فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف و لا يتصرفون و لا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا
بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة و يتعوذون منه إذا هاجمهم. و قد كان الصحابة رضي
الله عنهم على مثل هذه المجاهدة و كان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنهم لم يقع لهم بها
عناية . و في فضائل سادتنا أبي بكر و عمر و عثمان و علي رضي الله عنهم كثير منها . و تبعهم
في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم و من تبع طريقتهم من بعدهم. انتهي بلفظه .
قدم الطريق الصوفي :
ومما يؤيد عندي قول ابن خلدون بقدم الطريق الصوفي (طريق معرفة الله ) ما كتبه الإمام
الحافظ الحكيم الترمذي ( توفي سنة 320 هـ ) والذي عاش في القرون الخيرة في كتابه ختم الأولياء
الذي أورد فيه (155 ) سؤالا في المعرفة الإلهية وما بلغنا عنها إنها لا يجاوب عليها مجتمعة إلا
ختم الأولياء والتي أجاب عليها ابن عربي ( توفي سنة 738 هـ ) و سيدي الشيخ قاضي المغرب
الشيخ أحمد سكيرج بالمغرب , الذي افرد لها كتابا سماه قرة العين .
ومما يقوله الحكيم الترمذي في كتابه خاتم الأولياء عن الذين كثروا في زماننا هذا بإدعاء
المشيخة والإرشاد الي معرفة الله , قال: ومن لم يصل الي الله في مجلس القربة , حتى تحرق
تلك الأنوار جميع ما في نفسه من الأدناس , فهو بعد في الطريق لا يدري أين هو وإنما جرأته علي
الأمور , من بعض أنوار العطاء فكيف يخاطر المرء بنفسه , وينخدع لها , ويخالط ويباشر
الأمور, التي تتدنس نفسه فيها وتأخذ بنصيبها ؟ ثم يزعم انه ذو حظ من الله. هيهات فهذا رجل لم
يصبر علي السير , فمله , ولم يرتفع له ما أمل من الوصول الي الله . فأقبل علي النساك يتصنع
بأعمالهم , وينطق بكلام الأولياء الي ما لا يعمله . فكفي بهذا ترديا في أبار المهالك. انتهي بلفظه
ويمضي في كتابه الي أن يقول : قال له قائل : فهل يجوز أن يكون في هذا الزمان من يوازي أبا
بكر وعمر ؟ قال الشيخ :إن كنت تعني في العمل فلا وان كنت تعني في الدرجات فغير مدفوع.
وذلك إن الدرجات بوسائل القلوب, وقسمة الدرجات بالأعمال. فمن الذي حرز رحمة الله تعالي عن
أهل هذا الزمان, حتى لا يكون فيهم سابق ولا مقرب ولا مصطفي ؟
أو ليس المهدي كائنا آخر الزمان ؟ فهو في الفترة يقوم بالعدل فلا يعجز عنه . أو ليس كائن في
الزمان من له ختم الولاية ؟ وهو حجة علي جميع الأولياء يوم الموقف .كما إن محمدا آخر
الأنبياء فأعطي ختم النبوة, فهو حجة الله تعالي علي جميع الأنبياء. فكذلك هذا الولي هو آخر الأولياء في آخر الزمان .
ويمضي في ذكر فضلهما رضي الله عنهما الي أن يقول : ألا تري في تلك الفتن, إذا قام احد بالعدل
وطمس الجور يلحقهما بالفضل ؟ وكذلك قال أنس رضي الله عنه: ( ليس لعامل زمان خير عن
زمانكم إلا أن يكون مع نبي ) فهذا وقت غربة الحق أفضل. وكذلك قال رسول الله : ( طوبي
للغرباء قيل ومن هم ؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس ) . وروي عن رسول الله انه قال :
( إن أهل الغرف ليرون في اعلي الدرجات كما يري الكوكب الدري في الأفق , وان أبا بكر وعمر
منهم ) . أفليس قد صيرهما من أهل الغرف ؟ وأهل الغرف هم أهل عليين , فهم المقربون .
وقد وصفهم الله في تنزيله, فقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ) سورة الفرقان الآية 63. فهل أخبر في الكتاب أو في الخبر عن رسول الله إن ( أهل الغرف) كانوا في أوائل الأمة أو في أواخرها ؟
فإنما وصف أهل الغرف بما يعقل من ظواهر أمورهم , وإنما نالوها بما في باطنهم , ألا
تري انه قال : (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً ) الفرقان الآية 75
. فإنما يصبر علي هذه الأخلاق والآداب والهيبة , من ملأ الله قلبه معرفة به وشرح صدره بنوره
وأحيا قلبه به _ والصبر : الدوام والثبات علي الشئ _ فهل يكون ذلك إلا لمن يكون باطنه مشحونا
بما ذكرناه ؟ .
ومما روي عن وهب بن منبه, رحمه الله, إن الملك الذي كلم عزيزا قال له عزيز: ( إن الله
تعالي كلل حكمه بالعقل وجعله له زينة ونظاما. فليس لزمان عنده فضيلة, ولا لقوم عنده أثرة إنما
فضيلته وأثرته لأهل طاعته, حيث كانوا ومن كانوا ومن أين كانوا ). ويمضي الإمام في حديثه عن
فضل أبو بكر وعمر الي أن يختم كتابه بقوله : ( والحمد لله وصلي الله علي من لانبي بعده محمد
خاتم الأنبياء المخصوص بالمقام المحمود وحده وعلي اله وسلم تسليما كثيرا . ونسأل الله تعالي
ونتضرع إليه في اقتفاء سنن ختم أولياء الذات وروح الكلمات التامات وأن يجمعنا به ويوصلنا
بسببه وصلة يتلوها شاهدها بتحقيق بينتها انه وهاب جواد محسان والحمد لله رب العالمين . وهذا آخر ما أوردته من كتاب ختم الأولياء للحكيم الترمذي (توفي سنة 320 هـ ).
فانظر يا أخي الي الأمر وتفكر وتدبر .
حديث " بدأ الإسلام غريباً. . . "
وأعظم فائدة لك أيها الطالب، وأكبر العلم وأجل المحصول، إن فهمت ما صح عنه أنه قال: "بدأ
الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ "حدثنا محمد بن عباد و ابن أبي عمر ، جميعاً عن
مروان الفزاري ، قال ابن عباد : حدثنا مروان بن يزيد - يعني ابن كيسان - عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال:
قال : بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء.
وفي سنن الترمذي الجزء التاسع كتاب الإيمان عن رسول باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريباً
وسيعود غريباً : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا إسماعيل بن أبي أويس. حدثني كثير بن عبد
الله بن عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة عن أبيه عن جده أن رسول الله قال: إن الدين ليأرز إلى
الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل، إن
الدين بدأ غريباً ويرجع غريباً، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وفي سنن الدرامي كتاب ومن كتاب الرقاق باب إن الإسلام بدأ غريبا حدثنا زكريا بن عدي : ثنا
ا حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال :
قال لنا رسول الله : إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود غريبا ، أظن حفصا قال : فطوبى
للغرباء . قيل : ومن الغرباء ؟ قال : النزاع من القبائل .
المفضلات