جوامع الخير

أورد الحافظ ابن كثير هذه الخطبة للإمام علي كرم الله وجهه وقال عنها: هذه خطبة بليغة جامعة للخير ناهية عن الشر.
قام سيدنا على بن أبي طالب كرم الله وجهه خطيباً فقال:

الحمد لله فاطر الحق، وفالق الإصباح، وناشر الموتى، وباعث من في القبور، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأوصيكم بتقوى الله، فإن أفضل ما توسل به العبد: الإيمان، والجهاد في سبيله، وكلمة الإخلاص، فإنها الفطرة، وإقام الصلاة فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها من فريضته، وصوم شهر رمضان فإنه جنة من عذابه، وحج البيت فإنه منفاة للفقر مدحضة للذنوب، وصلة الرحم فإنها مثراة في المال منسأة فى الأجل مجبة فى الأهل، وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة وتطفئ غضب الرب، وصنع المعروف فإنها يدفع ميتة السوء ويقي مصارع الهول، أفيضوا فى ذكر الله فإنه أحسن الذكر، وارغبوا فيما وعد المتقون، فإن وعد الله أصدق الوعود وأقتدوا بهدى نبيكم صلى الله عليه وسلم، فإنه أفضل الهدى، واستنوا بسنته فإنها أفضل السنن، وتعلموا كتاب الله فإنه أفضل الحديث، وتفقهوا في الدين فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء لما فى الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص، وإذا قرئ عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، وإذا هديتم لعلمه فاعملوا بما علمتم به لعلكم تهتدون، فإن العالم العامل بغير عمله كالجاهل الجائر الذي لا يستقيم عن جهله، بل قد رأيت أن الحجة أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه عن هذا الجاهل المتحير فى جهله، وكلاهما مضلل مثبور -هالك.
لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا، ولا ترخصوا لأنفسكم فتذهلوا -فتغفلوا عن الحق- ولا تنهلوا فى الحق فتخسروا، ألا وإن من الحزم أن تثقوا، ومن الثقة ألا تغتروا، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه، وإن أغشكم لنفسه أعصاكم لربه، من يطع الله يأمن ويستبشر، ومن يعص الله يخف ويندم، ثم سلوا الله اليقين وارغبوا إليه فى العافية، وخير ما دام فى القلب يقين، وإن عوازم الأمور أفضلها، وإن محدثاتها شرارها، وكل محدَث بدعه، وكل محدِث مبتدع، ومن ابتدع فقد ضيع، وما أحدَث محدِث بدعه إلا وترك بها سنة، المغبون من غُبِن دينه، والغبون من خسر نفسه، وإن الرياء من الشرك، وإن الإخلاص من العمل والإيمان، ومجالس اللهو تنسى القرآن، ويحضرها الشيطان، وتدعوا إلى كل غي، ومجالسه النساء تزيغ القلوب وتطمح إليها الأبصار، وهي مصائد الشيطان، فاصدقوا الله، فإن الله مع من صدق وجانبوا الكذب، فإن الكذب مجانب للإيمان، ألا إن الصدق على شرف منجاة وكرامة، وإن الكذب على شرف ردى وهلكهة، ألا وقولوا الحق تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، أدوا الأمانة إلى من إئتمنكم، وصلوا أرحام من قطعكم، وعودوا بالفضل على من حرمكم، وإذا عاهدتم فأوفوا، وإذا حكمتم فأعدلوا، ولا تفاخروا بالآباء، ولا تنابزوا بالألقاب، ولا تمازحوا، ولا يغضب بعضكم بعضاً، وأعينوا الضعيف والمظلوم والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب، وارحموا الأرملة واليتيم، وأفشوا السلام، وردوا التحية على أهلها بمثلها أو الحسن منها ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب﴾ المائدة 5: 2، وأكرموا الضيف، وأحسنوا إلى الجار، وعودوا المرضى، وشيعوا الجنازة، وكونوا عباد الله إخواناً.

أما بعد، فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع وإن الآخرة قد أظلت وأشرفت باطلاع، وإن المضمار اليوم وغداً السباق، وإن السبقة الجنة والغلبة النار، ألا وإنكم فى أيام مهل من ورائها أجل يحثه عجل، فمن أخلص لله عمله فى أيام مهله قبل حضور أجله فقد أحسن عمله ونال أمله، ومن قصر عن ذلك فقد خسر عمله وخاب أمله وضره أمله، فاعملوا فى الرغبة والرهبة، فإن نزلت بكم رغبة فاشكروا الله واجمعوا معها رهبة، وإن نزلت بكم رهبة فاذكروا الله واجمعوا معها رغبة فإن الله قد أخذ المسلمين بالحسنى ولمن شكر بالزيادة، وإني لم أر مثل الجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها، ولا أكثر مكتسباً من شئ كسبه ليوم تذخر فيه الذخائر، وتبلى فيه السرائر وتجتمع فيع الكبائر، وإنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لا يستقيم به الهدى يجر به الضلال، ومن لا ينفعه اليقين يضره الشك، ومن لا ينفعه حاضره فعازبه عنه أعور وغائبه عنه أعجز، وإنكم أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد، ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: طول الأمل، واتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسى الآخرة، وأما اتباع الهوى فيبعد عن الحق، ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة إن استطعتم ولا تكونوا من بنى الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل.