اللوحة





"أنا كل الكلام الذي أجبن عن قوله".

- بثينة العيسى



ليس هناك صعوبة في تمني الأشياء البعيدة ، أتحدث عن الأشياء التي لا تصلح أصلاً أن تكون أحلاماً لأنها مبالغة في البعد. تلك التي ليس بوسعنا تخيّلها قريبة للدرجة التي تتيح لنا أن نحلم بالوصول إليها يوماً.

من السهل جداً التغني بأمنيتك بالصعود على سطح القمر، ولكن لا أعتقد أن بإمكانك التحدث بنفس الطريقة عن تعلّقك بالفيزا التي لربما تجعل حياتك أسهل بعض الشيء.

أما الأحلام التي تعني لنا الكثير، لا نتحدث عنها بكثرة. تلك الأماني التي تزورنا عندما نضع رؤوسنا على الوسادة، التي نراها واضحة بين المنام واليقظة، عندما تنحسر سلطة الوعي. نعمل بصمت على تحقيقها، أو ننتظرها بصمت وشوق أن تأتي إلينا، ورغم أننا نتحدث عنها باختصار، إلا أننا لا ننفكّ عن رؤيتها في كل شيء وفي كل وقت.

الأحلام القريبة البعيدة، كلوحة عندما تكمل نصفها، ليست بيضاء لتتمنى امتلاءها بأي من الخيارات التي تستطيع أن تتخيل، ولكنها لا تُعَدّ لوحة بعد. نصف اللوحة ليست صفراً، هي تجربة، هي محاولة، هي رفض جريء للعجز.. ولكنها نصف لوحة، والعالم لا يأبه بالأنصاف.

لكن أحياناً، أو لنقل دائماً، أنت لا تملك من الألوان والإلهام ما يُكمل اللوحة. قد أعطاك الله الريشة وأنعم عليك بألوان تختار منها ما يعجبك، ولكن اللوحة لم تكن بيضاء قط، لوحتك أنت مليئة بالتفاصيل التي لم ترسمها بألوانك، تفاصيل رُسمت ربما قبل ولادتك، قبل أن تدرك أن بيدك ريشة. في الحقيقة، اللوحة كبيرة جداً، وأنت مسؤول عن جزء صغير جداً، فلا يغرنّك أن الريشة بيدك، فألوانك مهما تنوعت، وخياراتك مهما كثرت، فهي ليست إلا إضافات على اللوحة الكبرى.

أحياناً، ينتهي دورك في اللوحة قبل أن تراها بأكملها. تقترب كثيراً مما تريد أن ترى، تقترب من حلمك، ويبقى هناك شبر واحد بينك وبينه، ولكنّه الشبر الأطول، لأنك أبداً لن تستطيع عبوره وحدك. الألوان في ريشتك جفّت. وغرقت أنت في القلق على ما سيحدث، والسخط على عجزك عن عبور الشبر الأخير الذي يفصل بينك وبين ما تتمنى.

دعني أذكّرك أنك لم تقطع وحدك المسافة كلها ما بين الصفر والنقطة التي وصلتها، اللوحة تُرسَم منذ الأزل، حتى الريشة والألوان الذين أضفت بهم قليلاً في اللوحة ما هم إلا الحرية والمسؤولية اللتين منحك إياهما الله.
أعرف، الانتظار مزعج. وارتدادك كالكرة بين الاحتمالات ليس إلا استنزافاً لكل ما تبقى بيدك. وحالة اللافعل التي تُفرض عليك عندما تجفّ الألوان في ريشتك هي الاسوأ على الإطلاق، فقط إن كنت تعتقد أن اللوحة لا تكتمل إلا بيدك، فقط إن كنت تعتقد أنها لا يمكن أن تكون جميلة إلا كالصورة التي تخيلت في رأسك.

"... قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا"

ولم تكُ شيئاً.

رغد الطيان