مشاهدة‌ السالك‌ نفسه‌ في‌ مختلف‌ مراحل‌ التجرّد
رسالة‌ لُبّ اللباب‌ في‌ سير وسلوك‌ أُولي‌ الالباب‌.
وحينما يترقّي‌ السالك‌ في‌ مراتب‌ المراقبة‌ لتكتمل‌ عنده‌ مراحلها تُصبح‌ هذه‌ الانوار أقوي‌، فيري‌ السالك‌ كلّ السماء والارض‌ شرقاً وغرباً دفعة‌ واحدة‌ مضيئة‌ مشرقة‌، هذا النور هونور النفس‌ الذي‌ يسطع‌ حين‌ العبور من‌ عالم‌ البرزخ‌. لكن‌ في‌ المراحل‌ الاُولي‌ للعبور عند ابتداء ظهور التجلّيات‌ النفسيّة‌ يشاهد السالك‌ نفسه‌ بصورة‌ مادّيّة‌، وبعبارة‌ أُخري‌ قد يلاحظ‌ نفسه‌ وكأنّها واقفة‌ أمامه‌، وهذه‌ المرحلة‌ هي‌ مرحلة‌ ابتداء التجرّد.
يقول‌ المرحوم‌ الاُستاذ العلاّمة‌ القاضي‌ رضوان‌ الله‌ علیه‌ : «خرجت‌ من‌ غرفتي‌ يوماً متخطّياً ممرّ البيت‌، فرأيت‌ نفسي‌ واقفة‌ بسكون‌ إلی‌ جانبي‌، فنظرت‌ إلیها بدقّة‌ متناهية‌ فرأيت‌ في‌ وجهي‌ خالاً لم‌ ألحظه‌ من‌ قبل‌، وعندما دخلت‌ إلی‌ الغرفة‌ ونظرت‌ في‌ المرآة‌، رأيت‌ فعلاً أنـّه‌ كان‌ يوجد في‌ وجهي‌ خال‌. ولم‌ أكن‌ حتّي‌ ذلك‌ الوقت‌ ملتفتاً إلیه‌».
وأحياناً يشعر السالك‌ أنـّه‌ قد أضاع‌ نفسه‌، ومهما بحث‌ عنها لا يستطيع‌ العثور علیها، ويقال‌ إنَّ هذه‌ المشاهدات‌ تقع‌ في‌ المراحل‌ الابتدائيّة‌ لتجرّد النفس‌، وهذه‌ (المراحل‌) مقيّدة‌ بالزمان‌ والمكان‌، وفيما بعد ـ وببركة‌ التوفيقات‌ الإلهيّة‌ ـ يستطيع‌ السالك‌ أن‌ يري‌ حقيقة‌ نفسه‌ بتجرّدها التامّ والكامل‌.
وينقل‌ عن‌ المرحوم‌ الحاجّ الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ رضوان‌ الله‌ علیه‌، الذي‌ كان‌ تلميذاً ملازماً لاُستاذ العرفان‌ والتوحيد المرحوم‌ المولي‌ حسين‌ قلي‌ الهمدانيّ رضوان‌ الله‌ علیه‌ مدّة‌ أربع‌ عشرة‌ سنة‌، أنـّه‌ قال‌ :
«ذات‌ يوم‌ قال‌ لي‌ الاُستاذ : أَوكَلْتُ مهمّة‌ تربية‌ التلميذ الفلانيّ إلیك‌، وكان‌ ذلك‌ التلميذ يملك‌ همّة‌ عالية‌ وعزماً راسخاً، فقضي‌ ستّ سنوات‌ في‌ المراقبة‌ والمجاهدة‌ حتّي‌ وصل‌ إلی‌ مقام‌ القابليّة‌ المحضة‌ للإدراك‌ وتجرّد النفس‌، فأردتُ أن‌ ينال‌ هذا السالك‌ طريق‌ السعادة‌ وهذا الفيض‌ علی‌ يد الاُستاذ ويكتسي‌ بهذه‌ الخلعة‌ الإلهيّة‌، فأحضرته‌ إلی‌ بيت‌ الاُستاذ، وبعد عرض‌ الامر علیه‌ قال‌ الاُستاذ : ليس‌ هذا بشي‌ء، ثمّ أشار بيده‌ وقال‌ : التجرّد مثل‌ هذا فقال‌ ذلك‌ التلميذ : رأيت‌ أنـّني‌ فصلت‌ عن‌ جسدي‌ فوراً، وشاهدت‌ إلی‌ جانبي‌ موجوداً مثلي‌».
وليعلم‌ أنَّ شهود الموجودات‌ البرزخيّة‌ ليس‌ له‌ ذلك‌ القدر من‌ الشرافة‌، بل‌ الشرافة‌ في‌ رؤية‌ النفس‌ في‌ عين‌ التجرّد التامّ والكامل‌؛ لانَّ النفس‌ في‌ هذه‌ الحال‌ تسطع‌ بتمام‌ حقيقتها المجرّدة‌ فتُشاهد بصورة‌ موجودة‌ لم‌ يحدّها زمان‌ ولا مكان‌، بل‌ تحيط‌ بمشرق‌ العالم‌ ومغربه‌، وهذا الشهود ـ علی‌ خلاف‌ شهود المراحل‌ الاُولي‌ ـ ليس‌ جزئيّاً، وإنـَّما هومن‌ قبيل‌ إدراك‌ المعاني‌ الكلّيّة‌.
نُقِلَ عن‌ المرحوم‌ السيّد أحمد الكربلائيّ رضوان‌ الله‌ علیه‌ الذي‌ كان‌ من‌ تلامذة‌ المرحوم‌ الهمدانيّ البارزين‌، أنـّه‌ قال‌ :
«كنت‌ ذات‌ يوم‌ أستريح‌ في‌ مكان‌ ما، فأيقظني‌ شخص‌ وقال‌ : إذا أردت‌ أن‌ تشاهد نور الاسفهبديّة‌ فقم‌ من‌ مكانك‌، وعندما فتحت‌ عيني‌ رأيت‌ نوراً ليس‌ له‌ حدّ أوحدود، يحيط‌ بمشرق‌ العالم‌ ومغربه‌». اللَهُمَّ ارْزُقْنَا. وهذه‌ هي‌ مرحلة‌ تجلّي‌ النفس‌ التي‌ تشاهد بتلك‌ الصورة‌ علی‌ هيئة‌ نور غير محدود.
وبعد عبور هذه‌ المرحلة‌ يوفّق‌ السالك‌ السعيد ـ علی‌ إثر الاهتمام‌ بالمراقبة‌ المتناسبة‌ مع‌ العوالم‌ العلويّة‌ ومقتضيات‌ تلك‌ المنازل‌ والمراحل‌ ـ لمشاهدة‌ صفات‌ الباري‌ تعالي‌، أو إدراك‌ أسماء الذات‌ المقدّسة‌ بنحوكلّيّ. وكم‌ يحدث‌ في‌ هذه‌ الحال‌ أن‌ ينتبه‌ السالك‌ فجأة‌ إلی‌ أنَّ جميع‌ موجودات‌ هذا العالم‌ هي‌ علم‌ واحد، أوأنّه‌ لا يوجد أبداً غير قدرة‌ واحدة‌؛ هذا في‌ مرحلة‌ شهود الصفات‌، أمّا في‌ مرحلة‌ شهود الاسماء والتي‌ هي‌ أرفع‌ درجة‌ منها، يُلاحِظ‌ السالك‌ أنَّ الموجود في‌ كلّ العوالم‌، عالم‌ واحد وقادر واحد وحيّ واحد.
وممّا لا شكّ فيه‌ أنَّ هذه‌ المرحلة‌ هي‌ أشرف‌ وأكمل‌ من‌ مرحلة‌ إدراك‌ الصفات‌ التي‌ توجد في‌ مرتبة‌ القلب‌؛ «لاَنَّ السَّالِكَ يُصْبِحُ وَلاَيَرَي‌ قَادِراً ولاَ عَالِماً ولاَ حَيّاً سِوَي‌ اللَهِ تَعَالَي‌». وهذا الشهود غالباً ما يظهر في‌ حال‌ تلاوة‌ القرآن‌. فكثيراً ما يتسنّي‌ للقاري‌ أن‌ لا يري‌ نفسه‌ قارئاً، بل‌ إنَّ القاري‌ شخص‌ آخر، وقد يدرك‌ أحياناً أنَّ المستمع‌ أيضاً كان‌ شخصاً آخر.
واعلم‌ أنَّ لقراءة‌ القرآن‌ في‌ حصول‌ هذا الامر تأثيراً كبيراً جدّاً، ويحسن‌ أن‌ يقرأ السالك‌ حين‌ الاشتغال‌ بصلاة‌ الليل‌ سور العزائم‌؛ لانَّ السجود للّه‌ فجأة‌ من‌ حال‌ القيام‌ لا يخلومن‌ اللطف‌. وقد ثبت‌ بالتجربة‌ أنَّ قراءة‌ السورة‌ المباركة‌ «ص‌» في‌ ركعة‌ الوتر من‌ صلاة‌ الليل‌ ليلة‌ الجمعة‌ مؤثّر جدّاً، وفائدة‌ هذه‌ السورة‌ تُعلم‌ من‌ الرواية‌ التي‌ وردت‌ بشأن‌ ثوابها.
وحين‌ يطوي‌ السالك‌ هذه‌ المراحل‌ بالتوفيق‌ الإلهيّ، ويوفّق‌ للمشاهدات‌ القدسيّة‌، سوف‌ تحيط‌ به‌ الجذبات‌ الإلهيّة‌ لتقرّبه‌ في‌ كلّ آن‌ إلی‌ الفناء الحقيقيّ، إلی‌ أن‌ تحيط‌ به‌ أخيراً الجذبة‌ التي‌ تجعله‌ متوجّهاً إلی‌ الجمال‌ والكمال‌ المطلق‌، فيشتعل‌ وجوده‌ الخاصّ وكلّ عالم‌ الوجود في‌ عينيه‌ بأنوار الطلعة‌ البهيّة‌ للمعشوق‌، فلا يري‌ أثراً لسواه‌، كَانَ اللَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ.
في‌ هذه‌ الحال‌ يتخطّي‌ السالك‌ وادي‌ الهجران‌ ليستغرق‌ في‌ بحر مشاهدات‌ الذات‌ الربوبيّة‌ اللامتناهي‌.
ولا يخفي‌ أنَّ سير السالك‌ وسلوكه‌ لا يتنافي‌ مع‌ وجوده‌ في‌ عالم‌ المادّة‌، فإنَّ بساط‌ الكثرة‌ الخارجيّة‌ يبقي‌ علی‌ حاله‌، ليحيا السالك‌ في‌ الوحدة‌ مع‌ عين‌ الكثرة‌. قال‌ أحدهم‌ : بقيت‌ بين‌ الناس‌ ثلاثين‌ عاماً كانوا يظنّونني‌ معهم‌ ومراوداً لهم‌، والحال‌ أنـّني‌ خلال‌ تلك‌ المدّة‌ لم‌ أكن‌ أعرف‌ ولا أري‌ منهم‌ أحداً سوي‌ الله‌.