إشكالية الزمن في اللغة العربية
لما كان الزمن من خصائص الفعل ومقوماته كان من الطبيعي جداً أن يعبر الفعل عن الزمن ، وأن
يعبر عن أقسامه، وذلك بصيغ وأبنية وتراكيب معروفة في كل لغة ، ونظام أزمنة الفعل كيفما كان
مستقلاً في علاقته مع الزمن وفي تسمياته الجارية لا يقطع بأية حال مع تجربة الزمن حسب رأي
بول ريكور في كتابه اللزمن والحكي ، وذلك لأن الزمن في الفعل في خدمة إبراز معني زمن العالم .
واللغات تختلف في وسائل التعبير عن الزمن " إذ إن لكل لغة نظامها الخاص الذي يميزها عن
غيرها، ولكنها تشترك في إنها علي الأقل تعبر عن أقسام الزمن الأساسية، وتصطلح اللغات علي
التقسيم الثلاثي للزمن: أي الماضي ، والحاضر ، والمستقبل، ولكن الأمر أكثر تعقيداً وإشكالاً ،
فاللغات كلما تقدمت وتطورت في مجالات الفكر تتخذ سلما متدرجا من الأزمان المتنوعة في داخل
كل قسم من تلك الأقسام " إن إرتقاء اللغات يكمن في مقاييس كثيرة من أهمها مقاييس الدلالة علي
الزمن وفروقه النسبية سواء في صيغ أفعالها ومستقاتها، أو في سائر ألفاظها وأدواتها وأساليبها التي
تدخل في الجمل والتراكيب اللغوية . ولكن ماذا عن اللغة العربية هل إستطاع النحو العربي التعبير
عن كل ما يتطلبه الكلام من تنوع وتوزيع في ذلك السلم من الأزمان؟ ، أم أن الأدوات التعبيرية في
النحو العربي عاجزة عن ذلك؟ يقولون نحن في اللغات السامية لا نعرف الماضي التام ولا الماضي
الناقص كما هو الحال في ا للغات السامية الأوروبية والقضية ليست جديدة تماماً وقد سبق إلى طرحها
بعض المستشرقين ومنهم " فندرايس" في كتابه العام عن اللغة إذا أجمعوا علي أن من خصائص
اللغات السامية وجود الزمانين الرئيسيين لحدوث الفعل، أي الما ضي والحاضي ، يقول فندرايس عن
اللغة العربية: " فالعربية مثلها في ذلك كمثل سائر اللغات السامية لا يوجد للتعبير عن الزمن فيها إلا
فعلان: التام أي ما إنتهي فيه الحدث وهو الماضي ، وغير التام أي ما لم ينته فيه الحدث وهو
المضارع، وهذا الفعل مستخدم فضلاً عن دلالته علي الحاضر للتعبير عن المستقبل ، ويقارن بين
اللغات (السامية والفرنسية (حيث تتميز اللغة الفرنسية بأن لها سلماً من الأزمان المتنوعة التي تعبر
عن الفروق النسبية للزمن ولكن فندرايس وغيره من المدعين علي اللغة العربية لا يعلمون أن لكل لغة
نظامها الخاص وطرقها في التعبير عن المعاني المقصود الاتعبير عنها بوسائلها الخاصة ، قد تتشابه
مع غيرها وقد تختلف معها في الطرق والوسائل ، ولكنها لا تفتقر أبداً إلى هذه الوسائل من الناحية
الصرفية، ربما كان رأيه صحيحاً إلى حد معين ، غذ أن الفعل في اللغة العربية منفصل عن السياق ،
وهو إما أن يكون ماضياً فقط ، وإما أن يكون حاضراً ، أو مستقبلاً ، ولكن فندرايس غير دقيق فيما
رمي به اللغة العربية من إقتقارها التمييز بين الأزمنة المختلفة ، فللعربية إضافة إلى صيغها الفعلية
وسائل للتعبير عن الأزمنة الأساسية الثلاثة كما إن بإمكانها التعبير عن الفروق النسبية للزمن بوسائلها
الخاصة كأسماء الزمان ظروفه والأدوات المختلفة"، وهناك إستخدام الأسماء الجارية مجري الأفعال ،
وهي الأسماء المشتقة ، مثل المصدر ، وإسم الفاعل ، والصفة المشبهة ، وصيغ المبالغة ، إذ أن كل
هذه الصيغ علي الرغم من إسميتها تتضمن معاني الأفعال ومن هنا فإن لها دلالات زمنية لا يمكن
إهمالها .
وتنبه بعض الباحثين الأوروبيين أنفسهم إلى مدي ما في حكم فندرايس من خطأ وتعميم ، وكان من
هؤلاء الألماني برجشترايسر والعالم الفرنسي هنري فلايس كذلك ساهم بعض الباحثين العرب في
دراسة هذه القضية ومنهم إبراهيم أنيس وحامد عبيد وتمام حسان ، وعباس محمود العقاد الذي يري
أن اللغة العربية تملك ثروة هائلة من الألفاظ التي تعبر عن الزمن ، منها اللحظة ومنها القرن ،
وبينهما النهار والليل واليوم والأسبوع والشهر والفصل ، وينقسم كل منها أقسام أدق، بحيث تقدم اللغة
بهذه الألفاظ خريطة عامة تحدد مسار الزمن الفلكي وتعبر اللغة عن نفس الزمن بأكثر من لفظ كل
منها يحمل دلالة نفسية ، أو يعبر عن حالة خاصة ، ورغم محاولات كثير من الباحثين العرب
المعاصرين تخليص المنهج اللغوي من سيطرة الإتجاه العقلي التحليلي نراهم يفرقون بين ثلاثة أنواع
زمنية :
الزمن الفلسفي .
الزمن التقويمي الفلكي .
الزمن اللغوي .
إن هذه المحاولات ما زالت في بداياتها يقول د. سعيد يقطين عن هذه المحاولات " ما تزال تفتقر إلى
أن تشكل تصوراً لنحو العربية أو أن تملك السلطة التي تؤهلها لتكون واقعاً يمارس في المدرسة أو
الجامعة ، كما نجد ذلك في البلدان التي حققت فيها اللسانيات قطيعة مع النحو التقليدي وأصبحت
تمارس كواقع ."
ويعرف د. مهدي المخزومي " مفهوم الزمن اللغوي بأنه صيغ تدل علي وقوع أحداث في محاولات
زمنية مختلفة ترتبط إرتباطاً كلياً بالعلاقات الزمنية عند المتكلم .
ويقول مالك يوسف المطلبي عن تعريف " المخزومي " : إنه لم يحدد مفهوم الزمن اللغوي ، بل حدد
أدواته أو وسائله، ونجدها واضحة في تعريف د. تمام حسان الذي لم يكتف بذلك بل فرق في الزمن
اللغوي بين مفهومين مفهوم الزمن الصرفي ، ومفهوم الزمن النحوي .
أما وظيفة الزمن النحوي فهي وظيفة في السياق يؤديها الفعل أو الصفة، كما نلاحظ خضوع الزمن
في اللغة العربية للإعراب ونجد إشارات عميقة تتجاوز التقسيم الثلاثي الكلاسيكي للزمن، حيث تصبح
الصيغ الزمنية خالية من أي زمنية بسبب تجلي هذه الزمنية من خلال إدخال بعض الأدوات
والمعينات التي تزخر بها بنية الفعل العربي ، ويتعقد التعبير اللغوي عن الزمن في اللغة العربية لما
تتضمنه بعض الأفعال من معاني غير ما تدل عليه صيغتها من ناحية الصرف ، كما هي في أفعال
الدعاء ( صحبتك السلامة ) ، فالمعني غالب علي اللفظ وهو بالبداهة معلق بالإستقبال ، وفي بقائه
علي صيغة الماضي ما يشعر بقوة الأمل في الإستجابة . أما من ناحية إدخال بعض الأدوات ،
والمعنيات فيختلف معني الفعل الواحد بإختلاف أدوات الشرط المستخدمة معه، فإذا قلنا إن حدث هذا
يفيد الإحتمال الضعيف ، ونفس الفعل مع لو بدلا من أن يفيد الإحتمال مع الفرض والتقدير ، وقد يفيد
الإمتناع ، ومع حتي يفيد الشرط المعلق ، وإذا دخلت عليه مهما فإنها تربط السببية أو النتيجة العقلية
عن الإطلاق دون قيد ، كما نجد الإتيان بالفعل بلفظ الماضي وهو حاضر أو مستقبل مثل قول الله
تعالي: أتي أمر الله فلا تستعجلوه ) أي سيأتي ، سورة النحل الآية رقم. ويكفي هذا القد من البناء
الزمني في اللغة العربية ليدلنا علي إختلاف الآراء ، وعلي مدي تعقد هذا الباء ، وحسب رأي الناقد "
سعيد يقطين" لو أمكن للسانيات عربية البحث في هذه الآراء ومتابعتها تحليلاً وتقصياً لأمكن لنا
الحديث عن نظرية لسانية للزمن في الجملة العربية. ولكن إذا سلمنا بالرأي القائل أن أزمنة الفعل
تعبر فعلاً عن الزمن فهي لا تستطيع أن تعبر إلا عن الزمن بصورة عامة ، وأقصي ما يمكن أن
نعرفه من خلال أزمنة الفعل هو أن حدثاً معيناً وقع مثلاً في زمن معين في الماضي ، ولكن هذا
الماضي غير محدد ، فنحن لا نعرف ما إذا كان الحدث قد وقع منذ لحظة ، أو منذ أيام ، أو منذ فترة
طويلة فإن زمن الفعل لا يمكنه أن يحدد ذلك حتي في اللغات الأوروبية التي تعرف الماضي التام
والناقص ، وأيضاً بالنسبة للمستقبل ، فزمن الفعل سواء كان ماضياً أو مستقبلاً حتي في اللغات
الأوروبية لا يمكنه أن يوضح لنا مدة الزمن المستغرقة في الحدث ، وهذا ما نحتاج إليه لتحديد العلاقة
بين زمن القصة ، وزمن الخطاب ، لكننا رغم هذه الإشكالية لا نملك إلا الإستفادة من قول " بول
ريكور" من أن نظام أزمنة الفعل كيفما كان مستقلاً في علاقته وفي تسمياته لا يقطع بأية حال مع
تجربة الزمن .
تقديم وتصور
إن أي نص روائي لا يخلو من زمن كما سبق القول وهذا البحث يستنطق ظاهرة الزمن في نص
روائي لكاتب ليبي هو " أحمد إبراهيم الفقيه" والنص الروائي عبارة عن ثلاثية جاءت بعنوان :
الجزء الأول: هذه تخوم مملكتي .
الجزء الثاني: سأهبك مدينة أخري .
الجزء الثالث: نفق تضيئه إمرأة واحدة .
والهدف من إستنطاق الظاهرة الزمنية في الرواية الليبية هو الكشف عن خصوصيتها النوعية ، وكيف
وظفت الرواية الليبية مفهوم الزمن كأحد مكونات الخطاب الروائي ، ومهما تكن السهولة التي للكاتب
في إتخاذ أي موقع للسرد في عمله فإن الصعوبة تحيط بالباحث للقبض علي تمفصلات الزمن ،
والأهمية التي إكتساها الزمن لا تسهل عمل الناقد أبداً خاصة وأن الآراء التي قدمت حول الزمن تدور
في فلك العموميات ، ولا تقدم لنا الوسائل الإجرائية إلا في إطارات عامة، وهذا ما يعيق عملية
التحليل التي يجب أن تكون مدعومة بتصور محدد ، خاصة وأن المكتبة العربية تفتقر إلى مثل هذه
الدراسات النظرية الهامة ، وكل ما هو مطروح مجرد إشارات بسيطة حول الموضوع ، وهذا له ما
يبرره من حداثة عهد الأدب العربي بالرواية كجنس أدبي متميز .
ونصل إلى السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي الوسائل الإجرائية التي يمكننا إستعمالها ونحن نحدد
مجال دراستنا في : 1- زمن القصة ، زمن الخطاب من خلال النص الروائي قيد البحث .
والإستفادة بها في تغطية Narrative Discourse كان لا بد للعودة إلى آراء " جيرار جينيت" في كتابة
الجانب البنيوي من الدراسة خاصة وأن أغلب الدراسات الحديثة تعتمد عليه لما يحمله من مستوي
نظري إجرائي مساعد في دراسة الزمن – وتقسيماته المعتمدة في هذه الدراسات مثل قضية المفارقات
الزمنية في النص ، وما عملته من خلخلة علي مستوي الترتيب الزمني للأحداث ، ومن خلال المدة
المطروحة في النص ، والقضية الثانية من خلال ما يتصل بتقنية الأشكال السردية للزمن ، وسأتناول
كل قضية من هذه القضايا بشئ من التفصيل في حينها. وسأعتمد مقولة ( هارلد فاينريش " (إن توزيع
الأشكال الزمنية في أي نص من النصوص ليس إعتباطاً " لأقيم من خلال الإجابة علي هذه التساؤلات
تصوراً لبنية الزمن في الرواية الليبية ، ثم بعد عملية التحليل والتركيب سنحاول إجتياز المستوي
البنيوي إلى المستوي الدلالي مسترشدين بآراء " بول ريكور " في الإستنارة به في إستخراج دلالة
النص من خلال بنية بصورة خاصة ، وسأستفيد بصورة عامة بكل ما هو مطروح ومفيد حتي وإن
عمل بصورة ثانوية مثل آراء "تودوروف " وجان ريكاردو .