فيروس كورونا والحجر المنزلي





فاجأ فيروس كورونا العالم كلّه ابتداء من الصين وانتهاء بكلّ دول العالم بلا استثناء إلاّ بعض الدول في أفريقيا، هذا الفيروس الذي قاد حربًا غير متوقعة على الأفراد والدول مهددًا صحّة الأفراد واقتصاديات الدول، هرعت على أثره الدول بأخذ التدابير والاحتياطات لحماية الأفراد من خطر هذا الفيروس، فالدول الواعية جعلت اهتمامها الإنسان أولًا كدولتنا حفظها الله ورعاها، وكان خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله واضحًا جليًا في جعل صحّة المواطن وأمانه البيئيّ على قائمة أولويات قيادة هذا الوطن مقدمًا حتّى على الاقتصاد، ودول أقلّ وعيًا جعلت الاقتصاد أولًا للأسف الشديد والإنسان ثانيًا، شرّعت بعدها الدّول بناء من هذا المنطلق الاقتصاد أو الإنسان في وضع إجراءات للحدّ من انتشار هذا الفيروس، ومن هذه التشريعات الحجر المنزليّ، وحظر التجوال في ساعات محدّدة من اليوم للقضاء على خطر هذا الفيروس، في هذه التدوينة سأتحدّث عن خطوات لحماية الذّات من خطر هذا الفيروس جسديًا ثمّ نفسيًا لأنّ الخطر النفسيّ من فيروس كورونا لايقلّ عن خطره الجسديّ، وسأُحدّد تدوينتي في خطوات :

أولًا : كورونا مرض، والمرض حدثٌ خارجيّ يمسّ عنصرًا من عناصر السلوك الأربعة وهو العنصر الجسدي لأنّ السلوك يتكون من أربعة عناصر مجتمعة غير متفرّقة هي: العنصر العقلي، والانفعاليّ والحركيّ والجسديّ، إذن المرض حدث خارجي مسّ العنصر الجسديّ وهو حصل في العالم الخارجي، والذي جزء منه العالم المدرك بالنسبة لي ولك وللآخر ولجميع الناس فلكلّ شخص عالمه الذي يدركه ويرى العالم من خلاله وهو يختلف عن عالمي وعالمك وعالم بقية الناس وعنى ذلك أنّ لكلّ شخص واقعه الذي يدركه من خلال نظام المعلومات ونظام القيم لديه، هذا المرض الذي حصل في العالم الخارجي أنقص لدينا الحاجة للبقاء وهي الحاجة الجسديّة من ضمن الحاجات الخمس لوليم جلاسر مؤسس نظرية الاختيار في علم النفس، وسبب نقص هذه الحاجة هو أنّ هدف الحاجة للبقاء هي الحفاظ على الكيان "الذّات"، والمرض حدثٌ وقع في العالم الخارجيّ هدّد الحياة التي هي "صورة الذهنية" إذن التوقع هو"الحياة"، والواقع "فيروس كورونا" الذي يهدّد الحياة وحسب الفجوة بين التوقع والواقع يكون الاختلال ، فإن كانت الفجوة كبيرة كان الاختلال شديدًا ، وإن كانت الفجوة بسيطة كان الاختلال خفيفًا، وسأوضّح أثر هذه الفجوة على سلوك الفرد الكلّي في التعامل مع حدث فيروس كورونا، نُشير إلى أنّ أيّ شيء يحدث في العالم الخارجي هو حدث وهو مُحايد ليس موجّه لي ولا لك، فالنجاح حدث، والرسوب حدث، والزواج حدث، والطلاق حدث، والولادة حدث، والوفاة كذلك حدث، وفيروس كورونا حدث هو ليس ابتلاء أو اختبار هو قدر الله يجري على العباد والبلاد، مايتحكّم في رؤيتنا للحدث هو إدراكنا وتفسيرنا له، وسنشرح هذه النقطة في مكانها بالتفصيل.

ثانيًا: الحجر المنزلي هو سلوك فعّال سلكناه لكي نُشبع لدينا الحاجة للبقاء هكذا ينبغي أن نفهم هذا السلوك، وهذا الفهم يعطينا معنى عميقًا أنّ القضيّة داخليّة هي نقص حاجة وعلاجها يبدأ من الداخل باختيار الصورة الذهنيّة وهي الحياة ثم تنفيذها في العالم الخارجي بالسّلوك الفعال وهو الإقامة المنزليّة ، هذا السلوك الذي فعلناه كلنا منبثق من صورة ذهنيّة أشبعت الحاجة للبقاء وقلّل الفجوة بين العالمين الداخلي والخارجي التوقع والواقع وقلنا فعّالًا لأنه حقق الصورة الذهنيّة حتى الآن وهي "الحياة".

ثالثًا : لاحظوا أنّنا كلّنا بوعينا أشبعنا البقاء وفي نفس اللحظة حصل لدينا نقص في الحاجات النفسيّة الأربعة وهي الإنتماء، والقوة، والترويح، والحرية، ومع أنّ هذه الحاجات الأربع فيها نقصٌ واضح جليّ بيّن لنا إلاّ أنّنا إلى حد كبير متوازنين، لماذا ؟ لأننا بوعينا قررنا تقبل النقص في هذه الحاجات الأربع وإدارتها بوعي لأن الأولوية الآن لإشباع الحاجة للبقاء بالمحافظة على حياتنا وحياة من حولنا، لأنّ هدف الحاجة للبقاء هو المحافظة على الكيان من الفناء.

ـ أين تكمن المشكلة في ذلك ؟

المشكلة ستكون في حالة استمرار فترة الحجر المنزلي، سيزيد النقص في الحاجات الأربع أكثر خاصة عندما نُشبع الحاجة للبقاء أكثر، ويقلّ خطر الفيروس تدريجيًا في العالم الخارجي هنا لابدّ من تطوير سلوكياتنا حتى نستطيع إدارة نقص الحاجات الأربع، بل نتجاوز ذلك إلى الإبداع بابتكار صور ذهنيّة مشبعة للحاجات، الفكرة الأساسية التي أحببت إيصالها من خلال هذا المقال أننا الآن كلنا نعمل على إشباع البقاء بحماية الذات مع وعينا بأنّ بقية الحاجات فيها نقص، ونحن متقبلين لهذا النقص بل ولدينا إدارة جيدة له بوعي تام، ويُشبعه كلٌّ بطريقته أي بصوره الذهنية فما يُشبع حاجاتنا موجود حولنا، حتى وإن طالت فترة الحجر فالواعي يربط متعته بذاته، لكنّ الناس الأقلّ وعيًا ربما يدخلون بدورات من الاختلال لأنه ربط إشباع حاجاته بالآخرين لأنّ لديهم تحكّم خارجي لا داخليّ، تستطيع ممارسة حياتك من منزلك بأفكار تنفذها من المنزل، وسنتحدث عنهاـ
نُشاهد ونسمع كلّ يوم مقاطع تنتشر عبر تويتر أو الفيس بوك أو حتى في قروبات الواتس أب باثّة صورًا مجتمعيّة سلبيّة عن فيروس كورونا ومنها أنّ الجلوس في المنزل يعتبر حجرًا ، هذه الصورة الذهنية تُرديك وتضرّك بل الجلوس في البيت تمتّع، وعندما شرّعت الدول كافّة ومنها دولتنا الحبيبة إجراءات احترازيّة لحصار هذا الفيروس والقضاء عليه ومنها الحجر المنزلي، وعدم الخروج إلاّ للضرورة القصوى، كان هدفه حماية الأرواح، فالاجتهادات الفردية هنا مضرّة وتُخلّف وراءها الكثير من الأضرار، والواعي هو من يلتزم بما يُصدره المسؤولون يوميًا من تعليمات وعدم الالتفات إلى الأصوات النشاز.

ـلكلّ حدث قراءتان كما أنّ لكل عملة وجهان : بل إنني أعتقد أنّ لكل حدث أكثر من قراءة ، والواعي هو الذي يختار الوجه الذي ينفعه ويرفعه والوجه الذي ينفعني شخصيًا في أزمة التعامل مع فيروس كورونا هو أنّ الجلوس في البيت متعة وسعادة، صورة الحجر المنزلي تضرّني، تُعيقني بدّلتها من حجر إلى تمتع، تعلّم أن تربط متعتك بذاتك وليس بأسباب خارجية الذين تعودوا على استثمار أوقاتهم وحياتهم لا يرتبطون بالمكان بل بالغايات فحيثما كانوا هم متمتعين لأن لديهم غايات يعملون عليها وإنجازات كل يوم يحققونها حتى لو لم يغادروا منازلهم، المستثمرون لأوقاتهم الآن يشعرون بمتعة فهم يمارسون أعمالهم، يدرّبون يحاضرون من منازلهم لأنّ عوّدوا أنفسهم على ذلك منذ سنين .

ـتفسيرك يحدد مصيرك :

إن فسّرت الجلوس في البيت حجرًا فستشقى بتفسيرك وإن فسّرت فيروس كورونا وباء سيقضي على البشرية فستموت من الخوف لا من كورونا، التفاؤل من الرحمن والتشاؤم من الشيطان، إن اعتقدت أنّ الأمراض سبب للموت فسيكون قيدًا في عقلك يمنعك من التمتع بحياتك وستقضي أيامك ولياليك مرعوبًا ولن تستمتع بلحظاتك، وإن وضعت في عقلك أنّ الموت ليس له سبب، إلاّ سبب واحد هو اكتمال العمر كما أخبر المعصوم عليه الصلاة والسلام (لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها) فستعيش متمتعًا بحياتك، وهذا لايعني طبعًا أن لا تُداري جسدك وأن تطلب العلاج إن تطلّب الأمر ذلك قال عليه الصلاة والسلام (تداوو عباد الله فما أنزل الله من داء إلاّ وأنزل معه دواء علمه من علمه وجهله من جهله)، ومن ذلك الاتقاء من فيروس كورونا، المعنى الذي تضعه في عقلك سيحدد مصير أيامك المقبلة فإن رأيت الجلوس في البيت حجرًا سيكون لك سجنًا يشكل قيدًا في عقلك وستصبح سجينًا في داخلك فقط وليس في العالم الخارجي، غيّر صورتك العقلية من حجر إلى متعة منزلية، كيف رأى شيخ الإسلام ابن تيمية السجن خلوة فكتب فتاواه فيه سبعة وثلاثون مجلدًا، وكيف رأى النفي سياحة بل ارتقى بوعيه وزاد فقال أنا بستاني في صدري أينما ذهبت فهو معي غير عالمه الداخلي فتمتع وسعد بعالمه الخارجي، تذكّر أنّ توقعك واقعك، ماتشكله في عقلك سوف تراه.

ـتمتّع بالموجود ولا تتحسّر على المفقود :

من أهم أسباب السعادة التمتّع بالموجود، ومن أسباب الشقاء التحسّر على المفقود، ماهو الموجود لدينا الآن، أهم الموجودات هي ذاتك، صحّتك، عقلك، حواسك، زوجتك وأبناؤك حولك، بيتك، مالك، الموجودات حولنا كثيرة كثيرة جدًا، وماهو المفقود ؟ الجولات الخارجيّة فقط، الواعي هو من يتمتع بالموجود، ولا يتحسّر على المفقود، الذي يجعلك في هذه الفترة تبني بيئة أُسريّة ممتعة في داخل حدود منزلك التمتع بالموجود، ولقد طوّرت أنا وأُسرتي قائمة من المهام المنزلية لأستمتع معهم في البيئة المنزلية أذكر بعضها من باب مشاركتها معكم ، وأنا متأكد أنّ لديكم قائمة تطول من مهام الاستمتاع :
ـقمت بعمل جلسات أسرية خفيفة من 20 ـ 30 دقيقة مرتين في الأسبوع نتحاور نتلاطف نتسامر، أنا شخصيًا أُمارس هذه الجلسات منذ سنوات ولها أثر كبير على ترابط وتآلف عائلتي

ـقرّرت أنا وأبنائي وبناتي أن نُعطي إجازة لزوجتي وهم يعطون إجازة لأمهم وبدأت شخصيًا أتعلّم فنون الطبخ، فمقاطع اليوتيوب لاتنتهي، وصفحات الطبخات في قوقل تطول، وكلّ يوم الدورعلى واحد منّا، واتفقنا أن يكون غذاؤنا صحّي، أنا شخصيًا جربت ذلك وتمتعت به
ـقرّرنا أن نعمل زاوية في المنزل نخصّصها للصلاة كمصلى مصغّر نصلي فيه جماعة مع بعضنا البعض نعوّض فيها روحانية المسجد
ـاتفقنا على عمل حلقة قرآن يوميًا لمدة ثلاثون دقيقة نراجع فيه حفظنا وأحكام التجويد.

ـاتفقنا على صيام يوم في الأسبوع وهو يوم الخميس نشترك كلنا في برنامج روحانيّ إيمانيّ ونحضّر الإفطار معًا.
ـوجدنا أنّ البقاء في المنزل فرصة نُخطط فيها لحياتنا، ونراجع غاياتنا أنا شخصيًا قرّرت أن أعمل لأسرتي دورة في التخطيط لأُكسبهم مهارات التخطيط للحياة
نحن في أكبر نعمة، العالم كله بين أيدينا بضغطة زر تتجوّل في هذا العالم عبر تويتر أو على الفيس بوك أو التلفاز تنتقي وتُشاهد ماتشاء من العالم، تستطيع أن تغرّد على تويتر أو تنشر بوستًا على الفيس بوك أو تنزل مقطعًا مصورًا فيديو في اليوتيوب (وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها).




من مقالات
د.خالد محمد المدني

خبير القيادة من المركز الأمريكي للشهادات المهنيّة
رئيس مجلس إدارة منظّمة أكسفورد للتدريب القيادي OLTO
دكتوراه الإدارة من جامعة السودان الحكوميّة للعلوم والتكنولوجيا