قال الإمام الأكبر سيدي ابن عربي قدس الله سرّه :

( التنبيه الأول )
اعلم أن الحقيقة المحمدية مسماة بالعقل الأول ، وبالقلم الذي علم الله تعالى به الخلق كلهم ، وبالحق الذي قامت السماوات والأرض ، وبالباء . وأحسن أسماء هذه الأسماء : [ الحقيقة المحمدية ] : الباء .من حيث ظهور الأشياء .وإنما ظهرت الأشياء بالباء ، أن الحق تعالى : واحد ، فلا يصدر عنه إلا واحد ، فكان الباء : أول شيء صدر عن الحق تعالى .
فهي ألف على الحقيقة، وحداني من جهة مرتبتها ، لأنها ظهرت في المرتبة الثانية من الوجود ، فلهذا سميت باء ، لتمتاز عن الحق تعالى ، ويبقى اسم الألف له تعالى .
فالباء: اثنان من جهة المرتبة فهي عدد ، والأشياء عدد ، فصار العدد من العدد : يعني من الباء ، وبقي الواحد الأحد ، في أحديته مقدساً منزهاً .
ثم إن الباء زائدة في حضرة الفعل، فلهذا كانت النقطة التي تحتها بين العالم الكوني وبينها : إشارة إلى الأحدية ، فلو كان الأثر للباء ، لم تكن هذه النقطة ، إذ الأثر لها لا للباء والله أعلم.

(التنبيه الثاني)
اعلم أن مرتبة الإنسان الكامل ، الذي لا أكمل منه : من العالم : مرتبة النفس الناطقة من الإنسان { يشير إلى أنه بالنفس الناطقة يتميز الإنسان من الحيوان ، وكذلك هو صلى الله عليه وسلم بالنسبة للعالم بمنزلة النفس الناطقة للخلق }.
وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : الذي هو الغاية المطلوبة من العالم .
ومرتبة الكمال التنازلي { لأنه أعلى مقامات الكمال ، فكل من أوتي شيئاً من الكمال فهو أقل منه: مرتباً ترتيباً تنازلياً ، لا تصاعدياً ، لأنه لو كان ترتيباً تصاعدياً لكان هناك من هو أعلى منه ،و هذا غير موجود ، فهو الحائز صلى الله عليه وسلم ذروة الكمال الخَلقي والخُلقي ـ أي خلقه الله تعالى أكمل المخلوقين . صلى الله عليه وسلم } .عن مرتبته : بمنزلة القوى الروحانية من الإنسان { لأن الإنسان بلا روح : جسد ميت ، لا حركة له } وهم الأنبياء صلى الله عليهم وسلم .

ومرتبة من نزل عن مرتبتهم { وهم الأولياء والصالحون من عباد الله تعالى } بمنزلة القوى الحسية من الإنسان في الشكل وهو من جملة الحيوان ، فهم بمنزلة الروح الحيواني في الإنسان ، الذي يعطي النمو والإحساس. وإنما قلنا : أنه صلى الله عليه وسلم : " النفس الناطقة " : لما أعطاه الكشف ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد الناس " ، والعالم من الناس ، فلأنه الإنسان الكبير في الجرم ، المتقدم في التسوية : لتظهر عنه { هناك فرق بين عنه ومنه .. ومعنى عنه أي عن طر يقه ، فمثلاً تقول : أخذت هذا العلم عن فلان ، أي بواسطته فهو مُمَد ومُمِد آخذٌ من ناحيةٍ معطِ من ناحية ٍ أخرى} صورة نشأته صلى الله عليه وسلم ، كما سوّى الله تعالى جسم الإنسان وعدله قبل وجود روحه { أي قبل النفخ فيه } ثم نفخ فيه من روحه : روحاً كان به إنساناً تاماً .
والملائكة من العالم كالصورة الظاهرة في خيال الإنسان . وكذلك الجن . فليس العالم إنساناً إلا بوجود الإنسان ، الذي هو" نفسه الناطقة " . كما أن نشأة الإنسان : لا يكون إنساناً إلا بنفسه الناطقة ، ولا تكون هذه النفس الناطقة من الإنسان كاملة إلا بالصورة الإلهية . فلذلك " نفس العالم " التي هي عبارة عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، حازت درجة الكمال بتمام الصورة الإلهية في الوجود والبقاء والتنوع في الصور ، وبقاء العالم به .
وكان حال العالم قبل ظهوره صلى الله عليه وسلم بمنزلة الجسد المسوّى بلا روح . وحاله بعد وفاته : بمنزلة النائم . وحاله ببعثه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة : بمنزلة الانتباه بعد النوم ...
ولما أراد الله بقاء هذه الأرواح على ما قبلته من التميز : خلق لها أجساداً برزخية تميزت بها عند انتقالها عن أجسادها في الدنيا : في النوم ، وبعد الموت ، والله أعلم .

( التنبيه الثالث )
اعلم : أن الأرض الواسعة { المذكورة في قوله تعالى : " يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون " ـ إنما هي أرض عبادتك ، فتعبد الحق " كأنك تراه " في ذاتك من حيث بصرك ، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى .وعين بصيرتك تشهد بأنه : ظاهر لها ظهور عِلْمْ { لا ظهور رؤية } فتجمع في عبادتك بين ما يستحقه تعالى من العبادة في الخيال { أي في خيالك أيها العابد }، وبين ما يستحقه من العبادة في غير موطن الخيال {أي في موطن الحقيقة وهو الموطن الذي يعتقد أنه يشاهد الله جلَّ وعلا حقيقةً} فتعبده مطلقاً ومقيداً { أي بما افترض عليك من الفرائض (المقيد) وبما تنتفل به ( المطلق ) } وليس هذا لغير هذه النشأة الإنسانية المؤمنة ، التي جعلها الله تعالى حرمه المحرم ، وبيته المعظم .
فكل من في الوجود يعبد الله تعالى على الغيب ، إلا الإنسان الكامل ، فإنه يعبد الله تعالى على المشاهدة . ولا يكمل العبد إلا بالإيمان الكامل ، فإنه النور الذي يزيل كل ظلمة .فإذا عبده على المشاهدة : رآه جميع قواه { من قوله جل وعلا : " كنت يده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها " إلى آخر الحديث القدسي المعروف } فما قام بعبادته غيره { الضمير يرجع إلى "الله" تعالى ، لأنه هو الذي أمدك سراً وجهراً ، وهو الفاعل على الحقيقة سبحانه وتعالى } .ولا ينبغي أن يقوم بها سواه واعلم أنك إذا لم تكن بهذه المنزلة ، ومالك قدم في هذه الدرجة ، فأنا أدلك على ما يحصل لك به هذه الدرجة العليا ، وذلك أن تعلم أن الرسل صَلَىْ اللهُ عَلَيْهمْ وَسَلَمَ أعدل الناس أمزجة لقبول رسالات ربهم تعالى .
وكل شخص منهم قبل من الرسالات الإلهية على قدر ما أعطاه الله تعالى في مزاجه من التركيب .
فلذلك لم يبعث نبي منهم إلا لقوم معينين ، لأنه على مزاج خاص مقصور ، وأن سَيْدَنَا مُحَمَدْاً صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ بعثه الله برسالة عامة إلى جميع الناس كافة ، وما قَبِلَ مثل هذه الرسالة العامة إلا لكونه على مزاج عام ، يحتوي على مزاج كل نبي ورسول ، فمزاجه : أعدل الأمزجة كلها، ونشأته أقوم النشآت أجمعها.
فإذا علمت هذا ، وأردت أن ترى الحق تعالى على أكمل ما ينبغي أن يظهر به لهذه النشأة الإنسانية ، فألزم الإيمان والإتباع له صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ ، واجعله مثل المرآة أمامك .
وقد علمت أن الله تعالى لابد أن يتجلى لسَيْدَنَا مُحَمَدْاً صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ في مرآته : أكمل ظهور وأعدله ، وأحسنه لما هي عليه مرآته من الكمال .
فإذا أدركت الحق تعالى في مرآته صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ تكون قد أدركت منه ما لم تدركه في غير مرآته صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ .
ألا ترى ــ في باب الإيمان ــ بما جاء به من الأمور التي نسب الحق تعالى نفسه بها على لسان الشرع ــ بما تحيله العقول ، ولولا الشرع والإيمان به لما قبلنا ذلك من حيث نظرنا العقلي .
فكما أعطانا بالرسالة والإيمان : ما قصرت العقول التي لا إيمان لها عن إدراكها ذلك من جانب الحق تعالى ، كذلك أعطانا ما قصرت أمزجتنا مرائي قلوبنا ـ عند المشاهدة ــ عن إدراك ما تجلى في مرآته صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ أن تدركه في مرآتها.

وكما آمنت به في الرسالة غيباً : شهدته عند التجلي عيناً ، فقد نصحتك وأبلغت لك في النصيحة ، فلا تطلب مشاهدة الحق تعالى إلا في مرآته صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ .
واحذر أن تشهد النبي ــ صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ ــ أو تشهد ما تجلى في مرآته من الحق في مرادك ، فإنه ينزل بك ذلك عن الدرجة العالية .فالزم الإقتداء به ، والإتباع له ـــ صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ ــ ولا تطأ مكاناً لا ترى فيه قدم نبيك صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ .
فضع قدمك على قدمه { يعني اتبع آثاره صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ في كل صغيرة وكبيرة } إن أردت أن تكون من أهل الدرجات العلا ، والشهود الكامل في المكانة الزلفى ، والله الموفق .

( التنبيه الرابع )
اعلم أن الحق تعالى لما تجلى بذاته لذاته بأنوار السبحات الوجهية من كونه عالماً ومريداً ، فظهرت الأرواح المهيمنة بين الجلال والجمال ، وخلق ــ في الغيب المستور الذي لا يمكن كشفه لأحد من المخلوقين ــ العنصر الأعظم ، وكان هذا الخلق دفعة واحدة من غير ترتيب سببي ، وما منهم روح يعرف أن ثم سواه ، لفنائه في الحق بالحق .
ثم أنه تعالى أوجد بتجل آخر من غير تلك المرتبة المتقدمة : أرواحاً متحيزة في أرض بيضاء ، وهيمهم فيها بالتسبيح والتقديس ، لا يعرفون أن الله تعالى خلق سواهم .
وكلٍ منهم على مقام من العلم بالله تعالى والحال .
وهذه الأرض خارجة عن عالم الطبيعة ، وسميت أرضاً نسبة مكانية لهذه الأرواح المتحيزة، ولا يجوز عليها التبديل { لأن التبديل الذي قاله الله تعالى " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات " هي أرضنا وسماؤنا }ولا يجوز كذلك أبد الآباد ، لما سبق في علم الله تعالى .
وللإنسان الكامل في هذه الأرض : مثال ، وله فيهم حظ ، وله في الأرواح الأولى مثال الآخر ، وهو في كل عالم على مثال ذلك العالم .
ثم إن هذا العنصر الأعظم له التفاته مخصوصة إلى عالم التدوين والتسطير ، ولا وجود لذلك العالم في العين ، وهذا العنصر المشار إليه : أكمل موجود في العالم .
ولولا عهد الستر الذي أُخِذَ على أهل هذه الطريقة لبسطنا الكلام فيه ، وبينا كيفية تعلق كل ما سوى الله تعالى به ، فأوجد ما قال الوارد عند تلك الإلتفاته : " العقل الأول " ،وقيل فيه " الأول " ، لأنه أول عالم التدوين والتسطير .

وتلك الإلتفاته ،إنما كانت للحقيقة الإنسانية ، التي لها الكمال من هذا العالم ، فكان المقصود من خلق العقل وغيره إلى أسفل عالم المركز : أسباباً مقدمة لترتيب نشأته ـكما سبق في العلم ـ
ومملكته ممتدة ، قائمة القواعد والنيابة عن الله تعالى ، فلا بد من تقدم وجود العالم ــ الذي هو مملكته ــ عليه ، وأن يكون هو آخر موجود بالفعل ، وان كانت له الأولية بالقصد .
فعين الحقيقة المحمدية هي المقصودة ، وإليه توجهت العناية الكلية فهو عين الجمع الموجود ، والنسخة العظمى ، والمختصر الأشرف الأكمل في مبانيه صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ .

( التنبيه الخامس )
اعلم أن الوجود واحد { أي وجود الحق تبارك وتعالى هو الوجود الحق } وله ظهور {بمعنى المظاهر } وله بطون ، وهو الأسماء ، وله برزخ جامع ، فاصل بينهما ، ليتميز الظهور عن البطون ، والبطون عن الظهور ، وهو: الإنسان الكامل صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ ،فالبطون مرآة الظهور . والظهور مرآة البطون . وما بينهما فهو مرآة لهما : جملة وتفصيلاً .
واعلم : كما أنه بين ذات الحق تعالى وذات الإنسان الكامل مضاهاة وبين علمه وعلمه مضاهاة وأن كل ما فيها مجمل فهو فيها مجمل . وكل ما فيها مفصل فهو فيها مفصل .فكذلك بين القلم وروح الإنسان الكامل مضاهاة . وبين اللوح وقلبه مضاهاة . وبين العرش وجسمه مضاهاة .
وبين الكرسي ونفسه مضاهاة . وكل منهما مرآة لما يضاهيه . فكل ما في القلم مجمل .... فهو في روحه مجمل . وكل ما في اللوح مفصل ... فهو في قلبه مفصل . وكل ما في العرش مجمل ... فهو في جسمه مجمل . وكل ما في الكرسي مفصل ... فهو في نفسه مفصل .
فالإنسان الكامل : جامع لجميع الكتب الإلهية و الكونية ، فكما أن علم الحق تعالى بذاته مستلزم لعلمه بجميع الأشياء ، وأنه يعلم جميع الأشياء{ التي هو خلاصتها لأن العلم بكل شيء لله وحده } من علمه بذاته ، فكذلك نقول : حق الإنسان الكامل :إذ علمه بذاته .....
{ الضمير في "بذاته" راجع إلى الإنسان الكامل } مستلزم لعلمه بجميع الأشياء ، وأنه يعلم جميع الأشياء من علمه بذاته ، " فمن عرف نفسه عرف ربه " ــ وعرف جميع الأشياء .
وأنظر إلى قوله تعالى : " الم ذلك الكتاب لا ريب فيه " ...فالألف يشار بها إلى الذات الأحدية من حيث أنه أول الأشياء . واللام : يشار به إلى الوجود المنبسط على الأعيان الوجودية ...
والميم : يشار به إلى الكون الجامع ، وهو الإنسان الكامل ، فالحق تعالى ، والعالم ، والإنسان الكامل : كتاب لا ريب فيه والله تعالى أعلم .....

( التنبيه السادس )
اعلم أن مقام المحبة أعلى المقامات والأحوال ، وهو الساري فيها ، وكل مقام أو حال قبلها فلها يراد . وكل مقام أو حال بعدها فمنها يستفاد ، لأنه : مقام أصل الوجود وسيده ، ومبدأ العالم وممده { إمداد الأصل لفرعه }وهو سَيّدَنْا مُحَمّدٌ صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ .الذي اتخذه الله حبيباً كما اتخذ غيره خليلاً { سيدنا إبراهيم }.
فمن حقيقة هذا السيد : تفرعت الحقائق كلها : علواً وسفلاً ، فأعطى الله تعالى أعلا المقامات ــ وهو المحبة ــ : لأصل الموجودات ، وهو سَيّدَنْا مُحَمّدٌ صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ .
وأعلم أن طلب الاتصاف بأوصاف الألوهية حجاب التحقق بهذا في الجملة { يعني أن من يطلب الاتصاف بأوصاف الألوهية جملة : لا يمكن له ذلك } كما كان سَيّدَنْا مُحَمّدٌ صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ الذي كان من ربه تعالى في القرب " بأدنى من قاب قوسين " ثم أصبح وليس عليه أثر من ذلك ، لأنه ما ورد عليه أمر لم يكن فيه ، ولا ورد عليه شيء لم يكن في فطرته وأما غيره ــ وهو موسى صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ ــ فإنه لمّا ورد عليه أمر غريب : ورد عليه أمر أثّر فيه فكان يبرقع على وجهه من النور الذي كان ..
لأنه يأخذ بأبصار الناظرين { يريد أن يقول : أن سَيّدِنْا مْوْسَىْ صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ أُضّفِيَّ عليه النور وقت المناجاة ، وكانت على الأرض ، وأما سَيّدَنْا مُحَمّدٌ صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ فلم يظهر فيه شيء من الأنوار لمّا رجع إلى الأرض ، لأنها كانت فيه صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ جبلها الله تعالى فيه ..
ولذلك قال عمرو بن العاص رضي الله عنه : " والله ما ملأت عيني من رسول الله صَلَىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ قط ولو طلب مني وصفه ما استطعت } والله أعلم .

( التنبيه السابع )
اعلم أن الإنسان الكامل : كتاب جامع لجميع الكتب الإلهية ، لأنه نسخة العالم الكبير .
فمن حيث روحه وعقله : كتابٌ عقليٌ يسمى أم الكتاب ، ومن حيث نفسه : يسمى كتاب المحو الإثبات ، فهي ــ الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة ــ التي لا يمسها ولا يدرك أسرارها ومعانيها إلا المطهرون من الحجب الظلمانية . وما ذكرنا من الكتب . إنما هي أصول الكتب الإلهية .
وأما فروعها: فكل ما في الوجود : تنتقش فيه أحكام الموجودات ، فهي أيضاً كتب إلهية . والله سبحانه وتعالى أعلم

( التنبيه الثامن )
اعلم أن رب الأرباب هو الحق تعالى ــ باعتبار الاسم الأعظم والتعين الأول .
هو منشأ جميع الأسماء . وغاية الغايات . ومتوجه الرغبات . والحاوي لجميع المطالب كلها ، وإليه الإشارة بقول الله تعالى لرسولهِ صلى الله عليه وسلم :" وأن إلى ربك المنتهى " لأنه صلى الله عليه وسلم مظهر التعين الأول .
فالربوبية المختصة به { رب + ك كاف الخطاب }هي هذه الربوبية العظمى .
واعلم أن لكل اسم من الأسماء الإلهية : صورة في العلم مسماة ب " الماهية " ، و" العين الثابتة ".
ولكل اسم منها أيضاً صورة في الخارج مسماة بالمظاهر والموجودات الغينية ، وتلك الأسماء : أرباب تلك المظاهر .
فالحقيقة المحمدية : صورة لاسم " الله " الجامع لجميع الأسماء الإلهية ، الذي منه الفيض على جميعها ، فهو تعالى ربه .فالحقيقة المحمدية التي ترب { تجمع } صورة العالم كلها بالرب الظاهر فيها ، الذي هو رب الأرباب .
فبظاهرها : ترب ظاهر العالم ، وبباطنها ترب باطن العالم ، لأنه صاحب الاسم الأعظم { أي المختص به } وله الربوبية المطلقة{الجمع المطلق}وهذه الربوبية إنما له من جهة مرتبته ، لا من جهة بشريته فإنه من هذه الجهة عبدٌ مربوب : محتاجٌ إلى ربه سبحانه وتعالى .

( التنبيه التاسع )
اعلم أن القطب الذي عليه مدار أحكام العالم وهو مركز دائرة الوجود ــ من الأزل إلى الأبد ــ واحد : باعتبار حكم الكثرة المتعدد . الأولياء مطلقاً .
فلا يزال في هذه المرتبة واحد منهم ، قائم في هذا المقام ، ليحفظ الله تعالى به هذا الترتيب والنظام ، إلى أن يظهر خاتم الأولياء ، الذي هو خاتم الولاية المطلقة .....
{ وهو سيدنا عيسى صلى الله عليه وسلم } . والله أعلم .

( التنبيه العاشر)
اعلم أن الحق تعالى تجلى لذاته بذاته ، وشاهد جميع صفاته وكمالاته في ذاته .وأراد أن يشاهدها في حقيقة تكون كالمرآة .
فأوجد الحقيقة المحمدية التي هي أصل النوع الإنساني في الحضرة العلمية { أي في علم الله تعالى } فوجدت حقائق العالم كلها بوجودها وجوداً إجمالياً. ثمَ أوجدهم فيها وجوداً تفصيلياً . فصارت أعياناً ثابتة .
فأعيان العالم في العلم والعين . وكمالاتها : إنما حصلت بواسطة الحقيقة المحمدية ــ صلى الله عليه وسلم .

( التنبيه الحادي عشر )
اعلم لأن الحقيقة المحمدية صلى الله على صاحبها وسلم : هي الحادث الأزلي والنشأ الدائم .. أما حدوثه الزماني : فلعدم إقتضاء ذاته الوجوب ..
{ أي أن الذات المحمدية ليست موجودة لذاتها ولكنها موجودة بإيجاد الله تعالى لها فالواجب الوجود هو الله تعالى وحسب } وأما حدوثه الزماني : فلكون نشأته العنصرية مسبوقة بالعدم الزماني ..
وأما أزليته فبالوجود العلمي { يعني في علم الله تعالى } فعينه الثابته في العلم : أزلية ، وكذا الوجود العيني الروحاني ، لأنه غير زماني ، والفرق بين أزلية الأعيان الثابتة ف] العلم والأرواح المجردة ، وبين أزلية الحق تعالى ، هو : أن أزليته تعالى تحت نعت سلبي : ينفي افتتاح الوجود عن عدم { يقول أن الله تبارك لا أول لوجوده ، لأن من له أولية فقد سبقه العدم } لأنه تعالى عين الوجود .
وأزليتها { الضمير راجع إلى الأعيان والأرواح } هو : دوام وجودها بدوام وجود الحق تعالى { لأن الله جعلها كذلك } مع افتتاح وجودها من العدم { أوجدها من العدم ، وبقاؤها بإبقاء الله تعالى لها } لكن وجودها من غيرها { وهو الله } وأما دوامه وأبديته فلبقائه ببقاء موجده تعالى : دنيا وأخرى .
وأما كونه كلمة فاصلة ، فلأنه هو الذي يفصل بين الأرواح وصورها في الحقيقة .. وإن كان الفصل بينهما ملكاً معيناً فإنه بحكمه : يفصل بينهما .
وكذلك هو الجامع بينهما، لنه هو الخليفة الجامع للأسماء ومظاهرها ، فلما وجد هذا الكون الجامع ، تم العالم بوجوده الخارجي ، لأنه روح العالم المدبرة له ، والمتصرفة فيه {تصريف إمداد لا تصريف خلق وإيجاد } وإنما تأخرت نشأته العنصرية في الوجود العلني ، لأنه لما كانت عينه في الخارج مركبة من العناصر المتأخر وجودها عن الأفلاك وأرواحها وعقولها : وجب أن يوجد قلبه ، لتقدم الجزء على الكل بالطبع .
وكون هذا الكامل : ختماً على خزانة الدنيا فهو ختم على خزانة الآخرة { لأنه أوتي الشفاعة العظمى للفصل بين الخلائق يوم القيامة صلى الله عليه وسلم }ختماً أبدياً : فيه دليل على أن التجليات الإلهية لأهل الآخرة بواسطته صلى الله عليه وسلم ، والمعاني المفصلة لأهلها متفرعة من مرتبته ومقام جمعه أبداً ، كما تفرعت أزلاً ، فما للكامل من كمالات في الآخرة : لا نهاية لها . والله أعلم .

( التنبيه الثاني عشر )
اعلم أن إطلاق الصورة على الله تعالى ــ عند أهل النظر ــ إنما هو مجاز لا حقيقة ، إذا لا تستعمل حقيقته إلا في المحسوسات دون المعقولات .
وأما عند المتحققين ، فإنها تستعمل في وصف الله تعالى حقيقة ، لأن العالم بأسره : صورة الحضرة الإلهية تفصيلاً { لأن الله تعالى خالق لا بد له من مخلوق ورازق لابد له من مرزوق وقادر لابد له من مقدور }
والإنسان الكامل صورة الحضرة الإلهية جمعاً { أي الذي اجتمعت فيه كل الصفات الإلهية ، فما فصله الله في العالم : جمعه فيه صلى الله عليه وسلم } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم على صورته " .. { والصورة هاهنا معنوية لا صورة تخاطيط } فالنشأة الإنسانية حازت صورة الحضرة الإلهية ورتبة الأرواح الروحانية { الملائكة } . وبجسمه حاز رتبة الأجسام .
فرتبته : حازت رتبة الجمع والإحاطة ولهذا قامت حجة الله على الملائكة . لإحاطته صلى الله عليه وسلم بما لم يحيطوا بعلمه ....{ أي أنه أعلم من الملائكة لأن علمه مستمد من علمه تبارك وتعالى }...والله سبحانه وتعالى أعلم .

(التنبيه الثالث عشر)
اعلم أن كلا من الظاهر والباطن : ينقسم على قسمين : باطن مطلق ، وباطن مضاف وظاهر مطلق ، وظاهر مضاف .
فأما الباطن المطلق ، فهو : الذات الإلهية وصفاتها ، والأعيان الثابتة في علم الله تعالى .
والباطن المضاف هو : عالم الأرواح ، فإنه ظاهر بالنسبة إلى الباطن المطلق ،وباطن بالنسبة إلى الظاهر المطلق ، وهو عالم الأجسام .
فلذلك أنشأ الله تعالى : صورة الإنسان الكــامل :الظاهرة من حقائق العالم وصوره .
وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى. فلذلك قال " كنت سمعه وبصره . فكما أن هوية الحق تعالى سارية في آدم ـ صلى الله عليه وسلم ــ كذلك هو سار في كل موجود في العالم . لكن سريانه وظهوره في كل حقيقة من حقائق العالم ،إنما هو بمقدار استعداده .
واعلم أن لكل فرد من الأفراد الإنسانية : نصي من الخلافة ،به يدير ما يتعلق من أمر نفسه أو غيره ، وهو " سمعه " الذي ورثه من والده الأكبر ، الذي هو الخليفة صلى الله عليه وسلم .

( التنبيه الرابع عشر)
اعلم أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم اختص بمقام الجمع ، فجاء بقول الله تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " فمقامه جامع بين الوحدة والكثرة وبين الجمع والتفصيل ، والتنزيه والتشبيه ، بل جامع لجميع المقامات الأسمائية ، فجمع الله تعالى في قوله " ليس كمثله شيء " بين إثبات المثل ، وبين نفيه في آية واحده ، بل في نصفها . وبسبب هذا الجمع والتنزيه والتشبيه ، قال صلى الله عليه وسلم : " أوتيت جوامع الكلم " .
أي جمع الحقائق والمعارف ولهذا جمع الله تعالى له في القرآن جميع ما أنزله من المعاني في كتب الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعليهم ،فدعا أمته إلى : الظاهر في عين الباطن ، وإلى الباطن في عين الظاهر ، وإلى الوحدة في عين الكثرة ، وإلى الكثرة في عين الوحدة .
وما دعاهم وما دعاهم إلى الغيبة والوحدة وحدها: إلى المشاهدة والكثرة وحدها والله أعلم .

( التنبيه الخامس عشر)
اعلم أن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ، وورثتهم رضي الله عنهم : خدم الأمر الإلهي مطلقا ، واء كان الأمر موافقا للإرادة أو مخالفا لها بل هم في نفس الأمر خادمون لأحوال الممكنات ، من حيث إرشادهم إلى مصالح دينهم ودنياهم ، ومنعهم مما يضر دينهم ودنياهم .
وهذا الإرشاد والخدمة منهم لهم إنما هي من مقتضيات أعيانهم وأحوالهم الثابتة العلمية دون وجودهم الخارجي . فانظر ما أعجب هذا الأمر ، من أن خادم الأمر الإلهي يكون خادما للممكنات ، مع جلالة قدره عند الله تعالى . والرسل صلى الله عليهم وسلم : خادموا الأمر التكليفي بالحال ، كإتيانهم بالعبادات والأفعال المثبتة لطريق الحق : ليقتدي بهم ، وبالقول ، كالأمر بالإيمان ، والنهي عن الكفر والعصيان ، وبيان ما يثابون عليه ، ويعاقبون عليه ، وليسوا بخادمين الإرادة ( لتعلق الإرادة بالله تعالى ) ، بل كانوا يساعدونهم فيه . والله تعالى أعلم .

(التنبيه السادس عشر)
إنما كانت حكمة فردية ، لإنفراده صلى الله عليه وسلم بمقام الجمعية الإلهية ، الذي ما فوقه إلا مرتبة الذات الأحدية ، لأنه صلى الله عليه وسلم :مظهر لاسم الله تعالى الأعظم الجامع للأسماء كلها .
ولأنه أول ما فاض بالفيض الأقدس من الأعيان : عينه الذاتية وأول ما وجد بالفيض الأقدس من الأكوان روحه فحصل بالذات الأحدية والمرتبة الإلهية ، وعينه الثابتة الفردية الأولى .
واعلم أن أول الأفراد الثلاثة : ما زاد عليها ، فهو صادر منها . وهذه الأفراد الثلاثة المشار إليها في الوجود ، هي : الذات الأحدية ، والمرتبة الإلهية ، والحقيقة المحمدية ،المسماة بــ " العقل الأول " .
ولما كانت تعطى الفردية الأولى بما هو مثلث الشيء قال صلى الله عليه وسلم : " حبب إلي من دنياكم " بما فيه من التثليث ، وجعلت المحبة التي هي أصل الوجود ظاهرة فيه ، ف ذكر النساء ، ثم الطيب ، ثم قال : " وجعلت قرة عيني في الصلاة " وإنما حبب النساء إليه صلى الله عليه وسلم : لكمال شهود الحق فيهن ، إذ لا يشاهد الحق تعالى مجردا عن المواد أبدا ،فإن الله تعالى غنيٌ بذاته عن العالمين ولا نسبة بينه تعالى مجردا عن المواد .
فإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ، ولم تكن المشاهدة إلا في مادة : فشهود الحق تعالى في النساء أعظم الشهود وأكمله في حالة النكاح الموجب لفناء المحب في المحبوب . وأعظم الوصلة الجماع . وهو نظير التوجه الإلهي على خلقه على صورته ،ليخلف فيرى فيه مثال صورته .
كذلك النكاح : يتوجه لإيجاد ولده على صورته ، بنفخ بعض روحه فيه ــ يعني النطفة ــ ليشاهد عينه في مرآة ابنه من بعده ، فصار النكاح المشهود نظير النكاح الأصلي الأزلي، فظاهر صورة الإنسان : " خلقٌ موصوف بالعبودية " ، و " باطنهُ حق " ، لأنه من روح الله تعالى الذي يدبر ظاهرهُ ويربيه ، إذ هو الظاهر بصورته الروحانبية .

(التنبيه السابع عشر)
اعلم أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لما خلق عبدا بالأصالة :لم يرفع رأسه قط إلى السيادة مراعاة لما تقتضيه ذاته من العبودية الذاتية ، الحاصلة من التعيين والتقييد ، وحفظا للأدب مع الحضرة الإلهية .
بل لم يزل ساجدا لحضرته، متذللاً لربه تعالى ، واقفا في مقام عبوديته ، ورتبة إنفعاليته حتى أوجد الله تعالى من روحه الأرواح ومظاهرها جميعا ، لأنه صلى الله عليه قال : " أول ما خلق الله تعالى نوري الذي سماه " عقلا " بقوله " أول ما خلق الله تعالى العقل " . فأعطاه رتبة الفاعلية ، بأن جعله خليفة متصرفاً في الوجود العيني معطيا لكلمن العالم كماله .
فالروح المحمدي ، هو المظهر الرحماني الذي استوى على العرش / فتعم رحمته على العالمين ، كما قال الله تعالى : " وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين " ــ والله أعلم .

(التنبيه الثامن عشر)
اعلم أن دحية الكلبي كان أجمل أهل زمانه، وأحسنهم صورة ، فكان نزول جبريل على سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم في صورته ، إعلاماً من الله تعالى : أنه ما بيني وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال ، وهي التي لك عندي .
فيكون ذلك له بشرى حسياً ولا سيما أن أتى( أي جبريل ) بأمر الوعيد والزجر / فتكون تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحركه قهر ذلك الوعيد . والله أعلم .

(التنبيه التاسع عشر)
وأعجب ما عندنا من العناية الإلهية التي صحت لنا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : اذ كل واحد من الرسل ( صلى الله عليهم وسلم ) يحشر جزئ الحكم لاقترانه بطائفة مخصوصة .
والقطب منا : ليس كذلك فإنه عام ، جامع لكل من في زمانه من بر وفاجر ، وإن كان إرثه عيسويا أو موسويا فلا يقدح ذلك فيه ، فإنه من مشكاةٍ محمدية ، فله المقام الأعم ، وقد نبه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله عن طائفة من أمته ــ : " ليسوا بأنبياء يغبطهم الأنبياء " صلى الله عليهم وسلم ، للبركة المحمدية التي نالتهم من مقامه الأعم .

(التنبيه العشرون)
في بيان المعاني الواردة من قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : بأن الحق تعالى " وضع يده بين كتفيه ، وأنه أحس ببرد أنامله بين ثدييه ، فعلم ما في السماوات وما في الأرض " .
اعلم أن الحق تعالى منزه عن اليد الحسية وأناملها، وإنما عي يد امتنان واصطفاء ، بإفاضة أنوار النبوة والرسالة والولاية على جوهره حتى شاهد ببصيرته وبصره العوالم كلها : أولها وأخرها ،
ظاهرها وباطنها ، كلياتها وجزئياتها ، دنيا وأخرى ،ولذلك أخبرنا صلى الله عليه وسلم بالأوائل والأواخر : "بما كان ويكون في الدنيا والآخرة "لأن الحضرة الكونية كلها صارت أمام بصيرته وبصره ، حتى أنه كان صلى الله عليه وسلم " يرى من وراءه كما يرى من أمامه " وإنما خصص وضع اليدين بين الكتفين ، لأن النور الإلهي لا يأتي إلى من خصصه الله تعالى إلا من ورائه .
وأما برد الأنامل التي أحس بها بين ثدييه صلى الله عليه وسلم ،فهو عبارة عن اللذة التي حصلت له ،بما كشفه الله تعالى له من الأمور الغيبية وظهورها له ، وهذا كله إنما بمقتضى مرتبته .
وأما من حيث بشريته ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أني أمرت أن أحكم بالظاهر ، والله متولي السرائر " وأمثال من الستر عليه في بعض الأمور ، إنما هو لأمر عارض اقتضاه الحكم الإلهي ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " لست أنسى ، ولكن أنسى لأسن " .. والله أعلم .

(التنبيه الحادي والعشرون )
اعلم أن النبي هو الذي يأتيه الملك بالوحي من عند الله ، يتضمن ذلك الوحي : شريعة يتعبده الله تعالى بها في نفسه ، فإن بعث إلى غيره كان رسولا .
فتارة ينزل الملك بالوحي على قلبه .
وتارة يأتيه على صورة حسية من خارج ، فيلقى فما يجاء به على أذنه فيسمعه .
وتارة على بصره فيحصل له من النظر مثل ما يحصل له من السمع سواء .
وكذلك سائر القوى الحسية .
وهذا باب قد أغلق بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا سبيل أن نتعبد الله تعالى بشريعة ناسخة لهذه الشريعة . وإذا نزل عيسى صلى الله عليه وسلم ، فإنما يحكم بهذه الشريعة المحمدية ، وهو خاتم أولياء هذه الأمة ، فإن من شرف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : أن الله ختم ولاية أمته بنبي رسول مكرم . وهو يحشر يوم القيامة مع الرسل : رسولا ، ومع هذه الأمة : وليا تابعا .
والياس كهذا المقام أيضا .
وأما حالة أنبياء أولياء هذه الأمة فهو كل شخص أقامه الله تعالى في تجل من تجلياته ، وأقام له مظهر محمد صلى الله عليه وسلم ، ومظهر جبريل صلى الله عليه وسلم ، وهو يلقي خطاب الأحكام المشروعة : لمظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيسمع صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في الأمة المحمدية ، فيرى نفسه وقد وعي جميعها ،
وعلم صحتها علم اليقين ، بل عين اليقين ، فأخذ حكم هذا النبي ، وعمل به على بينة من ربه تعالى . فهؤلاء هم أنبياء أولياء هذه الأمة ، ولا ينفردون بشريعة قط ، ولا يكون الخطاب بها إلا بتعريفهم : أن هذا هو شرع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

( انتهت ولله الحمد )