قالوا و أين رياض الجنة يا رسول الله , " قال مجالس الذكر , فاغدوا و روحوا في ذكر الله تعالى " . و منها ما أخرجه مسلم و الحاكم و اللفظ له عن ابي هريرة , قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان لله ملائكة سيارة و فضلا يلتمسون مجالس الذكر في الأرض " , الحديث . و منها ما أخرجه مسلم و الترمذي و صححه عن أبي هريرة و أبي سعيد الخذري رضي الله تعالى عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من قوم يذكرون الله تعالى , الا حفت بهم الملائكة و غشيتهم الرحمة و نزلت عليهم السكينة و ذكرهم اله في من عنده " . و منها ما أخرج الأصبهاني في الترغيب عن أبي زرين العقيلي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له : " الا أدلك على ملاك الأمر الذي تصيب به خير الدنيا و الآخرة , قال بلى , قال : عليك بمجالس الذكر , و اذا خلوت فحرك لسانك بذكر الله تعالى " . و أما أحاديث التحلق بالذكر , فمنها ما أخرج مسلم و الترمذي و حسنه عن معاوية , أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج يوما على حلقة من أصحابه , قال : " ما أجلسكم , قالوا جلسنا نذكر الله تعالى و نحمده , فقال انه أتاني جبريل فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة " . و منها ما أخرجه البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم , اذا مررتم برياض الجن فارتعوا , قالوا بلى يا رسول الله , و ما رياض الجنة , قال حلق الذكر " . و منها ما أخرج البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم , " أن لله سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر , فاذا أتوا عليهم حفوا , فيقول الله تعالى اغشوهم برحمتي , فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم " . و أما رفع الصوت به في المسجد , فورد فيه أحاديث منها ما أخرج البيهقي عن زيد بن أسلم , قال : " قال ابن الأزرع , انطلقت مع النبي صلى الله عليه و سلم ليلة , فمر برجل في المسجد يرفع صوته , فقلت لرسول الله عسى أن يكون هذا مرائيا , قال لا لكنه أواه " . و منها ما أخرج المروزي في كتاب العبد بن عز عن عبيد بن عمير , قال : " كان عمر يكبر في قبة فيكبر أهل المسجد فيكبر أهل السوق حتى ترتج من التكبير " . و منها ما أخرج البيهقي عن أبي سعيد الخذري رضي الله تعالى عنه , أن النبي صلى الله عليه و سلم , قال : " يقول الرب يوم القيامة سيعلم أهل الجمع اليوم من أهل الكرم , فقيل من أهل الكرم يا رسول الله , قال مجالس الذكر في المساجد " . فلهذا مدح الذكر في المساجد و كل موضع شريف , و لما جاء عن ميسرة رضي الله تعالى عنه , أنه قال : " لا يذكر الله تعالى الا في مكان طاهر " . فعلم من هذه الأحاديث أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر , بل فيه ما يدل على اسحبابه , و أما معارضته بحديث " خير الذكر الخفي " , فهو نظير معارضة أحاديث الجهر بالقرآن بحديث " المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة " . و قد جمع النووي رحمه الله تعالى بينهما بأن الاخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذي به مصلين أو نيام , و الجهر أفضل في غير هذا لأن العمل فيه أكثر و تتعدى فائدته الى السامعين , لأنه يوقظ قلب القارء و يجمع همته الى الفكر , و يصرف سمعه اليه و يطرد النوم عنه و يزيد في انشاطه . و قال بعضهم : " يستحب الجهر ببعض القراءة و الاسرار ببعضها , لأن المسر قد يكل فيأنس بالجهر , و الجاهر قد يكل أيضا فيستريح بالاسرار " . و كذلك يقال في الذكر على هذا التفصيل الا للمريد المبتدء , فيتأكد في حقه الجهر بقوة تلزمه في مذهب الصوفية , و قد تقدم . و أما قوله تعالى : " و اذكر ربك في نفسك " , الآية , و قوله في الحديث " خير الذكر الخفي " , الجواب عن الآية من ثلاثة أوجه : الأول أن الآية مكية كآية الاسرار " و لا تجهر بصلاتك و لا تخافت بها " , نزلت حين كان صلى الله عليه و سلم اذا سمعه المشركون يقرأ القرآن , يسبون القرآن و من أنزله , فأمر بترك الجهر لأجل ذلك . كما نهي صلى الله عليه و سلم عن سب الأصنام في قوله تعالى : " و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم " , و قد زال هذا المعنى . الثاني أن جماعة من المفسرين , منهم ابن أسلم شيخ الامام مالك رحمهما الله تعالى , و ابن جرير , حملوا الآية على الذكر في حالة قراءة القرآن , و أنه أمر له بالذكر على هذه الصفة تعظيما للقرآن أن ترفع عنده الأصوات , و يقويه اتصالها بقوله تعالى " واذا قرء القرآن فاستمعوا له و أنصتوا " . و كأنه لما أمر بالانصات خشي من ذلك الاخلال الى البطالة فنبه على أنه و ان كان مأمورا بالسكوت باللسان , الا أن تكليف القلب بالذكر باق حتى لا يغفل عن ذكر الله , و لهذا ختمة الآية بقوله " و لا تكن من الغافلين " . الثالث ما ذكره بعض الصوفية أن الأمر بأخفاء الذكر خاص بالنبي صلى الله عليه و سلم الكامل المكمل , و أما غيره ممن هو محل الوسواس و الخواطر الردية فمأمور بالجهر , لأانه أشد تأثيرا في دفعها , و يأيده ما أخرجه البزار عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم , من صلى منكم بالليل فليجهر بقرائته فان الملائكة تصلي بصلاته و تسمع لقرائته , و ان مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء , و جيرانه الذين معه في مسكنه يصلون بصلاته و يسمعون قرائته , و أنه ينطرد بجهره بقرائته عن داره و عن الدور التي حوله فساق الجن و مردة الشياطين " . قال سيدي يوسف العجمي في الجواب عن الآية و الحديث : " ان الله تعالى خاطب عامة عباده بقوله تعالى " أفلا ينظرون الى الابل كيف خلقت " , و خاطب الخاصة بقوله تعالى " أفلا يتدبرون القرآن " , و خاطب سيد أهل الحضرة محمدا صلى الله عليه وسلم , بعد أن عرفه بنفسه و بربه بقوله تعالى " واذكر ربك في نفسك " , فمن لا يعرف نفسه ولا ربه , فكيف يذكر ربه في نفسه , بل هم المخاطبون بقوله تعالى " اذكروا الله ذكرا كثيرا " . و أما الذكر الخفي , فهو ما خفي عن الحفظة لا ما يخفض به الصوت , و هو أيضا خاص به صلى الله عليه وسلم و بمن له به اسوة . و أما ما روي عن ابن مسعود أنه خرج من المسجد قوما يرفعون أصواتهم بالتهليل فيه , و قال ما أراكم الا مبتدعين , قال الامام السيوطي رحمه الله تعالى : " يتوقف على ثبوته , فهو معارض بالأحاديث الكثيرة المتقدمة و غيرها و هي مقدمة عليه عند التعارض , بل قال الامام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب الزهد : " حدثنا حسين بن محمد , حدثنا المسعودي عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال : هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله بن مسعود كان ينهى عن الذكر , ما جالسته مجلسا قط الا ذكر الله تعالى فيه " . فان قلت قال تعالى " ادعوا ربكم تضرعا و خفية نه لا يحب المعتدين " , و قد فسر الأعتداء بالجهر بالدعاء و قد يلتحق به الجهر بالذكر من حيث الاعتداء . الجواب أن الآية نص في الدعاء فلا يلتحق به الذكر , و أما نهيه صلى الله عليه و سلم عن رفع الصوت في هذا الحديث , فيحتمل أنه نهى عن رفع الصوت الشديد المؤدي الى ضرر حتى قال عليه السلام لمن رفع صوته بالتكبير و التهليل " اربعوا على أنفسكم فانكم لا تدعون أصم و لا غائبا " , أي ارفقوا بأنفسكم ففيه دلالة على أنه خاف عليهم الضرر في أنفسهم , أو كانوا مسافرين فخاف عليهم من الجهر الشديد زيادة المشقة على ما هم فيه من مشقة السفر . و أما تفسير الاعتداء في الآية بالجهر بالدعاء فوجهه مرجوح في التفسير و الوجه الراجح فيه أنه تجاوز المأمور به أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع , لقوله صلى الله عليه و سلم لما سمع من يقول في دعائه , " اللهم اني أسألك القصر الابيض عن يمين الجنة " . يكون في هذه الأمة من يعتدون في الدعاء , و من الاعتداء فيه أيضا أن يسأل منازل الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و نحو ذلك . فحسب الداعي أن يكون دعاؤه اللهم اني أسألك الجنة و ما يقرب اليها من قول و عمل . و على تقدير تسليم أن المراد بالاعتداء الجهر بالدعاء فالآية في الدعاء لا في الذكر . فان الدعاء بخصوصه الأفضل فيه الاسرار لأنه أقرب الى الاجابة , و لهذا أثنى الله تعالى على نبيه زكرياء بقوله تعالى , " و زكريا اذ نادى ربه نداء خفيا " . قال الحسن : " ان الله تعالى يعلم القلب النقي و الدعاء الخفي , ان الرجل لقد جمع القرآن و علم الفقه الكثير و ما يشعر به , بين دعوة السر و العلانية سبعون ضعفا , و من ثم استحب الاسرار بالاستعاذة في الصلاة اتفاقا لأنها دعاء . قلت , و كذلك البسملة التأمين عند الحنفية لأنهما من قبيل الدعاء خلافا لشافعي رحمه الله تعالى . فتلخص من هذه الأحاديث و الدلائل أن ما اعتاده الصوفية و الذاكرون في المساجد غيرها من عقد حلق الذكر بالجماعة و رفع الصوت به لا يخرج عن السنة أو الندب خلافا لمن اعتدى و غلط و قال أن الأماكن التي يجتمع للذكر فيها لا تجوز فيها الصلاة حتى تحفر و يقلب ترابها , و العجب منه حيث لم يسمع ما قيل في تفسير قوله تالى " فما بكت عليهم السماء و الأرض " , و قوله عليه السلام " ان بقاع الارض كل يوم تنادي بعضها بعضا هل مر بك اليوم ذاكر الله تعالى أم لا " , الخ كما تقدم ذلك مستوفى . فعليه ان لا ينبغي لعالم أدنى درجة في الايمان أن يبث و يتشدق بعد ما بلغه علم ما تقدم من الدلائل القاطعة و الأحاديث الصحيحة بمثل هذا الكلام لدى العوام حتى ينفر الناس عن ذكره تعالى , المأمور به في كل مكان و زمان بقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا " , حيث ورد مطلقا غير مقيد بقيد من القيود بخلاف غيره من العبادات كما تقدم , و يتحذر من وعيد قوله تعالى " و من أظلم ممن نع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه و سعى في خرابها " , الآية . فائدة : دليل الايمان المحبة لقوله تعالى " و الذين آمنوا أشد حبا لله " , و دليل المحبة التلذذ بذكر المحبوب . ألم تر الى اعادته ظاهرا مكان المضمر تلذذا به بقوله :
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ليالي منكن أم ليلا من البشر
و فيه تنبيه ن ما غفل عنه كثير و اشارة لمن تفطن من كل بصير و الله أعلم . ثم قال عفا الله عنه :
( أذكر أم فكر و عد أفضل و هل بقدره الثواب يحصل )
اشتمل البيت على ثلاثة سؤالات . الاول أيما أفضل الذكر أم الفكر . الثاني , و هل يصح انحصار الذكر في عدد مع قوله تعالى " اذكروا الله ذكرا كثيرا " , أم لا . الثالث , و هل الثواب يكون مرتبا على العدد المخصوص , فينبغي بالزيادة عليه أو النقص عنه أم لا , و بها تمام سبعة و ثلاثين سؤالا . قوله أذكر أم فكر أفضل , أي هل الافضل الذكر أم الفكر . قد تقدم معنى الذكر لغة واصطلاحا , و أما الفكر لغة : قال في القاموس الفكر بالكسر و يفتح , اعمال النظر في الشيء كالفكرة الخ . و اصطلاحا تلمس البصيرة لادراك البغية . الفصل الخامس و الثلاثون : في الجواب على قوله أذكر أم فكر , أي أيما أفضل الذكر أم الفكر . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " الذكر أفضل لأنه ربما مات صاحبه فيموت في الله تعالى , و اللمتفكر يموت في الكون , قاله بن العربي " . و قال السلمي : " سألت أبا علي الدقاق أيما أتم الذكر أم الفكر , فقال ما الذي يقع للشيخ فيه , فقال أبو عبد الرحمان السلمي عندي صح الذكر أتم من الفكر , لأن الحق تعالى يوصف بالذكر و لا يوصف بالفكر و ما وصف الحق به أتم مما اختص غيره به " , انتهى كلامه . قلت قال بعض المحققين : " انما كان الذكر أفضل من الفكر لأنه , أي الفكر لا يكون غالبا الا بعد الذكر , اذ لا يكون الا عن صفاء القلب من الأكدار , و كيف النظر عن الأغيار الا بعين الاعتبار و ذلك يحصل بالذكر لا بالفكر . تنبيه : المراد بالفكر التفكر في آلاء الله تعالى لا في ذاته , كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه و سلم : " تفكروا في خلق الله و لا تفكروا في الله , فانكم لن تقدروا قدره " .
فائدة : و لفكر ابتداء و وسط و غاية . فالابتداء منه هو استعماله في تذكر التبعات و الظلامات , و تذكر أفعاله القبيحة ليتندم عليها و يعزم أن لا يعود اليها , لأن من لا توبة له لا عمل له , و ان عمل من البر ما عمل . و الوسطى هي التفكر في انعام الله تعالى بالرحمة و الجود على كافة الوجود و به يترقى الى مقام الشكر لقولهم : " من عرف النعمة عظمها و من عظمها شكرها و من شكرها قيدها واستوجب المزيد من الله تعالى بوعده الصادق " لئن شكرتم لأزيدنكم " , الآية . ولهذا قال عليه الصلاة و السلام : " تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة " , و في رواية " ثمانين سنة " . و غايته التفكر في دقائق المعارف الربانية و العلوم اللدنية التي بها يلج القلب حضرة القدس و يخلع عليه فيها خلع الأنس حيث المشاهدة و المفاتحة و المواجهة و المطالعة و المكالمة و المنادمة بلذيذ الخطاب عند رفع الحجاب . تتمة : نحى الامام تاج الدين في حكمه الى أفضيلة الفكر على الذكر , بقوله ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكره , الخ . قال شارحه و هو مذهب القوم . قال شارح المعارف : " و هو ظاهر ان أريد به الذكر اللساني المجرد " . أما الذكر النفساني , فقد قال الدقاق أنه أتم من الفكر , الخ , و قد تقدم قوله في أول الفصل . و
لقد اختلف الناس في الترجيح بينهما , و الحق الذي يتم الكلام به أن الحكم يختلف فيه باختلاف الأحوال و مراتب الرجال و الله أعلم , انتهى قوله . و عد أفضل , يعني و هل يصح انحصار الذكر في عدد و يكون أفضل من الزيادة عليه مع قوله تعالى " اذكروا الله ذكرا كثيرا " , أم لا . الفصل السادس و الثلاثون : في الجواب على قوله و عد أفضل , أي و هل العدد في الذكر أفضل أم الاطلاق كما تقدم قبله . أعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " نعم يصح في المأثور بل الوقف عند العدد المسنون أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم , كثلاثة و ثلاثين من التسبيح و التحميد و التكبير , و كعشرة مرات لا اله الا الله وحده لا شريك له , له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو حي دائم لا يموت بيده الخير و اليه المصير هو على كل شيء قدير , بعد صلاة الصبح و العصر و المغرب , و كقراءة سورة الاخلاص ثلاثا و نحو ذلك , يكون الذكر دالكثير لا ينحصر في عدد . و قد فسر بعضهم الذكر الكثير بالخالص , لأن الله تعالى وصف ذكر المنافقين بالقلة لعدم اخلاصهم . قال تعالى : " يراءون الناس و لا يذكرون الله الا قليلا " , يعني غير خالص . و قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : " ركعتان من عالم زاهد خير من عبادة المتعبدين المجتهدين الى آخر الدهر , و المراد بالزهد الاخلاص , لأن الاخلاص الزهد فيما سوى الله تعالى و الله أعلم " , انتهى كلامه . قلت ظاهر كلامه رحمه الله تعالى , العدد في الذكر أفضل حيث مال الى تفسير الكثير بالاخلاص و هو كذلك , و بيانه أن الذكر اذا ورد فيه نص بالعدد لا خلاف في أفضلية الوقوف مع نص الشارع , و ان لم يرد فيه عدد . فقال الصوفية رضي الله تعالى عنهم , لا بد أن يقيد لنفسه عددا يلتزمه , فان التزام العدد يأدي الى التنشيط , و الاهمال عنه يفضي الى التفريط , هكذا كان يقول شيخنا الازهري نفعنا الله تعالى به آمين . و هذا في الذكر اللساني لا القلبي و النفسي , فانه لا يشترط فيه الا الاستغراق في الحضور دون تقييد بعدد , فان الالتفات الى العدد يخل بالحضور و الله أعلم . فان قلت من أين للصوفية التزام العدد في الذكر , و هل أخذوا بأطلاق الدليل و هو قوله تعالى " اذكروا الله ذكرا كثيرا " , و " اذكروا الله في أيام معدودات " , و " قل الله ثم ذرهم " , الآية , حيث لم يقيد فيها عدد . قلت الدليل فيه اجمال , و قد فسرته السنة و هو ما ورد عن ابن كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم , أنهم التزموا عددا من الذكر و أخبروا رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك , فأقرهم و أرشدهم الى ما و أكثر بطريق أسهل منه , صلى الله عليه و سلم . فمن ذلك ما ورد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم , يا معاذ مالك لا تأتينا كل غداة , قال يا رسول الله اني أسبح كل غداة سبع آلاف تسبيحة قبل أن آتيك , قال عليه الصلاة السلام , ألا أعلمك كلمات هي أخف عليك و أثقل في الميزان و لا تحصيه الملائكة و لا هل الأرض , قال قل لا اله الا الله عدد رضاه , لا اله لا الله زنة عرشه , لا اله الا الله عدد ملائكته , لا اله الا الله عدد خلقه , لا اله الا الله ملأ سماواته , اله الا الله ملأ أرضه لا اله الا الله ملأ ما بينهما " , رواه الديلمي . قال الأجهوري رحمه الله تعالى , قوله " و لا تحصيه " , أي ثواب هذا الذكر . و منها ما أخرجه الترمذي و الحاكم و الطبراني عن صفية رضي الله تعالى عنها , قالت : " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم , و بين يدي أربعة آلاف نوات أسبح بهن فقال ما هذا يابنت حبيبي , قالت أسبح بهن , قال صلى الله عليه وسلم قد سبحت منذ قمت على رأسك أكثر من هذا , قلت علمني يا رسول الله قال قولي سبحان الله عدد ما خلق من كل شيء " , الخ . و قد ورد الأمر بالعد أيضا , و هو ما أخرجه ابن أبي شيبة و أبو داوود و الترمذي عن بسيرة رضي الله عنها , و كانت من المهاجرات , قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عليكن يالتسبيح و التهليل و التقديس , و لا تغفلن فتنسين التوحيد و اعقدن بالأنامل فانهن مسئولات و مستنطقات " . و قوله " و اعقدن بالأنامل " , أي اعددن , و منه تعلم أن الصوفية رضي الله عنهم لا يخرجون عن ظاهر الشريع و لا عن باطنها , و ما فعلوا أمرا الا عن طريق صحيح , و لهذا قال الامام السبكي و شارحه الجلال المحلي : " و نرى أن طريق الشيخ أبي القاسم الجنيد , سيد الصوفية علما و عملا و صحبه , طريق مقوم خال عن البدع مشيد بالكتاب و السنة , دائر على التسليم و التفويض و التبري من النفس " , الخ . فان قلت انما ورد الأمر بالذكر في الكتاب بالاطلاق دون العدد , و السنة اقتضت العدد فيه , قلت ذلك لفوائد عظيمة و منن جسيمة رحمة و لطف منه تعالى و تيسير على عباده تعالى , لأن الناس مراتب , أقوياء و ضعفاء , فربما ذكر كثير في حق قوم , قليل في حق آخرين و العكس . فكل على حسب استطاعته لقوله تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم " , فلو عدد لكان حرجا و هو منفي بقوله تعالى " و لن يجعل عليكم في الدين من حرج " , و الله أعلم . تنبيه : ان من ذكر من غير عدد فهو مأجور , ذاكر مثاب . و انما فائدة العدد العزيمة الى التنشيط احتياطا عن الترك و التفريط كما سبق ذكره . و كذلك من ذكر بغير حضور , فهو بتحريك لسانه به مأجور . قال تاج الدين في الحكم " لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه " , الخ . و لكن ينبغي لكل فطين أن لا يتقاعس عن رتبة المؤمنين من نداء رب العالمين فيأخذ حظه بالذكر من العدد على ساق العزيمة و الجد و يتعاطى قسطه من الحضور , ليحوز مقامه من الثواب الموفور . قال تالى : " واذكر اسم ربك و تبتل اليه تبتيلا " , الآية و الله أعلم , انتهى قوله . و هل بقدره الثواب يحصل , يعني هل يكون الثواب مرتبا على العدد المخصوص , فينتفي الثواب على الزيادة على العدد أو نقصه أم لا . الفصل السابع و الثلاثون : في الجواب على قوله و هل بقدره , أي العدد المذكور قبله الثوايب يحصل , يعني فاذا زاد أو نقص , ما حكمه هل يثاب بقدره أو بقدر العدد المعين , أو لا يثاب أصلا . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " اختلف الناس في هذه المسألة . قال القرافي رحمه الله تعالى : " لا يحصل ان زاد عليه أو نقص " . و قال ابن العماد : " سمعت بعضهم يذكر في توجيهه أنه ان زاد على ثلاثة و ثلاثين تسبيحة مثلا , فقد آخر التحميد عن وقته و موضعه , و تأخير العبادة عن موضعها يفوت كمال أجرها " . ثم قال : " رأيت في تفسير السلمي في قوله تعالى " قل الحمد لله و سلام على عباده الذين اصطفى " , قال لأن العبادة قد تكون في ترك العبادة كما تكون بالعبادة , أي بأحوال تعرض للذكر كما اذا سلم عليه انسان فرد عليه السلام ثم يعود الى الذكر , و تشميت العاطس ثم يعود الى الذكر و نحو ذلك . و ربما وجه كلام القرافي على المفتاح اذا كان له أسنان فزيد واحدة أو نقص لا يفتح , فكذلك اذا زيد على الأعداد المشروعة أو نقص . ثم قال : " ان العماد و هذا كله مردود لا يحل اعتقاده لأنه قول بلا دليل , لم يعثر القرافي على المعنى الذي لأجله سيق العدد المخصوص , و لا يصح قياسه على الآية السابقة , لأن لفظ القرآن معجز , و تلاوته عبادة لا يجوز الزيادة فيها و لا النقص و مراعاته مطلوبة . و مما يدل على عدم منع الزيادة في غير القرآن عموم قوله تعالى " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها , و من جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها " .و ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم , قال : " من قال في دبر كل صلاة عشر تسبيحات و عشر تحميدات و عشر تكبيرات في خمس صلوات , فتلك خمسون و مائة باللسان , و و ألف و خمسمائة في الميزان " . و في رواية عنه صلى الله عليه وسلم : " من قال حين يصبح و حين يمسي مائة مرة سبحان الله و بحمده , لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به الا أحد قال ما قال أو زاد عليه " . و في حديث أبي أمامة : " من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة الا الموت " , و في حديث صحيح : " يسبح بعد صلاة العصر خمسا و عشرين و يحمد و يكبر كذلك , و لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير " . فهذه الأحاديث و نحوها دالة على عدم اعتبار الزائد و الناقص , و انما المقصود هو الاتيان بهذه الأنواع الثلاثة من الذكر , و أن أصل السنة يحصل بدون العدد المحصور في المائة , و أن الأكمل العدد فقط كالمائة و الثلاثة و الثلاثين من التسبيح و التحميد و التكبير , و العشر من التهليل . و ان القول بعدم الثواب مطلقا لا وجه له ظاهرا , لأن كل تسبيحة و تحميدة و تكبيرة و تهليلة وحدها عبادة مستقلة يثاب عليها بمجرد ذكرها مفردة و غير مفردة , و ان لم تكن محصورة بعدد . و لا يفوت الثواب الا بعدم الاخلاص , لقوله تعالى " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " , و قوله تعالى " اني لا أضيع عمل عامل منكم " . و الذي ينبغي أن يقال ما ورد من الأذكار في السنة , فيه فضل خاص و حكمة لا نعلمها , و يخص بعلمها من شاء , يفوت بفوات العدد المذكور بالزيادة او النقص عنه فقط دون فوات الثواب بالكلية , هذا ما ظهر لي و الله أعلم , انتهى كلامه . قلت و قد وقع التنبيه في الفصل الذي قبله و غيره على أن مطلق التلفظ بالذكر مثاب عليه و متعبد به و كلام ابن العماد فيه كفاية لمن كانت له به عناية , و ملخصه أن الذي سيق له العدد في الذكر هو الخاصية التي في أسماء الله تعالى و أذكاره لا للثواب , فانه يحصل بعدد أو بغير عدد . و منها ما ورد في السبعين ألفا من لا اله الا الله , أنها فداء من النار كما نص عليه الشيخ السنوسي رحمه الله تعالى من طريق الظاهر و الباطن . انما الاصية في العدد و أما الثواب فانه يحصل ولو بمرة فقط . و كذلك الاثنتي عشرة ركعة في صلاة الضحى خاصيتها في بناء البيت في الجنة , كما ورد ذلك في الحديث , و اما الثواب بركعة أو ركعتين يحصل . فتبين أن كلام ابن العماد هو الذي ان شاء الله عليه الاعتماد , بخلاف ما قاله الامام القرافي لما فيه من التنافي و الله أعلم . ثم قال عفى الله عنه :
( و هل ملائكة سرا تكتب و أي حال فيه قطع يندب )
اشتمل البيت على سؤالين . الأول هل تكتب الملائكة ذكر السر أم لا . الثاني , هل يستثنى من الذكر الكثير حال من الاحوال أو مكان أو زمان يكره فيها الذكر أو عندها , و ما يندب القطع فيه من ذلك و بهما تمام تسعة و ثلاثين سؤالا . قوله و هل ملائكة سرا تكتب أي و هل تكتب الملائكة ذكر السر أم لا . فملائكة فاعل بتكتب , و سرا مفعول السر لغة . قال في القاموس : السر بالكسر ما يكتم كالسريرة , و جمعه أسرار , الخ . و أما في اصطلاح الصوفية , لطيفة مودوعة في القلب كالروح في البدن , و هو محل المشاهدة كما أن الروح محل المحبة و القلب محل المعرفة . الفصل الثامن و الثلاثون : في الجواب على قوله هل تكتب الملائكة ذكر السر أم لا . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " قال بعض العلماء لا تكتب الملائكة ذكر السر , اذ لا علم عندهم به , و انما يكتبون اللفظ الظاهر فقط لقوله تعالى " ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد " . و قال بعضهم بل تكتبه الملائكة , فقد قال مالك ابن دينار : " سألت أبا معشر عن الذكر الذي لا يتكلم العبد به , فكيف تكتبه الملائكة , قال تجد الرائحة الطيبة فتكتبه و الله أعلم " , انتهى كلامه . قلت و قد تقدم من معنى قوله صلى الله عليه وسلم " خير الذكر الخفي " , هو ما خفي عن الحفظة لا ما يخفض به الصوت , و هو خاص بأهل الكمال الواصلين الذين ترقت أنفسهم من الدرجة التي تنزلت اليها الى اللطيفة السرية , فيحصل لهم ذكر السر , و هو المشاهدة كما تقدم . تنبيه : ذكر شيخ مشائخنا سيدي مصطفى البكري , نفعنا الله تعالى به , في الفيتة في التصوف , ذكر اللطائف السبعة المتنزلة اليها النفس في عالم الشهادة بانفراد و ذكر الجملة و كل ذلك بالأثارة دون تلفظ بذكر ما عدى الذكر اللساني . قال رحمه الله تعالى :
الذكر لله على أقسام من يدرها له المقام السامي
ذكر السان ثم الجنان و الروح و السر مع الاركان
و بعده ذكر الخفى و الاخفا و دكر جملة و هذا أصفى
و قد على الجميع ذكر الله لأنه الأكبر و هو الزاهي
و ما عدى الاول بالملاحضه عين الرضى للمقتفي ملاحضه
بدون لفظ و بدون حركه و لا مع الأنفاس قلبا حركه
و كل واحد من اللطائف له محل في سويدى الطائف
الى أن قال :
و عندنا في هذه الطريقه اجازة من شيخنا وثيقه
الى آخر كلامه رضي الله عنه , فليتنبه ما هو ذكر السر . و ذكر العلامة شيخ مشائخنا السهروردي قال : " و قيل من أصول الملامتية , أن اتلذكر على أربعة أقسام : ذكر باللسان , و دكر بالقلب , و ذكر بالسر , و ذكر بالروح . فاذا صح ذكر الروح سكت السر و القلب و اللسان , و ذلك ذكر المشاهدة . و اذا صح ذكر السر سكت القلب و اللسان عن الذكر و ذلك ذكر الهيبة . و اذا صح ذكر القلب فتر اللسان عن الذكر , و ذلك ذكر الآلاء و النعماء . و اذا غفل القلب عن الذكر , أفبل اللسان على الذكر , و ذلك ذكر العادة , الخ كلامه , فلينظره من أراده في العوارف . ان الذاكر باحدى اللطائف المتقدم ذكرها هو المختلي في الخلوة المعنوية أي صارت جلوته خلوة , أشار اليه سيدي مصطفى البكري في النظم بقوله :
و ذا طريق النقشبندي المجتلي حال الخلا و في الملاء مختلي
و قال في هداية الاحباب فيما للخلوة من الشروط و الآداب : " الخلوة على ثلاثة أقسام , خلوة سالك و خلوة عارف و خلوة محقق . فخلوة العارف في الملاء , و هي التي تعرف بالخلوة المطلقة , و هي عبارة عن الحضور مع الحق تعالى في كل نفس , و لا تكون هذه الخلوة الا لمن جمع و فرق حتى شاهد الكثرة في الوحدة و الوحدة في الكثرة . و أما خلوة المحقق الكامل فهي الخلوة بالله تعالى و لا تكون الا للقطب الغوث في كل زمان , و لا تكون لشخصين في زمان واحد . قال ابن العربي : " ان خلوة غير القطب فلا تكون بالله تعالى , انما هي لمزيد الاستعداد و البعد عما يشغله عن الطاعة من المخلوقين . و أما خلوة السالك فهي طريق موصل الى هاتين الخلوتين و سبيل يشرف فيه السيار على حقيقة النسبتين " , انتهى باختصار و المعنى و الله أعلم . و اذا ثبت أن الذكر قد يكون غير ملفوظ به و أن الملائكة عليهم السلام لا يكتبون الا الملفوظ به و لا يكتبون عمل الأسرار على أحد الأقوال المتقدم ذكرها و هو ثابت عند الله تعالى , لا يحصي أجره و ثوابه الا هو سبحانه و تعالى , و لا يضيع من عمل عامل مثقال ذرة من خير سواء كان ذلك العمل قولا أو فعلا , بدنا أو قلبا , اعتقادا أو ضميرا أو نية و سرا , فكذلك غيره من عمل الشر و الاثم و لو تكتبه الملائكة و تصعد به و لكن لا تطلع على آفته السرية , فانه مضر محيط ممقت , كما ورد ذلك من حديث معاذ رضي الله تعالى عنه , و هو حديثه الطويل الذي خرجه ابن المبارك رحمه الله تعالى , كان معاذ اذا تلاه بكى بكاء شديدا , و آخره " و تصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة و صيام و زكاة و حج و عمرة و خلق حسن و صمت و ذكر الله تعالى , و تشيعه ملائكة السماوات السبع حتى يقطع الحجب كلها الى الله تعالى , فيقفون بين يدي الله تعالى و يشهدون له بالعمل الصالح المخلص , فيقول تعالى أنتم الحفظة على عمل عبدي و أنا الرقيب على ما في نفسه , نه لم يردني بهذا العمل و لا أخلصه لي و أنا أعلم بما أراد بعمله , عليه لعنتي , غر به الآدميين و غركم و لم يغرني , و أنا علام الغيوب المطلع على ما في القلوب لا تخفى علي خافية و لا تعزب عني عازبة , علمي بما كان كعلمي بما لم يكن , و علمي بما مضى كعلمي بما بقي " , الخ , ذكره الغزالي و غيره . فعليه , و لا ينبغي للعبد الا افراد الوجه لله تعالى و التبتل اليه و امحاض الاخلاص له تعالى بالمراقبة و المشاهدة بالسر و الروح والقلب و جميع الجوارح , فلعله ان تطرقه نفحة من الحق تعالى تعمر وجوده بعد ما كان خاليا , و تحيي سعادته بعد ما كان شاقيا . فقد نقل العلامة المجدوبي في المسائل الظرفية , أن الحفظة يكتبون القول و العمل و الاعتقاد و الهم و العزم و التعزير , أي تعزيرك الغير و تسليمك له ما قاله , و العمد و الذهول و النسيان , حتى الأنين في المرض , انتهى و الله أعلم . قوله , و أي حال فيه يندب , أي , و أي مكان أو زمان أو حال من الأحذوال يندب فيه قطع الذكر , و يكره الذكر فيها و ما لا يكره فيها , و ما الأحوال التي عند عروضها يندب له القطع ثم يعود اليه , أي الذكر . الفصل التاسع و الثلاثون : في الجواب على قوله , و أي حال من الأحوال أو زمان أو مكان فيه , أي في ذلك الحال قطع , أي قطع الذكر و لا يكره و أو يندب . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " فمن ذلك يكره الذكر عند قضاء الحاجة , و حال الجماع , و في حال الخطبة لمن يسمع صوت الخطيب , و في القيام الى الصلاة , بل يشتغل بالقراءة , في حال النعاس , و لا يكره في الحمام و لا في الطريق . و أحولا يستحب قطع الذكر فيها اذا عرضت له , ثم يعود بعد زوالها , منها اذا سلم عليه شخص رد عليه السلام و عاد الى الذكر , و كذا اذا شمت العاطس , و كذا يقطعه لسماع الخطبة و الأذان و لاجابة المؤذن في كلمة الأذان و الاقامة , يحصلها ثم يعود الى الذكر , و كذا اذا رأى منكرا أزاله أو معروفا أرشد اليه , أو من يسترشد أجابه و الله أعلم " , انتهى كلامه رحمه الله تعالى . قلت , قوله يكره الذكر عند قضاء الحاجة و حال الجماع ليس على اطلاقه . أما عند قضاء الحاجة , ان منع لسانا فلا يمنع قلبا , فان القلب من عالم الملكوت كما اللسان من عالم الملك و التباين ظاهر . و أيضا فان الفكر ذكر , فاذا تفكر فيما أنعم الله تعالى عليه و أخرج ما فيه ضرره و أبقى ما فيه بقائه و نفعه كان شاكرا ذاكرا . و اذا اتبع السنة في دخوله و جلوسه و خروجه كان بمثابة الذاكر . و قد ورد أن يقول عند دخوله الخلاء " أعوذ بالله من الخبث و الخبائث " , بضم الخاء المعجمة و الباء الموحدة , أو سكون الباء بعد التسمية , لقوله عليه السلام : " ستر ما بين أعين الجن و عورات بني آدم , اذا دخل أحدكم الخلاء أن يقول بسم الله " , رواه علي رضي لله تعالى عنه , و أن يقدم رجله اليسرى عكس دخوله المسجد , و أن يجلس غير مستقبل القبلة و لا مستديرها , و لو في البنيان كما ذلك مبين في محله من الفقه , و كذلك غير مستقبل عين الشمس و القمر و مهب الريح , و لا في الماء و الظل الذي ينتفع به , و الحجر و الطريق و شجر مثمر , و يجلس معتمدا على يساره من رجليه , ناصبا اليمنى منهما بأن يضع أصابعها على الأرض , و يرفع باقيها لأنه أسهل لخروج الخارج و يوسع فيها بين رجليه و لا يتكلم , غير كاشف عورته الا بقدر الضرورة طارقا رأسه مستحييا من الله تعالى , غاضا بصره عن عورته وما يخرج منه , و قيل لا بأس ان نظر ما يخرج منه ليعرف قدره و يستحقر نفسه . و قد ثبت عن جماعة من السلف لا يدخلون الخلاء الا بعد مدة , منهم الامام مالك رضي الله عنه , كان لا يدخل الا بعد مضي ثلاثة أيام , و يقول غلبتنا البطنة أو كلام مثله . و اا استنجى , و السنة أن يجمع بين الماء و الحجر , خرج و قدم رجله اليمنى عكس الدخول و قال " الحمد لله الذي أذهب عني الأذى و عافاني , غفرانك ربنا و اليك المصير " , اعترافا بالقصور عن بلوغ شكره تعالى . و أما حال الجماع , فقد ورد أن يقول : " بسم الله , اللهم جنبنا الشيطان و جنب الشيطان ما رزقتنا به " . و أيضا اذا كان في حال مباشرته الفعل مراعيا للسنة , و آتيا ببعض ما تيسر له منها , كان بمثابة الذاكر الشاكر . فان معنى الذكر هو التخلص من الغفلة , أو تردد معناه على القلب كما تقدم . و قد ورد اذا أراد ذلك , ينوي تحصين فرجه , و تطريد نفسه عن المادة الفاسدة المحرقة , و تكثير أهل التوحيد . و قد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول : " اني لا حاجة لي الى النساء , لكن أرجو أن يخلق الله تعالى من صلبي ما يباهي به محمد الامم " , أو كما قال . و ورد بعده بالتسمية و قراءة سورة الاخلاص , و يكبر و يهلل و يقول " بسم الله العلي العظيم , اللهم اجعل لنا من لدنك ذرية طيبة مطيعة لك " . و قيل ان قال " اللهم ان رزقتني من هذه الوقعة ولدا سميته محمدا , فانه يرزقه الله تعالى ذكرا و لا يضره الشيطان ان شاء الله تعالى , انتهى باتصار و باقي كلامه ظاهر صحيح . فتبين منه و مما تقدم كل العبادات يمكن تركها في زمان و مكان الا عبادة الذكر , فانه مهمى كره باللسان الا و ندب بالقلب , و ذلك دليل على أفضليته حيث كان , مأمور به في كل الحالات , بخلاف غيره من العبادات و الله أعلم . ثم قال عفا الله عنه :
( ما أفضل أذكر أم جهاد و ما توحيد واحد يفيد )
-
اشتمل البيت على سؤالين . الأول , هل الذكر أفضل أم الجهاد أفضل . الثاني , ما معنى توحيد العبد لله تعالى و ما فائدته مع أنه واحد قبل توحيدنا , و هل هو أفضل الطاعات أو لا , و بهما تمام واحد و أربعين سؤالا . قوله ما أفضل ذكر أم جهاد , أي أيما أفضل الذكر أم الجهاد . الفضل لغة الزيادة , و أفضل اسم تفضيل يقتضي زيادة على مقابله , و الذكر مر معناه و الجهاد لغة بالكسر القتال مع العدو كالمجاهدة . و بالفتح الأرض الصلبة التي لا نبات بها و ثمر , الا راك قاموس , و اصطلاحا الدعوة الى الدين الحق على طريق المبالغة و بذل الجهد و هو فرض كفاية , و قيل عين الخ . الفصل الأربعون : في الجواب على قوله ما أفضل , هل الذكر أم الجهاد . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " الذاكر المجاهد أفضل من الذاكر بلا جهاد , و أفضل من المجاهد الغافل , و الذاكر بلا جهاد أفضل من المجاهد الغافل عن ذكر الله تعالى . فأفضل الذاكرين المجاهدون , و أفضل المجاهدين الذاكرون . قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون " , فأمرهم بالذكر الكثير مع الجهاد رجاء للفلاح . و روى الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم , عن الله عز طوجل , أن الله تعالى يقول : " ان عبدي كل عبدي يذكرني و هو ملاق قرنه " , يعني في القتال . و روي أنه صلى اله عليه وسلم سئل " أي أهل المسجد خير , قال أكثرهم ذكرا لله تعالى عز و جل , قيل و أي الحجاج خير , قال أكثرهم ذكرا لله عز و جل , قيل فأي العواد خير , قال أكثرهم ذكرا لله عز و جل , فمن ثم قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه , ذهب الذاكرون لله تعالى بكل خير . و قال صلى اله عليه وسلم : " ذاكر الله تعالى في الغافلين كالمقاتل خلف الفارين " . و روي عن أبي سعيد الخذري رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم سئل " أي العبادة أفضل درجة عند اله تعالى يوم القيامة , قال الذاكرون الله تعالى ذكرا كثيرا ,قلت يا رسول الله و من المغازي في سبيل الله , قال لو ضرب بسيفه في سبيل الله في الكفار و المشركين حتى ينكسر و يخضب دما , لكان الذاكرون الله تعالى أفضل منهم " . و ذكر ابن الجوزي عن علي ابن الموفق , قال سمعت حاتما يقول : " لقيت الترك فرماني تركي فقلبني عن فرسي و قعد على صدري و أخذ بلحيتي الوافرة و أخذ سكينا ليذبحني , فوحدت سيدي ما كان قلبي عنده و لا عندي سكينه , انما كان قلبي عند سيدي أنظر مذا ينزله من القضاء , فقلت سيدي ان كنت قضيت علي أن يذبحني هذا فعلى الرأس و العين , انما أنا لك و ملكك , قال فرمى بعض المسلمين بسهم فما أخطأ حلقه فسقط , فقمت اليه فذبحته , فهذا ببركة ذكره لسيده بقلبه و الله أعلم , انتهى كلامه و هو عجيب . قلت , الجهاد جنس تحته أنواع منها جهاد النفس , و منها جهاد شياطين الجن , و منها جهاد شياطين الانس , و من ذلك جهاد الكفار و هو النفس و بالقلب و باللسان و بالمال و باليد , و عند أهل الله , التحقيق, أنه فرض عين , ما عدى جهاد الكفار فانه كفاية على المشهور كما تقدم , و لولا خيفة الاطالة المئدية الى السئامة لذكرناها على التفصيل و لكن نذكر بعضا منها على سبيل الاختصار تتميما للفائدة و الله أعلم . أما جهاد النفس و الشيطان , قال أهل التحقيق أنه من أعظم أنواع الجهاد , لأن أصل العداوة منهما . فجهاد النفس هو الزامها بطاعة الله تعالى و رسوله و محاسبتها على حركاتها و سكناتها و هو أعظم من جهاد الأعداء , لأن النفس الأمارة لا تفارق صاحبها طرفة عين و شيطانها كذلك لا يفارقها , بخلاف جهاد الأعداء من بني آدم , انما يكون في بعض الأحيان دون بعض , و لا يقوى عليه الا بعد جهاد نفسه , فان من لم يجاهد نفسه لا يستطيع أن يجاهد عدوه , و هو ظاهر فلا يحتاج الى دليل . و قد اتفق أهل المعرفة بالله تعالى على اختلاف طرقهم , على أن النفس قاطعة بين القلب و بين الوصول الى الله تعالى , أن العبد لا يصل الى ربه الا بعد تركها و اماتتها , و لا يقدر على امتتها الا بقهرها و مخالفتها . و الناس مع النفس على قسمين قسم ظفرت به نفسه فملكته و أهلكته فصار منقادا لها مأتمرا بأوامرها , و قسم ظفروا بنفوسهم فملكوها و قهروها و زموها بزمام الشرع . فهي تحت قهرهم و ملكهم و أمرهم , كما قال بعض العارفين , انتهى اسفر الطالبين الى الظفر بأنفسهم , فمن ظفر بنفسه أفلح و نجح و من ظفرت به نفسه خسر و هلك . قال تعالى : " فأما من طغى و آثر الحياة الدنيا فان الجحيم هي المأوى و أما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى " . قال الامام أبو عبد الله بن الضيم رحمه الله تعالى : " فالنفس تدعو الى الطغيان و ايثار الحياة الدنيا , و الرب تعالى يدعو العبد الى خوفه و نهي النفس عن الهوى , القلب بين الداعيين يميل الى هذا مرة و الى هذا مرة , و هذا موضع المحنة و الابتلاء " . و قد وصف سبحانه و تعالى النفس في القرآن بأوصاف جلها راجع الى ثلاثة : مطمئنة و أمارة بالسوء و بينهما لوامة . و اختلف الناس هل النفس واحدة و هذه أوصاف لها , أم لعبد ثلاثة أنفس . و الاول قول الفقهاء و المتكلمين و جمهور أهل التفسير , و قول محققي الصوفية , و الثاني قول كثير من أهل التصوف . و التحقيق انه لا نزاع بين الفريقين , فانها واحدة باعتبار ذاتها و متعددة باعتبار صفاتها . فاذا اعتبرت بنفسها فهي واحدة , و ان اعتبرت مع كل صفة دون الأخرى فهي متعددة . فالنفس اذا سكنت الى الله تعالى واطمئنت بذكره و أنابت اليه و اشتاقت الى لقائه و أنست بقربه , فهي مطمئنة , و هي التي يقال لها عند الموافاة " ايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك " , الآية . قال ابن عباس " المصدقة " , و قال قتادة " هو المؤمن اطمأنت نفسه الى ما وعد الله تعالى " . و قال الحسن " المطمئة بما قال الله تعالى و المصدقة بما قال " . و قال مجاهد " هي المخبتة التي أيقنت أن الله ربها و اضطربت جأشا لأمره و طاعته و أيقنت بلقائه " . و حقيقة الطمئنينة السكون و الاستقرار , فهي التي سكنت الى ربها و طاعته و أمره و ذكره و لم تسكن الى سواه . فقد اطمئنت الى محبته و عبوديته , و اطمئنت الى لقائه و وعده , و اطمئنت الى الرضى به ربا و بالاسلام دينا و بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا , و اطمئنت الى قضائه و قدره , و اطمئنت بأنه تعالى وحده ربها و الهها و معبودها و مليكها , و أنها لا غنى لها عنه طرفة عين . و اذا كانت بضد ذلك فهي أمارة بالسوء , تأمر صاحبها بما تهواه من شهوات الغي واتباع الباطل فهي مأوى كل سوء . ان أطاعها قادته الى كل قبيح و كل مكروه , و قد أخبر سبحانه و تعالى أنها أمارة بالسوء , و لم يقل آمرة لكثرة ذلك منها , و أنه عادتها و دأبها , الا اذا رحمها الله تعالى و جعلها زاكية , تأمر صاحبها بالخير , فذلك رحمة منه تعالى لا منها . فانها بذاتها أمارة بالسوء لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة , و العلم و العدل طارء عليها بالهام ربها و فاطرها . فاذا لم يلهمها رشدها بقيت على ظلمها و جهلها , فلم تكن الا أمارة بموجب الجهل و الظلم و كانت النفس الناطقة أسيرة عندها , لا تصرف لها , كالأسير في بلد الكفار , تعرف الحق و لا تقدر عليه و لا على متابعته . فلولا فضل الله تعالى و رحمته ما زكت منهم نفس واحدة , و بهذا يعلم أن ضرورة العبد الى ربه فوق كل ضرورة , فانه ان أمسك عنه رحمته و توفيقه و هدايته طرفة عين , خسر و هلك . و أما النفس اللوامة , فاختلف في اشتقاقها , هل هو من التلوم وهو التلون و التردد أو من اللوم , و عبارات السلف تدور على هذين المعنيين . قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس " ما اللوامة " , قال " هي النفس اللوم " . و قال مجاهد " هي اللتي تندم على ما فات و تلوم عليه " . و قال قتادة " هي الفاجرة " . و قال عكرمة " تلوم على الخير و الشر " . فهذه عبارات من ذهب الى أنها من اللوم , و أما من جعلها من التلوم , فلكثرة ترددها و تلومها و أنها لا تستقر على حال واحدة . و قال بعضهم , و النفس قد تكون تارة أمارة و تارة لوامة و تارة مطمئنة , بل في اليوم الواحد و الساعة الواحدة يحدث فيها هذا و هذا , و الحكم لغالب عليها من أحوالها . فكونها مطمئنة وصف مدح لها , و كونها أمارة وصف ذم لها , و كونها لوامة ينقسم الى المدح و الذم بحسب ما تلوم عليه , فوجب على العاقل أن ياهد نفسه و شيطانه على حفظ الجوارح السبعة التي هي العين و الأذن و الفم و اللسان و اليد و الفرج والرجل . فهذه الجوارح هي مركب العطب و النجاة . فمنها عطب من عطب باهمالها و عدم حفظها , و نجا من نجا بحفظ
ها و مراعاتها , و منع العدو من الشياطين من الدخول عليه منها , فان الله تعالى قد ابتلى هذا الانسان بعدو لا يفارقه طرفة عين , ينام و لا ينام , و يغفل و لا يغفل عنه , يراه هو دو قبيله من حيث لا يراه , يبذل جهده في معاداته في كل حال , و دلا يدع أمرا يكيده به يقدر على ايصاله اليه الا أوصله اليه , و يستعين عليه ببني جنسه من شياطين الجن و غيرهم من شياطين الانس , قد نصب له الحبائل و بغاة الغوائل و مد حوله الأشراك , و نصب له الفخاخ و الشباك , و قال لأعوانه دونكم عدوكم و عدو أبيكم لا يفوتنكم و لا يكون حظه الجنة و حظكم النار , و نصيبه الرحمة و نصيبكم اللعنة , قد علمتم أنما جرى علي و عليكم من الخزي و اللعن و الابعاد من رحمة الله تعالى فبسببه , و من أجله فابذلوا جهدكم أن يكونوا شركاء في هذه البلية , قد أعلمنا الحق تعالى بذلك كله من عدونا , و أمرنا أن نأخذ له أهبته . و لما علم سبحانه و تعالى أن آدم و بنيه قد ابتلوا بهذا العدو , و أنه قد سلط عليهم , أمدهم بعساكر و جند يلقونه بها , و أمد عدوهم أيضا بجند و عساكر يلقاهم بها . و أقام سوق الجهاد في هذه الدار في مدة العمر , واشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون , ثم أكد ذلك بقوله وعدا عليه حقا في التوراة و الانجيل و القرآن , ثم لا أوفى بعده منه سبحذانه و تعالى , ثم نبه أن يستبشروا بهذه الصفقة التي من أراد أن يعرف قدرها فلينظر الى المشتري من هو , و الى الثمن المبذول في هذه السلعة ما هو , و الى من جرى على يديه هذا العقد . فأي فوز أعظم من هذا و أي تجارة أربح منه . و لم يسلط سبحانه و تعالى هذا العدو على عبده المؤمن , الذي هو أحب أنواع المخلوقات اليه تعالى , الا لأن هذا الجهاد هو أحب شيء اليه , و أهله أرفع الخلق عنده درجات و أقربهم اليه وسيلة . فعقد سبحانه و تعالى لواء هذه الحرب لخلاصة مخلوقاته و هو القلب الذي هو محل نظره و معرفته و محبته و عبوديته و الاخلاص له و التوكل عليه و الانابة اليه . فولاه أمر هذه الحرب , و أيده بجند من الملائكة لا يفارقونه معقبات من بين يديه و من خلفه , يعقب بعضهم بعضا , كلما ذهب بدل جاء بدل آخر يثبتونه ويأمرونه بالخير , و يحضونه عليه , و يعدونه بكرامة الله تعالى و يصبرونه و يقولون له انما هو صبر ساعة , و قد استرحت راحة الابد . و منهم من يعبر له و يحضه على هذا الجهاد مناما , و منهم يقظة , كل ذلك اعتناء بهذا العبد و رحمة به , و لله الحجة البالغة على خلقه . و من هذا اشترط مشائخ التربية اخبار المريد منامه و خواطره , بحيث لا يفرد أحدهما على الآخر لشيخه و طبيبه و خصوصا المذمومات منهما ليعرف مزاجه بذلك و يعطيه من الدواء ما ينفعه , و أكدوا ذلك و قالوا " من كتم عن طبيبه أمر علته مات عليلا " و هو معنى قولهم لا يفلح أبدا , و هذا على طريق السلوك بالاصطلاح , و أما بالهمة فلا يحتاج اليه , و قد قيل بانقطاعه كما تقدم . و قد أجاب شيخنا نفعنا الله تعالى به , لعدم السالكين و انحطاط الهمة الى الدنيا و قلة الصدق و النية والاخلاص . و لقد أجاد ابن سعيد حيث قال " لكن سر الله في صدق الطلب " , لا لفقد المسلكين , لبقاء الصالحين الى أن تقوم الساعة أو أن ينزل عيسى عليه السلام , كما سبق ذكر منه . ثم أمره الله تعالى بجند آخر من وحيه و كلامه , فأريل اليه رسوله , و أنزل عليه كتابه فازداد قوة الى قوته و مددا الى مدده , و أمده مع ذلك بالعقل وزيرا و مدبرا , و أمره بالمعرفة مشيرة عليه ناصحة له , و بالايمان مثبتا له و مؤيدا و ناصرا , و باليقين كاشفا له عن حقيقة الامر حتى كأنه يعاين ما وعد الله تعالى به أولياءه و حزبه على جهاد أعدائه . فالعقل يدبر أمر جيشه , و المعرفة تضع له أمور الحرب و أسبابها و مواضعها اللائقة بها , و الايمان يقويه و يثبته و يبصره , و اليقين يقدم به و يحمل به الحملات الصادقة . ثم أمده سبح=انه و تعالى بالقوى الظاهرة و الباطنة , فجعل حالعين طليعته و الأذن صاحب خبره , و اللسان ترجمانه , و اليدين و الرجلين أعوانه , و أقوام ملائكته تعالى و حملة عرشه يستغفرون له . و علم سبحانه و تعالى عباده كيفية هذه الحرب و الجهاد فجمعهما لهم في اربع كلمات فقال: " يا ايها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون " . و لا يتم أمر هذا الجهاد الا بهذه الأمور الاربعة : فلا يتم له الصبر الا بمصابرة العدو و هي مواقعته و منازلته , اذا صابر عدوه احتاج الى أمر آخر و هو المرابطة , و هي لزوم ثغر القلب و حراسته لئلا يدخل منه العدو , و لزوم ثغر العين و الأذن و اللسان و البطن و اليد و الرجل , فهذه الثغور منها يدخل العدو , فيحوس خلال الديار و يفسد ما قدر عليه . فالمرابطة لزوم هذه الثغور , فالمرابطة من روابط ثغور نفسه ببدنه , و من لم يراتبط نفسه لا يقدر يرابط ثغر غيره , فليتنبه . و جماع هذه الثلاثة و عمودها الذي يقوم به , هو تقوى الله تعالى . فلا ينفع الصبر و لا المصابرة و لا المرابطة الا بالتقوى , و لا تقوم التقوى الا على ساق الصبر , فانظر الآن الى التقاء الجيشين , واصطفاف العسكرين , و كيف تدئل مرة و يدئل عليك أخرى . أقبل ملك الكفر بجنوده و عساكره , فوجد القلب في حصنه جالسا على كرسي مملكته , امره نافذ في اعوانه و جنده قد حفوا به يقاتلون عنه و يدافعون عن حوزته , فلم يمكنه الهجوم عليه الا بمخامرة بعض أمرائه و جنده عليه , فسأله عن أخص الجند به و أقربهم منه منزلة , فقيل له هي النفس , فقال لاعوانه ادخلوا عليها من مرادها و انظروا ما هو محبوبها فعدوها به و منوها اياه , و انقشوا صورة المحبوب فيها يقظة و مناما , فاذا اطمأنت اليه و سكنت عنده , فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة و خطاطيفها ثم جروها بها اليكم , فاذا خامرت على القلب و صارت معكم عليه , ملكتم ثغر العين و الأذن و اللسان و الفم و اليد و الرجل , فرابطوا على هذه الثغور كل المرابطة , فمتى دخلتم منها على القلب , فهو قتيل أو أسير أو جريح مثخن بالجراحات . ثم يضع على هذه الثغور حراسا من الشياطين يكيدونه في الطاعة و يعينونه في المعصية , و يقول لهم ان أكثر عونكم على لزوم هه الثغور مصالحة النفس الامارة فأعينوها و استعينوا بها , و أمدوها و استمدوا منها , و كونوا معها على حرب النفس المطمئنة فاجتهدوا في كسرها و ابطال قواها , و لا سبيل الى ذلك الا بقطع موادها عنها , فاذا انقطعت موادها و قويت مواد النفس الأمارة , انصاعت لكم أعوانها فاستنزلوا القلب من حصنه و عزلوه عن مملكته وولوا مكانه الامارة , فانها لا تأمر الا بما تحبونه . ثم يقول , و ان أحسستم من القلب منازعة الى مملكته و أردتم الامن من ذلك فانكحوه النفس الأمارة و زينوها له و جملوها و أروه أياها في أحسن صورة , واستعينوا يا بني على بني آدم بجنديين عظيمين لن تغلبوا معهما , أحدهما جند الغفلة , فاغفلوا بني آدم عن الله تعالى و الدار الآخرة بكل طريق , فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك , فان القلب اذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه و من أعوانه . و الثاني جند الشهوات فزينوها في قلوبهم و حسنوها في أعينهم , و صولوا عليهم بهذين العسكرين و استعينوا على الغفلة بالشهوات و بالشهوات على الغفلة , ثم استعينوا بهما على الذاكر و لا يغلب واحد خمسة . يقول اللعين اذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم من ذكر الله تعالى , أو مذاكرة أمره و نهيه و دينه و لم تقدروا على تفريقهم , فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الانس البطالين , فقربوهم منهم و شوشوا عليهم بهم , و ضموا الى سلطان الشهوة الغضب , فاني انما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة , و انما ألقيت العداوة بين اولادهم بالغضب . فيه قطعت أرحامهم و سفكت دمائهم . واعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم , و الشهوة نار تثور من قلبه , و انما تطفىء النار بالماء و الصلاة و الذكر و التكبير , فاياكم أن تمكنوا ابن آدم عند غضبه و شهوته من قربان الوضوء والصلاة و الذكر بأن يطفىء عنهم نار الغضب و الشهوة . قال اللعين , و قد أوصاهم الله تعالى أن يستعينوا عليكم بالصبر و الصلاة فحولوا بينهم وبين ذلك و أنسوهم اياه , انتهى كلامه لعنه الله , مع اختصار جدا , و انما أطلنا الكلام فيه , لأن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر المشار اليه في الحديث السابق و مبنى الدين عليه , و لكون توقف الذكر و الاسلام و غيره من جميع الطاعات عليه , فتبين على هذا أن قوله الذكر أفضل من الجهاد ليس على اطلاقه , فالمراد به هاد الكفار لا غيره من جهاد النفس و الشيطان كما تقدم بيانه . و عليه كما قال سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه : " ذكر الله عند أمره و نهيه خير من ذكره باللسان " , أو كلام مثله و الله أعلم . تنبيه : و لما جرى الكلام الى هذا , فلا بد من ذكر قاعدة بها ملاك الامر كله تتميما للجهاد المذكور , و هي معرفة محاسبة النفس . قال بعض السلف : " واعلم أن العبد له مع نفسه حالتان , الاولى قبل العمل : قال الحسن رحمه الله تعالى : " عبدا وقف عند همه , فان كان لله تعالى مضى , و ان كان لغيره تأخر " . و قد شرح هذا بعضهم فقال : " اذا تحركت النفس لعمل من الأعمال و هم به العبد وقف أولا و نظر ان كان مأذونا فيه أو غير مأذون . فان لم يكن مأذونا فيه لم يقدم عليه , و ان كان مأونا فيه وقف وقفة أخرى و نظر هل فعله خير من تركه , أو تركه خير من فعله . فان كان الثاني تركه و لم يقدم عليه , و ان كان الأول وقف وقفة ثالثة و نظر هل الباعث عليه وجه الله تعالى و ثوابه أم ارادة الجاه و الثناء من المخلوق . فان كان الثاني لم يقدم عليه و ان أفضى به الى مطلوبه لئلا تعتاد النفس الشرك , و يخف عليها العمل لغير الله تعالى . فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى , حتى يصير أثقل شيء عليها . و ان كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر هل هو معان عليه و له أعوان يساعدونه و ينصرونه اذا كان العمل محتاجا الى ذلك أم لا . فان لم يكن له أعوان أمسك عنه كما أمسك النبي صلى الله عليه و سلم عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة و أنصار. و ان وجده معانا عليه فليقدم عليه فانه منصور , و لا يفوت النجاح الا من فوات خصلة من هذه الخصال " . و الثانية محاسبة النفس بعد العمل , و هو ثلاثة أنواع , أحدها محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى , فلم يوقعها على الوجه الذي ينبغي , و حق الله في الطاعة بمراعاة ستة أمور , و هي الاخلاص في العمل و النصيحة لله تعالى فيه , و متابعة الرسول صلى الله عليه و سلم فيه , و شهود منة الله تعالى عليه فيه , و شهود تقصيره فيه بعد ذلك كله . فيحاسب نفسه هل وفى هذه المقامات حقها , وهل أتى بها في هذه الطاعة أم لا . الثاني , أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لم فعله , و هل أراد به الله تعالى و الدار حالآخرة , فيكون رابحا فيه . أو أرد به الدنيا و عاجلها , فيخسر ذلك الربح , فيتدارك ذلك بالتوبة و الاستغفار و الانابة الى الله تعالى . و المقصود أن القيام على النفس و محاسبتها و مجاهدتها في ذات الله تعالى منأهم الأمور , و لا ينقسم سير العبد الى ربه تعالى الا بذلك . و في الحديث الذي رواه الامام أحمد و غيره من حديث شداد ابن أوس , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت , العاجز من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله " . دان نفسه أي حاسبها , و منه قوله تعالى " انا لمدينون " , أي محاسبون . و ذكر الامام أحمد عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا و زنوها قبل أن توزنوا, فانه أهون عليكم في الحساب غدا " , الخ . و ذكر عن الحسن قال : " لا يلقى المؤمن الا يحاسب نفسه ما أردت بكلمتي , ما أردت بأكلتي , ما أردت بشربتي , و الفاجر يمضي قدما و لا يحاسب نفسه " . و قال قتادة في قوله تعالى " و كان أمره فرطا " , أضاع نفسه و غبن , مع ذلك تراه حافظا لماله مضيعا لدينه " . و قالت داية لداوود الطاءي : " با أبا سليمان أما تشتهي الخبز " , فقال لها : " يا داية , بين مضغ الخبز و شرب الفتيت قراءة خمسين آية " . و قال بعض الحكماء : " أعز الأشياء شيئان , قلبك و وقتك . فاذا أهملت و قتك و ضيعت قلبك , فقد ذهبت منك الفوئد كلها " . و قال ميمون بن مهران : " لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه " , ولهذا قيل النفس كالشريك الخوان , فان لم تحاسبه و الا ذهب بمالك . و كتب عمر رضي الله تعالى عنه الى بعض أعماله : " حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة , فانه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره الى الرضى و الغبطة , و من ألهته حياته و شغلته أهوائه عاد أمره الى الندامة و الحسرة " . و قال ابن المبارك في تفسير قوله تعالى " و جاهدوا في الله حق جهاده " , هو جهاد النفس و الهوى , و هو الجهاد الأكبر , واستدل عليه بحديث " رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر " , و قال هو أن يطاع فلا يعصى , الخ . وروى الترمذي من حديث فضالة بن عبيد , قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المجاهد من جاهد نفسه في سبيل الله " , انتهى و الله أعلم . قوله و ما توحيد واحد يفيد , أي ما معنى توحيد العبد لله تعالى , و ما فائدته مع أنه واحد قبل توحيدنا , و هل هو أفضل الطاعات . أولا , التوحيد لغة الحكم بأن الشيء واحد , و العلم بأنه واحد . يقال وحدته أي وصفته بالوحدانية , كما يقال شجعته أي وصفته بالشجاعة . واصطلاحا تجريد الذات الالاهية عن كل ما يتصور في الافهام و يتخيل في الأذهان و الأوهام . و معنى كون الله تعالى واحدا نفي الانقسام في ذاته و نفي الشبه و الشريك في ذاته و صفاته . الفصل الواحد و الاربعون : في الجواب على قوله و ما معنى توحيد العبد لله تعالى لأنه واحد , و ما يفيدنا مع أنه واحد قبل توحيدنا , الخ . اعلم أنه قال الامام زين الدين في الجوهر الخاص , رحمه الله تعالى , معناه معرفة وحدانيته تعالى الثابتة له , و توحيد الخلق له لم يفد الحق بثبوت الوحدانية له تعالى . ليس بتوحيدك يتوحد الواحد , بل هو على كل حال واحد , و انما أفاد الموحد صفة الموحدية , و الحق تعالى وراء كل توحيد , قائم بذاته موصوف بصفاته , غني عن غيره في جميع كملاته . و دالتوحيد سبب النجاة من النار و هو أفضل الطاعات و شرط في صحتها . و اختلفت عبارات الناس فيه , فسئل ذو النون المصري عن التوحيد فقال : " أن تشهد أن قدرته في الاشياء بلا علاج , و صنعه للأشياء بلا مزاج و علة . كل شيء صنعه و لا علة لصنعه , و ما جلاه الوهم أو حكاه الفهم فالله تعالى بخلافه " . و قال ابوالقاسم الجنيد رحمه الله تعالى : " التوحيد اثبات القدم و نفي الحدوث " . و قال الامام الغزالي رحمه الله تعالى : " التوحيد أصل على ثلاثة مراتب . توحيد العامة , و هو أن تشهد أن لا اله الا الله , و يسمى التوحيد المجرد . و توحيد خاصة العامة , و هو أن لا ترى مع الحق سواه , و يحصل لهم بالقائق العشرة و هي المكاشفة و المشاهدة و المعاينة و الحياة و القبض و البسط و الصحو و السكر و الايصال و الانفصال . فأهل الحقائق أهل هذه المقامات و الله أعلم . تحقيق : الحكم بأن الشيء واحد و العلم بأن الشيء واحد أيضا توحيد , و غلبة روية الحق على القلب توحيد . فمن اعتقد أنه تعالى واحد بغير دليل موحدا , وعلم أنه تعالى واحد فهو موحد أيضا . فمن حصل له التوحيد الأول فهو مؤمن , و من حصل له الثاني فهو عالم , و من حصل له الثالث فهو عارف . فالأول توحيد كافة الصوفية . تدقيق قال الجنيد قدس سره : " الوحدانية أعلى من الربوبية , لأن الوحدانية ترجع الى توحيد مولانا جل و علا , و الربوبية ترجع الى مربوبيتنا , و كل ما أضيف اليه يكون أعلا مما أضيف الينا و الله أعلم , انتهى كلامه . قلت , و لما كان التوحيد سبب النجاة من النار و هو أفضل الطاعات و شرط في صحتها , و اختلفت عبارات الناس فيه كما ذكره الشيخ , ينبغي لنا زيادة كلام فيه على مذهب أهل الحقيقة , ليكون في البيان كافيا و من داء الشكوك و الأوهام و الظنون شافيا ان شاء الله تعالى . اعلم أيه المتجرد المريد المستشرف على مراتب التوحيد أن الحق تعالى واجب الوجود لذاته , يعلم ذاته و يعلم صفاته و يعلم أفعاله . فهناك أربع اعتبارات : الأول من حيث هو واجب الوجود , و ذلك هو الوجود فقط و هو النور المطلق المشار اليه في قوله صلى الله عليه و سلم : " ان الله نظر دالى نوره المطلق " , الخ , و هو البحر الطمس و العمى الذي لا عين فيه و لا اثر و لا كلام و لا خبر بل هو الحق أخ العدم لمن أراد أن يتأخر أو يتقدم . و الثاني من حيث هو يعلم ذاته و هذا هو تعيين ذاته من حيث الذات , و هذا العلم هو المحمول على الذات , الذي هو عين العالم و المعلوم , و هذا هو الكنز المخفي و الذكر الخفي مصدوق التا و المشار اليه بأنا . واعلم أن عن هذا التعيين الذاتي ظهرت الصفات العلية في العلم , اذ هي من الوجود فافهم المقصود , واعلم أن الذكر المشار اليه في قوله صلى الله عليه وسلم " و كتب في الذكر كل شيء " , هو الحقيقة المحمدية , و هو الكنز المخفي و الذكر الخفي اليه ينتهي السير و السفر , و منه تبدو مراتب السفر , و عند ذلك يظفر بمرتبة الصديق و بالاسم الأعظم , و تكمل مراتب التحقيق و ليس شيء بعد ذلك يرام , و ها هنا ينقطع الكلام . و الثالث من حيث هو يعلم صفاته , و هذا هو التعيين الصفاتي من حيث الصفات , و عن هذا التعيين كانت أسمائه الصفاتية العلية , كما ان عن تعيين ذاته كان اسمه الأعظم . فافهم واعلم أن عن هذا التعيين وجدت الافعال , اذ الصفات مرتبطة بأثرها بالذات , فافهم ثم اعلم أن هذا العلم هو مبدأ الكثرة الوهمية و العينية و مبدأ الانفعال و حصول الآثار و تمييز النسب و التفرقة بين العبد و الرب , بل هو البرزخ الواصل و الحجاب الفاصل , مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان . و بالجملة هو أصل المتفرقات و مجمع المختلفات , الذي تنوعت مظاهره , و ان شئت قلت مراتبه , و ان شئت قلت ذاته الى ع ل م و ادراك و و ه م , فاعلم ذلك . و الرابع من هو يعلم أفعاله , و هذا هو التعيين الفعلي من حيث الافعال , و عن هذا التعيين كانت أسماء أفعاله التي هي في الحقيقة أعيان الى ع ا ل م . و بالجملة فالموجود من حيث الوجوب الذاتي الذي هو الحق باطلاق ذات و صفات و أفعال , و لكل مرتبة من هذه تعيين من حيثيتها واسم من ذلك التعيين . فللتعيين الذاتي من حيث الذات الاسم الأعظم , و الصفاتي من حيث الصفات اسم الصفة , و الفعلي من حيث الأفعال أسماء الافعال . فليس الوجود في الحقيقة الا ذات الله جل و علا و صفاته و أفعاله . و صفاته ليست غير ذاته , و أفعاله راجعة الى صفاته , و مراتب الوجود من حيث الوجود الممكن الذي هو الحق باضافة , و هو العبد كلمة ثم روح ثم نفس ثم جسم , فالجسم عالم الملك و النفس عالم الملكوت و الروح عالم الجبروت و الكامة عالم العزة , سبحان ذي الملك و الملكوت , سبحان ذي العزة و الجبروت . فالروح الجبروتي مظهر الذات , و النفس الملكوتي مظهر الصفات , و الجسم الملكي مظهر الأفعال , و الكلمة البرزخ الكلي الجامع و الحيز المانع , حقيقة الحقائق و روح كل الخلائق . قال تعالى : " و يحق الحق بكلماته " , و قال تعالى : " فآمنوا بالله و رسوله النبي المي الذي يؤمن بالله و كلماته " . فالكلمة اذا حقيقة كل كون متعين و الكلمة في ذات المتكلم , الخ . و بالجملة فالحق حل و علا أظهر الموجودات و جعل مبدأها الكلمة الجامعة و الحقيقة الجاذبة الرافعة و العنصر الأعظم و الروح الأعلم أصل حالأكوان علما و عينا و المفيض عليها من حضرة الجود الأسنى صلى الله عليه و سلم و شرف و كرم و مجد و عظم . بل هو مظهر الاسم الأعظم , بل هو كنز من اعتبر و فهم . ثم انه لما أتم الله تعالى مظاهر الحق و مراتب الوجود باللسان الجامع للقبضتين , و ما اشتملت عليه كلتا اليدين من كل ضدين و خلافين و مثلين , و كان المقصود من الجمع معرفة الشأن العزيز الذي هو شأن الله تعالى , كما قال تعالى : " و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون " , " و كنت كنزا " , الخ . و كان هذا الانسان الكامل ليس شيء يصلح لذلك أو يكون أهلا لما هنالك لجمعيته الكلية , و حقيقته البرزخية . فقبل تلك المعرفة من بين من هنالك " انا عرضنا الأمانة " , الآية , فكان من حيث قبضة اليمين في أحسن تقويم , و من حيث قبضة الشمال في أسفل سافلين , و هذا من العلم و الجهل . فشأن العبد اذا رجعوه باليقين و الشهود الى حقيقة التوحيد و وحدة الوجود , بحيث يخير عن الامر بما هو عليه في نفسه ان تكلم و لا يكون للوهم عليه من تحكم . فمن علم ما هو الامر عليه في نفسه أو استعد للعلم بذلك فهو السعيد القويم , و من جهل ذلك و تكاسل عن تحصيل ذلك فهو الشقي السفيل . ثم ان الأنسان القويم على قسمين , من هو باق على تقويمه لم يعرض له ضده , كالأنبياء و الكمل من الأولياء . ومنهم من عرض له ذلك , ثم خلصه الله تعالى من ذلك , و هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات , و هؤلاء على قسمين : منهم من وصل بالجذبة الالهية , أعني أخذ الحق تعالى بيده و اخراجه من الكثرة الوهمية الى الوحدة الوجودية , اما ايمانا و علما , أو دراية و فهما , أو وجدا و كشفا , بحيث لا يجد لاخراجه تكلفا و لا لقطع عوالمه الوهمية تألما . و منهم من وصل بالسلوك , و هو الذي قطع بالرياضة و المجاهدة و الخلوة و الذكر مراتب الملك و ظفر بعد ذلك بنتيجة الملك بملك عنان نفسه و سلوكها الى حضرة قدسه , و ذلك باعتنائه بالتقوى التي وصى بها الله تعالى كافة خلقه بقوله تعالى " و لقد و صينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و اياكم أن اتقوا " . و بيانه أن التقوى بلسان المحقق هي ذهاب السوى من الوجود , و ذهاب السوى من الوجود هو التحقق بالوجود , و التحقق بالوجود هو تحققك بفص هويتك , و تحققك بفص هويتك هو وجودك فقط , و وجودك فقط أن لا تكون أنت و لا هو , و أن تكون أنت و لا هو , هو وجود الله , و ودود الله هو كان الله و لا شيء غيره , و كان الله و لا شيء غيره هو أن يكون الله فقط , و أن يكون الله فقط هو أن يكون الله كل شيء , و أن يكون الله كل شيء هو أن تكون أنت , و أن تكون أنت هو أن لا يكون السوى . فانظر هذا الأمر ما أغربه و أعجبه , فانه دوري , فالدور عجيب و الواصل اليه غريب , و لهذا قيل شعر :
ففي الخلق عين الحق ان كنت ذا عين و في الحق عين الخلق ان كنت ذا عقل
و ان كنت ذا عين و عقل فما ترى سوى عين شيء واحد فيه بالشكل
فابحث عن شئونك فانك مجمع الشئون , و محل الظهور و الكمون , و لا تقنع بما يبدو لك من العرفان . فابحث فان القناعة من الله تعالى حرمان , و بأي شيء تقنع و ما بقي فهو أنفع و الأمر من كل هذا أوسع . فالتقوى هي سلم الوصول الى مراتب التوحيد , و لهذا قالوا , ان التوحيد على ثلاثة أقسام تقليدي و نظري و ذوقي . أما التقليدي , فهو الظاهر الجلي الذي يقي من الشرك الأعظم , و عليه نصبت القبلة و به وجبت الذمة و حقنت الدماء و الاموال و صحت به الملة للعامة , و ان لم يقوموا بحق الاستدلال اذ ليس في وسع كل انسان الاهتداء لطريق النظر و الاستدلال , لاختلاف الفطر و تباين الطباع من البشر , لا سيما من أول وهلة , وقد كان الداخلون في الاسلام من الأعراب و غيرهم على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و غيره , يدخلون في الاسلام فيحسبون من أهله بمجرد التقليد , ثم لا يزالون
يباشرون أحوال الدين و وظائف الاسلام و يعملون بها حتى تستمكن بشاشة الايمان من قلوبهم , فيقوى ايمانهم و يرتص بناء توحيدهم . فهذا النوع من التوحيد أقل ما يجزءى لأهل التوبة التي هي أصل التقوى , و ان فتح لهم في زائد عليه فهو أحسن و أكمل . و أما النظري فهو ما يحصل من اليقين عن النظر في المخلوقات , فيستدل بها على الخالق , و في المصنوعات فيستدل بها على الصانع , و في المحدثات فيستدل بها على القديم بتحقيق جواز الجائز , و وجوب الواجب و استحالة المستحيل بقوانين علمية و مقايس عقلية تفيد القطع بوجود الباري تعالى و صفاته و أفعاله , حتى لا يدخله في ذلك تشكيك و لا احتمال . و ليس من شرط هذا النوع من التوحيد افصاح لسان كل أحد ممن يدعيه بحجج المناظرة على صحة ذلك , و لا تجويد العبارة عن حقائقه , اذ ليس كل انسان يقدر على الوفاء بالتعبير عن المعاني القائمة في نفسه التي هي مناط المعرفة الى ربه تعالى , و هذا النوع من التوحيد أقل ما يجزءى لأهل الاستقامة و هي بداية التقوى , و ذلك بما خالطوه من أمور الدين و وقفوا عليه من آثار الشرع المبين , و بما باشروه من وظائف سنته مع ما واصلوهمن محبته و ذكره و الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم , حتى قام لهم بذلك نور تنشرح به الصدور لتدبر العبر و الاهتاء لطرق الاستدلال و النظر . و لا شك أن العقل تشحره و تجوهره و تصفي مرآته أعمال الطاعات و وظائف العبادات , حذتى يهتدي بذلك الى سبيل النظر و الاستدلال , فيحسب حسن نتيجة الاحوال . و أما التوحيد الذوقي , فله سبع مراتب : الأولى , تفيد حسن الاهتداء بالبطن لنيل مذاق يفيد الزيادة في مادة ما أفاده النظر , و الستدلال من ثلج اليقين في التوحيد القطعي , و هذا من نتائج التقوى , لأن التقوى تنزيه القلب عن الذنوب بملاحظة الله تعالى . فكلما خطر بباطنه همة شيطانية , تذكر ما لديه من أمر العبادة , فظهر له بنورها أن معبوده واجب أن يطاع فلا يعصى , فيطرد بذلك عن باطنه جميع واردات الشر , فتذهب عنه بذلك المكدرات التي تحجب عن استبصار الحقائق , فيزداد بذلك قوة في ثلج اليقين و نور التوحيد ما يغنيه عن النظر و الاستدلال و ضعف التقليد . و الثانية , تفيد تحصيل بداية توحيد الافعال , و تختص بمنزل الاخلاص , أول منازل مقام الايمان . و الثالثة , تفيد تحصيل نهاية توحيد الافعال و تختص بمنزل الصدق ثاني منازل مقام الايمان . و الرابعة , تفيد تحصيل بداية توحيد الصفات , و تختص بمنزل الطمأنينة ثالث منازل مقام الايمان و الخامسة , تفيد تحصيل نهاية توحيد الصفات , و تختص بمنزل المراقبة , أول منازل مقام الاحسان . و السادسة , تفيد تحصيل بداية توحيد الذات , و تختص بمنزل المشاهدة ثاني منازل مقام الاحسان . و السابعة , تفيد تحصيل نهاية توحيد الذات , و تختص بمنزل المعرفة ثالث منازل مقام الاحسان . و نهاية كل مرتبة تشترك مع بداية المرتبة التي تليها . و نعني بتوحيد الأفعال العثور على ما تقتضيه أفعاله تعالى من سر التوحيد , و بتوحيد الصفات العثورعلى ما تقتضيه صفاته تعالى من سر التوحيد , و بتوحيد الذات العثور على ما تقتضيه ذاته المقدسة من سر التوحيد . و توضيحه أن الله تعالى حجب ذاته المقدسة بصفاته , و حجب صفاته العلية بأفعاله , و حجب أفعاله الجميلة بمألوفات طباع الانسان . و قد أفصح بهذا عبد الله بن عباس حين تكلم في التوحيد , فقال : " حجبت الذات بالصفات و حجبت الصفات بالافعال , فبقدر ما يخرج الانسان عنه من مألوفات طباعه , يبدو له من حقائق توحيد الأفعال , و بقدر ما يحصل عليه من توحيد الأفعال , يظفر به من أسرار توحيد الصفات , و بقدر ما يلوح له من أنوار توحيد الصفات يشاهد من عجائب توحيد الذات " . و ذكر غايات ذلك انما هو نسبة أقصى ما يحمله عقل الانسان , لأن أسرار التوحيد لا غاية لها و لا نهاية , فهي تستغرق العقول و تكتنف الاذهان من الفحول , و تقطع نياط مجال الافكار لمن تمعن بالجد و الاستبصار و الله تعالى و دلي التوفيق و اليه يعود التحقيق , و من تحقق بهذا الفصل و الذي قبله , فهو السالك الموحد . فقد ظفر بأسلوب الطريقة و الحقيقة , و ان بقيت هناك أمور لا غرو يعثر عليها ببركة جهاده لنفسه و ولوجه بالتوحيد الى حضرة قدسه . فتبين بما تقرر معنى قوله و ما توحيد واحد يفيد . فائدة : الموحد حقيقته هو الخارج من تقليد المقال بالنظر و الاستدلال الى توحيد الحال , بدايته الافعال و لهذا قال :
ما وحد الواحد من واحد اذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد
توحيده اياه توحيده و نعت من ينعته لاحد
فافهم الاشارة تغنيك عن العبارة , و في التلويح ما يغني عن التصريح . من عرف نفسه فقد عرف ربه , و قال عليه السلام : " أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه " , و فيه كفاية و الحمد لواهب الهداية . ثم قال عفا الله عنه :
( و ما اذكر ربك اذا نسيت حمدلة هيللة فضلت )
اشتمل البيت على سؤالين . الأول , ما معنى قوله تعالى " واذكر ربك اذا نسيت " . الثاني , أيما افضل , الحمد لله رب العالمين , أو لا اله الا الله , و بهما تمام ثلاثة و أربعين سؤالا . قوله " و ما اذكر ربك اذا نسيت " , أي ما معنى قوله تعالى في التنزيل " واذكر ربك اذا نسيت " . واذكر , أمر من ذكر ذكرا , و هو لغة كما قال في القاموس , الذكر بكسر حفظ الشيء كالتذكار , و الشيء يجري على اللسان و الصيت كالذكرة بالضم و الثناء و الشرف و الصلاة لله تعالى و الدعاء , الخ . و اصطلاحا , كما قال في مفتاح الفلاح هو التخلص من الغفلة و النسيان بدوام حضور القلب مع الرب كما تقدم الخ . و الرب لغة المعبود و السيد و المالك و القائم بالأمور , المصلح لما يفسد منها , كذا في جواهر الحسان . واصطلاحا اسم للحق تعالى عن اسمه باعتبار نسب حالذات الى الموجودات العينية أرواحا كانت أو أجسادا , و الكاف خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم خصوصا و لغيره عموما , و اذا ظرف مستقبل خافض لشرطه منصوب بجوابه , و نسيت فعل من النسيان بكسر فسكون , و التء خطاب لمحمد صلى الله عليه و سلم كما تقدم في الكاف , و هو لغة خلاف الذكر و الحفظ جوهري , و اصطلاحا الغفلة عن معلوم في غير حالة السنة , فلا ينافي الوجوب , أي نفس الوجوب لا وجوب الأداء , كذا في كتاب التعريفات و الاصطلاحات . الفصل الثاني و الاربعون : في الجواب على قوله تعالى " و اذكر ربك اذا نسيت " , الآية , قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " هذه الآية وقعت بعد قوله تعالى " و لا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله " , قال الواحدي في تفسيره الوجيز هذا تأديب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم , أمر له بالاستثناء بمشيئة الله تعالى " . و اذكره , أي قله . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما , يجوز الاستثناء الى سنة ما لم يحنث , و عن الحسن و طاووس ما دام في الملجس و أكثرهم لا يجوزه حتى يكون متصلا . و اذكر ربك اذا نسيت يذكرك اذا تذكرت . و قال الكواشي " و اذكر ربك " بالاستغفار اذا نسيت الاستثناء , أو اذكر ربك اذا تسيت شيئا ما لتذكره . و قال بعض الصوفية و اذكر ربك بلسانك و ان كان قلبك ساهيا أو غافلا , فقد قال ابن عطاء الله : " لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه , فان غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره , فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة الى ذكر مع وجود يقظة , من ذكر مع وجود يقظة الى ذكر مع وجود حضور , و من ذكر مع وجود حضور الى ذكر مع وجود غيبة عن ما سوى المذكور , و ما ذلك على الله بعزيز " . و قال بعض , و اذكر ربك اذا نسيت نفسك , أي تركتها ترك الناسي , أي تركت طاعتها و خالفت هواها لأن من ذكر الله تعالى على الحقيقة نسي في جنبه كل شيء , و حفظ الله تعالى عليه كل شيء , و كان له عوضا عن كل شيء , و هذا حال العارفين المحققين من الأولياء , و هو الغيبة في الذكر عن سوى المذكور , و استدلوا له بهذه الآية " واذكر ربك اذا نسيت " , أي ما دون الله تعالى , فاذا تكون ذاكرا لله تعالى . هذا و ان الذكر في الاصل خلاف الغفلة , لأن الذكر حضور المعنى في النفس ثم يكون في القلب , ثم يكون بالقول , و قد يستعمل من غير سبق نسيان كما قيل :
حاضر في القلب يعمره لست أنساه فأذكره
انتهى كلامه و الله أعلم . قلت , و أنسب العبارات للمقام ما ذكره في اللباب , نقلا عن ابن عطا , و اذكر ربك اذا نسيت , أي اذا نسيت ما سوى الله تعالى و ذكرت الله تعالى , فأنت ذاكر حقا , و الا فلم تخرج عن الامر و اجعل نفسك أول منسي كما قيل :
لازم الباب ان عشقت الجمال و اهجر النوم ان أردت الوصال
و اجعل الروح منك فداء في الحبيب جماله قد تلالا
قال , و الىية تفصح عن قوله تعالى " لا يزال عبدي يتقرب الي بنوافل الخيرات حتى أحبه , فاذا أحببته كنت له سمعا و بصرا و يدا و مِئيدا , فبي يسمع و بي يبصر" , الخ كلامه , فانظره .تنبيه : في الآية تحريض على الذكر كيف ما أمكن في حال غفلة أو في حال حضور على ما نقله الشيخ عن بعض الصوفية . و المراد بالحضور الفهم عن الله تعالى فيه ما مرادك به و ما الذي أنت تذكر . لا يزال الذاكر يتردد بين فهم ما ذكر حتى يفنى , ما لم يكن و يبقى ما لم يزل . و لقد سال الشيخ أبو عثمان عن ذكر الله تعالى باللسان و القلب غافل , فأجاب : " لا تترك الذكر على أي حال , و دواء هذه العلة في خمسة أشياء . الأولى مجالسة أهل الذكر و البعد من غيرهم . و الثانية , التضرع الى الله تعالى و دوام ذكره في الأسحار , فان الوسوسة في ذلك الوقت أقل من غيره . الثالثة , النظر في كتب الصالحين و حكاياتهم . الرابعة , اقلال الطعام و الاقتصاد في القوت و الملبس . الخامسة , امزاج الذكر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم . فاذا لازمت هذه الخمسة زالت الغفلة عن قلبك , و فتح الله تعالى لك في بصيرتك بابا تفهم منه و تدري ما لم تكن تدري قبل ذلك . قال عليه السلام : " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " . و قال الصوفية " ذكر الله تعالى هو مفتاح الفلاح و مصباح الأرواح و عمدة الطريق الى الفتاح , بدايته المعرفة و نهايته العيان " . و قالوا أيضا " باب الدنيا الهوى , و باب الهوى الحرص و باب الحرص الأمل , و الأمل هو الداء العضال الذي لا دواء له , و أصله حب الدنيا , و باب حب الدنيا الغفلة عن الله تعالى , و الغفلة غلاف في باطن القلب يتربى من ترادف الذنوب , و دواء ذلك كله ذكر الله تعالى باسمه الاعظم . و باب الذكر الفكر , و باب الفكر اليقظة , و باب اليقظة الزهد , و باب الزهد القناعة , و باب القناعة طلب الآخرة , و باب طلب الآخرة التقوى , باب التقوى دوام ذكر الله تعالى . فذكر الله تعالى هو قطب رحاها و شمس ضحاها , و به يسلك الطريق , و يصل الى فهم علم التحقيق . و لهذا قيل " اذا رأيت من فتح له بالتصديق بعلم التقيق فبشره , و اذا رايت من فتح له بالفهم فيه فاغبطه , و اذا رأيت من فتح له بالنطق فيه فعظمه , و اذا رأيت جاحد له او مكذبا , ففر منه " . و قالوا أيضا " كل مصدق بهذا العلم فهو من الخاصة , و كل من فهمه فهو من خاصة الخاصة , و كل من عبر عنه أو تكلم به فهو النجم الذي لا يدرك و لبحر الذي لا ينزف " , كذا في أنوار القلوب من العلم الموهوب . قال صلى الله عليه و سلم : " لو عرفتم الله حق معرفته لعلمتم العلم الذي ليس بعده جهل , و ما بلغ ذلك أحد , قيل و لا أنت يا رسول الله , قال و لا أنا , فقيل ما كنا نرى أن الرسل عليهم الصلاة و السلام يغيب عنهم شيء أو تقصر مقاماتهم عن شيء , فقال صلى الله عليه و سلم , الله أعظم شأنا و أعظم سلطانا من أن ينال أحد أمره كله " . أشار الى المعرفة الخاصة بالحق تعالى , و هي الاحاطة بالمعلومات على الاطلاق من غير تقييد . و أما معرفة الخلق فبقدر ما حوطهم يحيطون . فالناس فيها على درجات , و الذاكرون في الدرجة العليا , لأن لكل قلب من الأنوار بحسب ما ظهر له من الأسرار . فليس من اهتدى بنور ذكر الله تعالى الى الله كمن اهتدى بنور غيره اليه , و لا من استدل يالله على الأشياء كمن استدل بالاشياء على الله , فلا يصل الى الفتح الرباني الوهبي من في قلبه مثقال ذرة من احساس الغيرية من نفسه أو غيره . فان قلب العارف لا ينفك عن شهود الحق تعالى بأنه الخالق لكل شيء . فهو له به مشاهد , و كذا سره الا أن مشاهدة السر غير مشاهدة القلب . فالسر ما يكون مكتوبا بين الحق و العبد , يخص الله تعالى به بعض أصفيائه و هو ألطف من الروح , و ليس مطلوب القوم الا هو مشاهدته , لأن المشاهدة وجود بلا حدود , و شهود العين بلا أين و حضور القلب مع الرب . و ما دام حاضر القلب فهو مشاهده تعالى في سائر مخلوقاته , موجدا بلا حلول و لا اتصال و لا انفصال لأنه لا اتصال لأحد بذاته , لأن التقيد مظهر من مظاهره تعالى , أظهره رحمة و هو ايجاده و خلقه , و الاطلاق وصفه تعالى و ستره . و في الحقيقة لا تغاير لأنه واحد أحد , فلا تلحظ لسواه , لأنه الموجد لكل شيء , و مظهره من العدم , و لا انفصل عنه أحد من حيث العلم , لأن أصل ظهور العالم وجود الصفات و هي لا تنفك عن الذات , لأن الذات ظهرت بصور معلوماتها . فما أظهر العالم الا على وفق ما كان عليه في علمه تعالى , لأن تعلقاته أزلية . فالعالم كله قديم في العلم حادث في الظهور . و ما وقع حقيقة التكوين الا على هذه الصور البارزة لعالم الشهادة , لا على الأمور الثابتة في العلم , فافهم و انظر الى الماء بواسطة النار صار محرقا فهي متصلة بالصفات منفصلة بالذات . فاذا أردت الحضور مع الذات العلية على الدوام , فعليك بذكر الله تعالى , لأنه الحضرة الجامعة للحضرات كلها , و الملازمة عليه تفضي الى انمحاق الآثار و نسيان الاغيار كلها , و لهذا قال تعالى " و اذكر ربك اذا نسيت " , خص الذكر بالربوبية , لأنها اسم للمرتبة المقتضية لأسماء التي تطلب الموجودات , و يدخل تحتها اسم العليم و السميع و البصير و القيوم و المريد و الملك و ما أشبه ذلك , لأن كل واحد من هذه الاسماء و الصفات يطلب ما يقع عليه . فالعليم يقتضي المعلوم و القادر يقتضي المقدور , و المريد يطلب مرادا و ما أشبه ذلك . و بالربوبية ظهور الرحمان الى الموجودات , و من هذه المرتبة صحت النسبة بين الله و عباده . و أن للربوبية تجليان , تجل معنوي و تجل صوري . فالتجلي المعنوي ظهوره في أسمائه و صفاته على مااقتضاه القانون التنزيهي من أنواع الكمالات , و التجلي الصوري ظهوره في مخلوقاته على ما اقتاه القانون الخلقي التشبيهي و ما حواه المخلوق من أنواع النقص . فاذا ظهر سبحانه و تعالى في خلق من مخلوقاته على ما استحقه ذلك المظهر من التشبيه , فانه على ما هو عليه من التنزيه سبحانه . و الامر بين صوري ملحق بالتشبيه و معنوي ملحق بالتنزيه . ان ظهر الصوري فالمعنوي مظهر له , و ان ظهر المعنوي فالصوري مظهر له , و قد يغلب حكم أحدهما فينستر الثاني تحت الحكم بالأمر الواحد على حجاب , فافهم , و من هذا قيل شعر :
ففي الخلق عين الحق ان كنت ذا عين و في الحق عين الخلق ان كنت ذا عقل
و ان كنت ذا عين و عقل فما ترى سوى عين شيء واحد فيه بالشكل
فائدة : لا يزال الذاكر يترقى بالذكر الى المراقبة ثم المشاهدة , فيسمى أولا ذا العقل , و هو الذي يرى الخلق ظاهرا و الحق باطنا , فيكون الحق عنده مرآة الخلق , لاحتجاب المرآة بالصورة الظاهرة فيها احتجاب المطلق بالمقيد . ثم يترقى فيسمى ثانيا ذا العين , و هو الذي يرى الحق ظاهرا و الخلق باطنا , فيكون الخلق عنده مرآة الحق لظهور الحق عنده واختفاء الخلق فيه اختفاء المرآة بالصورة , ثم يترقى الى مقام أيضا , فيسمى فيه ذا العقل و العين , و هو الذي يرى الحق في الخلق و هذا أقرب النوافل , و يرى الخلق في الحق , و هذا أقرب الفرائض , و لا يحتجب بأحدهما عن الآخر , بل يرى الوجود الواحد بعينه حقا من وجه و خلقا من وجه . فلا يحتجب بالكثرة عن شهود الوجه الواحد الأحد , كما لا يحتجب بكثرة المرايا عن شهود الواحد الأحد الراءي . أعني لا يزاحم في شهوده لكثرة المظاهر أحدية الذات التي تتجلى فيها , و لا يحتجب بأحدية وجه الحق شهود الكثرة الخلقية , لا يزاحم في شهود أحدية الذات المتجلية في المجالي كثرتها , و الى المراتب حالثلاث أشير بالبيتين و الله أعلم , فتبين تخصيصها بالذكر لما فيها من معنى التربية التي هي ايصال الشيء الى كماله على التدريج , أي تبليغه شيئا فشيئا من نقص الى كمال قدرته له الربوبية , و علقه على النسيان اشارة الى مقامات الفناء الثلاث على التدريج أيضا , و هو أي الفناء عدم الاحساس بعالم الملك و الملكوت , بالاستغراق في عظمة الباري جل جلاله , و مشاهدة الحق تعالى و اليه الاشارة بقولهم الفقر سواد الوجه في الدارين يعني الفناء في العالمين الملكي و الملكوتي . و قال في العوارف : " الفناء أن تفنى عنه الحظوظ , فلا يكون له في شيء حظ , يفنى عن الاشياء كلها شغلا بمن فني فيه " . قيل هو الغيبة عن الاشياء كلها . و قال الخراز : " علامة من ادعى الفناء ذهاب حظه من الدنيا و الآخرة الا من الله تعالى " . ثم اختلفت عبارة القوم في الفناء , و باختصار قالوا : " و يكون من أقسام الفناء , أن يكون في كل فغل و قول مرجعه الى الله تعالى , و ينتظر الاذن في كليات أموره , فيكون في الاشياء بالله تعالى لا بنفسه . فتارك الاختيار منتظر لفعل الحق تعالى فيه , فان . و صاحب الانتظار لاذن الحق تعالى في كليات أموره راجع الى الله تعالى بباطنه في جزئياتها , فان . و من ملكه الله اختياره و أطلقه في التصرف يختار كيف شاء و أراد , لا منتظرا للفعل و لا منتظرا للاذن , هو باق و الباقي في مقام لا يحجبه الخلق عن الحق و لا الحق عن الخلق . و الفاني محجوب بالحق عن الخلق . و الفناء الظاهر لأرباب القلوب و الأحوال , و الفناء الباطن لمن أطلق عن وثاق الأحوال و صار بالله تعالى لا بالاحوال , و خرج من القلب فصار مع مقلبه لا مع قلبه و هو ابتداء و وسطي و نهائيي . فناء و فناء الفناء , و فناء عن الفناء و قد تقدم طرف منه في أثناء الكتاب فلا نطيل به , و الله أعلم . تنبيه : و لا يصل الى هذا الفناء الا بعد الموت الاختياري , و تقدم طرف في معناه , لقوله عليه الصلاة و السلام " لن يرى أحدكم ربه حتى يموت " , الخ , " ومن مات قامت قيامته " , و قد قال تعالى في القيامة " وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة " , الآية . قال في بدء الأمالي :
فينسون النعيم اذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
و في الحديث القدسي : " اذا رأيتني فلا تذكرني , و مهما لم ترني فلا تفارق اسمي " . فتكون الرئية حينئذ هي عين ذكره , بل أفضل منه لوقوع النهي عندها , و يكون النسيان حقيقة عندها , و هو قول صاحب اللبان " اذا نسيت ما سواه و ذكرته فأنت ذاكر حقا " . قال أهل الحقيقة : " حقيقة التوحيد نسيانك أنت في حضورك معه , و هو أن تكون كما كنت قبل نفخ الروح فيك , بأن لا ترى حولا و لا قوة و لا حركة و لا سكونا و لا بعدا و لا وصولا , الا بالله تعالى , و اترك الالتفات الى الأحوال و المقامات و الكرامات و خرق العادات , و دالمعرفة و القرب و دالحب و الوجد و الفقد و غير ذلك , فان ذلك كله بقايا نفسانية تخل باقتضاء الحكمة البالغة , و توجب الحياة الفانية التي لا طائل تحتها . و في الحديث " ان لله عبادا تركوا حظوظ أنفسهم , ثم تركوا الدنيا , ثم تركوا العقبى , ثم تركوا الرئية ثم تركوا المشاهدة , ثم تركوا الترك , ثم ترك الترك فوجدوا الحق تعالى . و شهوده و رئيته أغنتهم عن ذلك من أنفسهم لنسيانهم اياها بموتها قبل موتها , و هو عين حياتها عند موتها , فافهم اللغز وانذفق من الكنز و لا تخشى من الفقر و ان كنت غريبا في فقر , و الحمد لله رب العالمين , انتهى و الله أعلم . و قوله حمدلة هيلة فضلت , أي أيما أفضل , و هو معنى فضلت , الحمد لله أو لا اله الا الله . الحمدلة كالهيللة أحد المصادر المركبة من اسمين كالحوقلة و الحسبلة و قد تقدم معناها , و فضلت فعل و فاعل و هو من التفضيل الذي هو زيادة المزية . الفصل الثالث و الأربون في الجواب على قوله حمدلة هيللة فضلت , أي و ما فضلت حمدلة أو هيللة . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " اختلف العلماء في هذه المسئلة , فقالت طائفة بالأول , لأن في ضمن الحمدلة التوحيد الذي هو لا اله الا الله . ففي قولك الحمد لله توحيد و حمد , وفي قولك لا اله الا الله توحيد فقط . و احتجوا بقوله صلى الله عليه و سلم : " من قال لا اله الا الله كتب له عشرون حسنة و حط عنه عشرون سيئة , و من قال الحمد لله رب العالمين كتب له ثلاثون حسنة و حط عنه ثلاثون سيئة " . و قالت طائفة بالثاني , لأن كلمة لا اله الا الله ترفع الكفر و الاشراك , و اختاره ابن عطية في تفسيره , قال : " و الحاكم بذلك قوله صلى الله عليه و سلم " أفضل ما قلته أنا و النبيون من قبلي لا اله الا الله وحده لا شريك له " . و على هذا فخير القول لا اله الا الله محمد رسول الله فانها كلمة الاخلاص و بها يحصل الخلاص , انتهى كلامه و الله أعلم . قلت لا حجة للطائفة القائلين بأفضلية الحمد لله على لا اله الا الله . أما قولهم في الحمد لله توحيد و حمد , و في لا اله الا الله توحيد فقط , فلا ينهض حجة . و لقائل أن يقول في لا اله الا الله توحيد و حمد أيضا , و بيانه أن معنى لا اله الا الله نفي نقائص و اثبات كمالات , و الكمالات تستوجب الحمد بلا خلاف و مثبتها حامد , لأن الحمد ثناء و الثناء ذكر و الذكر بالجميل هو الحمد . و اذا كان ذلك كذلك فهي حمد و توحيد و تنزيه , و قد اجتمع فيها ما تفرق في غيرها من التوحيد و التحميد و التنزيه بخلاف غيرها . و أما حجتهم بحديث قوله صلى الله عليه وسلم : " من قال لا اله الا الله كتب له عشرون حسنة " , الخ , " و من قال الحمد لله كتب له ثلاثون حسنة " , فلا دليل فيه , و بيانه ن الثواب انما يترتب على قوله لا اله الا الله , و من لم يقلها لا يكتب له ثواب و لو قال الحمد لله ألف مرة . فيحمل قوله صلى الله عليه وسلم " و من قال الحمد لله كتب له ثلاثون حسنة " , أي مع لا اله الا الله , محتمل لوجهين اما مصاحبة و اما ضمنا لترتب الثواب و العقاب عليها . فتبين من هذا أن ما ترتب من ثواب أو من عدم ثواب ذكر أو عمل أو غير ذلك مما يثاب عليه الا كان معلقا عليها , سواء كان مصاحبة أو ضمنا . فهي أفضل الأذكار على الاطلاق , و الجامعة للأسماء و الصفات بالاتفاق . فان قلت فان كان ذلك كذلك , فما معنى تخصيص العدد بالثلاثين في الحمدلة و العشرين في الهيللة . قلت , يحتمل وجوها و أقربها و الله أعلم , أن لا اله الا الله تضمنت حسنتين , حسنة التنزيه و هو النفي , و حسنة التوحيد و هو الاثبات , و الحسنة بعشر أمثالها , فنبه صلى الله عليه و سلم عليه . و الحمد لله تضمنت حسنة التحميد فهي بعشر , و لا تصح هده العشرة الا اذا تضمنت لا اله الا الله , و هي بعشرين كما تقدم , فاجتمع في الحمدلة ثلاثون . نبه عليه صلى الله عليه وو سلم ترغيبا و اشارة الى توقف الثواب على التوحيد بقول لا اله الا الله , و ما كان خيرا الا بشر به صلى الله عليه و سلم , و ما كان شرا الا أنذر عنه و حذر منه . و يحتمل وجها آخر و هو لا اله الا الله و محمد رسول الله , المتضمن فيها جعل اثبات الألوهية حسنة و أثبات الرسالة حسنة , و الحسنة بعشر , فهي العشرون , و يحتمل الحسنات على عدد الحروف المنطوق بها لا المكتوبة و هي عشرون , للحديث الوارد في تلاوة القرآن , و أن الحرف بعشر الى خمسين . و يحتمل هذه الحسنات الذكورة كليات و لواحدة منها أقلها عشر , و الله تعالى أعلم , و كل ذلك محتمل , حدث عن البحر و لا حرج . فانه صلى الله عليه و سلم معدن البالغة و أساس الفصاحة و أوتي جوامع الكلم و شرب من عين التسنيم . فتعين به أن الكلمة المشرفة أفضل الأذكار على الاطلاق , و لذلك كانت مفتاحا لكل مغلاق . و قوله الحمد لله فيه توحيد و حمد , فلو كان كذلك لكان يقتضي اكتفاء دخول الاسلام به , و لا قائل به بخلاف ما ذكرناه في لا اله الا لله , فانه كله على القياس , و يجاب عنه بان مراده بالتوحيد الضمني , و هو اختصاص المحامد بواحد و هو صحيح , لكن فاته أن ذلك متوقف على اثبات التوحيد الطبقي و هو خاص بلا اله الا الله , و الله أعلم . تنبيه : انما كانت الكلمة المشرفة أفضل الأذكار لأنها دالة على ثبوت الألوهية , و الالوهية هي أعلا مظاهر الذات العلية , اذ لها الحيطة و الشمول على كل مظهر و هي عبارة عن حقائق الأشياء أي الموجودات , و حفظها في مراتبها . و نعني بحقائق الموجودات أحكام المظاهر مع الظاهر فيها , أعني به الحق و الخلق . فشمول المراتب الالهية و جميع المراتب الكونية و اعطاء كل حقه من مرتبة الوجود هو معناها , و لا يكون ذلك الا لذات واجب الوجود تعالى و تقدس . و لما كانت الألوهية اعطاء حقائق الوجود و غيره حقها من الحيطة و الشمول , كانت الأحدية التي هي أعلا الأسماء حقيقة من حقائق الوجود تحت الألوهية , و الواحدية تحت الأحدية , و الرحمانية تحت الواحدية , و الربوبية تحت الرحمانية , و الملكية تحت الربوبية , لأن أعلا مراتب الربوبية في اسمه تعالى الملك . فالألوهية أعلا و لهذا كان اسمه تعالى الله أعلا الأسماء حتى من اسمه الاحد الذي هو أعلاها , فافهم كما تقدم . و الأحدية أخص مظاهر الذات لنفسها , و الألوهية أفضل مظاهر الذات لنفسها و لغيرها , و من ثم منع أهل الحق تجلي الأحدية و لم يمنعوا تجلي الألوهية . فان الأحدية ذات محض لا ظهور لصفة فيها فضلا عن أن يظهر فيها مخلوق فامتنع نسبتها الى المخلوقات من كل وجه . فما هي الا للقديم القائم بذاته , و لا كلام في ذات واجب الوجود , فانه لا يخفى عليه شيء من نفسه , فان كنت أنت هو , فما أنت أنت بل هو هو . و أن كان هو أنت فما هو هو بل أنت أنت . فمن حصل في هذا التجلي , فليعلم أنه من تجليات الواحدية , لأن تجلي الأحدية لا يسوغ فيه ذكر أنت و لا ذكر هو . و اعلم أن الوجود و العدم متقابلان و الألوهية محيطة بهما , لأنها تجمع الضدين من القديم و الحادث و الحق و الخلق و الوجود و العدم . فيظهر فيها الواجب مستحيلا بعد ظهوره واجبا , و يظهر المستحيل فيها واجبا بعد ظهوره مستحيلا , و يظهر الحق فيها بصورة الخلق , مثل قوله صلى الله عليه و سلم " رأيت ربي في صورة شاب أمرد " . و يظهر الخلق بصورة الحق مثل قوله صلى الله عليه و سلم " خلق الله ءادم على صورته " . و على هذا التضاد فانها تعطي كل شيء مما شملته من هذه الحقائق حقه من كمال التنزيه و التشبيه , فلا يدرك لها غاية و لا يعلم لها نهاية , و الى سر الألوهية أشار صلى الله عليه و سلم بقوله " أنا أعرفكم بالله و أشدكم خوفا منه " , فما خاف من الرب و لا من الرحمان و انما خاف من الله تعالى , و اليه الاشارة بقوله " و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم " , على أنه صلى الله عليه و سلم أعرف الموجودات بالله تعالى . و ربما يبرز من ذلك الجناب الالهي لا أدري أي صورة أظهر بها في التجلي الالهي , و لا أظهر الا بما يقتضيه حكمها , و ليس لحكمها قانون لا نقيض له , فافهم .
فهو يعلم و لا يعلم و يجهل و لا يجهل اذ ليس لتجلي الالوهية حد يوقف عليه بالتفصيل , فلا يقع عليها الادراك التفصيلي بوجه من الوجوه لأنه محال أن يكون لله تعالى نهاية , و لا سبيل الى ادراك ما ليس له نهاية , و جلكن اله سبحانه و تعالى قد يتجلى لها على سبيل الكلية و الاجمال , و الكمل متفاوتون في الحظ من ذلك التجلي كل على قدر ما فضل له من ذلك الاجمال , و بحسب ما ذهب اليه الكبير المتعال , و الله أعلم . فالألوهية مشهودة الاثر مفقودة في النظر , يعلم حكمها و لا يرى رسمها , و الذات مرتبة العين مجهولة الاين , ترى عيانا و لا يدرك لها بيانا . ألا ترى أنك اذا رايت رجلا يعلم أنه موصوف مثلا بأوصاف متعددة فتلك الأوصاف الثابتة له انما تقع عليها بالعلم و الاعتقاد أنها فيه و لا شهود لها عينا و أما ذاته فأنت تراها بجملتها عيانا , و جلكن تجهل ما فيها من بقية الأوصاف التي لم يبلغك علمها , اذ يمكن أن يكون لها ألف ألف وصف مثلا و ما بلغك منها الا بعضها . فالذات مرئية و الأوصاف مجهولة و لا نرى من الوصف الا الاثر , أما الوصف فهو الذي لا يرى أبدا البتة مثاله . ما ترى من الشجاع عند المحاربة الا اقدامه , و ذلك أثر الشجاعة لا الشجاعة . و لا ترى من الكريم الا اعطائه , و ذلك أثر الكرم لا نفس الكرم , لأن الصفة كامنة في الذات لا سبيل الى بروزها . فلو جاز عليها البروز لجاز عليها الانفصال عن الذات , و هذا غير ممكن , فافهم , و تقدم أنها ليست غيرها و اله أعلم . فائدة : الأحية تطلب انعدام الأسماء و الصفات مع آثارها و مأثراتها . و الوحدانية تطلب فناء العالم بظهور أسماء الحق و أوصافه . و الربوبية تطلب بقائه و الألوهية تطلب فناء العالم في عين بقائه , و بقاء العالم في عين فنائه . و العزة تستدعي رفع المناسبة بين الحق و الخلق . و القيومية تطلب صحة وقوع النسبة بين الله تعالى و عبده , لأن القيوم من قام بنفسه و قام به غيره , انتهى مع اختصار . فهذه نبذة من علم أصل الحقيقة , ذكرناها على سبيل التبرك باشارة بعض الأحبة , و ان كان يعتاص فهم بعض معانيها , فحسب العقل , المعاشي لا الكلي , المستمد من العقل الأول , فانه يزن بكفتين و يجمع بين الضدين , كما بيناه في غير هذا . فعلى الواقف على مثل هذا الكلام أن لايقابله , ان اعتاص عليه فهمه , بالانكار أولا , فيحرم بركة الاستبصار , و ليقابله بالتصديق لعل الله يفتح بالتحقيق و منه الهداية و به التوفيق و الله أعلم . ثم قال عفا الله عنه :
(ما أفضل تسبيحكم تحميدكم و ما معناه اذكروني أذكركم )
اشتمل البيت على سؤالين . الأول ايما أفضل التسبيح أم التحميد , و هو سبحان الله أو الحمد لله . و الثاني , ما معنى قوله تعالى " اذكروني أذكركم " . و بهما تمام خمسة و أربعين سؤالا . قوله ما أفضل تسبيحكم تحميدكم , أي ما افضل التسبيح و هو سبحان الله م التحميد و هو الحمد لله للذاكر , الخ. التسبيح لغة التنزيه مطلقا , و اصطلاحا تنزيه الحق تعالى عن نقائص الامكان و الحدوث . و التحميد مبالغة في الحمد و هو لغة نقيض الذم , و اصطلاحا الثناء على الجميل من جهة التعظيم عن نعمة و غيرها . الفصل الرابع و الأربعون : في الجواب على قوله ما تسبيحكم تحميدكم الخ , أي أيما أفضل قول الذاكر سبحان الله أو قوله الحمد لله . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى في الجوهر الخاص : " التحميد أفضل باتفاق الأحاديث كلها , حتى جاء أنه يملأ الميزان . و قد جاء صريحا أن التسبيح يملأ نصفها و التحميد يملأها , كما قال صلى الله عليه و سلم " تعليم التسبيح نصف و الحمد يملأه " , خرجه الامام و الترمذي من حديث رجل من بني سليم , و خرجه مسلم و النسائي و ابن ماجة و غيرهما . و في حديث عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم " الحمد تملأ الميزان و سبحان الله نصف الميزان " , و سبب ذلك و الله أعلم أن التحميد اثبات المحامد كلها لله تعالى , فدخل في الاثبات صفات الكمال و نعوت الجلال كلها . و التسبيح هو تنزيه الله تعالى عن النقائص و العيوب و الآفات . و الاثبات أفضل من السلب و لهذا لم يرد التسبيح الا مجردا , لكن مقرونا بما يدل على اثبات الكمال . فتارة يقرن بالحمد , كسبحان الله و بحمده , و تارة يقرن باسم من أسماء العظمة و الجلال , كسبحان الله العظيم و نحو ذلك , و الله أعلم , انتهى كلامه . قلت ليس معنى التسبيح الا التنزيه و هو عند أهل الحقيقة عبارة عن انفراد القديم بأوصافه و أسمائه و ذاته كما يستحقه لنفسه من نفسه بطريق الأصالة و التعالي , لا باعتبار المحدث ماثله أو شابهه . فانفرد الحق سبحانه و تعالى عن ذلك , و اذا كان ذلك كذلك فلا تفاضل بينه و بين التحميد , لأنه نسبة جالحمد الى الله تعالى , و هو معنى الثناء , و الثناء هو ثناء الله سبحانه و تعالى على ذاته الكريمة بصفاته العلية , ثناء ذاتيا وحدانيا , اذ صفاته الكمالية من ذاته , و لا صفة كمالية على الحقيقة الا هي صفته , و بأفعاله الجليلة كذلك , اذ لا فعل على الحقيقة الا هو فعله , أفعاله مظاهر أسمائه و متنزلات صفاته . فنسبة الأسماء الشريفة و الصفات العلية و الأفعال الجليلة الى الذات الكريمة على سبيل الاختصاص و الانفراد هو التنزيه و هو التحميد . فالمنزه و الحامد بهذا المعنى واحد , و التحميد و التنزيه هو عين المحمود و المنزه فافهم . الا أن يقال فليس بأيدينا من التنزيه الا التنزيه المحدث , و التحقق به التنزيه القديم , لأن التنزيه المحدث ما بازائه نسبة من جنسه , لأن الحق لا يقبل الضد و لا يعلم كيف تنزيهه . فلأجل ذا يقال " تنزيه عن التنزيه " . فتنزيهه تعالى في نفسه لا يعلمه غيره , و لا نعلم الا التنزيه المحدث , لأن اعتباره عند أهل الحقيقة هو تعدي عن حكم كان مكن نسبته اليه فتنزه و لم يكن للحق شبيها ذاتيا يستحق عنه التنزيه , اذ ذاته هي المنزهة في نفسها عما لا يناسب كبريائها . فعلى أي اعتبار كان و في أي تجل ظهر أو بان تشبيهها , كان كقوله صلى الله عليه و سلم " رايت ربي في صورة شاب أمرد " , أو تنزيها كقوله صلى الله عليه و سلم " نورانيا أراه " . فان التنزيه الذاتي له حكم لازم لزوم الصفة لموصوف , و هو في ذلك التجلي على ما استحقه من ذاته لذاته بالتنزيه القديم الذي لا يسوغ الا له , و لا يعرفه غيره كما تقدم . فانفرد تعالى في أسمائه و صفاته و ذاته و مظاهره و تجلياته بحكم قدمه عن كل ما يناسب الى الحدوث و لو بوجه من الوجوه . فلا تنزيهه كالتنزيه الخلقي , و لا تشبيهه كالتشبيه , تعالى و انفرد سبحانه التنزيه الحقي عن التنزيه و التشبيه الخلقي . تنبيه : التسبيح , و هو قول القائل "سبحان الله " , فباطنه استحضار القلب وقوع نسبة التنزيه الى الله جل و علا عن ما لا يليق بجلاله و كرمه , بما نسبته الافهام الباطلة و جرته الأوهام العاطلة , و هو على ثلاثة أقسام . تنزيه الأفعال عما يقتضي المشاركة حتى يحصل اليقين , علما بأن لا فاعل الا الله تعالى . و تنزيه الصفات عما يقتضي التعداد و المماثلة في شيء منها , حتى يحصل للقلب اليقين عيانا بأن لا حي الا الله تعالى و تنزيه الذات عما يقتضي التعداد في الوجود حتى يحصل اليقين تحققا بأن لا موجود الا الله تعالى , فافهم . و التحميد و هو نسبة الحمد الى اله تعالى , و أجمع تركيب فيه الحمد لله . فباطنه استحضار القلب وقوع نسبة المحامد كلها الى الله جل و علا , و ذلك ان حقيقة الحمد هو الثناء , و الله جل وعلا قد أثنى على ذاته الكريمة بصفاته العلية ثناء ذاتيا وحدانيا كما تقدم . فاذا جميع المحامد كلها لله تعالى ما علم منها و ما لم يعلم . ثم ان العبد اذا تحقق بحقيقة الحمد على ما ذكر , تحقق بأن ذاته عين الحمد , اذ هي فعله جل و علا , فيكون هو نفس الحمد . و كذلك جميع الذوات اذ هي فعله تعالى , و
الله جل و علا هو الحامد . و قد يفنى العبد عن اضافته و نسبته و ينتقل عند ذلك من الحمد القولي و العقلي الى الحمد العيني الجوهري المحمول على ذاته محمل هو هو , و يتحقق عند ذلك بقوله صلى الله عليه و سلم " فان الله يقول على لسان عبده سمع الله لمن حمده " . فالله تعالى هو الحامد المحمود فافهم . و افهم قوله عليه السلام " ربنا و لك الحمد " , أي الحمد مصدره منك و عوده اليك , فلم يحمد الله الا الله تعالى , و من هذا كان الحمد أفضل من التسبيح , لأن الحمد حق و خلق و التسبيح الذي هو التنزيه حق فقط و لم نصل اليه لما تقدم , و ما بأيدينا الا التنزيه المحدث الخلقي كما تقدم . فائدة : انما كانت الحمدلة في حديث علي و غيره تملأ الميزان , و السبلة نصفه , و لم تكن أقل و لا أكثر اشارة , و الله أعلم , الى ما ذكر من أن الحمدلة لها مرتبتان الحقية و الخلقية , و السبحلة فلم يكن لها الا مرتبة واحدة فقط و هي الخلقية , و لا وصول للحقية من حيث الخلق , و الله أعلم . فملأت الحمدلة الكفتين من الميزان , أي المرتبتين لجمعيتها بين الحقية و الخلقية , و ملأت الالسبحلة نصفه , كفة واحدة أي مرتبة واحدة . اما حقية لا وصول اليها من الخلقية , أو خلقية لا تشاركها الحقية , فافهم ذلك و الله المستعان , انتهى باختصار , و الله سبحانه و تعالى أعلم . و قوله , و ما معناه أذكروني أذكركم , أي ما معنى قوله تعالى في التنزيل " أذكروني أذكركم " , الآية . فهو أمر من الحق تعالى لجميع خلقه بذكره و قد تقدم معناه لغة و اصطلاحا . و " أذكركم " مضارع فاعله مستتر و مفعول و هو مجزوم بالأمر لنيابته عن الشرط عند الفارسي و السيرافي . و قيل بنفس الامر لتضمنه معنى حرف الشرط عند الخليل و سيبويه , و الجمهور على تقدير أدات الشرط و فعله و هو الأصح . الفصل الخامس و الأربعون : في الجواب على قوله تعالى أذكروني أذكركم , اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " ذكر علماء التفسير فيها عشرين وجها . أذكروني بطاعتي , أذكركم
-
مشكور على الكتاب والمجهود الرائع شيخنا وبارك الله فيك
-
مشكور شيخنا ابو حسين وبارك الله فيك وعليك وجعله الله ذخرا لك يوم تلقاه
-
شكرا لك .... بارك الله فيك
مولانا وشيخنا الكريم