الوصول فى الروحانيات

فكر ساعة خير من عبادة سنة , نعم .
رحم الله من قال ذلك ما أبصره وأحكمه , فإن الفكر معنى الانسان , فيه يحلل ويركب , وفيه يقضي ويحكم , وفيه يرقى الى الله تعالى , وفيه يخلد في جنان النعيم , في دار السلام والأمان المقيم .
ومن لا يجيد قيادة هذه الآلة العديمة النظير في صنعتها , والمنقطعة المثيل في حركيتها , فسوف يخرج عن الطريق المستقيم لا محالة , حيث الحاشية الفاتنة القاتلة من هنا ومن هناك , فالحذر الحذر , فانها خالية من أي شرط من شروط السلامة والنظام , الفوضى والعبث في ثناياها , والشوك والحسك في طواياها , أغوت قائد الآلة بنعيم ينقضي سريعا . فقبل ورضخ لطلبها , والنفس تميل لما بين أيديها , وتحب العاجلة وتذر الآخرة , فقبل ولم يسأل عمن يكفله إن دخل حماها , ولم يوقع على صك وسند يضمن حقوقه , ولم يأخذ حذره مما بين سطور الطلب فضلا عما ينتج عنه , بل رفض أي توقيع شفهي او خطي مصدقا وعدها , مستسلما للسانها الرطب أولا والجاف اليابس آخرا , ناسيا الأمر السماوي وما يترتب عنه على المخالف .
مسكين , يخاف منظم السير والمرور , أكثر مما يخاف منظم سير النفوس ومرور الخواطر . حين يُنظم في حقه ضبط في مخالفة ما يسرع الى الرشوة والواسطة لازالة أعباء تلك المخالفة , وإذا لم يمش الحال يبقى مدة من عمره يتحسر متألما مغموما مهموما شاردا لا يحس ويشعر بمن حوله , يلوم نفسه ويؤنبها على غفلتها وخسرانها مبلغا من المال دون أن يستفيد منه شيئا . نعم , ولا يسارع الى التوبة حين ينظم في حقه ضبط من الملك الكاتب حين اقتراف ذنبا ما , واجتراح سيئة ما . فهانت عليه السماء , وعظمت لديه الارض , تذكر ما يفنى ونسي ما يبقى , خاف الخلق وأمن الخالق .

نعم انها الغفلة , كأنه لم يسمع القصة :
فإن ملكا بعث عبده ليعمل في حقله , وأعطاه التعليمات والتوصيات اللازمة لانجاز العمل على ما يرام , وعلى أحسن ما يكون , وحذره من الونا والتقصير والتسويف . وقال له : إن أتقنت ما أمرتك به وعملت فيه سأقربك مني وأعطيك عطاء ملك لعبد فتغتني عمرك , وتسعد في جسدك ونفسك وولدك وأهلك , الناس في حاجة اليك وأنت عن الناس مستغن , تحب الناس والناس بعضهم يحسدك وبعضهم يغبطك , يظن الناس أحيانا أنك الملك لكثرة إنعامي عليك , إن أمرت فأمرك نافذ , وإن نهيت فنهيك مطاع . أما إن قصرت وأسأت وغفلت , ليلك نائم , ونهارك في الملاهي هائم , تسرح في حمى غريب عنك , وترعى في حصيد غير محلل لك , فسوف أعاقبك عقابا ليس باليسير حمله , وتعيش عمرك كله بالويل والثبور , تتمنى أنك من أهل القبور , لشدة الحساب والنكال والعذاب , نار الندم تسعر وتلظى دائما فيك وأنت تقول : يا ليتني نفذت الأمر , يا ليتني سمعت النصيحة , يا ليتني قبلت النهي , يا ليتني حفظت الأمانة , يا ليتني صنت الحق , يا ليتني قمت بالواجب , يا ليتني لم أنم ساعة , يا ليتني لم أضيع لحظة في الطاعة , يا ليتني راقبت مالكي , يا ليتني لم أكن شيئا مذكورا .

فاعتبر يا أخي وادخل , في دورة تعليمية على القيادة الصحيحة في مدرسة الرسول , وادرس ما أتى به من عند الاله الجليل , لتتخرج متدربا محترفا , عالما عاملا , سالما غانما , ولعمري انه النصر والفتح القريب . فإن المنهاج حوى الزهر والثمر , حوى الورد والعطر , حوى المجد والدرر , حوى القيم والخطر , حوى النور والعبر , حوى السعادة والرخاء , حوى الحلاوة والهناء , حوى النعيم والبقاء , حوى الوصول الى السماء .
فهل تجد تلك الغلال في غير ذلك البيدر ؟
وهل تجد أساتذة غير آل ذلك المنبر ؟

فكر يا أخي , في الله والظهور , في حقائق الامور , في الرسول العظيم , في الصراط المستقيم , في الجنة والنار , في أهل الخير والسرور . فكر لا تضع فكرك في الثلاجة , فتشغلك نفسك في الزائل الفاني . فكر لا تدخر فكرك وتخزنه كما تفعل في مالك وتقول كما يقولون (خبيء قرشك الابيض الى يومك الاسود) , فإن الفكر كالمحرك في الطائرة فإذا ما توقف قليلا , كان الخطب وقورا جليلا . إعمل في الباقيات واستثمر في بنوكها , واهتم برصيد الخيرات واغنم ما لديك من أوقات , واياك الغفلة والنوم والسنة , ففكر ساعة خير من عبادة سنة .

منقول