الرياضة الروحية
فإذا أراد السالك الوصول إلى الأحوال العالية والتجمل بها، من فراسة صادقة وإلهام بأنواعه، وفتح، وكشف، ومشاهدات، وتجليات، ومؤانسات، وملاطفات، وغيرها مما لا يباح لأهلها التصريح به بعبارة!! .. أو الرمز إليه بإشارة !! ، بل يقولون كما يقول الإمام الغزالي :
فكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر

وكما يقول الإمام أبي العزائم:
احفظن سري فسري لا يباح
من يبح بالسر بعد العلم طاح

علمنا فوق العقول مكانة
كيف لا وهو الضيا الغيب الصراح

خصنا بالفضل فيه ربنا
ذاك سرٌ غامضٌ كيف يباح

والفتى المجذوب بالحب له آية
إن ذاق خمر الحب صاح

وهو مجذوب العناية إن يبح
بالحقائق ما على الفاني جناح

إذا أراد ذلك فلابد له بعد جهاد نفسه، من تصفية قلبه من الشواغل والصوارف الكونية، حتى يتأهل لنزول الفيوضات والتجليات الوهبية، وهي الجنة العاجلة التي يعجلها الله لأوليائه التي يقول فيها الإمام أبو العزائم : ((إن لله جنة عاجلة من دخلها لا يحتاج إلى جنة آجلة إلا وهي المعرفة بالله تعالى)).
والطريق إلى ذلك هو ضروب الرياضات الروحية التي ينزل فيها المرشد السالك بحسب ما تأهل له من مقامات وما يناسبه من رياضات.
وقد كانت الرياضات الروحية عند الصوفية قبل الإمام أبي العزائم ، تكاد ترتكز على التقشف والزهد والبعد عن التنعم، وممارسة العبادات والأعمال الشاقة حتى تنطوي النفس على الطاعة، وتنجلي مرآة القلب من صدأ الغفلة ..
لكنه جدَّد وغيَّر كل هذه الأحوال في نفسه أولاً وفي أحبابه ومريديه ثانياً:
ففي نفسه: كان  يلبس أفخر الملابس، ويضع منظاراً على عينيه في وقت كان لا يملك مثل هذا المنظار إلا نفر قليل من وجهاء مصر، وأقتنى سيارة خاصة يستخدمها في تنقلاته في زمن لم يكن يمتلك فيه السيارة إلا كبار الباشوات، وكان يحرص في أكله أن يكون جامعاً لكل القيم الغذائية المفروض توافرها في وجبة الغذاء أو الفطور أو العشاء صحياً وعلمياً.
وفي تلاميذه كان يوجههم فيقول: (( يا بني لا عليك أن تلبس الثوب البهي وتشرب المشرب الروي وتتغذى بالمطعم الشهي، وتجلس وتتنعم بالفراش الوطي، وتنكح أجمل النساء، ما دمت تحصلهم من الحلال، ثم تعرف فضل الله عليك في كل ذلك، وتشكره سبحانه على ما أولاك )).
ومن هنا نجد أن الرياضات الروحية عند الإمام أبي العزائم تختلف كلاً وبعضاً عن كثير من مناهج الصوفية المعاصرة له، وسنلمح إلى بعض منها لنرى كيف كان  يختصر الطريق لمريديه، ويسهل لهم الوصول إلى المطلوب بأيسر جهاد وأقل عناء.
أولاً: القرآن الكريم
وهو الركن الأعظم في الفتوحات الإلهية، والعلوم الوهبية عند الإمام أبي العزائم. وفي هذا يقول : القرآن المجيد مورد آل العزائم الروي، وروضهم الجني، وحوضهم المورود، وكوثرهم المشهود، ميزان أحوالهم ومرجع مقاماتهم، يسألونه قبل العمل، فإن أذن سارعوا، وإن منع تركوا واستغفروا، فهو الإمام الناطق وإن صمت، لأنهم يسمعونه عن رسول الله ، فتسمعه آذان قلوبهم حضوراً .. ووجوداً ... وإن كان التالي له إنساناً آخر ...وقفت بهم همتهم العلية على القرآن، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، فلو أمرهم بقتل أنفسهم لقتلوها، أو بمفارقة أموالهم وأولادهم لفارقوها، فرحين بالسمع والطاعة، تجلت لهم حقائق القرآن جلية، وانبلجت لهم أنواره العلية ظاهرة، فلم تبق بهم همة إلا في القرآن ولا رغبة إلا فيه.
أحبوا القرآن حباً ينبئ عن كمال حبهم للمتكلم سبحانه، كاشفهم الله تعالى بمراده في كلامه وبحكمته في أحكامه، فكان سبحانه أقرب إليهم من أنفسهم، وتجلى لهم سبحانه في كلامه العزيز حتى كان الرجل منهم إذا سئل لم تعمل هذا؟ يقول أمرني القرآن، ولم تترك هذا يقول نهاني القرآن، وإذا طلب منه أمر يقول: مه حتى أستشير القرآن، فيقرأ القرآن المرة والمرتين، حتى تتضح له حقيقة حاله وسر قصده، فيسارع إلى التنفيذ إو إلى الترك، فالقرآن طهور الحب وحلل القرب ولا يوفق للعمل بالقرآن إلا من جذبته العناية، واقتطعته المشيئة واختطفته محبة الله السابقة له ) ونهجه رضى الله عنه لمريديه، أن يقرأ السالك ما لا يقل عن جزء من القرآن كل يوم، ويقول لهم (:ليس الشأن أن تحفظ القرآن ولكن الشأن أن يحفظك القرآن )فالمهم في التلاوة عنده أن يلاحظ التالي المعاني الآتية:
البهجة بتلاوة كلام ربه، والعزم الأكيد على التباعد عما نهى القرآن، والمسارعة إلى عمل ما أمر به، وأن يشهد عظمة وجلال وكبرياء وعزة المتكلم سبحانه ظاهرة جلية لعيون سره، فيكون تالياً لكتاب الله متلقياً عنه سبحانه متشرفاً بمعيته جل جلاله.وهو بعد ذلك كله، يرتِّله مخلصاً لوجه الله تعالى ... لا لغرض آخر إلا ابتغاء وجه الله العظيم، وقد تحدث عن هذه الآداب بالتفصيل في كتاب: "الفرقة الناجية" وكتاب "شراب الأرواح" فليرجع إليهما من أراد المزيد.
ثانياً: الفكر
وللفكر عند الإمام أبي العزائم مذاقٌ خاص ... فهو عمدة السالكين، وشراب الواصلين ورحيق المتمكنين، ولا يتحقق للمراد هذا القرب والوداد إلا بسلوك الطريق الذي يوضحه للمرادين والأفراد، فعندما يصفو القلب بالمجاهدات من الشهوات والحظوظ والغفلات، تظهر له أنوار رب العباد منبثة في الكائنات، فيشرب من رحيق ] اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ )35النور] .. وينزل في مقام . [فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ] فيشهد أسرار الكائنات، ويعلم حكم الموجودات، وهذا هو المقام الأول في ذكر العارفين، وفي ذلك يقول الذكر هو حضور القلب ويقظته، وحركة الفكر في تزكية النفس أو الاعتبار بالحوادث أو التأمل في مصنوعات الله تعالى في السموات والأرض، من أسرار القدرة وغوامض الحكمة وما فيهم من القدرة وما في مراتب الوجود من النسب والارتباطات مما سخر له وقام لأجله، فسبحان البديع المبدع، الذي أبدع كل شئ خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، هذا هو الروض الزاهر اليانع الذي يطيب فيه ذكر الذاكر وفكر الفاكر...
أما الذكر باللسان عندهم فهو النطق بالاسم المتجلي في الآثار المشهودة التي كوشفوا بها بنور المعرفة، فينطق اللسان بهذا الاسم عن وجد وذوق لمعاني تجلياته، ولهم في كل مشهد اسم يذكر عند حضور القلب، وقد ينطقون الاسم المحيط الجامع اسم الجلالة (الله) عند الاستغراق في شهود معاني جميع الأسماء في أنفسهم وفي الملك والملكوت، فتطيب النفس وتزكو وتتجمل بجمال الأحوال، وتترقى إلى أعلى المقامات من القرب، والحب، والشوق، والوله، والتأله، والخشية، والرهبة، وغير ذلك من مقامات اليقين، وهذا كله هو ذكر المجاهدين) وهذا الذكر الذي أشار إليه الإمام أبو العزائم هو ما يسمى بالفكر، وهو عبادة كمل الأولياء أهل اليقين والتحقيق، وقد بزَّ جميع العبادات بنص حديث سيدنا رسول الله الذي يقول فيه: { لا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّر } ويقول فيه الإمام أبو العزائم أيضاً ( لحظة فكر بيقين خير من عبادة سنين ) وإن كان هذا الفكر لا يتجاوز - مهما بلغ من صفاء الإنسان ولطافته - الحدَّ الذي حدَّه له سيدنا رسول الله في قوله: { تَفَكَّرُوا فِي آلاَءِ اللَّهِ وَلاَ تَفَكَّرُوا فِي الله } فالفكر في آلاء الله موصل إلى السعادة الأبدية، لأن الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكر، وقد عبر عن ذلك نظماً فقال:
زج بالفكر في شئون المعاني
بيقين محصن بالأمان

تتجلى من الشئون شموس
مشرقات بنورها الرباني

لا تجاوز تلك الشئون بفكر
فالمعاني جلَّت عن الإمكان

ورياض التفكير تلك المرائي
وهو كنز مطلسم بالمباني

ودع القلب للمقلب يجلي
فيه ما شاء من شهود بيان

إلى أن يقول :
عَدِّ عن فكرك المقيد وارحل
عن موازين عقلك الإنسانى

وبنور اليقين فاسكن إلى الله
بصدق تفز بالروح والريحان

ما توهمته بميزان كسب
فهو مهواة حاطب حيران

نزِّه الذات والمعاني عن الفكر
وجُلْ في سائر الأكوان

جَلَّت الذات والمعاني تعالت
هي غيبٌ والكون أي البيان

فإذا صفت حضرة الفكر بالرياضة بالذكر، والذكر هنا بحسب ما يلوح للفرد الذاكر، فعندما ينظر الإنسان إلى السماء يشهد سر الرافع فيذكره، وحينما يقع بصره على الأرض يرى سر الباسط فيستحضره، ولما ينظر إلى الماء يجد فيه سر الحي فيتذكره وعندما يلتفت إلى الجبال يتحقق سر القوي المتين فيستعظم قدرته، وأينما ولى وجهه إلى إنسان، لاحظ بعين فكرته ورأى بنور بصيرته نور البصير في بصره وسر السميع في أذنه وجمال المتكلم في لسانه، وغيب المدبر في عقله، وقدرة القادر في قوته، فيكون كما قال الإمام أبو العزائم:
وإن نظرت عيني إلى أي كائن
تغيب المباني والمعاني سواطع

لأن المعاني الشمس والكل أنجم
إذا أشرقت فالنجم بالشمس طالع

وفي هذا المقام ينمو الشوق ويلذ الغرام وتتأجج لواعج المحبة للمليك العلام ، فتتنور البصيرة، وتتجول في أفق السريرة، فترى من غيوب الرحمن في حيطة الإنسان ما يعجز اللسان عن البيان، فيمتثل قول الإمام علي كرم الله وجهه:
أتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر

دواؤك فيك وما تبصر
وداؤك منك ولا تشعر

فيتحقق بحق اليقين بقول سيد الأولين والآخرين { خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } أي خلق الله كل مظهر من مظاهر آدم ، أي كل إنسان على صورته سبحانه، يعني سميعاً وبصيراً متكلماً مع التنزيه الكامل بين العبدية وحضرة الربوبية، فالرب رب وأن تنزل والعبد عبد وإن علا، وهنا يخاطب حقيقته بهذا الخطاب النبيل الذي قال فيه الإمام أبو العزائم:
يا صورة الرحمن والنور العلي
يا سدرة الأوصاف والغيب الجلي

فيك العوالم كلها طويت فهل
أدركت سراً فيك من معاني الولي

خفيت بذاتك من معاني القدس ما
لا يشهدن إلا لذي قلب خلي

أأنست بالأكوان بعد شهوده
وسجود أملاك العلى بتنزل

أولا سمعت ألستُ عند شهوده
تومى بأن القدس أول منزل

فاهجر سكونك للكيان وبادرن
بالعزم كي تسكن بوطن أول

فيك المعاني مشرقات بالذي
يرقى به أهل الصفا بتأهل

فإذا أحس الإنسان في قرارة نفسه تلك المعاني، تذكر أدواره الأولى عندما كان عدماً، وعندما صار ماءاً مهيناً، وعندما صار نطفة في قرار مكين، ويشهد عناية الله به في تلك الأدوار ورحمة الله به في تلكم الأطوار، ثم يتذكر مفارقته لهذا الجسد الفاني، وإقباله على الله، وما له في الدار الآخرة حيث القيامة، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، والنعيم، والجحيم، فيقبل على الله بكله، وينشغل بذكره سبحانه في كل وقت وآن، ... وإلى ذلك يشير الإمام أبو العزائم فيقول:
أيا أيها الإنسان من طين فخار
تكونت كي ترأى مظاهر أسرارى

ومن نطفة أنشأت آياً جلية
بمحض الفضل حصن قرار

تدبر فأنت الطين والماء فأشهدن
جمالي وإحساني وسرى وأنوارى

أكنت سميعاً أو بصيراً وعالماً
ولكنني أنعمت بالمدرار

نسيت جمال الله فيك تيقظاً
فمن ينسه يلقى سعير النار

أيا طينة الصلصال من بجماله
تحليت بالأنوار بعد فخار

أتنسى مفيض الفضل والجود والعطا
وتهجر أورادي وتترك أذكاري

وللدون والدنيا تميل وترتجي
نوال الرضا والعفو إحسان غفار

تذكر جميلي من (ألست) وبعدها
وتابع سبيلي مخلصاً يا سارى

ولا تنسى إحساني إليك ورحمتي
وكن مخلصاً في خفية وجهار

ولا تشتغل بسواي ترفع للعلا
وتحظى بفضلي صحبة الأخيار

فلا ينس إحسان الجميل وفضله
سوى مبعد أو جاهل وممارى

ويشرح الامام للسالك كيف يتحقق بقول الله ( قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) [101يونس]، ويلمح إلى شئ مما يدركه السالك عند نظره إلى الآفاق سواء في الأجرام السماوية من كواكب ونجوم وسيارات، أو في العوالم الأرضية من بحار وأنهار وحيوانات وحشرات وجمادات ومعادن ونباتات، وإلى شئ مما يراه في حقائقه الظاهرة كالعينين والأذنين واليدين والرجلين واللسان ، أو حقائقه الباطنة كالعقل والروح والقلب والفؤاد والنفس والسر ....
حتى يشتد وجده إلى خالق هذه الأنواع، ويتحقق بقول الله :
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) [53فصلت]، وذلك في كتاب النور المبين لعلوم اليقين ونيل السعادتين وكتاب معارج المقربين، فمن أراد المزيد في هذا الباب فعليه بهما.
يتبع ان شاء الله

عجبتُ منك و منـّـي ،، يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي

أدنيتـَني منك حتـّـى ،، ظننتُ أنـّك أنـّــي