تعرّف على تحفة جينيفر لورانس المنسية

**نسائم الرحمن** · 04:33 PM

تعرّف على تحفة جينيفر لورانس المنسية.. Winter’s Bone

مهند الجندي،

هل حانت ساعة موتنا. – تيردراب

تعمل ري، بطلة فيلم (عظمة الشتاء) للمخرجة ديبرا غرانيك، جاهدة على إعمار معيشة أسرتها من دمار مادي ونفسي في بيئة اجتماعية تقوم على ذات هذا الحطام الضمني والبصري المهيب، كمحاولة مثابرة منها للنجاة من موت متربص ناخرٍ للعظام؛ علماً أن حياتها تشبه السير معصوبة العينين بين الموتى والقبور.

لا يراودني أي شك أن هذا العمل هو شيء غريب ونادر بنفس الوقت، ليس فقط لتواجد فيلم من شاكلته ومضمونه في الولايات المتحدة حالياً، بل كذلك للطريقة الأدبية بالغة النضج وبليغة الإيحاء التي تنتهجها المخرجة ديبرا في نقل فحوى رواية دانيل وودريل التي تحمل نفس العنوان؛ فنرى انقشاع الضباب عبر الفناء والخراب، ونتلمس دفئ الخلاص والأحاسيس بتجاوز بطش الذعر وغدر الكوابيس.

يمكن لنا أن نطالع هذا الكابوس الهائم فوق الأحداث الواقعة في منطقة ريفية بين جبال أوزاك الأمريكية عبر وجوه شخصيات الفيلم الذي يعرض قصة ري (جينيفر لورانس) ذات السنوات السبعة عشر، التي تعتني بوالدتها العاجزة وشقيقها وشقيقتها الصغيرين بعد أن هجرهم والدهم تاجر بالمخدرات.

تتحمل ري الكثير من المسؤوليات، كالطبخ والصيد وتقطيع الحطب وخلافه من أمور للمحافظة على أوصال عائلتها وما تبقى لها من أنفاس. وعليه فإن وصول خبر قيام والدها برهن منزلهم ليدفع كفالة خروجه من السجن دون علمهم تعد فاجعة غير متوقعة ولا تحتمل..

والحلول المتوفرة أمام ري كي تنقذ المأوى الوحيد المتبقي لها ولأسرتها هي إما أن تعثر على والدها قبل موعد إصدار الحكم ومثوله في حضرة القاضي لسماعه، أو أن يكون قد فارق الحياة، فيُطلب القضاء من ابنته توفير إثباتاً ملموساً بحدوث ذلك.

وحشة المكان

تهتم المخرجة غرانيك بإبراز المكونات العامة لبيئة الحكاية، وتفرض نسق بسيط محسوب ينقل المشاهد فوراً إلى العالم الداكن الآسر لهؤلاء الأفراد، فتفتح المجريات على صورة جبلية واسعة، ويبدو وكأن الشجر قد تيتمت وتآكلت أغصانه من قسوة الشتاء، والمقطورات السكنية والسيارات قد بعثرت بالقرب من بعضها يميناً ويساراً..

وذلك مع سماعنا لصوت يغني أغنية ريفية تساير قفزات شقيقي ري على الرفاس ولهوهما مع الحيوانات الأليفة وغيرها بينما تواظب شقيقتهما الكبيرة بنشر الغسيل، قبل أن تنتهي الافتتاحية بظهور عنوان الفيلم متوسطاً لأسفل جذوع شجرتين عاريتين من الأوراق وأصوت الغراب تُعلن بداية بريئة في بقعة قاسية لهذه القصة المريبة.

من الواضح أن هوية ري كامرأة يافعة تتحدى الصعاب وتواجه الأهوال هي إحدى أسباب اهتمام المخرجة بصنع هذا الفيلم، بيد أن هذه الشخصية بنفس الوقت لم تُقدم على الشاكلة النمطية المستجدة لعطفنا بسبب رعونة معينة فيها أو ضعف نسائي تقليدي، إنما تسير شامخة الغاية والأساليب..

في نصب عينيها حياة عائلتها المستقبلية والسير في شتى طرق كي تصل بهم إلى بر السلام. نُلاحظ كذلك أن نساء العمل أنفسهن ينقسمن إلى جهتين: أولى منقادة ومطيعة لأزواجهن وثانية فعالة بكلمة مغيرة ثائرة، نجاة المرأة فعلياً لا يحدث إلا بمعونة امرأة أخرى.

الحسن بهذه المعادلة أننا لا نتابع أفعالهن كوسيلة يعبرن بها عن رغبة بالتحرر أو الانطلاق بقوتهن الأنثوية كما حاولت العديد من الأعمال المباشرة أن تفعل، بقدر ما هو لجوء حتمي لا بديل عنه لنصرة المستضعف من البشر ومقدرة الإنسان بالخروج عن جلده حالما يضع مصلحة أحبائه بعين الاعتبار.

كابوس عذب وجميل

كانت ري قد خططت للالتحاق بصفوف الجيش الأمريكي بهدف الحصول على مبلغ 40 ألف دولار أمريكي يمكّنها من إعالة عائلتها، لكن حلول هذا المأزق فوق رأسها يحول دون ذلك، وهي نفسها تعترف بصعوبة انتسابها الآن.

والمشهد الذي يجمع بها مع الضابط المسؤول عن الانضمام للجيش الذي يطلعها عن حقيقة وضع الجيش وخياراتها الأفضل لها يبدو وكأنه قد وظف ليشرح صدر ري ويخلصها من عناء زائد لم تفكر به ملياً؛ صحيح أنها ستخسر المال الثمين، لكنها ستعفى من الابتعاد عن أهلها على عكس والدها المتسبب الأول والرئيسي لهذه المصائب، فلا تحذو حذوه ولو دون قصد منها.

العنصر الأبرز في الفيلم هي الصنعة السردية فائقة التأثير التي تستعملها المخرجة لتصل بالمشاهد نجو شعور من التفهم لأحداث العمل وكنوع من الصلة العميقة ببطلته. ويسهم بذلك إلى حد أساسي مهم كل من التصوير السينمائي والممثلين جينيفر لورانس وجون هوكس (يؤدي دور تيردراب، عم ري).

فالشعور الواضح الذي تريد ديبرا غرانيك توليفه من المظهر المرئي والمعنى الخفي لدقائق (عظمة الشتاء) يعكس “حياة” تفتقر للكثير من سمات هذه الكلمة الطبيعية؛ يتضح ذلك بعدم توظيفها لأطراف من الخير والشر، بل أن تكون عقدة المجريات نابعة من المحيط الكاتم ومن غموض وجود الشر أساساً، أما مفتاحه فهو في يد من يملك الجرأة ليرى ما ورائه من عتمة يسفر عنها أمل جديد، والفيلم برمته يمر ككابوس عذب وجميل، كاحل بمضمونه ومشرق بتنفيذه ورسالته ونتيجته.