لكل شيء إذا ما تم نقصان
قصيدة في رثاء الأندلس

لأبي البقاء الرندي
من شعراء العصر الأندلسي


لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ ** فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ

هي الأمُورُ كما شاهدتها دُولٌ ** مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ

وهذه الدار لا تُبقي على أحد ** ولا يدوم على حالٍ لها شان

يُمزق الدهر حتماً كل سابغةٍ ** إذا نبت مشْرفيّاتٌ وخُرصانُ

وينتضي كلّ سيف للفناء ولوْ ** كان ابنَ ذي يزَن والغمدَ غُمدان

أين الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ ** وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ ؟

وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ ** وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ ؟

وأين ما حازه قارون من ذهب ** وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ ؟

أتى على الكُل أمر لا مَرد له ** حتى قَضَوا فكأنّ القومَ ما كانوا

وصار ما كان من مُلك ومن مَلِك ** كما حكى عن خيال الطّيفِ وسْنانُ

دارَ الزّمانُ على (دارا) وقاتِلِه ** وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ

كأنما الصَّعب لم يسْهُل له سببٌ ** يومًا ولا مَلكَ الدُنيا سُليمانُ

فجائعُ الدهر أنواعٌ مُنوَّعة ** وللزمان مسرّاتٌ وأحزانُ

وللحوادث سُلوان يسهلها ** وما لما حلّ بالإسلام سُلوانُ

دهى الجزيرةَ أمرٌ لا عزاءَ له ** هوى له أُحدٌ وانهدّ ثهلانُ

أصابها العينُ في الإسلام فامتحنتْ ** حتى خَلت منه أقطارٌ وبُلدانُ

فاسأل (بلنسيةً) ما شأنُ (مُرسيةً) ** وأينَ (شاطبةٌ) أمْ أينَ (جَيَّانُ)

وأين (قُرطبةٌ) دارُ العلوم فكم ** من عالمٍ قد سما فيها له شانُ

وأين (حْمصُ) وما تحويه من نزهٍ ** ونهرها العَذبُ فياضٌ وملآنُ

قواعدٌ كنَّ أركانَ البلاد فما ** عسى البقاءُ إذا لم تبقَ أركانُ

تبكي الحنيفيةَ البيضاءُ من أسفٍ ** كما بكى لفراق الإلفِ هيمانُ

على ديار من الإسلام خالية ** قد أقفرت ولها بالكفر عُمرانُ

حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما ** فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصُلبانُ

حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ ** حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ

يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ ** إن كنت في سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ

وماشياً مرحاً يلهيه موطنهُ ** أبَعْد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ ؟

تلك المصيبةُ أنستْ ما تقدمها ** وما لها مع طول الدهرِ نسيانُ

يا راكبين عتاق الخيلِ ضامرةً ** كأنها في مجال السبقِ عقبانُ

وحاملين سيُوفَ الهندِ مرهفة ** كأنها في ظلام النقع نيرانُ

وراتعين وراء البحر في دعةٍ ** لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطانُ

أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ ** فقد سرى بحديثِ القومِ رُكبانُ ؟

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم ** قتلى وأسرى فما يهتز إنسان ؟

ماذا التقاطع في الإسلام بينكمُ ** وأنتمْ يا عبادَ الله إخوانُ ؟

ألا نفوسٌ أبيّاتٌ لها هممٌ ** أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ

يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عزِّهمُ ** أحال حالهمْ جورٌ وطُغيانُ

بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم ** واليومَ هم في بلاد الكفر عُبدانُ

فلو تراهم حيارى لا دليل لهمْ ** عليهمُ من ثيابِ الذلِ ألوانُ

ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعهمُ ** لَهالكَ الأمرُ واستهوتكَ أحزانُ

يا ربَّ أمّ وطفلٍ حِيلَ بينهما ** كما تفرق أرواحٌ وأبدانُ

وطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت ** كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ

يقودُها العلجُ للمكروه مكرهةً ** والعينُ باكيةٌ والقلبُ حيرانُ

لمثل هذا يذوب القلبُ من كمدٍ ** إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ