قصة أول طيارة مغربية ومسلمة
قصة أول طيارة مغربية ومسلمة.. قادها المرض إلى جنون الطيران وساقها حسد المستعمر إلى المقبرة
قصة حياة الشهيدة ثريا الشاوي..
تعد ثريا أول طيارة مغربية في زمن كان فيه تعداد الطيارات الأوربيات، الأمريكيات واليابانيات قليلا جدا.. وللتعرف على هذا الاسم النسائي البارز في مغرب فجر الاستقلال والذي خلد ذكرى النساء المغربيات في سجل التاريخ، حاولت "نجمة" سبر أغوار حياة امرأة طرحت حولها العديد من الأسئلة منذ أكثر من 50 سنة، والتي استشهدت وهي في ريعان شبابها يوم 1 مارس 1956، حسب ما جاء في كتاب الأستاذ عبد الحق المريني مدير التشريفات والأوسمة، والذي أصدرته مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، هذه الوثيقة التي كان يعتقد أنها ضاعت إلى الأبد، والتي صدرت الطبعة الأولى منها سنة 1956..
ابتدأت فصول حياة ثريا الشاوي في وقت كان المغرب يشهد فيه توترات سياسية وغليانا شعبيا واستشهدت قبل يوم واحد من حصول بلادنا على الاستقلال رسميا يوم 2 مارس 1956، لتحرم من الاستمتاع بالاحتفال بالذكرى الأولى للاستقلال
كانت ثريا الشاوي شابة وحيدة ضمن ريبرتوار يضم رموزا صنعوا صورة المغرب الجديد الناهض، وبقيت أسماؤهم مخلدة في الذاكرة الحية للمغاربة.. قصص تحولت على أغنيات وحكايات خالدة، حيث اقتحمت ثريا ميدان كان حكرا على الرجال في ذلك الزمن. فأصبحت بذلك واحدة من أشهر النساء المغربيات اللواتي رفعن لواء النجاح والتفوق.
المرض الذي حول حياتها
ازدادت ثريا الشاوي صباح يوم الخميس 14 دجنبر 1937 بحومة القلقليين بمدينة فاس ، أحيطت بعناية خاصة من قبل والديها الذين لم يحرمانها من حنانهما ، كانت مولوعة بكل الألعاب الميكانيكية الصغيرة، كالطائرات وغيرها، كما تميزت باجتهادها في دراستها ونجابتها المتقدة، وقد كانت السيارة والطائرة اعز ما لديها في الحياة، حيث كانت توليهما كل الاهتمام، وفي السنة الثانية من حياتها، أراد والدها عبد الواحد الشاوي، من المؤلفين المسرحيين الأوائل ، ألا يضيع ذكاءها ونبوغها، فصنع لها الحروف الهجائية العربية من العاج، فحفظتها عن ظهر قلب، وكلما أخفي عنها حرفا من الحروف لتخبرها، إلا وقامت مذعورة وصرخت متسائلة " أين الجيم ديالي أين الشن ديالي" استظهرت الحروف الهجائية، وهي لا تتجاوز السنتين والنصف من عمرها، وفي السنة الثالثة أصيبت بمرض العراقة ، فضاق أبوها ذعرا بهذا الداء، فأشار عليه الطبيب بأن أحسن دواء لها، هو ركوب الطائرة مدة من الأيام في الصباح الباكر، وبالرغم من أن المغرب كان خلال تلك السنوات كان المغرب يعرف حالة من الحرب الضروس، غلا أن والدها قام بالاتصال بأحد الضباط الطيارين بمدينة مكناس، واستعطفه فاستجاب لرغبته، وما إن انتهت المدة التي حددها الطبيب لركوبها الطائرة حتى تماثلت للشفاء من داء العراقة، لكن هذه الطفلة الصغيرة أحبت بل استهوها ركوب الطائرة، فأصبحت لعبتها المفضلة، فأخذت تتأمل أجنحتها وتحقق مليا في أجزائها، لتكون مجموعتها الخاصة من خمس طائرات شغلت تفكيرها وسيطرت على حلمها الذي حققته وهي لم تبلغ بعد سن 18 عشرة
حين أبهرت الكل في أول اختبار للطيران
بعد مضي أربعة أشهر من التدريب عزمت ثريا الشاوي على أن تتقدم لاجتياز امتحان لإحراز شهادة الكفاءة في الطيران، إلا أن وجود مجموعة من العراقيل في طريقها حرمها من الحصول على هذه الشهادة، لكن وبفضل إلحاحها المستمر ، والتزام والدها بالمصاريف الضرورية وتحمل مسؤولية ابنته في هذا المجال ، أذن لها بالدخول إلى غمار التجربة، وبالفعل تقدمت للامتحان، فقامت ثريا بالتحليق رغم الصعوبات الجوية، وكان النجاح حليفها. وحسب كتاب الأستاذ عبد الحق المريني ،فقد بهرت ثربيا لجنة الامتحان، خصوصا لما حلقت على علو 3000 متر، وقطعت مسافة على شكل دائرة محيطها 40 كيلومترا ، ولما وصلت إلى وسط المطار، أسكنت المحرك ونزلت بدونه إلى المكان الذي كانت لجنة التحكيم تتواجد فيه، حيث توجه نحوها مدير المطار المدني، الذي لم يتمالك فرحته بها وبما قامت به من استعراض رائع، فحملها على ذراعيه إعجابا وتقديرا، حتى وصل بها إلى القاعة التي ستؤدي فيها ثريا الامتحان الشفوي، وهنا قبلها أبوها قبلة أودع فيها كل معاني الفرحة التي غمرته من جراء فوز ابنته، وقالت له تبعا لما سجلته في دفتر ذكرياتها :"لقد عشت يا أبي أسعد لحظة في حياتي، حين كنت ممسكة بزمام الطائرة، فما كنت مضطربة، أو خائفة من الرسوب، بل كنت متيقنة من فوزي التام. فلم أر إلا ضبابا في ضباب، ولكني كنت حذرة أشد الحذر على الاحتفاظ بتوازن الطائرة، وعدم الخروج من إطار ما حدوده لي، فكنت أحسب نفسي كطائر أشارك الطيور في فضائها واستمتع بالحرية الكاملة.. وحيدة يؤنسني صوت محرك طائرتي وتقودني معرفتي ومعلوماتي ." بعد ذلك ، اجتازت ثوريا الامتحان الشفاهي، ونجحت بامتياز، حينها، وحسب ما ذكره عبد الحق المريني، قام رئيس لجنة الامتحان وقال لأصدقائه "هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أجريت فيها أصعب امتحان من نوعه".
شهرة مذهلة لأصغر طيارة في العالم
بعد نجاح ثريا الشاوي في الطيران، بلغ صيتها العالمية، حيث نقلت أخبار نجاحها الجرائد والمجلات العالمية، كما أعلنت محطات إذاعية عالمية نبأ فوزها كأصغر طيارة في العالم بشهادة الكفاءة في الطيران، وأجرت عدة استجوابات ولقاءات صحفية مع مندوبي الصحف والإذاعات العالمية، وأخذت لها صور مختلفة بالإضافة إلى تلقيها للعديد من الرسائل وبرقيات التهنئة والإعجاب.
ثريا الشاوي... الرمز والمفخرة
كان نجاح ثريا الشاوي في أصعب امتحان بمثابة نجاح لكل امرأة مغربية، وأبانت على مقدرتها وتفوقها، في ذلك اليوم أعطت ثريا الشاوي أروع الأمثلة في الشهامة وقدمت للفتاة المغربية درسا في البطولة والإقدام، كما نفخت ثريا في الفتاة المغربية روحا جديدة، ونزعتها من ركودها، في هذا اليوم شعر مغرب التحرر أمام العالم بفخر لأنه قد أنجب فتاة بهرت العقول بشجاعتها، في زمن كانت الحياة فيه جد متوترة..
من اسبانيا إلى المغرب.. رحلة التألق الأولى
بعد نجاحها الذي ميزها كامرأة مغربية في ذاك الزمن الصعب، قصدت ثريا الشاوي الديار الاسبانية حيث زارت الجزيرة الخضراء، مالقة، غرناطة واشبيلية، وفي يوم كانت تنتظر فيه الطائرة التي ستقلها إلى تطوان، لاحظ قائد مطار غرناطة، شارة الطيران المغربي على صدرها، فاقترب منها وسألها عن الشعار، وكانت دهشته عندما علم أنها طيارة مغربية وهي لم تبلغ الثامنة عشرة، وتفاجأ أكثر عندما عرف أنها مغربية مسلمة، عرف بها طاقم الطائرة ، وبعد أن تحدث إليها حول تداريبها ودراستها في الطيران، طلب من ربان الطائرة أن يسلمها زمامها أثناء رحلة انتقلت من غرناطة متوجهة إلى تطوان والتي مرت على أحسن ما يكون، حينها أخبر الربان ركاب الطائرة البالغ عددهم واحدا وأربعين ومن بينهم والد ثريا ووالدتها، ان تلك الفتاة الصغيرة الواقفة أمامهم هي من قادت بهم الطائرة من غرناطة إلى تطوان في زمن لا يقل عن خمسين دقيقة، حينها قدم لها ربان الطائرة شهادة استحقاق عن الرحلة التي قامت بها، كما حظيت ثريا بعناية القصر آنذاك لما حققته من نجاح للمرأة المغربية
ثمن الشغف بجنون الطيران
[IMG][/IMG]
في يوم18 نونبر 1951 صباح عيد العرش، حلقت ثريا فوق القصر الملكي، لكنها في ذلك اليوم لم تكن مرتدية لباسها الصوفي حينما حلقت على علو 800 مترا،ولم تعر بالا لنافذة الطائرة المفتوحة، ولا للتيار الهوائي الشديد، ولما نزلت إلى اليابسة، كانت ترتعش من شدة البرد، حتى صارت كأنها قطعة من الثلج مما استدعى نقلها إلى الدار البيضاء من اجل تلقي الفحوصات الطبية اللازمة، حيث تأكد الدكتور" شينبو" من إشرافها على الهلاك، ليتم تحويلها إلى العلاج بمستشفى "كولومباي" لمدة شهرين، ومن هناك نقلها والدها بالطائرة على القطر السويسري وأدخلها مصحة"السنتوريوم" الشهيرة المتواجدة على جبل يعلو بـ3800 مترا حتى شفيت من الداء المعدي الذي أصابها في رئتيها.
عارضة طيران وأمل يوأد
في شهر يناير 1956 طلبت منها إحدى الشركات الأمريكية تقديم إحدى الطائرات ذات محركين وخمسة مقاعد في حفلة عرض، فعرضتها بمطار البيضاء على أغنياء المغرب، وبعد العرض طلبت ثريا من مبعوث الشركة أن يسمح لها بالسفر على متن إحدى هذه الطائرات على الديار المقدسة لأداء فريضة الحج، فقبلت الشركة الاقتراح لأجل الدعاية، وكانت ثريا تريد أن تصحب معها والديها وشقيقها وأحد مبعوثي الوكالة الإخبارية، لكن هذا الأمل أحبط بحادث اغتيالها، فقد كانت نيتها أنه تكون أول مسلمة تحط بطائرتها على الأراضي المقدسة، وأول من تربط خطا جويا بين المغرب والمشرق، وباغتيالها وضع حد لحياة حالمة لفتاة كان طيرانها في سماء أوربا بمثابة صفعة للاستعمار الغربي الذي لم يتصور أن امرأة مغربية في مثل سنها ستحقق ما عجزت الكثير من الأوربيات عن فعله، حطمت فتاة كانت ستكون صدى المغرب وصوته المدوي في الخارج.
موت مؤجل لأكثر من مرة وأول جنازة سياسية في مغرب الاستقلال
تعرضت ثريا الشاوي إلى محاولات متكررة للاغتيال لكنها باءت بالفشل، وحسب الأستاذ عبد الحق المريني، فقد قدرت بأربع محاولات، أولها في أوائل نونبر 1954، حيث وضعت مجموعة إرهابية فرنسية قنبلة بباب الفيلا التي كانت تسكنها، بشارع أليسكاندر مالي، ما الحق بها خسائر جسيمة، لكن دون أن يصاب أحد، والثانية في أواخر دجنبر، بعدما أدخلت سيارتها إلى المرآب برفقة والدها، واتجها إلى منزلهما الكائن بين طريق "بيرجوراك" وطريق "تميرال"، فأطلقت عليها ثماني طلقات من رشاشة أوتوماتيكية ، ولحسن حظهما لم يصابا بأي أذى ، وفي غشت 1955، حاول شرطيان فرنسيان إطلاق النار عليها وهي بداخل سيارتها صحبة والدتها، لكن احتشاد الناس حولهما حال دون إصابتهما، وفي شتنبر 1955 أوقفها شرطيان وهي على متن سيارتها ، وأمراها بأن تحملهما إلى المكان الذي يريدانه، وعندما امتنعت واحتشد الناس حولهم، اتهماها بمخالفة قانون السير ، ليتم إخلاء سبيلها مباشرة، وفي 1 مارس 1956 تم اغتيالها الفعلي من طرف المستعمر على يد مجموعة أشخاص فروا فور تنفيذهم لعملية اغتيال الشهيدة ثريا، فعاش المغرب أول جنازة سياسية كبرى، في أول سنة من استقلاله، حيث شيع فيها ابنته ثريا الشاوي التي حرمت من الاستمتاع بلحظة تمنت أن تعيشها وهي الإعلان الرسمي عن استقلال المغرب، وهكذا استشهدت ثريا الشاوي ودفنت يوم 2 مارس 1956 حيث حضر مركبها الجنائزي 60 ألف نسمة من الذين أحبوها وقدروا اجتهاداتها وانجازاتها التي ساهمت في الرقي بمكانة المرأة المغربية حتى وصل صيتها للعالمية.
|
|
المفضلات