الجهاد المقدس
يجدد الإمام كما سنرى، أحوال الصوفية الصادقين، وتنفيذهم الحق قول رسول الله : { أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقَ عِنْدَ سُلْطَانٍ جائِرٍ }
والحق أن تاريخ الصوفية العظام يسجل لهم أنصع الصفحات في الجهاد في سبيل الله، والمجاهدة للظلمة من الحكام، وحث العامة على عدم الرضا بالواقع المر، لأن شعارهم قول الله فى [11الرعد] :
( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ )
فها هو الإمام الغزالي عندما توالت الهزائم على المسلمين في الأندلس، يكتب إلى ابن تشفين ملك المغرب يستنهضه ويقول له في عنف المؤمن الذي لا يعرف في الحق لومة لائم: ((إما أن تحمل سيفك في سبيل الله، وإما أن تعتزل إمارة المسلمين حتى ينهض بحقهم سواك))، وهذا محي الدين بن عربي،عندما تهاون الملك الكامل في قتال الصليبيين قال له: (( إنك دنئ الهمة، والإسلام لن يعترف بأمثالك، فانهض للقتال، أو نقاتلك كما نقاتلهم)) ، وهذا الإمام أبو الحسن الشاذلي رغم فقد بصره، يذهب هو وأتباعه مع قافلة النور، تضم رجالات من أعظم الرجال في العلم والدين، العز بن عبد السلام، مجد الدين القشيري، محي الدين بن سراقة، مجد الدين الأخميمي، الفقيه الكامل بن القاضي صدر الدين، الفقيه عبد الحكم بن أبي الحوافر، إلى المنصورة في ميدان القتال، ليحثوا الجند على الجهاد، ويعملوا على رفع روحهم المعنوية، حتى تم لهم النصر، ووقع لويس التاسع أسيراً في دار ابن لقمان، بل أن أعظم دولة في بلاد المغرب العربي في عصره الزاهر، وهي دولة الموحدين، أسسها ابن تومرت الداعية الصوفي، وبلغ بها غاية مجدها تلميذه عبد المؤمن.
(( ولم يقتصر دور الصوفية على جهاد أعداء الإسلام، بل أنهم قادوا الثورات ضد الحكام الظالمين، فها هو الصوفي الكبير الإمام الدردير يقود الثورة الوطنية على الأمراء المماليك التي اشتعل لهيبها في عام 1200 هجرية عام 1786 ميلادية، والتي أعلنت فيها لأول مرة حقوق الإنسان، قبل الثورة الفرنسية بثلاث سنوات، وكان من نتائج هذه الثورة المباركة، اعتراف المماليك بأن الأمة مصدر السلطات، وبعدم فرض ضرائب جديدة إلا برأي الشعب، واعترافهم الكامل بحرية الأمة وكرامتها))
والأمثلة في هذا المجال كثيرة وكثيرة، ويكفي أن نسجل هنا شهادة لأحد الأقلام المنصفة في هذا المجال حيث يقول ((يسجل التاريخ لبعض الصوفية المسلمين، مواقف لا تنقصها الشجاعة إيزاء نصح الحاكم ورده عن ظلمه في عزة مدهشة، قلَّ أن توجد، في مثل هذا العصر، وقد كان اتصال أغلب المتصوفة بالقاعدة الشعبية أوثق منه بالقمة، فكانوا أعرف الناس بآلام الناس، وأدى بعضهم دوره الإشتراكي الإنساني في مجال المواساة والإسعاف والإنصاف والإرشاد، ولم يحجم إلا المتصوف ذو المزاج المريض ))....
جهاده الإنجليز في السودان
انتقل الإمام إلى أم درمان، فواصل رسالته، وشرح حكم ابن عطاء الله السكندري، والموطأ للإمام مالك، بمساجدها ثم حدث أن طلبت جامعة غوردون بالخرطوم أستاذاً للشريعة بها فتقدم ، وشغل هذا المنصب.
وبدأ منذ تلك اللحظة الجهاد على أشده مع الإنجليز، حيث أخذ يشرح للناس بالمساجد صحيح البخاري والموطأ، ويحدثهم في التوحيد والأخلاق، وفي نفس الوقت يشرح لخاصة طلابه في الجامعة وفي مقدمتهم الزعيم الوطني السوداني على عبد اللطيف مساوئ الاستعمار، ويطالبهم بالعمل المنظم للقضاء عليه وإجلائه عن البلاد.
وأحسَّ بروحه الشفافة وبصيرته النافذة بأن هناك اتصالات تجري بين الشريف حسين في مكة والحاكم الإنجليزي في مصر (مكماهون) فأعلن أنه ذاهب إلى مكة لأداء العمرة، وإن كان هدفه الحقيقي هو مقابلة الشريف حسين، وفعلاً استطاع مقابلته، وطلب منه أن يكلمه على انفراد، وأخذ ينصحه، وعرفه بالمراسلات التي تمت بينه وبين الإنجليز، وما دار فيها رغم أن أحداً لم يكن يدري بها بعد، وطلب منه في نهاية اللقاء أن يتخلى عن الإنجليز، ويساند إخوانه المسلمين وألا يذكر لأحد شيئاً مما دار في هذا اللقاء.
ولكن الشريف حسين أخبر الإنجليز بما دار بينه وبن الإمام أبي العزائم، فأحسوا بالخطر نحوه، وبدأوا في محاولة استقطابه لجانبهم، لكنه رفض كل ذلك، فطلبه الحاكم العام الإنجليزي في السودان - ريجنالد وينجت - وطلب منه أن يكتب مبيناً للناس مساوئ الخلافة الإسلامية في تركيا، وما يرغبهم في التعاون مع الإنجليز باعتبارهم يعملون لتقدم البلاد ورفاهيتها، فقال له الإمام أبو العزائم : أتكتب ضد الإنجليز؟ قال: كيف هذا وأنا رجل مُتَعَلِّم؟ قال : إذاً كيف تطلب مني أن أكتب ضد وطني وأنا مُعَلِّم؟
ولم ييأس الحاكم الإنجليزي من رد الإمام أبي العزائم فتركه ينصرف ثم دبر مكيدة أخرى، فأقام حفلاً بنادي الضباط بالخرطوم، دعا إليه الإمام أبا العزائم وكبار الشخصيات الإسلامية والإنجليزية بحجة التعارف بين المسلمين والإنجليز، ولكنه رفض حضور هذا الحفل، وعندما سئل عن سبب رفضه قال: سأجيبكم في المسجد الجامع، وذهب إلى المسجد الكبير بالخرطوم، وكان غاصاً بالمصلين، وقرأ عليهم بصوته الندي قول الله : ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[22المجادلة]، وأخذ يشرحها لهم بطريقة أثارت حماس الحاضرين، حتى كانت شبه مظاهرة على الإنجليز وأعوانهم، فأثار ذلك حنق الإنجليز وأقالوه من عمله وردوه إلى مصر في أول أغسطس 1915 ميلادية.
أثره في أهل السودان
غير أنه ترك آثاراً كبيرة في أهالي السودان، حيث أنه جذب القلوب إليه بأخلاقه العالية، وصفاته السامية، خاصة زهده وورعه ، وقد وصل به الأمر إلى أن الفقراء كانوا يتعرضون له في اليوم الذي يقبض فيه راتبه، فيوزعه عليهم ويرجع إلى داره بغير شئ معتمداً على فضل الله.
ولما استاء من حوله من هذا الأمر، عاتبوه ذات مرة، وبينما هو يتحدث معهم، إذ بسيارة محملة بكل ما يتطلبه المنزل من حاجيات، أرسلها رجل كريم من أهل اليسار، فقال : ((لقد أحضر الله لكم كل ما تحتاجون إليه بغير نصب ولا تعب، وكأنه يعاملكم معاملة أهل الجنة))
وخصَّ بحدبه وعطفه الفقراء، حتى كان أكثر من مرة يطلب من أهل بيته تجهيز الولائم الفاخرة بحجة أنه سيزوره بعد صلاة الجمعة نفر من الوجهاء والأمراء، ثم يعود إلى المنزل وليس حوله إلا نفر من الفقراء، فيشمئز أهل المنزل من ذلك الوضع ويقولون له: لم تكلفنا وأنت تعلم أنه لن يأتي معك أحد من الوجهاء؟ .. ولما تكرر هذا الأمر منهم قال منبهاً لهم ومعلماً لنا: ألا ترون؟ أليس عندكم بصيرة؟ هذا! وأشار إلى فقير ذي أسمال بالية، عند الله وجيهاً!، وهذا وأشار إلى مسكين حافي القدمين يلبس المرقعات وجيهاً في الدنيا والآخرة !!، وهذا أمير العباد!، وهذا أمير الزهاد!، وهكذا يضع لكل واحد من الفقراء ما يناسب حاله ومقامه عند الله ، ويتمثل بقول سيدي أبي مدين :
ما لذة العيش إلا صحبةً الفقرا
هم السلاطين والسادات والأمرا

وقد افتتن الناس به في الخرطوم بالذات، نظراً للعلوم الوهبية التي أفاضها الله عليه، حتى أنه كان يتحدث ذات مرة في المسجد الكبير بالخرطوم، فانبهر الحاضرون، حتى قاطعه أحدهم قائلاً: كلام من هذا يا مولانا؟ هل هو كلام سيدي عبد القادر الجيلاني؟ فأشار بيده إليه وقال: انتظر يا بني، ثم واصل الحديث وأتى ببيان أعجب مما تقدم، فلم يتمالك الرجل نفسه، وقال: كلام من هذا يا مولانا؟ هل هو كلام سيدي محي الدين بن عربي؟ فقال: انتظر يا بني، ثم واصل الحديث، وعلا بالعبارة حتى أسكر الحاضرين، فما كان من الرجل إلا أن وقف منبهراً وقال: كلام من هذا يا مولانا؟ هل هو كلام سيدي أبي الحسن الشاذلي؟ فقال سائلاً له: يابني، من الذي أعطى الشيخ عبد القادر الجيلاني؟ قال: الله قال: ومن الذي أعطى سيدي محي الدين بن عربي؟ قال: الله، قال: ومن الذي أعطى سيدي أبي الحسن الشاذلي؟ قال: الله، قال : الذي أعطى الجيلاني والذي أعطى ابن العربي والذي أعطى الشاذلي هو الذي أعطاني))، ففهم الحاضرون أن عطاء الله لأحبابه وأوليائه لا ينقطع ما دامت السموات والأرض، لأن خزائنه لا تفنى ولا تبيد، وإنما ينزل منها على أحبابه وأوليائه بقدر ما يناسب عصورهم وأزمانهم، وحاجة أهل تلك الأزمان والعصور: ( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [74آل عمران].
وهكذا ربى بالسودان رجالاً جاهدوا في الله حق جهاده، عرفوا أنفسهم فعرفهم الله بصفاته العلية، وأطلعه على أنواره القدسية، وأفاض عليهم من علومه الوهبية، وأسراره الحكمية، ما تعجز عنه العبارة، ولا تفي به الإشارة.
يتبع ان شاء الله