العقل والروح في الفلسفة الشرقية ... كيف علينا إدراكها ؟؟

إعداد نزار محمد شديد




العقل والروح في الفلسفة اليوغية ... كيف علينا إدراكها ؟؟

العقل يُقصدُ به الإدراك ، بينما يَقصُد اليوغيون بهِ المادةَ التي تُدرِك

يقول اليوغيونَ أن ( شيتا ) جوهر العقل موجودٌة في كل مكانٍ في الكَون ، وأن كميّتها ثابتةٌ لا تَزيدُ ولا تَنقص ولا تتغير، وإن كانت كالمادةِ والطاقة ، تَظهرُ في مظاهرَ مُتعدِدة ، نتيجةَ وجودِ مُركباتٍ جديدةٍ بِنسبٍ مختلفةٍ منه ، وأنّ جوهرَ العقلِ هو أوّلُ مظاهرَ الُمطلَق ومنه تَكوّنَت الطاقة ومن الطاقة تكوّنَت المادة

جوهرُ العقلِ يتشابهُ معَ الطاقة ، وهو بالنسبةِ إلى الطاقةِ كالطاقةِ بالنسبةِ إلى المادة ، ففي الأطوارٍ العليا ، تكادُ صفةُ المادة أن تكون من مميزات الطاقة ، فمثلاً المغناطيسية أو الكهرباء ، تجدُ أن المادة والطاقة تَتّحدانِ اتحاداً يثيرُ الاهتمام ، حتى تبدوَ الطاقةُ وكأنها شيءٌ يمكن أن يُقطعَ بسكين ، وكذلكَ نجدُ الكهرباءَ في صِورها اللطيفةِ العليا ، ذاتَ طاقةٍ ومقدرةٍ توحي للإنسانِ أنها تَكادُ أن تَعقِل ، لِشِدةِ ما تقتربُ من الحدّ الفاصلِ بين الطاقةِ والعَقل ،
إن عِلم الطبيعةِ سيكتشفُ في أعوامٍ قلائل ، أنواعاً أخرى من الطاقةِ تقدِّمُ أمثلةً جديدةً من أمثلةِ التفكيرِ أو العَملِ الُمتَعَقّل ، من أي شيءٍ معروف ، وسَتُسبّبُ الاختراعاتُ التي ستأتي في أعقابِ اكتشافِ الراديوم ، تطوراً في محيطِ الطبيعةِ يَهِزُّ الإنسان هزاً ، فإن العلمَ يكادُ يقفُ على الحدّ الفاصِلِ بينَ المادةِ والعقل ، سَيُنظَرُ إليهما في القريبِ العاجل ، على أنهمُا شيءٌ واحد ، والطاقةُ كمركزٍ متوسطٍ بينهما

يجب أن نُسَلّم بوجودِ جوهرِ العقلِ كما نَسَلِّمُ بوجودِ الطاقةِ والمادةِ على الأساسِ النظري ، لأن هذهِ المظاهرِ الثلاثة ، لا يمكن أن تُعرَف إلا عن طريقِ آثارِها الظاهرية ، فالأثيرُ وهو أعلى أشكالِ المادة ، لا تُدركهُ الحواسُ عندَ الإنسان ، إلا إذا تألّفَت من ذَراتهِ الأجسامَ الصلبةَ أو السائلةَ أو الغازية ، كذلك الطاقةُ المجرَّدة ، لا سبيلَ إلى إظهارِها لعقلِ الإنسان ، إلا إذا ظَهرت آثارها عن طريقِ المادةِ في صورةِ الحركةِ أو القوة ، وهكذا جوهرُ العقل ، لا سبيلَ إلى معرفتهِ إلا على أنّه أفكارٌ أو قوةَ الفكر ،
المادة هي الشيءُ الذي تَتَّشحُ بهِ النفسُ لتظهرَ به ، والطاقةُ هي الشيء الذي تَستعملهُ النَّفس لتعملَ بواسطته ، وجوهرُ العقلِ هو أداةَ النفسِ التي تُفكِّرُ بها
جوهرُ العقلِ هو الشيءُ الذي تتولدُ منهُ الطاقةِ التي تَتَسبّب في حركةِ المادة

نظريةَ اليوغيين تقول :

أنّ ذرةَ المادةِ دوامةٌ صغيرةٌ من الأثيرِ في الأثير ، تتكون من فعلِ الطاقةِ في الأثير ، ولّما كان الأثيرُ مُجرّداً من الاحتكاك ، فإنَ حلقةَ الدوامةِ لا تفقِد شيئاً من قوتها ، وبذلك تُصبح حركتها دائمة ، وإن كانَ دواماً غيرُ أبديٍ بالنسبةِ لدوامِ الُمطلَق ، وهي تتمتعُ بكلِ ما يُنسَبُ للمادةِ من خواص ، في الطولِ والعرضِ والارتفاعِ والكميةِ والمرونةٍ والجاذبيةٍ والحيِّزِ والتَّمدُد …الخ ، كما أنّ لها حركتُها الداخلية ( الذبذبة ) ، هذه الدوامات أو الحلقات تختلفُ في أحجامها وسرعة ذبذباتها ، وهذه الحقيقةُ هي السببُ في وجودِ الأنواعِ المختلفةِ من الذّراتِ التي حَيرّت العلم ، وهي تُلقي ضوءاً على العناصرِ السبعين من عناصرِ المادةِ التي فَرضَت نفسها على عُلماء الطبيعة ، وأنه لَمِنَ المستطاعِ أن نرى بوضوح ، أنه إذا أمكنَ تغييرُ سرعةِ ذبذباتِ هذه الدوامات ، تَحَققَ حُلمَ الكيميائيينَ القُدامى بتحويلِ مادةٍ إلى مادة ، وأمكنَ تحويلُ الرصاصِ إلى ذَهب ،

اليوغا تقول بأن مادةَ العقل ، تَعرفُ نَقسها وتُظهرُ معرفتِها لنفسِها بالفكر ، وهذا الفكرُ حركةً في جوهرِ العقل ، والحركةُ كما نَعلم ، مَظهرٌ من مَظاهرِ العقلَ ومُنبثقةً عنه ، وهذه الحركةُ تنتقلُ إلى الأثير ، فينشأ من ذلك حركةَ الحلقةِ الُمفرغة ، وهكذا تنشأ الذرّةَ أصلِ المادة ، وفيها العقلُ والطاقةُ والحركة .

إن الأثيرَ بعد أن ينبثق عن جوهرِ العقلِ بفعلِ الطاقة ، بكونُ فيهِ صفاتِ أبيه وجدّهِ بالوراثةِ التي يملكُ حقَّ استعمالها ، ولذلك فهو يُفكرُ في الحركة ، والحركةُ توجِدُ حلقةَ الذرةِ لتتمكنَ من الظُهور ، لتجعلَ المادةَ حائزةً للعقلِ والقدرةِ على الحركة ، ، فالمادةُ كما نُدركها بحواسِّنا ، نتيجةَ الفِكر ، والفِكرُ هو العقلُ في حالةِ العمل ، والعملُ وليدُ الطاقة ، والطاقةُ ثمرةَ جوهرِ العقل ، إذن فإن المادةَ في الحقيقة ، هي العقل … والعقلُ هو كلُّ شيء ، فكل شيء في الدُنيا أصلهُ الفكر ، فالمادةُ والعقلُ كِليهِما مخلوقان ، وإنهما مظهرانِ للمُطلَق الذي لا وجودَ لغيرهِ إلا به

عندما يصلُ الباحثُ إلى درجةٍ عُليا من النُمو الروحي ، يجدُ نفسهُ عارفاً بغير جهدٍ عقليٍ يبذلهُ في سبيلِ هذهِ المعرفة ، هذه المعرفة لا يستطيع أن يُدركَ كُنهها، من يعيشونَ في محيطِ القوةِ العاقلةِ العادية ، ولكن الذين أشرَقَت أنوار الروحِ عليهِم ، يعلمون أنها نوعٌ من الإدراك أسمى من إدراكِ العقل ، إنها تَفوقهُ ولكن لا تَتَعارضَ معه ، وكثيرٌ مما بدأ العقل الغربي يدركهُ الآن ، شيءٌ مقررٌ لدى أصحابِ الوعيِ الروحيِ منذُ أمدٍ بعيد
إنّ عقلَ الإنسانِ أو قوتهِ العاقِلة ، لَفيها أسرارُ الكونِ كُلِّها …

إن العقلَ يدركُ نَفسهُ وما يليهِ من طاقةٍ ومادة ، أما ما يحيطُ به ويسمو عليه ، فإن معرفتهُ وإدراكهُ يقفانِ عندَ الُمطلَق ، لكن الروح ، ذلكَ المبدأ الإلهي ، ذلكَ النورُ الذي يُشرقُ على العقل ، تلك البِضعَةَ من روحِ الله ، النفسُ الحقيقيةُ العليا ، فإنها تعلمُ أنها تعرفُ الُمطلَق وما عندَ الُمطلَق ، وعندما تنحسرُ عن الإنسانٍ الحجُبَ جميعها ، بما فيها العقل الروحيُ نفسُه ، وحين لا يبقى من الإنسانِ إلا روحه ، عندها يُدركُ الإنسانُ بقوّتها كلّ شيء ، وعندها لا يكونُ الإنسانُ إنساناً ، إنه لم يعد بعدُ إنساناً ، إذ يُصبحُ روحاً عادَت إلى بارئها .

مادةُ الُمخِ ما هي إلا الأجهزةَ الماديةَ التي يستعملها جوهرُ العقل ليظهرَ عن طريقها . أما جوهر العقل فهو نوعٌ رفيعٌ من الطاقة ، وهو كالطاقة نفسها ، يظلُ سلبياً ساكناً بلا حركة ، إنه لا يتحرّك إلا إذا تكونت الأفكار فيه ، فيتّحد عندئذ بالحركة

عقل كل فردٍ يبدو كأنه قدرٌ معينٌ من جوهر العقل ، منفصلٌ عن سائر جوهر العقل ، إلا أنّ الحقيقة أن كل العقول متصلةً ببعضها البعض ، وأنها جميعاً متصلةً بجوهر العقل ، بالعقل العام التي هي جزءٌ منه ، إن جوهر العقل لا ينفصلُ عن بعضه ، بوجودهِ مجزءاً في الأفراد ، أكثر مما ينفصل الأثيرُ عن بعضهِ في الأجسام المنفصلةِ المتباعدة ، أو كالطاقة إذا ظهرت مقسمةً في حركاتِ الأفعالِ المتباينة ، كذلك لا يوجد شيءٌ ميت في الكون ، لأن الكونَ حيٌ جميعه ، لأن كل ذرةٍ في الكون فيها مادةٌ وطاقةٌ وعقل ( جوهر العقل ) فالكون حيٌ متحرك ، عاقلٌ من الذّرةِ إلى الشمس ، وإنِ اختلفَ الفكرُ بين الإحساسِ الغامضِ حتى التجاذبَ والتنافرَ الكيميائي في أبسط أشكاله ، والمجهودُ الفكريُ في الإنسان وفي الكائناتِ الأرفعِ من الإنسان .

علم النفس والكيمياء / لفرويد وإدلر ويونغ : قرّرَ أن العقل اللاواعي / العقلَ الباطن في الإنسان ، مَتّصلٌ ببعضهِ كالمياهِ الجوفية ، تَتَصلُ بِبعضها ، وإن بَدى كلُ بئرٍ ارتوازيٍ مستقلاً عن الآخر .

أتمان أو الروح :

العقلُ الكليُ ليسَ هوَ المطلق ، إنه منبثقٌ عنه ، وهو يعرف قَطعاً ويقيناً أن المطلقَ موجود ، لأنه يعلمُ حدودَ نَفسِه ، ويعلم أن المطلق وراءَ تلك الحدود ، وأنه بهِ محيط ، وأن هناكَ ما لا يدركهُ العقل ، لا على أنهُ لم يَصِل إليه بَعد ، وأنّهُ مع الوقت سيصلُ إليهِ فيُدركه ، ولكن على أنه فوقَ عِلمه وخارجَ قدرتهِ على العِلم ، رغمَ إحساسهِ بوجوده

إن ما نُسميه العقلَ الكلي ، ليس الوسيلةَ التي يعلمُ المطلقُ بها الأشياء ، ليس العقلُ هو الذي يَعلمُ المطلقُ به ، إنما هو الوسيلةَ التي يُدرِك بها الكون ، والكون ليسَ مطلقاً ، إنما هو مخلوقٌ محدود ، لأنه يشملُ ما انبثقَ عن المطلق ، ولكنه ليسَ هو المطلق ، بل هو فيضٌ من المطلق …

النفسُ البشريةُ تستطيعُ أن تستمِدَ من العقلِ الكليِ ما فيه من علمٍ بكلِ شيء ، وهذا ما يتمتعُ بهِ الأقطابَ على حسبِ ما بَلَغوا من درجةٍ ومكانةٍ في السُمو ، وهؤلاءٍ الأقطابَ يُبلغونَ الناسَ ما تَكَشّفَ لهُم من وجودِ المطلق ، مؤيدينَ بذلكَ ما استطاعَ العقلَ إدراكهُ بواسطةِ القوةِ العاقلة ،
إنّ في كلٍ منا مِنَ المطلق ( الروح ـ أتمان ) قَطرَة ، إنها قطرةٌ من محيطِ المطلقِ غيرَ المحدود
الروحُ هي الجزيء الصغيرِ من المطلقِ الذي يبدو منفصلاً عن المطلق ، وما هو بمنفصلٍ عنه ، هو المبدأ الأسمى في كلّ نَفس ، حتى أحظَّ النفوسِ فيها ذلكَ القَبَس ، إنه فينا أبداً لا يزيدُ ولا ينقص ، ولكننا نحن نزدادُ إبصاراً لنوره ، كلّما تَقدمنا وارتقينا على السُلّم درجةً بعدَ درجة ، إنّ الروحَ موجودةٌ دائماً لا تتغيرَ ولا تتبدل ، ولكن وعيَ الإنسانِ ينمو مُقترباً من الروح ، ولا بد أن يندمجَ يوماً فيها ، وهذا هو هدفُ النفسِ وغايةَ التدرُّجِ والتَّقدُم ، والغرضُ من كلِّ جهدٍ وكِفاح …إنّ الحياةَ وسيلةَ النفسِ وفرصةَ كِفاحِها للتخلّصِ من حُجُبها وقيودها ، لتَصلَ إلى ميراثِها وتَتَمتّع به .

لماذا فَصَلَ المطلقُ جزءاً منهُ وقسّمهُ أجزاء ، أو ما يَبدو أنهُ كذلك ؟ ولماذا يبدو كأنه فَصَلَ هذه الأجزاء ، ما الفائدةَ وما معنى هذا كله ؟ وما الحكمةَ منه ؟

في العقل البشري عِلمُ العقلِ العامِ في الحالةِ الكامنة ، عقلُ كلُ فردٍ فيه معرفةَ الكونِ كلها ، وتحليلُ ماءِ المحيط لا يتطلبَ سِوى تحليلُ قطرةٍ منه ، والراسخُ في العلمِ يَعلَم كلُ علمِ الكَون ، باستقرائهِ ما في عقلِ نَفسه وعقلهِ ، يستطيع أن يحصلَ على ما في جوهرِ العقلِ من معرفة ، وأن يستقبلَ كلّ ذبذبات العقلِ الكلي ، فكل قطرةٍ فيها ما في الكلّ من خَواص ، … العقل الكلي فيه كل المعرقة ، وما يصل إلى عِلمِنا منهُ ليسَ جديداً ، بل هو موجودٌ فيه ميسورٌ لمن يستطيعُ أن يستمِده بعقلهِ الفرديِ كلما اتَّسَع أفُقَهُ وزادَ عُمقه ، حتى يصل إلى محيطهِ ليطّلِع على دورةِ القَدَر ، بل ويُشاركُ في جهودهِ إن أراد

يمكن استخدام العقلِ في تشكيلِ المادةِ بواسطةِ الطاقة ، وبذلكَ يأتي أموراً ويصنعُ أشياءً تبَدو للعقلِ العاديِ مُعجزات ، ولكنها تدخلُ في نطاقِ الأسبابِ والمسببات ، نطاقَ الممكنِ المعقولِ لا إعجازَ فيها ولا مُستحيل

تَستطيعُ النفسُ التي تقدّمت أن ترتفعَ بِعلمِها إلى حيثُ تكونُ فوقَ متناولِ قانونِ العِلَلِ والأسبابِ والنتائج ، الذي يسيطرُ على مجرياتِ الأمورِ في مستوياتِ الوجودِ الدُنيا .

احذَروا المعَلّم الذي يَدّعي أنهُ يستطيعُ بعقلهِ أن يُفَسّرَ لعقولِكُم سِرّ الوجود الذي اختصّ الله به نَفسَه ، فإن ساوَرَكُم الشّكُ وسَبّبَ لكم أسىً من سؤالٍ ما عنِ الوجودِ والخلقِ والكون ، فاهدءوا والجئوا بالعقلِ إلى الروحِ وسلطانِه ، تجدوا الهدوءَ والسّلام ، السّلام الذي يفوقُ الإفهام …
النفسُ مركزُ الوعي ، وفيها القَبَسُ الإلهيُ تَحوطُ به حُجُب ، وهذه الحجُبُ على درجاتٍ وأشكالٍ من جوهرِ العقلِ والطاقةِ والمادة

وحتى بعدَ الموت ، فإنّ النفسَ لا تتخلصَ من المادة ، لأن لها مراكبَ أو أجساماً من المادةِ الشفافةِ في درجاتِ مختلفةِ من الصّفاء ، فجوهرُ العقلِ الفرديِ نفسهُ بِصورهِ المتعددة ، تحوطهُ طبقةٌ من المادةِ تحجبهُ عن العقلِ الكليِ إلى حدٍ ما

توضعُ النفسُ في جسدٍ من المادةِ في أكثفِ صُورِها ، ثم تعملُ جاهدةً تحوَ الرُقيِ والتقدمِ والرِفعة ، متخذةً صوراً يتسامى بعضها فوقَ بعض ، حتى تبلغُ درجةَ الملائكة ، وبعدها تندمجُ في المطلق وتدركُ وحدتها معه ، وهذه الحقيقة عُرِفَت بشهادةِ الذينَ بَلغوا المرحلةِ التي تؤهِّلُ لهذهِ الوِحدة ( النيرفانا ) .

عملية تكوين مركز الوَعي ، أو مولدِ النّفس ، أو دخولِ الروحِ حُجُبَ العقلِ والطاقةِ والمادة ، تُشبهُ في طبيعتها ما يسبقُ تكوينَ الجنين ومولِده ، فالإرادةَ الإلهيةَ تشبهُ الخليةَ المتكونةَ من بويضتي الذكرِ والأنثى ، والروحُ تشبهُ الطفلَ الذي يتكونَ مِنها ، ولا بدّ أن تكونَ في الطفلِ طبيعةَ الوالدينِ وصفاتهما ، أي أن الروحَ من الله وأنها نَفسُ النفس ، وأن الحجُبَ التي تمثلُ العقلَ والطاقةَ والمادة ، هي جسدُ الطفل ، وكلٌ من نفسِ الطفلِ وجسده ، لا بُدّ أن يَكونا من نفسِ العناصرِ التي تكوّنَ منها الوالِدان ، فليس ثمةَ شيءٌ آخر يمكن أن يتكونَ منهُ الطفل ، وكما يقولُ كاتبٌ غربي : نحن بحق من جوهرِ المطلقِ نفسه ، وطبقاً لقانونِ الأبوةِ نأتي نحنُ أطفالهُ جسداً وروحاً على السواء ، إننا مولودونَ ولسنا مَصنوعين ، إذ أننا أولادٌ الحقيقةِ .

فالطفلُ الذي يولدُ ويكونُ في صورةِ مادةٍ بسيطةٍ أولَ الأمر ، ثم ينمو فيَعي ثم يَعقِل ثم يُدرِك ثم يبلغُ مبلغَ الرِّجال ، حتى يصبحَ كأبيه شكلاً وعقلاً ، كذلك هذا الطفلُ الإلهي يُبعثُ في أبسطِ شكلٍ من أشكالِ الروح ، التي يمكن أن تُسمّى جسدُ الله ، وكلّما نمَت ، ارتفعت وارتقت وبلغت ذرى الارتفاعِ التي يصابُ فيها العقلُ بالدّوار ، حتى إذا بلغت آخرَ الطريق ، وجَدت نفسها أمام بيتِ أبيها ، لتدخُل وتُلقى نفسها في أحضانِ أبيها الذي يكونُ في انتظارها ، ثم تُقفَلُ الأبواب ، فلا نَعلَم مما يجري في الداخِلِ شيئاً ، هذه هي عودةُ النفس بعد رحلةٍ شاقةٍ طويلة ، لتَدخُلَ بيتها بسَلام .
كما تنعكسُ الشمسُ على البحر ، وعلى كلِّ نقطةٍ فيهِ إذا انفصلت عن غيرِها ، كذلكَ ينعكسُ نورُ المطلقِ على صفحاتِ العقلِ الكلي ، وعلى كلِّ ذرةٍ من ذراتِ ذلكَ العقل ، فإذا انعكست الشمسُ على بحرِ العقل ، فهيَ نورُ المطلق ، وإذا انعكست على قطرةٍ من العقلِ الكليِ التي يقالُ لها النّفس ، سمُيَتِ الروح ،

ليسَ ذلكَ الذي يبدو في الانعكاسِ هوَ الشمسُ نَفسُها ، ولكنه في نفسِ الوقت ، ليسَ وهماً ولا خيالاً ولا شيئاً مُزيفاً ، فإن الشمسَ قد أرسلت جُزءاً من نَفسِها ، من قُدرتها ومن حرارتها ونورها ومادتها ، ولهذا فالبحرُ والقطرةُ تأخذانِ من نفسِ الشمس ، إن روحَ القطرةِ حَق ، وهذه مُعجزةَ السّر ، فعلى حين تكونُ الشمسُ حاضرةً في القَطرة ، إلا أنّ الشمسَ نفسها بعيدة ، وليس الحاضرُ منها إلا مظهرٌ فقط ، إن من يَرى الانعكاسَ في القطرةِ يرى الشمس ، شكلها ونورها ، ومع ذلك فالشمسُ في السماء ، وهكذا نرى الشمسَ في القطرةِ وهي في السماء ، ونرى الشمس في السماءِ وهيَ في القطرة ، هذا هو اللغزُ الإلهيُّ الذي في طيّاتِهِ الواحدَ المُتعدِّد ، والُمتَعدِّدَ الواحِد الحق ، والكلُ الذي يَبدو مُنفصلاً ولا انفصال …

تنعكسُ الشمسُ على ملايينِ القطرات ، فإذا بالملايين منَ الشُموس ، ولكن ، مع أننا نرى في كلِّ قطرةٍ شمَساً ، إلا أن الشَمسَ واحدةً وهي في السّماء ، إنّ من يستطيعُ أن يدركَ هذا اللُغز ، يدركُ سِرَ الصّلةِ بينَ الروحِ والمطلَق ، بينَ المتعددِ والواحِد ،
ألا ليتَ كلّ قطرةٍ تُدركُ أنّ في داخِلها شمسُ الحياة ، وتَعرفُ كيفَ تدركُ وجودَها فيها الإدراكَ الصَّحيح ، …•