سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه
هو إبراهيم بن أبي المجد بن قريش بن محمد بن أبي النجاء بن زين العابدين بن عبد الخالق بن محمد بن أبي الطيب بن عبد الله الكاتم بن عبد الخالق بن أبي القاسم بن جعفر الزكي بن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي الزاهد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي رضي الله عنهم أجمعين.
تفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه ثم اقتفى آثار السادة الصوفية، وجلس في مرتبة الشيخوخة وحمل الراية البيضاء، وعاش من العمر ثلاثاً وأربعين سنة، ولم يغفل قط عن المجاهدة للنفس والهوى والشيطان، حتى مات سنة ست وسبعين وستمائة رضي الله تعالى عنه. وهو من أجلاء مشايخ الفقراء أصحاب الخرق، وكان من صدور المقربين، وكان صاحب كرامات ظاهرة ومقامات فاخرة، ومآثر ظاهرة، وبصائر باهرة، وأحوال خارقة، وأنفاس صادقة، وهمم عالية، ورتب سنية ومناظر بهية، وإشارات نورانية، ونفحات روحانية، وأسرار ملكوتية، ومحاضرات قدسية. له المعراج الأعلى في المعارف، والمنهاج الأسنى في الحقائق، والطور الأرفع في المعالي، والقدم الراسخ في أحوال النهايات، واليد البيضاء في علوم الموارد، والباع الطويل في التصريف النافذ، والكشف الخارق عن حقائق الآيات، والفتح المضاعف في معنى المشاهدات، وهو أحد من أظهره الله عز وجل إلى الوجود وأبرزه رحمة للخلق، وأوقع له القبول التام عند الخاص والعام، وصرفه في العالم، ومكنه في أحكام الولاية، وقلب له الأعيان، وخرق له العادات، وأنطقه بالمغيبات، وأظهر على يديه العجائب، وصوّمه في المهد رضي الله عنه، وله كلام كثير عال على لسان أهل الطريق.
ومن كلامه رضي الله عنه:
- من لم يكن مجتهداً في بدايته لا يفلح له مريد؛ فإنه إن نام نام مريده، وإن قام قام مريده؛ وإن أمر الناس بالعبادة وهو بطال أو توبّهم عن الباطل، وهو يفعله ضحكوا عليه، ولم يسمعوا منه.
- وكان ينشد كثيراً إذا قيل له انصحنا، وأرشدنا بمثالين من قول بعضهم:
لا تعدلين الحراير حتى تكوني مثلهن *** يقبح على معلولة تصف دواء للناس
- يجب على المريد أن لا يتكلم قط إلا بدستور شيخه (إذنه) إن كان جسمه حاضراً، وإن كان غائباً يستأذنه بالقلب؛ وذلك حتى يترقى إلى الوصول إلى هذا المقام، في حق ربه عز وجل؛ فإن الشيخ إذا رأى المريد يراعيه هذه المراعاة رباه بلطيف الشراب، وأسقاه من ماء التربية، ولاحظه بالسر المعنوي الإلهي. فيا سعادة من أحسن الأدب مع مربيه، ويا شقاوة من أساء.
- من عامل الله تعالى بالسرائر جعله على الأسرة والحضائر، ومن خلص نظره من الاعتكاس سلم من الالتباس.
- ما كل من وقف يعرف لذة الوقوف، ولا كل من خدم يعرف آداب الخدمة، ولذلك قطع بكثير من الناس مع شدة اجتهادهم.
- لا يكمل الفقير حتى يكون محباً لجميع الناس مشفقاً عليهم ساتراً لعوراتهم فإن ادعى الكمال، وهو على خلاف ما ذكرناه فهو كاذب.
- لا تنكروا على فقير حاله، ولا لباسه، ولا طعامه، ولا على أي حال كان، ولا على أي ثوب يلبس ولا إنكار على أحد، إلا إن ارتكب محظوراً صرحت به الشريعة؛ وذلك أن الإنكار يورث الوحشة، والوحشة سبب لانقطاع العبد عن ربه عز وجل. فإن الناس خاص وخاص الخاص، ومبتدي، ومنته، ومتشبه، ومتحقق. ويرحم الله تعالى البعض بالبعض، والقوي ما يقدر أن يمشي مع الضعيف وعكسه؛ والفقراء غيث وهو سيف، فإذا ضحك الفقير في وجه أحدكم فاحذروه، ولا تخالطوه إلا بالأدب.
- الشريعة أصل، والحقيقة فرع فالشريعة جامعة لكل علم مشروع، والحقيقة جامعة لكل علم خفي، وجميع المقامات مندرجة فيهما.
- يجب على المريد أن يأخذ من العلم ما يجب عليه في تأديته فرضه ونفله، ولا يشتغل بالفصاحة والبلاغة، فإن ذلك شغل له عن مراده؛ بل يفحص عن آثار الصالحين في العمل، ويواظب على الذكر.
- ولد القلب خير من ولد الصلب؛ فولد الصلب له إرث الظاهر من الميراث وولد القلب له إرث الباطن من السر.
- عليك بالعمل، وإياك وشقشقة اللسان بالكلام في الطريق دون التخلق بأخلاق أهلها. وقد كان صلى الله عليه وسلم يجوع حتى شد الحجر على بطنه، وقام حتى تورمت قدماه؛ ثم تبعه أكابر الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا تنهد يشم لكبده رائحة الكبد المشوي، وأنفق ماله في سبيل الله كله؛ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديد العمل، والكد حتى رقع دلقه بالجلود، ولف رأسه بقطعة خش، وكان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن قائماً كل ليلة على أقدامه، وكان علي رضي الله عنه من زهاد الصحابة، ومجاهديهم حتى فتح أكثر بلاد الإسلام. هؤلاء خواص الصحابة رضي الله عنهم مع قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا كان عملهم! هذا كان اجتهادهم وزهدهم وجوعهم! فأحكموا الحقيقة والشريعة، ولا تفرطوا إن أردتم أن تكونوا يُقتدى بكم! وما سميت الحقيقة حقيقة إلا لكونها تحقق الأمور بالأعمال، وتنتج الحقائق من بحر الشريعة.
قال المناوي في الكواكب الدّرية (2/ 9):
وذُكر عنه أنه صام في المهد، وأنه رأى في اللوح المحفوظ وهو ابن سبع سنين، وأنه فك طلسم السبع المثاني، وأن قدمه لم تسعه الدنيا، وأنه ينقل اسم مريده من الشقاوة للسعادة، وأن الدنيا جُعلت في يده كخاتم، وأنه جاوز سدرة المنتهى، وجالت نفسه في الملكوت، ووقف بين يدي الله، وفُتح له من عين العناية قدر خرم إبرة.
قال الشيخ عبد العزيز الدباغ في الإبريز (ص 213-214): وقد قدم علينا بعض أصحابنا من أخيار تلمسان، فأخبرني أنه سمع بعض من حج بيت الله الحرام يقول: إنه زار قبر سيدي إبراهيم الدسوقي نفعنا الله به، فوقف عليه الشيخ سيدي إبراهيم الدسوقي نفعنا الله به وعلمه دعاء وهو هذا: بسم الإله الأكبر، وهو حرزٌ مانع مما أخاف منه وأحذر، لا قدرة لمخلوق مع قدرة الخالق، يلجمه بلجام قدرته، أحمى حميثا أطمى طميثا، وكان الله قويا عزيزاً، حم، عسق، حمايتنا، كهيعص كفايتنا، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ فقال له سيدي إبراهيم: ادع بهذا الدعاء ولا تخف من شيء.
ومما يُروى عن كراماته: توجه بعض تلاميذه إلى ناحية الإسكندرية لحاجة يقضيها لأستاذه فتشاجر مع رجل من السوقة في شأن حاجة اشتراها منه فاشتكاه السوقي إلى قاضى المدينة وكان جباراً ظالماً متكبراً على الفقراء، فلما وقف ذلك الفقير بين يديه أمر بحبسه وأراد ضربه بلا موجب بغضاً في الفقراء؛ فأرسل الفقير إلى شيخه سيدى إبراهيم يتشفع به في خلاصه، فلما بلغه الخبر كتب إلى القاضي رقعة فيها هذه الأبيات :
سهام الليل صائبة المرامي إذا وترت بأوتار الخشــوع
يقومها إلى المرمى رجـال يطيلون السجود مع الركـوع
بألسنة تهمهم في دعــاء بأجفان تفيض من الدمـوع
إذا وترن ثم رمين سهـماً فما يغني التحصن بالـدروع
فلما وصلت الرقعة إلى القاضي جمع أصحابه، وقال لهم: انظروا إلى هذه الرقعة التي جاءت من هذا الرجل الذى يدّعى الولاية بعد أن آذى حاملها بالكلام واحتقره، ثم زاد في سب الأستاذ؛ ثم أخذ يقرأها فلما وصل إلى قوله: إذا وترن ثم رمين سهماً، خرج سهم من الورقة فدخل في صدره، وخرج من ظهره فوقع ميتاً.
قال المناوي في الكواكب الدّرية (2/ 19):
أنه خطف تمساح صبياً، فأتت أمه مذعورة، فأرسل نقيبه، فنادى بشاطئ البحر: معشر التماسيح! من ابتلع صبياً فليطلع به! فطلع، ومشى معه إلى الشيخ؛ فأمره أن يلفظه، فلفظه حياً. وقال للتمساح: مت بإذن الله! فمات.
رضي الله عنه وأرضاه، ونفعنا به؛ آمين.
المفضلات