السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على اشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين أهل البصيرة في مقام الإيمان
أهل البصائر والرؤية، من أرباب القلوب السّليمة الذكية، ينظرون بأبصارهم وبصائرهم في ملكوت الأشياء، كقوله ـ تعالى ـ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ (الأعراف:185). وقوله ـ تعالى ـ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة:164). وقوله ـ تعالى ـ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (آل عمران:190). فيرون الآيات المودعة في كل شيء، الدالة على وحدانية الله.
والقلب إذا سلِم من الآفات، وأعرض عن الدنيا، وأقبل إلى المولى، وأفاض في ذِكره وتسبيحه، أشرق بنور الذِّكر؛ وهو كلمة: لا إله إلا الله. وهي مركبة من نفي، وإثبات. فبنفيها تنفي شواغل القلب، وظلماتها؛ وبالإثبات تثبت شواهد أنوار الله، فينكشف الغطاء عن بصيرة القلب، فيرى العبد بها جمال آيات الحق ـ تعالى ـ مؤمنا أنه مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (النجم: 11).
المكاشفة
إن الله ـ سبحانه ـ كشف لرسوله الكريم، ما لم يكشفه لغيره؛ وأطلعه على ما لم يطلع عليه غيره، فحصل لقلبه الطاهر، من انكشاف الحقائق، التي لا تخطر ببال غيره، ما خصه الله به.
قال ابن قيم الجوزية: المكاشفة إطلاع أحد المتحابَّين المتصافيَين صاحبه، على باطن أمره وسره؛ فيحمل كل منهما سره إلى الآخر، كما يحمل إليه هديته. والعبد إذا بلغ في مقام المعرفة حدّاً كبيرًا، صار كأنه يطالع ما اتصف به الرب ـ سبحانه ـ من صفات الكمال ونعوت الجلال؛ وأحسّت روحه بالقرب الخاص من الله، حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربه.
الحُجُب دون البصيرة
يغشى البصيرة تسعة حُجُب:
ـ التعطيل، ونفي حقائق الأسماء والصفات، وهو أغلظها؛ فلا يتهيأ لصاحب هذا الحجاب أن يعرف الله، ولا أن يصل إليه.
ـ الشرْك، وهو أن يتعبد القلب لغير الله.
ـ البدعة هي كل عمل أتي على غير مثال سابق، من كتاب الله والسنة.
ـ الكبائر الباطنة، كالكِبْر والعجب والرياء والحسد والفخر والخيلاء ونحوها.
ـ الكبائر الظاهرة، وحجابها أرق من حجاب الكبائر الباطنة، مع كثرة عبادات مرتكبيها وزهاداتهم واجتهاداتهم؛ فكبائر هؤلاء أقرب إلى التوبة من كبائر أولئك؛ إذ إنها قد صارت مقامات لهم، لا يتورعون عن إظهارها، وإخراجها في قوالب عبادة ومعرفة؛ فهم، إذاً، أدنى إلى السلامة من أهل الكبائر الباطنة، وقلوبهم خير من قلوبهم.
ـ الصغائر، هي الذنوب التي لم يرتب الشّارع عليها عقوبة، أو حداً، أو وعيداً.
ـ التوسع في المباحات.
ـ الغفلة عن الغاية من الخلق، وما لله من واجبات دوام ذِكره وشكره وعبوديته.
ـ البعد من مصاحبة المجتهدين السالكين.
ومنشأ هذه الحُجُب أربعة عوامل: النفس، والشياطين، والدنيا، والهوى؛ فلا يمكن كشف هذه الحُجُب، مع بقائها في القلب. وهي تفسد القول والعمل، والقصد والطريق، بحسب غلبتها أو قلّتها.
تحقيق معنى المكاشفة
الكشف الصحيح، أن يعرف العبدُ الحقَّ، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه؛ ويجرد إرادة القلب له، فيدور معه وجوداً وعدماً.
ومن درجات المكاشفة، "مكاشفة عين"، أي عين اليقين، وليس علم اليقين فقط. وإنما كانت هذه الدرجة "مكاشفة عين"، لغلبة الكشف على القلب، فحلّت منه محل العلم الضروري، الذي لا يمكن جحده، ولا تكذيبه؛ بل صارت للقلب بمنزلة المرئي للبصر، والمسموع للأذن، والوجدانيات للنفس. وكما أن المشاهدة بالبصر، لا تصح إلاّ مع صحة القوة المدركة، وعدم الحائل من جسم أو ظلمة، وانتفاء البعد المفرط؛ فكذلك المكاشفة بالبصيرة، تستلزم صحة القلب، وعدم الحائل والشاغل، وقرب القلب، ممن يكاشفه بأسراره.
وليس المراد هو الكشف الجزئي، المشترك بين المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، كالكشف عمّا في دار إنسان، أو عمّا في يده، أو تحت ثيابه؛ أو ما حملت به امرأته، بعد انعقاده، ذكراً أو أنثى؛ أو ما غاب عن العيان، من أحوال البعد الشاسع، ونحو ذلك. فإن ذلك يكون من الشّيطان تارة، ومن النفس تارة؛ ولذلك، يقع من الكُفّار، وعابدي النيران والصّلبان؛ فقد كاشف ابن صياد النبي بما أضمره وخبأه. فقال له رسول الله: إِنّمَا أَنْتَ مِنْ إِخْوَانِ الكُهّانِ (رواه مسلم).
وكذلك مسيلمة الكذّاب، مع فرط كفره، كان يكاشف أصحابه بما فعله أحدهم في بيته، وما قاله لأهله، يخبره به شيطانه، ليغوي الناس. وكذلك الأسود العنسي؛ والحارث المتنبئ الدمشقي، الذي خرج في دولة عبد الملك بن مروان؛ وأمثال هؤلاء، ممن لا يحصيهم إلاّ الله.
أما الكشف الرحماني، فهو مثل كشف أبي بكر الصديق، لمّا قال لعائشة ـ رضي الله عنهما ـ إن امرأته حامل بأنثى؛ وكشف عمر ـ رضي الله عنه ـ لمّا قال: "يا سارية، الجبل!"؛ وأمثال هذا من كشف أولياء الرحمن .
فما أكرم الله الصادقين بأعظم من هذا الكشف، وجعلهم منقادين له، عاملين بمقتضاه. فإذا انضم هذه الكشف إلى كشف تلك الحجب المتقدمة، عن قلوبهم: سارت القلوب إلى ربها سير الغيث إذا استدبرته الريح.
ومن ظن أن كشف العين، هو ظهور ذات الله المقدسة لعيانه حقيقة، فقد غلط أقبح الغلط؛ فإن هذا لم يقع في الدنيا لبشر قط، وقد مُنع منه موسى، عليه السّلام كليم الرحمن.
فمن ادعى كشف العيان البصري عن الحقيقة الإلهية، فقد وهم وأخطأ. أما القول إن كشف العيان القلبي يصيِّر الرب ـ سبحانه ـ كأنه مرئي للعبد؛ كما قال الرسول الكريم: اعبد الله كأنك تراه ـ فهذا حق، وهو قوة يقين، ومزيد علم فقط.
والنور الذي يظهر للصادق، هو نور الإيمان، الذي أخبر الله عنه، في قوله: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ (النور:35). قال أبيّ بن كعب: "مثل نوره في قلب المؤمن". فهذا نور، إذا تمكّن من القلب، وأشرق فيه، فاض على الجوارح؛ فيُرى أثره في الوجه والعين، ويظهر في القول والعمل. وقد يقوى حتى يُشاهده صاحبه عياناً؛ وذلك لاستيلاء أحكام القلب عليه، وغيبة أحكام النفس.
المشاهدة
قال الله ـ تعالى ـ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (ق:37).
فقد جعل كلامه ذكرى، لا ينتفع بها إلا من استوفى أمرَين:
ـ قلب حي واعٍ.
ـ انصراف السمع، كلية، إلى كلام الله.
إن المبصر، لا يدرك حقيقة المرئي، إلاّ إذا كانت له قوة مبصرة، وتحدِّق إليه، ولم يكن قلبه مشغولاً بغير ذلك. أما إذا حدّق إليه ولكن قلبه مشغول بسواه، فإنه لا يدركه؛ فكثيراً ما يمر بالعبد إنسان أو غيره، وقلبه مشغول بغيره، فلا يشعر بمروره. فهذا الشأن يستدعي صحة القلب وحضوره، وكمال الإصغاء.
تعريف المشاهدة
قيل: المشاهدة سقوط الحجاب، بل هي المسقطة له. وقيل: هي فوق المكاشفة. والمراد بالمكاشفة والمشاهدة قوة اليقين، ومزيد العلم، وارتفاع الحُجب المانعة من ذلك. والمكاشفة تتعلق بالصفات الإلهية. فمن شاهد الصفات، وجال قلبه في عظمتها، فهو مشغول بها، ومتفرق قلبه في متعلقاتها، وتنوعها في أنفسها. فمن استغرق قلبه هذا المشهد، استحق اسم "المُشاهد".
قال ابن قيم الجوزية: "لا يصح لأحد في الدنيا مقام المشاهدة أبداً. وأما غاية ما يصل إليه العبد: الشّواهد. ولا سبيل لأحد قط في الدنيا إلى مشاهدة الحق ـ سبحانه ـ؛ وإنما وصوله إلى شواهد الحق. ومن زعم غير هذا، فلغلبة الوهم عليه، وحسن ظنه بترهات القوم وخيالاتهم". وقد قال الله ـ تعالى ـ لموسى ـ عليه السلام ـ: قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (الأعراف: 143).
والمراد بشواهد الحق، ما يغلب على القلوب الصادقة، العارفة، الصافية، من ذِكره ومحبته وإجلاله وتعظيمه وتوقيره؛ فيكون ذلك حاضراً فيها، مشهوداً لها غير غائب عنها. ومن أشار إلى غير ذلك فمغرور مخدوع. ولا ريب أن القلوب تُشاهد أنواراً بحسب استعدادها، تقوى تارة، وتضعف أخرى. ولكن تلك أنوار الأعمال والإيمان والمعارف، وصفاء البواطن والأسرار؛ لأنها أنوار الذات المقدسة، فإن الجبل لم يثبت لليسير من ذلك النور حتى تدكْدَك، وخرّ الكليم صعقاً، مع عدم تجلي الله له؛ فما الظن بغيره!
المفضلات