مقولة الغيرية وغائية الخطاب الصوفي عند ابن الفارض


لقد بات واضحا أن الخطاب الصوفي فعالية خطابية متميزة تمتلك من الآليات والشروط التي توفر له النصية ما يجعله ذا أبعاد مختلفة تضمن له الانسجام وشروط التواصل ضمن الفعل المعرفي لعملية القراءة ومعايير الاتصال الأدبي. ولا شك أن نزوع الخطاب الصوفي نحو التميز والتفرد في تشكيله أي (الفعل الإنجازي للخطاب) إنما يتجلى لدى غالبية النقاد والمفكرين والفلاسفة في التشكيلة اللغوية المختلفة والطابع المحايث للترميز، على أن تكون هذه الميزة فعلا معرفية يعكس في جوهره الفعل الوجداني الذي يتجسد في التجربة الصوفية بكل أبعادها الروحية والنفسية والاجتماعية. ومن هذا المنطلق اتسمت الخطابات الصوفية بعامة والخطاب الشعري عند ابن الفارض بخاصة بحصيلة لغوية متميزة أضحت منطلقا لتحديد الخطاب الصوفي من وجهة نظر لائحة اتصالية بمثابة حصيلة تفاعل سياقات متعددة تنزاح عن فضاء القصدية الذي بات يؤطر الفعل المعرفي للفكر الإسلامي ردحا من الزمن. وحسبنا في ذلك شاهدا ما أورده ابن الفارض من أحاديث نشوة الحب الإلهي في خمريته المشهورة(1):
شربنا على ذكر الحبيب مدامة *** سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها البدر كأس وهي شمس يديرها *** هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
هنيئا لأهل الدير كم سكروا بها *** وما شربوا منها ولكنهم همو
يبدو أن البناء النصي لهذه القصيدة يتشكل في محورين أساسيين: المحور السانكروني والمحور الدياكروني: الذي يتجلى في البعد الحواري والتفاعلات النصية. وما نود أن نصبو إليه في هذا البحث هو تركيز النظر على المحور الثاني (الدياكروني) لقراءة الخطاب الصوفي عند ابن الفارض باعتباره محورا مركزيا في تجسيد مقولة "الآخر" ضمن مفهوم الحوارية الذي جسده ميخائيل باختين وطورته جوليا كريستيفا إلى مفهوم التناص.
ضمن هذا المنظور تحضرنا جملة من التساؤلات: ما هي الحقيقة التي ينطوي عليها الخطاب الصوفي عند ابن الفارض؟ ما هي القيم التي يجسدها وفي أي مستوى من مستوياته؟ كيف يمكن تحديد البعد القيمي لمقولة الآخر في هذا الخطاب؟
تبدو الإجابة عن هذه التساؤلات من قبيل "المحاججة" التي نوليها وجهة منهجية من الدرجة الأولى نتكئ من خلالها على معطيات معرفية جسدها الخطاب الصوفي الفارضي. ومن ثم تتضح ملامح مقاربتنا في قراءة مزدوجة أفقية - عمودية للمحور الدياكروني يتسنى لنا بموجبها تحديد غائية المعطى الدلالي وقيمه في هذا الخطاب انطلاقا من تسليمنا بقوانين واستراتجيات التواصل المعقد فيه وما يمتلكه من سمات الإطلاق واللاتحديد ما يجعله بمثابة الآلية الكاتمة التي تشكل انفتاحه في عملية التلقي ونحسبه وضعا تأويليا لا محالة.
من المعلوم أن الحروب الصليبية التي امتدت زهـاء قرنين (492 هـ - 692 هـ)، كانت لها تأثيرات بالغة في نمط الحياة بشكل عام ظهرت على أنقاضها المذاهب الصوفية المختلفة التي استغلت الفلسفة ومزجت بين ما هو من حظ النظر وبين الذوق الروحي. فظهرت صور متعددة لمذهب الوحدة، أشهرها وحدة الوجود لابن العربي (ت 638 هـ) الذي يقضي بأن وجود الله هو عين وجود العالم على نحو يكون ابن الفارض قد تأثر به في تشكيل مذهبه المعروف بـ"الحب الإلهي" إذ يقول في ذلك(2):
وعن مذهبي في الحب ما لي مذهب *** وإن ملت يوما عنه فارقت ملتى
ولا شك أن ابن الفارض يستقي أصول مذهبه من مرجعية دينه إسلامية خالصة مستمدة من الكتاب والسنة لذ أن فعل الحب قد جسده النص القرآني من خلال قوله تعالى: "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"(3) وكذا قوله: "والذين آمنوا أشد حبا لله"(4)، ولعل الحديث القدسي الذي يعول عليه الصوفية بعامة وابن الفارض بخاصة في تأسيس مذهب الحب الإلهي الذي يقول فيه عز وجل "من عاد لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه"(5) وحسب بعض القراءات النقدية يكون ابن الفارض بمذهبه عن الحب الإلهي قد تأثر ببعض النظريات الفلسفية الإسلامية وغير الإسلامية فكان أن تعددت الرؤى في نظرية الحب الإلهي، ويتضح ذلك بخاصة من خلال علاقة مذهب ابن الفارض بهذه النظريات والمذاهب الصوفية الأخرى كنظرية الحلول والاتحاد للحلاج وخاصة ما يعرف بوحدة الوجود لابن العربي بوصفها أقوى النظريات شيوعا في عصر الإشراق الصوفي ما بين القرنين الثالث والرابع الهجريين.
إن الحقيقة التي لا يخامرها شك هي أن المدونة المصطلحاتية الصوفية تتمتع بحقل دلالي متميز يكون أشد التصاقا بالتجربة الصوفية وأبعد عن الدلالات المعجمية المألوفة الأمر الذي خول للخطاب الصوفي أن ينجز شفرة لغوية جديدة تناور من زاوية مختلفة ضمن حلقة التواصل الأدبي. وأبرز مثال على ذلك مصطلح "الوحدة" الذي يعود في أصوله الإسلامية إلى تفكير كلامي بحث يقضي بنفي الشريك والضد والند والشبيه والمثيل وكل ما عدا الله على أن تكون الأولى عقيدة العوام، ووحدة الوجود توحيد الخواص(6). ومن ثم انطلق الصوفية من المعنى الثاني لهذا المصطلح على أن التوحيد إدراك ذوقي معرفي ووجداني عميق بوحدة الخالق التي تفنى أمامها كل ذات سوى الله. إذ أن الوحدة عند الصوفية هي مرتبة التعين الأول(7) بذلك ابتكر الصوفية مصطلحا جديدا هو "الفناء" الذي "هو عبارة عن عدم شعور الشخص بنفسه ولا بشيء من لوازمها... وأيضا فناء هو فناء رؤيا العبد في أفعاله لأفعاله بقيام الله له في ذلك"(8).
فإذا جاز لنا بناء على ما تقدم التسليم بوجود تشابه في التصور العام لمفهوم الوحدة بين الوحدة الفلسفية والوحدة الصوفية فإن الفرق واضح لا غبار عليه في التجربة التي يجسدها هذا المفهوم بين المجالين "إذ أن الوحدة الصوفية تجربة يعانيها الصوفي ويدركها ذوقيا وشهوديا ولذا فأصدق تسمياتها هو (وحدة الشهود) في حين إن الوحدة الفلسفية نظرية تعقل ولم يدركها الفيلسوف بل يكفي اقتناعه بها عقلا"(9).
نجد أنفسنا الآن أمام مفهوم جديد أسس له الصوفية وابن الفارض على وجه الخصوص ضمن الفلك العام لمذهب وحدة الوجود ألا وهو (وحدة الشهود). والشهود في عرف الصوفية هو: الحضور والرؤية الحق بالحق ومنهم من يرى بأن الشهود هو "العبور من الكثرات الموهومات الصورية والمعنوية والوصول إلى مقام التوحيد العياني... عندها يرى العبد نفسه وجميع الموجودات قائمة بالحق فتنتفي الغيرية... من أمام بصره"(10).
ومن ثمة يتأرجح مفهوم وحدة الشهود عند الصوفيين من الفعل المعرفي العقائدي إلى الفعل الوجداني العاطفي فتصبح هذه الوحدة حالا أو تجربة يعانيها الصوفي لا عقيدة ولا علما ولا دعوى فلسفية يحاجج عليها أو يحتج لها، ومن ثمة ينتقل الصوفي من حالة الوعي الفردي إلى الوعي المزدوج، على أن ينسف هذا الأخير كل ذات أمام الذات الإلهية، على نحو تتضح فيه حقيقة الله مرادفة للواقع الحميم(11).
ومن هذا المنطلق فرق الصوفية بين علم التوحيد بوصفه معرفة تقوم على العقل والاعتقاد والذي اختص به جمهور الناس وعين التوحيد الذي هو حال وحدة الشهود التي ليست علما ولا اعتقادا ولا معرفة. وهكذا يكون ابن الفارض قد أدرك الوحدة وشهدها في حال فنائه من حيث جسدها في خطابه المشكل من جملة من المصطلحات انتزعها من نظرية (وحدة الوجود) وما لابسها من نظريات سابقة بوصفها أدوات معرفية استعان بها على تصوير حال شهوده بدوام الحالة النفسية المسيطرة، فلم يشهد غير ذات واحدة فنيت فيها كل الذوات هي ذات الله بمعزل عن نظرية الحلول والاتحاد التي قال بها الحلاج سابقا. فمن ثمة سعى ابن الفارض إلى نفي الثنائية بين الله والإنسان من جهة وبين الله والكائنات من جهة ثانية إذ يقول(12):
وأشهدت غيبي إذ بدت فوجدتني *** هنالك إياها بجلوة خلوتي
خلت في تجليها الوجود لناظري *** ففي كل مرئي أراها برؤية
من هذا المنظور جسدت تجربة الكتابة الشعرية في الخطاب الصوفي عند ابن الفارض نموذجا حيا يعكس رؤية فنان وخيال شاعر وشطحة صوفي وضع بإزائه المتلقي في وضع تواصلي معقد تتعارض فيه تقاليد القراءة مع أفق التأويل.
المقولات المعرفية لشعر المعتقد في الخطاب الفارضي:
من خلال استقراء شعر ابن الفارض يتضح لنا أن منظومة الكتابة وآلياتها في هذا الخطاب تجسد قضية الشعر والمعتقد، التي تتمفصل حولها أغلب مقولات "وحدة الشهود" مذهب ابن الفارض المعروف حتى هذا السياق يمكننا أن نلخص الفعل المعرفي للخطاب الصوفي الفارضي على النحو التالي:
وحدة الخلق - الحقيقة المحمدية:
إن المتأمل في الخطاب الشعري عند ابن الفارض يهتدي إلى مقولة "الحقيقة المحمدية"، التي جسدها الشاعر من خلال الفعل المعرفي، والتي تقضي بأزلية الروح المحمدي وقدمه وسبق وجوده كل الموجودات إذ تقدمت حقيقته على كل الأشياء والخلفاء والأولياء وأفاض نور باطنه على أولئك وهؤلاء، فظهر ما ظهر على أيدي الأنبياء من المعجزات وعلى أيدي الخلفاء والأولياء من الكرامات. وقد عبر ابن الفارض عن هذه النظرية تارة بمصطلح "صحو الجمع" وهو مقام النبي محمد عليه السلام ومنزلته بين الأنبياء، وتارة أخرى بمصطلح القطب المعنوي الذي هو الحقيقة المحمدية الأزلية. والقطب في عرف الصوفية جمعاء هو الإنسان الذي اختص بما لم يختص به غيره من الكمال في العلم والقدرة على التصرف كما أنه يلجأ في كثير من الأحايين لذكر مفهوم القطب بألفاظ أخرى من مثل الروح والمعنى ولنا أن نستشهد ببعض الأبيات في هذا المقام إذ يقول ما نصه:
فبي دارت الأفلاك فأعجب لقطبها *** المحيط بها والقطب مركز نقطة
ولا قطب قبلي عن ثلاث خلفته *** وقطبيه الأوتاد عن بديلة
ويقول بخصوص قضية الفيض فيض الأرواح من روح النبي (ص) والأجسام من جسمه:
وروحي للأرواح روح وكل ما ترى *** حسنا في الكون من فيض طينته
والفيض في عرف الصوفية "عبارة عما يفيده التجلي الإلهي"(13). وقوله كذلك:
وكل الورى أبناء آدم غير أنني *** حزت صحو الجمع من دون إخوتي
فسمعي كلمي وقلبي منبئ *** لأحمد رؤيا مقلة أحمدية
يبدو جليا أن ابن الفارض وإن كان قد جسد مقولة الوحدة المحمدية الأزلية فقد عبر عنها بلسان صحو الجمع نفسه أي بلسان صاحب المقام محمد عليه السلام منسوبا إلى الشاعر نفسه على مستوى البناء اللغوي. وبالتالي يمكننا القول إن الضمير النحوي في هذه الأبيات يؤدي دورا مركزيا في الفعل الوجداني المجسد لهذه المقولة. وعلى غرار ذلك تكشف لنا الحركية النصية التي راهن فيها الخطاب الفارضي على سلطة النص والمرجع ولا سيما ما يتعلق بتجسيد مقولات معرفية تنخرط في دائرة شعر المعتقد كل هذا يكشف لنا عن علائقية نصية وبمصطلح أدق حسب تعبير جيرار جينات الإفراز النصي (Métatextualité) الذي يقودنا حتما إلى القول بالتناص بحيث يتعين علينا أن نترصده في المحور الدياكروني - العمودي على أن يكون النص اللاحق (Hypertexte) والممثل في البيتين السابقين اللذين يجسدان أزلية نبوة محمد مرتبطا بنص سابق بوساطة عملية تحويل وبشكل مضمر. وفي هذه الحالة يتعين علينا أن نحدد النص السابق في الأحاديث النبوية التي تثبت قدم النبي عليه السلام من حيث الخلق ومنها "آنا أول الناس في الخلق" و"أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر" و"كنت نبيا وآدم بين الماء والطين"(14).
ولعل تصور ابن الفارض لفكرة الحقيقة المحمدية يجعلنا نستحضر بعض النظريات الإسلامية وغير الإسلامية نذكر منها نظرية فيلون اليهودي والمسيحيين في "الكلمة" ونظرية أفلوطين في "الفيض" فيض النفوس الجزئية من النفوس الكلية والأجسام الجزئية من الجسم الكلي، وكذا عقيدة الشيعة في "النور المحمدي" وعقيدة الإسماعيلية الباطنية في "الإمام المعتصم" والتي تدور معظمها في فلك واحد يجسد أزلية الحقيقة الواحدة التي كانت مصدر فيض وانبثاق. وفي كل الأحوال يكون التشابه بين قدم الحقيقة الواحدة في تلك النظريات وقدم القطب المحمدي على باقي الموجودات في نظر ابن الفارض، إلا أن الفرق يتضح جليا في منهج تجسيد هذه المقولة على نحو يكون فيه الفعل العقلي المعرفي سمة بارزة لتجسيدها في تلك النظريات بينما يجنح ابن الفارض إلى منهج ذوقي خالص يخضع لسلطان الوجد ممثلا في الفعل الوجداني الباطني.
وحدة الأديان:
إن الحقيقة التي لا مناص منها هي إن القضية التي تجسدها تجربة الكتابة الشعرية عند ابن الفارض حول الشعر والمعتقد تأخذ بعدا متميزا يختلف عن التصور التقني الذي ينبني على ثنائية مركزية: الإيمان - الكفر، الحلال - الحرام وعندئذ يتعداه إلى أحادية إطلاقيا تقضي بالنظر إلى الأديان المختلفة والمتباينة على أن غايتها واحدة ومشتركة هي توحيد الواحد الأحد. ولنا ههنا وقفة منهجية دقيقة مع هذه المقولة نرجئ الحديث عنها إلى مقام لاحق، على أنها تفتح فضاء شاسعا للحوار مع الآخر، نكتفي إذن بالإشارة إلى أن تجسيد هذه المقولة في الخطاب الفارضي يكون قد سلك نوعا من الحوارية قريبا من التناص والاقتباس وذلك في مستوى التمفصل السياقي للمحور الدياكروني - التاريخي على نحو ما يذهب إليه جماعة "إخوان الصفا وخلان الوفا" من القول بوحدة الأديان.
وحدة المعرفة:
وحدة المعرفة وفطريتها تمظهر آخر من تمظهرات مذهب الوحدة عند ابن الفارض التي جسدها الفعل المعرفي للخطاب الصوفي في نظرية الحب الإلهي بوصفها موضوعا ومنهجا. ويجنح اعتقاد ابن الفارض في هذا المجال إلى أن النفس مصدر المعرفة وان هذه المعرفة قد طبعت بها منذ الأزل وقبل اتصالها بالبدن الذي أفسد عليها حياتها الأولى(15).
ويعتقد الصوفية عامة وابن الفارض خاصة أن سبيل المسالك إلى إدراك هذه المعرفة هو المكاشفة في تلقي العلم الإلهي بعد اجتياز مراحل طويلة من المجاهدة تصفو فيها النفس من كدرها وتعود المعارف منتقشة على صفحاتها. والمكاشفة ههنا تطلق بإزاء تحقيق الإبانة بالقهر وتطلق بإزاء تحقيق زيادة الحال وتطلق بإزاء تحقيق الإشارة وفي كل الحالات هي نتيجة معرفية لعقل وجداني ينبني على رياضة ومجابهة النفس. ولا شك أن هذه الفكرة يؤطرها نص لاحق هو قوله تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" وهكذا يغدو الفعل المعرفي في نظر الصوفية متجاوزا للمدركات الحسية على نحو يكون فيه السالك أعلى مرتبة من العالم.
هكذا نكون قد كشفنا النقاب عن الجوانب الفكرية للفعل المعرفي والوجداني في تشكيلة الخطاب الصوفي عند ابن الفارض والتي قامت أساسا على مذهب الحب الإلهي الممثل في فكرة الوحدة المركزية وما يلابسها من مقولات جزئية تتمفصل في الخطاب الصوفي عند ابن الفارض على المستويين السانكروني والدياكروني وهي وحدة الشهود، وحدة الحقيقة المحمدية، وحدة الأديان، وحدة المعرفة.
مقاربة منهجية لتأويل الخطاب الفارضي:
يتسنى لنا في هذا المقال بعد عرض فحوى الخطاب أن نشتغل على قراءة تأويلية هرمينية تهدف إلى فحص إشكالية الحقيقة وعلاقتها بالغيرية في المحور القيمي لغائية الخطاب لابن الفارض. إن القراءة الهيرمينية للخطاب الصوفي الفارضي تنبني على أربعة مقومات أساسية هي:
- العلاقة الحيوية بين فهم الكل وفهم الجزء - التحليل والتركيب.
- إشكالية المسافة الثقافية بين الأفق التاريخي للخطاب وأفقه الحاضر.
- إشكالية المعنى الأساسي للنص الجلي أو الخفي.
- إشكالية الآخر بوصفه الطرف الغريب عن النصية.
لا شك أن أي إجراء قرائي بفعل استثماره لهذه المقومات يراهن على شرعية عملية التأويل بوصفها قراءة للخطاب الصوفي. إن فحص شمولية الرسالة للخطاب الفارضي من المنظور التأويلي ينبني على فحص شروط الاتساق بين الوحدات اللسانية (صوتية، تركيبية، دلالية) والانسجام بين منظومة الأفكار والأحكام والقيم والمعتقدات والسياقات الاجتماعية بشكل عام(16). ومن ثمة يلحظ القارئ لخطاب ابن الفارض أن الاتساق يتجسد في الحضور والانسجام في مستوى الغياب وتلكم خصوصية يجسدها ابن الفارض في الطابع الترميزي للخطاب الممتد في قصدية سيميائية. من هذا المنظور بإمكاننا القول إن العلاقة بين الاتساق والانسجام من منظور تداولي تعكس في جوهرها العلاقة الحيوية بين فهم الجزء وفهم الكل من منظور تأويلي. ولما كان الكل يسجد مقولة الغياب يتعين علينا أن نسبر أغوار الخطاب الفارضي في المحور العمودي وبالتالي البحث في غائية الخطاب. إن فعل التأويل يسمح للذات بالتعليق على النص بنقله إلى "الماذا يعني". واثر فحص العلاقة بين المكون اللساني والمكون السيميائي يقترب القارئ المؤول من توضيح ثنائية العلة الغاية الخاصة بالأثر المكتوب. هذه الثنائية التي تسمح لنا بفحص إشكالية المسافة الثقافية بين الأفق التاريخي والأفق الحاضر للخطاب.
ومن هنا نلمس علاقة تغيير على مستوى فكر الذات لأن الذات تفهم نفسها أمام النص ومن خلال التلقي منه شروط ذات أخرى مغايرة للأنا الذي حضر إلى القراءة(17) وعلى غرار ذلك فمن المؤكد أن التأويل القديم للخطاب الصوفي الذي ينخرط في البيئة الثقافية للخطاب نفسه ينطوي على معطيات دلالية وثقافية خاصة بتلك الفترة. بينما يمثل التأويل الجديد رؤية ثقافية أخرى تتشكل من إفرازات اندماج الأفقين بتعبير غادامير سرعان ما ينتج لنا قراءة جديدة تجسد لنا إشكالية المعنى الأساسي لهذا الخطاب بوصفه تجربة تأويلية تقوم على الاختلاف داخل الثقافة الواحدة والخطاب الواحد. وبالتالي تجسد حضور الآخر والاعتراف بالغيرية، "ذلك المفهوم الذي يحيل على الذات أو الموضوع بوصفه شيئا مختلفا يعني الآخر الذي تدركه الذات حيال هذا الموضوع، هذه الذات تتموقع في علاقة النفي مع الموضوع سرعان ما تؤول إلى لا ذات"(18).
معلوم أن مشروعية عملية التأويل تتحقق حيث يحتمل كل نص الانفتاح على نصوص أخرى ما لم يكن مركزا لنفسه وإلا ظل يحتمل الإقصاء أي إقصاء النصوص. ضمن هذا السياق تدعو المقاربة الهرمينية إلى فهم مقولة التناص وفقا لآليات التأويل على أن يكون فهم النص متوقفا على اعتبار تشكيلته الحوارية مع النصوص الأخرى على نحو تكون فيه مقولة التناص وسيلة إجرائية ومنهجية تجسد مفهوم الغيرية وموقعها ضمن الكفاية التأويلية للخطاب.
التأويل القيمي والغيرية:
إذا كانت القراءات التقليدية للخطاب الصوفي تقوم على ثنائية قيمية لا تستقل عن فضاء التصور الفقهي والديني (إيمان، كفر وحلال، حرام) كإقصاء للآخر فإن القراءة التأويلية التي تنشد غائية الخطاب الصوفي تتجاوز هذه الثنائية على المستويين المعرفي والوجداني وتقر في المقابل بأحادية القيمة الكونية الخالدة. وقد مر بنا في مقام سابق كيف تقصد ابن الفارض في خطابه هذه القيمة وعبر عنها معرفيا في مقولة وحدة الأديان. ضمن هذا المنظور يتحقق حضور الغيرية كإقصاء للإقصاء أي تجاوز إقصاء الآخر بوصفه طرفا مشاركا في الآن نفسه في الحوار الإنساني والديني.
وبالنظر إلى ذلك يمكن القول بأن الخطاب الصوفي الفارضي يجسد قيمتين أساسيتين جمعهما معا في مذهب واحد هو الحب الإلهي.
1- قيمة الحب: حب المرأة والخمرة والطبيعة هو حب إلهي وهو موضوع وغاية جسده الشاعر في خطابه معرفيا ووجدانيا. ولما كانت هده القيمة ذات بعد إنساني كوني يمثل المشترك الذهني اتضحت معالم الغيرية في المستوى الأفقي.
2- قيمة الألوهية تتمحور هذه القيمة في المستوى العمودي للفعل المعرفي في الخطاب الصوفي على أنها قيمة كونية خالدة تجسد مفهوم الحوار والتفاعل وبالتالي إفساح المجال لنشاط الغيرية بان تشارك هوية الأنا في سلطة القيم الإلهية.
بإمكاننا القول إن قيمتي الحب والألوهية تغدوان عكس الإقصاء وتحث على حضور الآخر.
الهوامش:
1 - ديوان ابن الفارض، دار بيروت، 1979، ص 140 – 143.
2 - المصدر نفسه، ص 27.
3 - من سورة المائدة، الآية 54.
4 - سورة البقرة، الآية 165.
5 - رواه أبو هريرة، وأخرجه البخاري، ج 8، ص 105.
6 - ينظر، عبد الخالق محمود: مقدمة شرح ديوان ابن الفارض، مركز الدراسات والبحوث الإسلامية، دار روتابرينت، (د. ت)، ص 29.
7 - ينظر، أنور فؤاد أبو خزام: معجم المصطلحات الصوفية، مراجعة د. جورج متري، مكتبة لبنان ناشرون، 1993، ص 184.
8 - المرجع نفسه، ص 137.
9 - عبد الخالق محمود: المرجع السابق، ص 29.
10 - أنور فؤاد أبو خزام: المرجع السابق، ص 105.
11 - كولن ولسن: الشعر والصوفية، تر. عمر الديراوي، دار الآداب، بيروت 1979، ص 38 – 40.
12 - ديوان ابن الفارض، ص 114 - 115.
13 - أنور فؤاد أبو خزام: المرجع السابق، ص 138.
14 - ينظر، عبد الخالق محمود: المرجع السابق، ص 38.
15 - المصدر نفسه، ص 41.
16 - ينظر في هذا المقام، محمد خطابي: لسانيات النص، مدخل إلى انسجام الخطاب، المركز الثقافي العربي، المغرب 1988، ص 11 - 17.

17 - P. Ricœur, in Esprit, Juin - Août, 8 - 9, 1986, p. 241.
18 - Robert Misrahi : Qui est l'autre ? Ed. Armand Colin, Paris, 1999, p. 213.
منقول