كلام شيخ الاسلام ابن تيميه عن القوى النفسانيه وخوارق العادات
يقول شيخ الاسلام رحمه الله:
وأيضا فهؤلاء يقولون أن المقتضي لخوارق العادات إما أن يكون قوى نفسانية أو جسمانية وإن كانت جسمانية فإما أن تكون جسمانية عنصرية أو جسمانية فلكية فالخوارق الحاصل من التأثيرات النفسانية هي عندهم من المعجزات والكرامات والسحريات والحاصلة من القوى العنصرية كجذب المغناطيس وهي النيرنجيات والحاصلة من القوى الفلكية هي الطلسمات والقوى الفلكية لا تؤثر في الخارق إلا عند انضمام القوى العنصرية القابلة أو القوى النفسانية الأرضية الفاعلة وهذا هوالطلسمات
ومن أعظمهم إثباتا لخوارق العادات ابن سينا وقد ذكر أسباب الخوارق في أربعة أمور في سبب التمكن من ترك الغذاء مدة وهو أن النفس تشتغل بما يعرض لها من معرفة أو محبة وخوف ونحو ذلك حتى لا تجوع بسب أن القوى الهاضمة مشتغلة عن تحليل الغذاء وفي سبب التمكن من الأفعال الشاقة مثل أن يطيق العارف فعلا أو حركة تخرج عن وسع مثله وهذا كما أن النفس إذا حصل لها غضب وفرح أو انتشاء ما بسكر معتدل وأمثاله حصل لها قوة لم تكن قبل ذلك وكذلك إذا حصل لها من أحوال العارفين ما يقويها وفي سبب التمكن من الإخبار عن الغيوب ومضمونه أنه قد يعلم الغيب في اليقظة كما يعلمه في النوم وادعوا أن سبب ذلك أن العلم بالحوادث منتقش في العقل الفعال أو النفس الفلكية فإذا اتصلت النفس الناطقة بذلك علمت ذلك ثم تارة يصوره الخيال في المثال وتارة لا يصوره والسبب الموجب لاتصال النفس ضعف تعلقها بالبدن والضعف تارة يكون لجنون أو مرض كما يصيب أهل المرة السوداء وتارة يكون لفرط الجوع أو التعب أو غير ذلك من الأحوال وتارة يكون لرياضة النفس وهذه الأقسام الثلاثة الصبر عن الأكل مدة وقوة البدن والإنذار بالمنامات وما يجري مجراها أمر يحصل للمسلم والكافر والبر والفاجر فيكون سبب الخوارق وتصرفها في العناصر فإن النفس كما أثرت في بدن نفسها بالتحريك والتحويل من حال إلى حال جاز أن تؤثر في عنصر العالم ويكون كالبدن لها فتؤثر بالزلزلة وإنزال المطر ونحو ذلك قال فالذي يقع له هذا في جبلة النفس ويكون رشيدا مزكيا لنفسه فهو ذو معجزة من الأنبياء وكرامة من الأولياء والذي يقع له هذا ويكون شريرا

ويستعمله في الشر فهو الساحر الخبيث قال والإصابة بالعين تكاد أن تكون من هذا القبيل
قال وإنما يستبعد هذا من يفرض أن يكون المؤثر في الأجسام ملاقيا أو مرسل جزءا ومنفذ كيفية بواسطة ومن تأمل ما وصفناه استسقط هذا الشرط عن درجة الاعتبار فهذا ملخص كلامهم في هذا الباب ومعلوم أن جميع ما ذكروه هو أمر معتاد كثير ليس من خوارق العادات ولا من جنس المعجزات ولهذا قال ابن سينا بعد ذكر ذلك وذكر ما تقدم حكايته من أنه من لم يصدق بالجملة هان عليه التفصيل ثم قال ولعلك قد بلغك عن بعض العارفين أخبار تكاد تأتي بتقلب العادة فتبادر إلى التكذيب وذلك مثل ما يقال أن نبيا ربما استسقى للناس فسقوا أو استشفى فشفوا أو دعا عليهم فخسف بهم وزلزلوا أو هلكوا بوجه آخر ودعا لهم فصرف عنهم الوباء والموتان أو السيل أو الطوفان أو خشع لبعضهم سبع أو لم ينفر عنه طير أو مثل ذلك مما لا يأخذ في طريق الممتنع الصريح فتوقف ولا تعجل فإن لأمثال هذه أسبابا من أسرار الطبيعة وربما تأتي لي أن أقص بعضها عليك ثم ذكر أن ذلك قد يكون سببه من قوة النفس فإنها إذا كانت تتصرف في بدنها جاز أن تتصرف في غيره ومعلوم أن ما ذكروه لا يفيد الجزم بما قالوه وإنما غايته إمكان ذلك وجوازه بأن يقال إذا جاز أن يرى الإنسان مناما يدل على أمور غائبة أمكن أن يكون العلم بجميع الأمور الغائبة من هذا الباب وإذا جاز أن تؤثر النفس في بدنها وفي شيء صغير جاز أن تؤثر في مجموع الهواء والماء والتراب والنار وإذا جاز أن تقوى النفس على بعض الأفعال جاز أن تقوى على الطيران في الهواء والمشي على الماء وقلب قرى قوم لوط وفلق البحر وإنزال المن والسلوى وتفجير اثنى عشر عينا من الحجر وقلب العصا حية وإخراج القمل والضفادع وإنزال المائدة عليها خبز وسمك وزيتون وأمثال ذلك ومن المعلوم أن هذا لا يدل على نوع هذا الممكن بلا ريب فلم قلتم أن هذا هو الواقع وكلامهم في هذا مثل كلامهم في إضافة سائر أنواع الصرع إلى الخلط السوادي والبلغمي فإن هذا إنما يصح أن لو لم تكن الجن موجودين والأطباء ليس عندهم دليل على نفي الجن ولا في صناعتهم ما يمنع وجود الجن وقدماء الأطباء كأبقراط وغيره معترفون بذلك ولكن يقولون ليس في صناعتهم ما يدل على ثبوت الجن وعدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الدليل ليس علما بعدم المدلول عليه فإن عدم ما يدل على الشيء المعين لا يقتضي انتفاؤه فكيف إذا علم بالدلائل الكثيرة أن الجن قد تصرع الإنس كما قال عبدالله بن أحمد بن حنبل قلت لأبي أن الأطباء يقولون أن الجني لا يدخل بدن الإنسي فقال يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه وهذا أمر قد باشرناه نحن وغيرنا غير مرة ولنا في ذلك من العلوم الحسيات رؤية وسماعا ما لا يمكن معه الشك لكن المقصود هنا أن نبين أنهم ينفون الشيء بلا علم والنافي عليه الدليل كما على المثبت الدليل فهم ليس معهم في كون هذه الآيات حادثة عن القوى النفسانية إلا مجرد التجويز والإمكان إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون سورة الانعام 116 وأيضا فلا دلالة لهم على إمكان كون النفوس تؤثر في مثل هذا أصلا إلا مجرد قياس بعيد لا يقتضي ذلك فهذا أول الوجوه أن يقال أنتم لا دليل لكم بكون هذه الآثار من قوى النفوس
الوجه الثاني أن يقال من هذه الآثار أمور كثيرة تعترفون أنتم بأنه يمتنع كونها من آثار النفوس كما تقدم التنبيه عليه فبطل قولكم أن الآثار المعلومة عند المسلمين واليهود والنصارى من آثار النفوس فإن مجموع ما ذكروه ليس فيه ما يكاد يخرج عن قياس الأمور المعتادة إلا حوادث الأكوان كنزول المطر وشفاء المريض وزلزلة الأرض والخسف وصرف السيل والوباء ورجوع السبع والطير وهذه الأمور يحصل جنسها بأسباب معتادة فإن المطر ينزل بأسباب متعددة وكذلك شفاء المريض وحدوث الخسف والهلاك يحصل بأسباب معتادة كما يحصل نوعه بأسباب معتادة وهذا بخلاف انفلاق البحر اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم وانقلاب العصا حية ونزول المن والسلوى وانفجار اثنتي عشرة عينا من الحجارة ومثل نبع الماء من بين الأصابع وتكثير الطعام والشراب حتى يكفي أضعاف من كان يكفيه وانقلاع الشجرة ثم عودها إلى مكانها ثابتة فهذه الأمور وأمثالها لا يصدر جنسها عن سبب معتاد .