شاملى مميز
|
اشتمل البيت على سؤالين . الأول , هل الذكر أفضل أم الجهاد أفضل . الثاني , ما معنى توحيد العبد لله تعالى و ما فائدته مع أنه واحد قبل توحيدنا , و هل هو أفضل الطاعات أو لا , و بهما تمام واحد و أربعين سؤالا . قوله ما أفضل ذكر أم جهاد , أي أيما أفضل الذكر أم الجهاد . الفضل لغة الزيادة , و أفضل اسم تفضيل يقتضي زيادة على مقابله , و الذكر مر معناه و الجهاد لغة بالكسر القتال مع العدو كالمجاهدة . و بالفتح الأرض الصلبة التي لا نبات بها و ثمر , الا راك قاموس , و اصطلاحا الدعوة الى الدين الحق على طريق المبالغة و بذل الجهد و هو فرض كفاية , و قيل عين الخ . الفصل الأربعون : في الجواب على قوله ما أفضل , هل الذكر أم الجهاد . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " الذاكر المجاهد أفضل من الذاكر بلا جهاد , و أفضل من المجاهد الغافل , و الذاكر بلا جهاد أفضل من المجاهد الغافل عن ذكر الله تعالى . فأفضل الذاكرين المجاهدون , و أفضل المجاهدين الذاكرون . قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون " , فأمرهم بالذكر الكثير مع الجهاد رجاء للفلاح . و روى الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم , عن الله عز طوجل , أن الله تعالى يقول : " ان عبدي كل عبدي يذكرني و هو ملاق قرنه " , يعني في القتال . و روي أنه صلى اله عليه وسلم سئل " أي أهل المسجد خير , قال أكثرهم ذكرا لله تعالى عز و جل , قيل و أي الحجاج خير , قال أكثرهم ذكرا لله عز و جل , قيل فأي العواد خير , قال أكثرهم ذكرا لله عز و جل , فمن ثم قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه , ذهب الذاكرون لله تعالى بكل خير . و قال صلى اله عليه وسلم : " ذاكر الله تعالى في الغافلين كالمقاتل خلف الفارين " . و روي عن أبي سعيد الخذري رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم سئل " أي العبادة أفضل درجة عند اله تعالى يوم القيامة , قال الذاكرون الله تعالى ذكرا كثيرا ,قلت يا رسول الله و من المغازي في سبيل الله , قال لو ضرب بسيفه في سبيل الله في الكفار و المشركين حتى ينكسر و يخضب دما , لكان الذاكرون الله تعالى أفضل منهم " . و ذكر ابن الجوزي عن علي ابن الموفق , قال سمعت حاتما يقول : " لقيت الترك فرماني تركي فقلبني عن فرسي و قعد على صدري و أخذ بلحيتي الوافرة و أخذ سكينا ليذبحني , فوحدت سيدي ما كان قلبي عنده و لا عندي سكينه , انما كان قلبي عند سيدي أنظر مذا ينزله من القضاء , فقلت سيدي ان كنت قضيت علي أن يذبحني هذا فعلى الرأس و العين , انما أنا لك و ملكك , قال فرمى بعض المسلمين بسهم فما أخطأ حلقه فسقط , فقمت اليه فذبحته , فهذا ببركة ذكره لسيده بقلبه و الله أعلم , انتهى كلامه و هو عجيب . قلت , الجهاد جنس تحته أنواع منها جهاد النفس , و منها جهاد شياطين الجن , و منها جهاد شياطين الانس , و من ذلك جهاد الكفار و هو النفس و بالقلب و باللسان و بالمال و باليد , و عند أهل الله , التحقيق, أنه فرض عين , ما عدى جهاد الكفار فانه كفاية على المشهور كما تقدم , و لولا خيفة الاطالة المئدية الى السئامة لذكرناها على التفصيل و لكن نذكر بعضا منها على سبيل الاختصار تتميما للفائدة و الله أعلم . أما جهاد النفس و الشيطان , قال أهل التحقيق أنه من أعظم أنواع الجهاد , لأن أصل العداوة منهما . فجهاد النفس هو الزامها بطاعة الله تعالى و رسوله و محاسبتها على حركاتها و سكناتها و هو أعظم من جهاد الأعداء , لأن النفس الأمارة لا تفارق صاحبها طرفة عين و شيطانها كذلك لا يفارقها , بخلاف جهاد الأعداء من بني آدم , انما يكون في بعض الأحيان دون بعض , و لا يقوى عليه الا بعد جهاد نفسه , فان من لم يجاهد نفسه لا يستطيع أن يجاهد عدوه , و هو ظاهر فلا يحتاج الى دليل . و قد اتفق أهل المعرفة بالله تعالى على اختلاف طرقهم , على أن النفس قاطعة بين القلب و بين الوصول الى الله تعالى , أن العبد لا يصل الى ربه الا بعد تركها و اماتتها , و لا يقدر على امتتها الا بقهرها و مخالفتها . و الناس مع النفس على قسمين قسم ظفرت به نفسه فملكته و أهلكته فصار منقادا لها مأتمرا بأوامرها , و قسم ظفروا بنفوسهم فملكوها و قهروها و زموها بزمام الشرع . فهي تحت قهرهم و ملكهم و أمرهم , كما قال بعض العارفين , انتهى اسفر الطالبين الى الظفر بأنفسهم , فمن ظفر بنفسه أفلح و نجح و من ظفرت به نفسه خسر و هلك . قال تعالى : " فأما من طغى و آثر الحياة الدنيا فان الجحيم هي المأوى و أما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى " . قال الامام أبو عبد الله بن الضيم رحمه الله تعالى : " فالنفس تدعو الى الطغيان و ايثار الحياة الدنيا , و الرب تعالى يدعو العبد الى خوفه و نهي النفس عن الهوى , القلب بين الداعيين يميل الى هذا مرة و الى هذا مرة , و هذا موضع المحنة و الابتلاء " . و قد وصف سبحانه و تعالى النفس في القرآن بأوصاف جلها راجع الى ثلاثة : مطمئنة و أمارة بالسوء و بينهما لوامة . و اختلف الناس هل النفس واحدة و هذه أوصاف لها , أم لعبد ثلاثة أنفس . و الاول قول الفقهاء و المتكلمين و جمهور أهل التفسير , و قول محققي الصوفية , و الثاني قول كثير من أهل التصوف . و التحقيق انه لا نزاع بين الفريقين , فانها واحدة باعتبار ذاتها و متعددة باعتبار صفاتها . فاذا اعتبرت بنفسها فهي واحدة , و ان اعتبرت مع كل صفة دون الأخرى فهي متعددة . فالنفس اذا سكنت الى الله تعالى واطمئنت بذكره و أنابت اليه و اشتاقت الى لقائه و أنست بقربه , فهي مطمئنة , و هي التي يقال لها عند الموافاة " ايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك " , الآية . قال ابن عباس " المصدقة " , و قال قتادة " هو المؤمن اطمأنت نفسه الى ما وعد الله تعالى " . و قال الحسن " المطمئة بما قال الله تعالى و المصدقة بما قال " . و قال مجاهد " هي المخبتة التي أيقنت أن الله ربها و اضطربت جأشا لأمره و طاعته و أيقنت بلقائه " . و حقيقة الطمئنينة السكون و الاستقرار , فهي التي سكنت الى ربها و طاعته و أمره و ذكره و لم تسكن الى سواه . فقد اطمئنت الى محبته و عبوديته , و اطمئنت الى لقائه و وعده , و اطمئنت الى الرضى به ربا و بالاسلام دينا و بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا , و اطمئنت الى قضائه و قدره , و اطمئنت بأنه تعالى وحده ربها و الهها و معبودها و مليكها , و أنها لا غنى لها عنه طرفة عين . و اذا كانت بضد ذلك فهي أمارة بالسوء , تأمر صاحبها بما تهواه من شهوات الغي واتباع الباطل فهي مأوى كل سوء . ان أطاعها قادته الى كل قبيح و كل مكروه , و قد أخبر سبحانه و تعالى أنها أمارة بالسوء , و لم يقل آمرة لكثرة ذلك منها , و أنه عادتها و دأبها , الا اذا رحمها الله تعالى و جعلها زاكية , تأمر صاحبها بالخير , فذلك رحمة منه تعالى لا منها . فانها بذاتها أمارة بالسوء لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة , و العلم و العدل طارء عليها بالهام ربها و فاطرها . فاذا لم يلهمها رشدها بقيت على ظلمها و جهلها , فلم تكن الا أمارة بموجب الجهل و الظلم و كانت النفس الناطقة أسيرة عندها , لا تصرف لها , كالأسير في بلد الكفار , تعرف الحق و لا تقدر عليه و لا على متابعته . فلولا فضل الله تعالى و رحمته ما زكت منهم نفس واحدة , و بهذا يعلم أن ضرورة العبد الى ربه فوق كل ضرورة , فانه ان أمسك عنه رحمته و توفيقه و هدايته طرفة عين , خسر و هلك . و أما النفس اللوامة , فاختلف في اشتقاقها , هل هو من التلوم وهو التلون و التردد أو من اللوم , و عبارات السلف تدور على هذين المعنيين . قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس " ما اللوامة " , قال " هي النفس اللوم " . و قال مجاهد " هي اللتي تندم على ما فات و تلوم عليه " . و قال قتادة " هي الفاجرة " . و قال عكرمة " تلوم على الخير و الشر " . فهذه عبارات من ذهب الى أنها من اللوم , و أما من جعلها من التلوم , فلكثرة ترددها و تلومها و أنها لا تستقر على حال واحدة . و قال بعضهم , و النفس قد تكون تارة أمارة و تارة لوامة و تارة مطمئنة , بل في اليوم الواحد و الساعة الواحدة يحدث فيها هذا و هذا , و الحكم لغالب عليها من أحوالها . فكونها مطمئنة وصف مدح لها , و كونها أمارة وصف ذم لها , و كونها لوامة ينقسم الى المدح و الذم بحسب ما تلوم عليه , فوجب على العاقل أن ياهد نفسه و شيطانه على حفظ الجوارح السبعة التي هي العين و الأذن و الفم و اللسان و اليد و الفرج والرجل . فهذه الجوارح هي مركب العطب و النجاة . فمنها عطب من عطب باهمالها و عدم حفظها , و نجا من نجا بحفظ
ها و مراعاتها , و منع العدو من الشياطين من الدخول عليه منها , فان الله تعالى قد ابتلى هذا الانسان بعدو لا يفارقه طرفة عين , ينام و لا ينام , و يغفل و لا يغفل عنه , يراه هو دو قبيله من حيث لا يراه , يبذل جهده في معاداته في كل حال , و دلا يدع أمرا يكيده به يقدر على ايصاله اليه الا أوصله اليه , و يستعين عليه ببني جنسه من شياطين الجن و غيرهم من شياطين الانس , قد نصب له الحبائل و بغاة الغوائل و مد حوله الأشراك , و نصب له الفخاخ و الشباك , و قال لأعوانه دونكم عدوكم و عدو أبيكم لا يفوتنكم و لا يكون حظه الجنة و حظكم النار , و نصيبه الرحمة و نصيبكم اللعنة , قد علمتم أنما جرى علي و عليكم من الخزي و اللعن و الابعاد من رحمة الله تعالى فبسببه , و من أجله فابذلوا جهدكم أن يكونوا شركاء في هذه البلية , قد أعلمنا الحق تعالى بذلك كله من عدونا , و أمرنا أن نأخذ له أهبته . و لما علم سبحانه و تعالى أن آدم و بنيه قد ابتلوا بهذا العدو , و أنه قد سلط عليهم , أمدهم بعساكر و جند يلقونه بها , و أمد عدوهم أيضا بجند و عساكر يلقاهم بها . و أقام سوق الجهاد في هذه الدار في مدة العمر , واشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون , ثم أكد ذلك بقوله وعدا عليه حقا في التوراة و الانجيل و القرآن , ثم لا أوفى بعده منه سبحذانه و تعالى , ثم نبه أن يستبشروا بهذه الصفقة التي من أراد أن يعرف قدرها فلينظر الى المشتري من هو , و الى الثمن المبذول في هذه السلعة ما هو , و الى من جرى على يديه هذا العقد . فأي فوز أعظم من هذا و أي تجارة أربح منه . و لم يسلط سبحانه و تعالى هذا العدو على عبده المؤمن , الذي هو أحب أنواع المخلوقات اليه تعالى , الا لأن هذا الجهاد هو أحب شيء اليه , و أهله أرفع الخلق عنده درجات و أقربهم اليه وسيلة . فعقد سبحانه و تعالى لواء هذه الحرب لخلاصة مخلوقاته و هو القلب الذي هو محل نظره و معرفته و محبته و عبوديته و الاخلاص له و التوكل عليه و الانابة اليه . فولاه أمر هذه الحرب , و أيده بجند من الملائكة لا يفارقونه معقبات من بين يديه و من خلفه , يعقب بعضهم بعضا , كلما ذهب بدل جاء بدل آخر يثبتونه ويأمرونه بالخير , و يحضونه عليه , و يعدونه بكرامة الله تعالى و يصبرونه و يقولون له انما هو صبر ساعة , و قد استرحت راحة الابد . و منهم من يعبر له و يحضه على هذا الجهاد مناما , و منهم يقظة , كل ذلك اعتناء بهذا العبد و رحمة به , و لله الحجة البالغة على خلقه . و من هذا اشترط مشائخ التربية اخبار المريد منامه و خواطره , بحيث لا يفرد أحدهما على الآخر لشيخه و طبيبه و خصوصا المذمومات منهما ليعرف مزاجه بذلك و يعطيه من الدواء ما ينفعه , و أكدوا ذلك و قالوا " من كتم عن طبيبه أمر علته مات عليلا " و هو معنى قولهم لا يفلح أبدا , و هذا على طريق السلوك بالاصطلاح , و أما بالهمة فلا يحتاج اليه , و قد قيل بانقطاعه كما تقدم . و قد أجاب شيخنا نفعنا الله تعالى به , لعدم السالكين و انحطاط الهمة الى الدنيا و قلة الصدق و النية والاخلاص . و لقد أجاد ابن سعيد حيث قال " لكن سر الله في صدق الطلب " , لا لفقد المسلكين , لبقاء الصالحين الى أن تقوم الساعة أو أن ينزل عيسى عليه السلام , كما سبق ذكر منه . ثم أمره الله تعالى بجند آخر من وحيه و كلامه , فأريل اليه رسوله , و أنزل عليه كتابه فازداد قوة الى قوته و مددا الى مدده , و أمده مع ذلك بالعقل وزيرا و مدبرا , و أمره بالمعرفة مشيرة عليه ناصحة له , و بالايمان مثبتا له و مؤيدا و ناصرا , و باليقين كاشفا له عن حقيقة الامر حتى كأنه يعاين ما وعد الله تعالى به أولياءه و حزبه على جهاد أعدائه . فالعقل يدبر أمر جيشه , و المعرفة تضع له أمور الحرب و أسبابها و مواضعها اللائقة بها , و الايمان يقويه و يثبته و يبصره , و اليقين يقدم به و يحمل به الحملات الصادقة . ثم أمده سبح=انه و تعالى بالقوى الظاهرة و الباطنة , فجعل حالعين طليعته و الأذن صاحب خبره , و اللسان ترجمانه , و اليدين و الرجلين أعوانه , و أقوام ملائكته تعالى و حملة عرشه يستغفرون له . و علم سبحانه و تعالى عباده كيفية هذه الحرب و الجهاد فجمعهما لهم في اربع كلمات فقال: " يا ايها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون " . و لا يتم أمر هذا الجهاد الا بهذه الأمور الاربعة : فلا يتم له الصبر الا بمصابرة العدو و هي مواقعته و منازلته , اذا صابر عدوه احتاج الى أمر آخر و هو المرابطة , و هي لزوم ثغر القلب و حراسته لئلا يدخل منه العدو , و لزوم ثغر العين و الأذن و اللسان و البطن و اليد و الرجل , فهذه الثغور منها يدخل العدو , فيحوس خلال الديار و يفسد ما قدر عليه . فالمرابطة لزوم هذه الثغور , فالمرابطة من روابط ثغور نفسه ببدنه , و من لم يراتبط نفسه لا يقدر يرابط ثغر غيره , فليتنبه . و جماع هذه الثلاثة و عمودها الذي يقوم به , هو تقوى الله تعالى . فلا ينفع الصبر و لا المصابرة و لا المرابطة الا بالتقوى , و لا تقوم التقوى الا على ساق الصبر , فانظر الآن الى التقاء الجيشين , واصطفاف العسكرين , و كيف تدئل مرة و يدئل عليك أخرى . أقبل ملك الكفر بجنوده و عساكره , فوجد القلب في حصنه جالسا على كرسي مملكته , امره نافذ في اعوانه و جنده قد حفوا به يقاتلون عنه و يدافعون عن حوزته , فلم يمكنه الهجوم عليه الا بمخامرة بعض أمرائه و جنده عليه , فسأله عن أخص الجند به و أقربهم منه منزلة , فقيل له هي النفس , فقال لاعوانه ادخلوا عليها من مرادها و انظروا ما هو محبوبها فعدوها به و منوها اياه , و انقشوا صورة المحبوب فيها يقظة و مناما , فاذا اطمأنت اليه و سكنت عنده , فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة و خطاطيفها ثم جروها بها اليكم , فاذا خامرت على القلب و صارت معكم عليه , ملكتم ثغر العين و الأذن و اللسان و الفم و اليد و الرجل , فرابطوا على هذه الثغور كل المرابطة , فمتى دخلتم منها على القلب , فهو قتيل أو أسير أو جريح مثخن بالجراحات . ثم يضع على هذه الثغور حراسا من الشياطين يكيدونه في الطاعة و يعينونه في المعصية , و يقول لهم ان أكثر عونكم على لزوم هه الثغور مصالحة النفس الامارة فأعينوها و استعينوا بها , و أمدوها و استمدوا منها , و كونوا معها على حرب النفس المطمئنة فاجتهدوا في كسرها و ابطال قواها , و لا سبيل الى ذلك الا بقطع موادها عنها , فاذا انقطعت موادها و قويت مواد النفس الأمارة , انصاعت لكم أعوانها فاستنزلوا القلب من حصنه و عزلوه عن مملكته وولوا مكانه الامارة , فانها لا تأمر الا بما تحبونه . ثم يقول , و ان أحسستم من القلب منازعة الى مملكته و أردتم الامن من ذلك فانكحوه النفس الأمارة و زينوها له و جملوها و أروه أياها في أحسن صورة , واستعينوا يا بني على بني آدم بجنديين عظيمين لن تغلبوا معهما , أحدهما جند الغفلة , فاغفلوا بني آدم عن الله تعالى و الدار الآخرة بكل طريق , فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك , فان القلب اذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه و من أعوانه . و الثاني جند الشهوات فزينوها في قلوبهم و حسنوها في أعينهم , و صولوا عليهم بهذين العسكرين و استعينوا على الغفلة بالشهوات و بالشهوات على الغفلة , ثم استعينوا بهما على الذاكر و لا يغلب واحد خمسة . يقول اللعين اذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم من ذكر الله تعالى , أو مذاكرة أمره و نهيه و دينه و لم تقدروا على تفريقهم , فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الانس البطالين , فقربوهم منهم و شوشوا عليهم بهم , و ضموا الى سلطان الشهوة الغضب , فاني انما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة , و انما ألقيت العداوة بين اولادهم بالغضب . فيه قطعت أرحامهم و سفكت دمائهم . واعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم , و الشهوة نار تثور من قلبه , و انما تطفىء النار بالماء و الصلاة و الذكر و التكبير , فاياكم أن تمكنوا ابن آدم عند غضبه و شهوته من قربان الوضوء والصلاة و الذكر بأن يطفىء عنهم نار الغضب و الشهوة . قال اللعين , و قد أوصاهم الله تعالى أن يستعينوا عليكم بالصبر و الصلاة فحولوا بينهم وبين ذلك و أنسوهم اياه , انتهى كلامه لعنه الله , مع اختصار جدا , و انما أطلنا الكلام فيه , لأن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر المشار اليه في الحديث السابق و مبنى الدين عليه , و لكون توقف الذكر و الاسلام و غيره من جميع الطاعات عليه , فتبين على هذا أن قوله الذكر أفضل من الجهاد ليس على اطلاقه , فالمراد به هاد الكفار لا غيره من جهاد النفس و الشيطان كما تقدم بيانه . و عليه كما قال سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه : " ذكر الله عند أمره و نهيه خير من ذكره باللسان " , أو كلام مثله و الله أعلم . تنبيه : و لما جرى الكلام الى هذا , فلا بد من ذكر قاعدة بها ملاك الامر كله تتميما للجهاد المذكور , و هي معرفة محاسبة النفس . قال بعض السلف : " واعلم أن العبد له مع نفسه حالتان , الاولى قبل العمل : قال الحسن رحمه الله تعالى : " عبدا وقف عند همه , فان كان لله تعالى مضى , و ان كان لغيره تأخر " . و قد شرح هذا بعضهم فقال : " اذا تحركت النفس لعمل من الأعمال و هم به العبد وقف أولا و نظر ان كان مأذونا فيه أو غير مأذون . فان لم يكن مأذونا فيه لم يقدم عليه , و ان كان مأونا فيه وقف وقفة أخرى و نظر هل فعله خير من تركه , أو تركه خير من فعله . فان كان الثاني تركه و لم يقدم عليه , و ان كان الأول وقف وقفة ثالثة و نظر هل الباعث عليه وجه الله تعالى و ثوابه أم ارادة الجاه و الثناء من المخلوق . فان كان الثاني لم يقدم عليه و ان أفضى به الى مطلوبه لئلا تعتاد النفس الشرك , و يخف عليها العمل لغير الله تعالى . فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى , حتى يصير أثقل شيء عليها . و ان كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر هل هو معان عليه و له أعوان يساعدونه و ينصرونه اذا كان العمل محتاجا الى ذلك أم لا . فان لم يكن له أعوان أمسك عنه كما أمسك النبي صلى الله عليه و سلم عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة و أنصار. و ان وجده معانا عليه فليقدم عليه فانه منصور , و لا يفوت النجاح الا من فوات خصلة من هذه الخصال " . و الثانية محاسبة النفس بعد العمل , و هو ثلاثة أنواع , أحدها محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى , فلم يوقعها على الوجه الذي ينبغي , و حق الله في الطاعة بمراعاة ستة أمور , و هي الاخلاص في العمل و النصيحة لله تعالى فيه , و متابعة الرسول صلى الله عليه و سلم فيه , و شهود منة الله تعالى عليه فيه , و شهود تقصيره فيه بعد ذلك كله . فيحاسب نفسه هل وفى هذه المقامات حقها , وهل أتى بها في هذه الطاعة أم لا . الثاني , أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لم فعله , و هل أراد به الله تعالى و الدار حالآخرة , فيكون رابحا فيه . أو أرد به الدنيا و عاجلها , فيخسر ذلك الربح , فيتدارك ذلك بالتوبة و الاستغفار و الانابة الى الله تعالى . و المقصود أن القيام على النفس و محاسبتها و مجاهدتها في ذات الله تعالى منأهم الأمور , و لا ينقسم سير العبد الى ربه تعالى الا بذلك . و في الحديث الذي رواه الامام أحمد و غيره من حديث شداد ابن أوس , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت , العاجز من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله " . دان نفسه أي حاسبها , و منه قوله تعالى " انا لمدينون " , أي محاسبون . و ذكر الامام أحمد عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا و زنوها قبل أن توزنوا, فانه أهون عليكم في الحساب غدا " , الخ . و ذكر عن الحسن قال : " لا يلقى المؤمن الا يحاسب نفسه ما أردت بكلمتي , ما أردت بأكلتي , ما أردت بشربتي , و الفاجر يمضي قدما و لا يحاسب نفسه " . و قال قتادة في قوله تعالى " و كان أمره فرطا " , أضاع نفسه و غبن , مع ذلك تراه حافظا لماله مضيعا لدينه " . و قالت داية لداوود الطاءي : " با أبا سليمان أما تشتهي الخبز " , فقال لها : " يا داية , بين مضغ الخبز و شرب الفتيت قراءة خمسين آية " . و قال بعض الحكماء : " أعز الأشياء شيئان , قلبك و وقتك . فاذا أهملت و قتك و ضيعت قلبك , فقد ذهبت منك الفوئد كلها " . و قال ميمون بن مهران : " لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه " , ولهذا قيل النفس كالشريك الخوان , فان لم تحاسبه و الا ذهب بمالك . و كتب عمر رضي الله تعالى عنه الى بعض أعماله : " حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة , فانه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره الى الرضى و الغبطة , و من ألهته حياته و شغلته أهوائه عاد أمره الى الندامة و الحسرة " . و قال ابن المبارك في تفسير قوله تعالى " و جاهدوا في الله حق جهاده " , هو جهاد النفس و الهوى , و هو الجهاد الأكبر , واستدل عليه بحديث " رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر " , و قال هو أن يطاع فلا يعصى , الخ . وروى الترمذي من حديث فضالة بن عبيد , قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المجاهد من جاهد نفسه في سبيل الله " , انتهى و الله أعلم . قوله و ما توحيد واحد يفيد , أي ما معنى توحيد العبد لله تعالى , و ما فائدته مع أنه واحد قبل توحيدنا , و هل هو أفضل الطاعات . أولا , التوحيد لغة الحكم بأن الشيء واحد , و العلم بأنه واحد . يقال وحدته أي وصفته بالوحدانية , كما يقال شجعته أي وصفته بالشجاعة . واصطلاحا تجريد الذات الالاهية عن كل ما يتصور في الافهام و يتخيل في الأذهان و الأوهام . و معنى كون الله تعالى واحدا نفي الانقسام في ذاته و نفي الشبه و الشريك في ذاته و صفاته . الفصل الواحد و الاربعون : في الجواب على قوله و ما معنى توحيد العبد لله تعالى لأنه واحد , و ما يفيدنا مع أنه واحد قبل توحيدنا , الخ . اعلم أنه قال الامام زين الدين في الجوهر الخاص , رحمه الله تعالى , معناه معرفة وحدانيته تعالى الثابتة له , و توحيد الخلق له لم يفد الحق بثبوت الوحدانية له تعالى . ليس بتوحيدك يتوحد الواحد , بل هو على كل حال واحد , و انما أفاد الموحد صفة الموحدية , و الحق تعالى وراء كل توحيد , قائم بذاته موصوف بصفاته , غني عن غيره في جميع كملاته . و دالتوحيد سبب النجاة من النار و هو أفضل الطاعات و شرط في صحتها . و اختلفت عبارات الناس فيه , فسئل ذو النون المصري عن التوحيد فقال : " أن تشهد أن قدرته في الاشياء بلا علاج , و صنعه للأشياء بلا مزاج و علة . كل شيء صنعه و لا علة لصنعه , و ما جلاه الوهم أو حكاه الفهم فالله تعالى بخلافه " . و قال ابوالقاسم الجنيد رحمه الله تعالى : " التوحيد اثبات القدم و نفي الحدوث " . و قال الامام الغزالي رحمه الله تعالى : " التوحيد أصل على ثلاثة مراتب . توحيد العامة , و هو أن تشهد أن لا اله الا الله , و يسمى التوحيد المجرد . و توحيد خاصة العامة , و هو أن لا ترى مع الحق سواه , و يحصل لهم بالقائق العشرة و هي المكاشفة و المشاهدة و المعاينة و الحياة و القبض و البسط و الصحو و السكر و الايصال و الانفصال . فأهل الحقائق أهل هذه المقامات و الله أعلم . تحقيق : الحكم بأن الشيء واحد و العلم بأن الشيء واحد أيضا توحيد , و غلبة روية الحق على القلب توحيد . فمن اعتقد أنه تعالى واحد بغير دليل موحدا , وعلم أنه تعالى واحد فهو موحد أيضا . فمن حصل له التوحيد الأول فهو مؤمن , و من حصل له الثاني فهو عالم , و من حصل له الثالث فهو عارف . فالأول توحيد كافة الصوفية . تدقيق قال الجنيد قدس سره : " الوحدانية أعلى من الربوبية , لأن الوحدانية ترجع الى توحيد مولانا جل و علا , و الربوبية ترجع الى مربوبيتنا , و كل ما أضيف اليه يكون أعلا مما أضيف الينا و الله أعلم , انتهى كلامه . قلت , و لما كان التوحيد سبب النجاة من النار و هو أفضل الطاعات و شرط في صحتها , و اختلفت عبارات الناس فيه كما ذكره الشيخ , ينبغي لنا زيادة كلام فيه على مذهب أهل الحقيقة , ليكون في البيان كافيا و من داء الشكوك و الأوهام و الظنون شافيا ان شاء الله تعالى . اعلم أيه المتجرد المريد المستشرف على مراتب التوحيد أن الحق تعالى واجب الوجود لذاته , يعلم ذاته و يعلم صفاته و يعلم أفعاله . فهناك أربع اعتبارات : الأول من حيث هو واجب الوجود , و ذلك هو الوجود فقط و هو النور المطلق المشار اليه في قوله صلى الله عليه و سلم : " ان الله نظر دالى نوره المطلق " , الخ , و هو البحر الطمس و العمى الذي لا عين فيه و لا اثر و لا كلام و لا خبر بل هو الحق أخ العدم لمن أراد أن يتأخر أو يتقدم . و الثاني من حيث هو يعلم ذاته و هذا هو تعيين ذاته من حيث الذات , و هذا العلم هو المحمول على الذات , الذي هو عين العالم و المعلوم , و هذا هو الكنز المخفي و الذكر الخفي مصدوق التا و المشار اليه بأنا . واعلم أن عن هذا التعيين الذاتي ظهرت الصفات العلية في العلم , اذ هي من الوجود فافهم المقصود , واعلم أن الذكر المشار اليه في قوله صلى الله عليه وسلم " و كتب في الذكر كل شيء " , هو الحقيقة المحمدية , و هو الكنز المخفي و الذكر الخفي اليه ينتهي السير و السفر , و منه تبدو مراتب السفر , و عند ذلك يظفر بمرتبة الصديق و بالاسم الأعظم , و تكمل مراتب التحقيق و ليس شيء بعد ذلك يرام , و ها هنا ينقطع الكلام . و الثالث من حيث هو يعلم صفاته , و هذا هو التعيين الصفاتي من حيث الصفات , و عن هذا التعيين كانت أسمائه الصفاتية العلية , كما ان عن تعيين ذاته كان اسمه الأعظم . فافهم واعلم أن عن هذا التعيين وجدت الافعال , اذ الصفات مرتبطة بأثرها بالذات , فافهم ثم اعلم أن هذا العلم هو مبدأ الكثرة الوهمية و العينية و مبدأ الانفعال و حصول الآثار و تمييز النسب و التفرقة بين العبد و الرب , بل هو البرزخ الواصل و الحجاب الفاصل , مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان . و بالجملة هو أصل المتفرقات و مجمع المختلفات , الذي تنوعت مظاهره , و ان شئت قلت مراتبه , و ان شئت قلت ذاته الى ع ل م و ادراك و و ه م , فاعلم ذلك . و الرابع من هو يعلم أفعاله , و هذا هو التعيين الفعلي من حيث الافعال , و عن هذا التعيين كانت أسماء أفعاله التي هي في الحقيقة أعيان الى ع ا ل م . و بالجملة فالموجود من حيث الوجوب الذاتي الذي هو الحق باطلاق ذات و صفات و أفعال , و لكل مرتبة من هذه تعيين من حيثيتها واسم من ذلك التعيين . فللتعيين الذاتي من حيث الذات الاسم الأعظم , و الصفاتي من حيث الصفات اسم الصفة , و الفعلي من حيث الأفعال أسماء الافعال . فليس الوجود في الحقيقة الا ذات الله جل و علا و صفاته و أفعاله . و صفاته ليست غير ذاته , و أفعاله راجعة الى صفاته , و مراتب الوجود من حيث الوجود الممكن الذي هو الحق باضافة , و هو العبد كلمة ثم روح ثم نفس ثم جسم , فالجسم عالم الملك و النفس عالم الملكوت و الروح عالم الجبروت و الكامة عالم العزة , سبحان ذي الملك و الملكوت , سبحان ذي العزة و الجبروت . فالروح الجبروتي مظهر الذات , و النفس الملكوتي مظهر الصفات , و الجسم الملكي مظهر الأفعال , و الكلمة البرزخ الكلي الجامع و الحيز المانع , حقيقة الحقائق و روح كل الخلائق . قال تعالى : " و يحق الحق بكلماته " , و قال تعالى : " فآمنوا بالله و رسوله النبي المي الذي يؤمن بالله و كلماته " . فالكلمة اذا حقيقة كل كون متعين و الكلمة في ذات المتكلم , الخ . و بالجملة فالحق حل و علا أظهر الموجودات و جعل مبدأها الكلمة الجامعة و الحقيقة الجاذبة الرافعة و العنصر الأعظم و الروح الأعلم أصل حالأكوان علما و عينا و المفيض عليها من حضرة الجود الأسنى صلى الله عليه و سلم و شرف و كرم و مجد و عظم . بل هو مظهر الاسم الأعظم , بل هو كنز من اعتبر و فهم . ثم انه لما أتم الله تعالى مظاهر الحق و مراتب الوجود باللسان الجامع للقبضتين , و ما اشتملت عليه كلتا اليدين من كل ضدين و خلافين و مثلين , و كان المقصود من الجمع معرفة الشأن العزيز الذي هو شأن الله تعالى , كما قال تعالى : " و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون " , " و كنت كنزا " , الخ . و كان هذا الانسان الكامل ليس شيء يصلح لذلك أو يكون أهلا لما هنالك لجمعيته الكلية , و حقيقته البرزخية . فقبل تلك المعرفة من بين من هنالك " انا عرضنا الأمانة " , الآية , فكان من حيث قبضة اليمين في أحسن تقويم , و من حيث قبضة الشمال في أسفل سافلين , و هذا من العلم و الجهل . فشأن العبد اذا رجعوه باليقين و الشهود الى حقيقة التوحيد و وحدة الوجود , بحيث يخير عن الامر بما هو عليه في نفسه ان تكلم و لا يكون للوهم عليه من تحكم . فمن علم ما هو الامر عليه في نفسه أو استعد للعلم بذلك فهو السعيد القويم , و من جهل ذلك و تكاسل عن تحصيل ذلك فهو الشقي السفيل . ثم ان الأنسان القويم على قسمين , من هو باق على تقويمه لم يعرض له ضده , كالأنبياء و الكمل من الأولياء . ومنهم من عرض له ذلك , ثم خلصه الله تعالى من ذلك , و هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات , و هؤلاء على قسمين : منهم من وصل بالجذبة الالهية , أعني أخذ الحق تعالى بيده و اخراجه من الكثرة الوهمية الى الوحدة الوجودية , اما ايمانا و علما , أو دراية و فهما , أو وجدا و كشفا , بحيث لا يجد لاخراجه تكلفا و لا لقطع عوالمه الوهمية تألما . و منهم من وصل بالسلوك , و هو الذي قطع بالرياضة و المجاهدة و الخلوة و الذكر مراتب الملك و ظفر بعد ذلك بنتيجة الملك بملك عنان نفسه و سلوكها الى حضرة قدسه , و ذلك باعتنائه بالتقوى التي وصى بها الله تعالى كافة خلقه بقوله تعالى " و لقد و صينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و اياكم أن اتقوا " . و بيانه أن التقوى بلسان المحقق هي ذهاب السوى من الوجود , و ذهاب السوى من الوجود هو التحقق بالوجود , و التحقق بالوجود هو تحققك بفص هويتك , و تحققك بفص هويتك هو وجودك فقط , و وجودك فقط أن لا تكون أنت و لا هو , و أن تكون أنت و لا هو , هو وجود الله , و ودود الله هو كان الله و لا شيء غيره , و كان الله و لا شيء غيره هو أن يكون الله فقط , و أن يكون الله فقط هو أن يكون الله كل شيء , و أن يكون الله كل شيء هو أن تكون أنت , و أن تكون أنت هو أن لا يكون السوى . فانظر هذا الأمر ما أغربه و أعجبه , فانه دوري , فالدور عجيب و الواصل اليه غريب , و لهذا قيل شعر :
ففي الخلق عين الحق ان كنت ذا عين و في الحق عين الخلق ان كنت ذا عقل
و ان كنت ذا عين و عقل فما ترى سوى عين شيء واحد فيه بالشكل
فابحث عن شئونك فانك مجمع الشئون , و محل الظهور و الكمون , و لا تقنع بما يبدو لك من العرفان . فابحث فان القناعة من الله تعالى حرمان , و بأي شيء تقنع و ما بقي فهو أنفع و الأمر من كل هذا أوسع . فالتقوى هي سلم الوصول الى مراتب التوحيد , و لهذا قالوا , ان التوحيد على ثلاثة أقسام تقليدي و نظري و ذوقي . أما التقليدي , فهو الظاهر الجلي الذي يقي من الشرك الأعظم , و عليه نصبت القبلة و به وجبت الذمة و حقنت الدماء و الاموال و صحت به الملة للعامة , و ان لم يقوموا بحق الاستدلال اذ ليس في وسع كل انسان الاهتداء لطريق النظر و الاستدلال , لاختلاف الفطر و تباين الطباع من البشر , لا سيما من أول وهلة , وقد كان الداخلون في الاسلام من الأعراب و غيرهم على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و غيره , يدخلون في الاسلام فيحسبون من أهله بمجرد التقليد , ثم لا يزالون
يباشرون أحوال الدين و وظائف الاسلام و يعملون بها حتى تستمكن بشاشة الايمان من قلوبهم , فيقوى ايمانهم و يرتص بناء توحيدهم . فهذا النوع من التوحيد أقل ما يجزءى لأهل التوبة التي هي أصل التقوى , و ان فتح لهم في زائد عليه فهو أحسن و أكمل . و أما النظري فهو ما يحصل من اليقين عن النظر في المخلوقات , فيستدل بها على الخالق , و في المصنوعات فيستدل بها على الصانع , و في المحدثات فيستدل بها على القديم بتحقيق جواز الجائز , و وجوب الواجب و استحالة المستحيل بقوانين علمية و مقايس عقلية تفيد القطع بوجود الباري تعالى و صفاته و أفعاله , حتى لا يدخله في ذلك تشكيك و لا احتمال . و ليس من شرط هذا النوع من التوحيد افصاح لسان كل أحد ممن يدعيه بحجج المناظرة على صحة ذلك , و لا تجويد العبارة عن حقائقه , اذ ليس كل انسان يقدر على الوفاء بالتعبير عن المعاني القائمة في نفسه التي هي مناط المعرفة الى ربه تعالى , و هذا النوع من التوحيد أقل ما يجزءى لأهل الاستقامة و هي بداية التقوى , و ذلك بما خالطوه من أمور الدين و وقفوا عليه من آثار الشرع المبين , و بما باشروه من وظائف سنته مع ما واصلوهمن محبته و ذكره و الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم , حتى قام لهم بذلك نور تنشرح به الصدور لتدبر العبر و الاهتاء لطرق الاستدلال و النظر . و لا شك أن العقل تشحره و تجوهره و تصفي مرآته أعمال الطاعات و وظائف العبادات , حذتى يهتدي بذلك الى سبيل النظر و الاستدلال , فيحسب حسن نتيجة الاحوال . و أما التوحيد الذوقي , فله سبع مراتب : الأولى , تفيد حسن الاهتداء بالبطن لنيل مذاق يفيد الزيادة في مادة ما أفاده النظر , و الستدلال من ثلج اليقين في التوحيد القطعي , و هذا من نتائج التقوى , لأن التقوى تنزيه القلب عن الذنوب بملاحظة الله تعالى . فكلما خطر بباطنه همة شيطانية , تذكر ما لديه من أمر العبادة , فظهر له بنورها أن معبوده واجب أن يطاع فلا يعصى , فيطرد بذلك عن باطنه جميع واردات الشر , فتذهب عنه بذلك المكدرات التي تحجب عن استبصار الحقائق , فيزداد بذلك قوة في ثلج اليقين و نور التوحيد ما يغنيه عن النظر و الاستدلال و ضعف التقليد . و الثانية , تفيد تحصيل بداية توحيد الافعال , و تختص بمنزل الاخلاص , أول منازل مقام الايمان . و الثالثة , تفيد تحصيل نهاية توحيد الافعال و تختص بمنزل الصدق ثاني منازل مقام الايمان . و الرابعة , تفيد تحصيل بداية توحيد الصفات , و تختص بمنزل الطمأنينة ثالث منازل مقام الايمان و الخامسة , تفيد تحصيل نهاية توحيد الصفات , و تختص بمنزل المراقبة , أول منازل مقام الاحسان . و السادسة , تفيد تحصيل بداية توحيد الذات , و تختص بمنزل المشاهدة ثاني منازل مقام الاحسان . و السابعة , تفيد تحصيل نهاية توحيد الذات , و تختص بمنزل المعرفة ثالث منازل مقام الاحسان . و نهاية كل مرتبة تشترك مع بداية المرتبة التي تليها . و نعني بتوحيد الأفعال العثور على ما تقتضيه أفعاله تعالى من سر التوحيد , و بتوحيد الصفات العثورعلى ما تقتضيه صفاته تعالى من سر التوحيد , و بتوحيد الذات العثور على ما تقتضيه ذاته المقدسة من سر التوحيد . و توضيحه أن الله تعالى حجب ذاته المقدسة بصفاته , و حجب صفاته العلية بأفعاله , و حجب أفعاله الجميلة بمألوفات طباع الانسان . و قد أفصح بهذا عبد الله بن عباس حين تكلم في التوحيد , فقال : " حجبت الذات بالصفات و حجبت الصفات بالافعال , فبقدر ما يخرج الانسان عنه من مألوفات طباعه , يبدو له من حقائق توحيد الأفعال , و بقدر ما يحصل عليه من توحيد الأفعال , يظفر به من أسرار توحيد الصفات , و بقدر ما يلوح له من أنوار توحيد الصفات يشاهد من عجائب توحيد الذات " . و ذكر غايات ذلك انما هو نسبة أقصى ما يحمله عقل الانسان , لأن أسرار التوحيد لا غاية لها و لا نهاية , فهي تستغرق العقول و تكتنف الاذهان من الفحول , و تقطع نياط مجال الافكار لمن تمعن بالجد و الاستبصار و الله تعالى و دلي التوفيق و اليه يعود التحقيق , و من تحقق بهذا الفصل و الذي قبله , فهو السالك الموحد . فقد ظفر بأسلوب الطريقة و الحقيقة , و ان بقيت هناك أمور لا غرو يعثر عليها ببركة جهاده لنفسه و ولوجه بالتوحيد الى حضرة قدسه . فتبين بما تقرر معنى قوله و ما توحيد واحد يفيد . فائدة : الموحد حقيقته هو الخارج من تقليد المقال بالنظر و الاستدلال الى توحيد الحال , بدايته الافعال و لهذا قال :
ما وحد الواحد من واحد اذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد
توحيده اياه توحيده و نعت من ينعته لاحد
فافهم الاشارة تغنيك عن العبارة , و في التلويح ما يغني عن التصريح . من عرف نفسه فقد عرف ربه , و قال عليه السلام : " أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه " , و فيه كفاية و الحمد لواهب الهداية . ثم قال عفا الله عنه :
( و ما اذكر ربك اذا نسيت حمدلة هيللة فضلت )
اشتمل البيت على سؤالين . الأول , ما معنى قوله تعالى " واذكر ربك اذا نسيت " . الثاني , أيما افضل , الحمد لله رب العالمين , أو لا اله الا الله , و بهما تمام ثلاثة و أربعين سؤالا . قوله " و ما اذكر ربك اذا نسيت " , أي ما معنى قوله تعالى في التنزيل " واذكر ربك اذا نسيت " . واذكر , أمر من ذكر ذكرا , و هو لغة كما قال في القاموس , الذكر بكسر حفظ الشيء كالتذكار , و الشيء يجري على اللسان و الصيت كالذكرة بالضم و الثناء و الشرف و الصلاة لله تعالى و الدعاء , الخ . و اصطلاحا , كما قال في مفتاح الفلاح هو التخلص من الغفلة و النسيان بدوام حضور القلب مع الرب كما تقدم الخ . و الرب لغة المعبود و السيد و المالك و القائم بالأمور , المصلح لما يفسد منها , كذا في جواهر الحسان . واصطلاحا اسم للحق تعالى عن اسمه باعتبار نسب حالذات الى الموجودات العينية أرواحا كانت أو أجسادا , و الكاف خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم خصوصا و لغيره عموما , و اذا ظرف مستقبل خافض لشرطه منصوب بجوابه , و نسيت فعل من النسيان بكسر فسكون , و التء خطاب لمحمد صلى الله عليه و سلم كما تقدم في الكاف , و هو لغة خلاف الذكر و الحفظ جوهري , و اصطلاحا الغفلة عن معلوم في غير حالة السنة , فلا ينافي الوجوب , أي نفس الوجوب لا وجوب الأداء , كذا في كتاب التعريفات و الاصطلاحات . الفصل الثاني و الاربعون : في الجواب على قوله تعالى " و اذكر ربك اذا نسيت " , الآية , قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " هذه الآية وقعت بعد قوله تعالى " و لا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله " , قال الواحدي في تفسيره الوجيز هذا تأديب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم , أمر له بالاستثناء بمشيئة الله تعالى " . و اذكره , أي قله . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما , يجوز الاستثناء الى سنة ما لم يحنث , و عن الحسن و طاووس ما دام في الملجس و أكثرهم لا يجوزه حتى يكون متصلا . و اذكر ربك اذا نسيت يذكرك اذا تذكرت . و قال الكواشي " و اذكر ربك " بالاستغفار اذا نسيت الاستثناء , أو اذكر ربك اذا تسيت شيئا ما لتذكره . و قال بعض الصوفية و اذكر ربك بلسانك و ان كان قلبك ساهيا أو غافلا , فقد قال ابن عطاء الله : " لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه , فان غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره , فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة الى ذكر مع وجود يقظة , من ذكر مع وجود يقظة الى ذكر مع وجود حضور , و من ذكر مع وجود حضور الى ذكر مع وجود غيبة عن ما سوى المذكور , و ما ذلك على الله بعزيز " . و قال بعض , و اذكر ربك اذا نسيت نفسك , أي تركتها ترك الناسي , أي تركت طاعتها و خالفت هواها لأن من ذكر الله تعالى على الحقيقة نسي في جنبه كل شيء , و حفظ الله تعالى عليه كل شيء , و كان له عوضا عن كل شيء , و هذا حال العارفين المحققين من الأولياء , و هو الغيبة في الذكر عن سوى المذكور , و استدلوا له بهذه الآية " واذكر ربك اذا نسيت " , أي ما دون الله تعالى , فاذا تكون ذاكرا لله تعالى . هذا و ان الذكر في الاصل خلاف الغفلة , لأن الذكر حضور المعنى في النفس ثم يكون في القلب , ثم يكون بالقول , و قد يستعمل من غير سبق نسيان كما قيل :
حاضر في القلب يعمره لست أنساه فأذكره
انتهى كلامه و الله أعلم . قلت , و أنسب العبارات للمقام ما ذكره في اللباب , نقلا عن ابن عطا , و اذكر ربك اذا نسيت , أي اذا نسيت ما سوى الله تعالى و ذكرت الله تعالى , فأنت ذاكر حقا , و الا فلم تخرج عن الامر و اجعل نفسك أول منسي كما قيل :
لازم الباب ان عشقت الجمال و اهجر النوم ان أردت الوصال
و اجعل الروح منك فداء في الحبيب جماله قد تلالا
قال , و الىية تفصح عن قوله تعالى " لا يزال عبدي يتقرب الي بنوافل الخيرات حتى أحبه , فاذا أحببته كنت له سمعا و بصرا و يدا و مِئيدا , فبي يسمع و بي يبصر" , الخ كلامه , فانظره .تنبيه : في الآية تحريض على الذكر كيف ما أمكن في حال غفلة أو في حال حضور على ما نقله الشيخ عن بعض الصوفية . و المراد بالحضور الفهم عن الله تعالى فيه ما مرادك به و ما الذي أنت تذكر . لا يزال الذاكر يتردد بين فهم ما ذكر حتى يفنى , ما لم يكن و يبقى ما لم يزل . و لقد سال الشيخ أبو عثمان عن ذكر الله تعالى باللسان و القلب غافل , فأجاب : " لا تترك الذكر على أي حال , و دواء هذه العلة في خمسة أشياء . الأولى مجالسة أهل الذكر و البعد من غيرهم . و الثانية , التضرع الى الله تعالى و دوام ذكره في الأسحار , فان الوسوسة في ذلك الوقت أقل من غيره . الثالثة , النظر في كتب الصالحين و حكاياتهم . الرابعة , اقلال الطعام و الاقتصاد في القوت و الملبس . الخامسة , امزاج الذكر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم . فاذا لازمت هذه الخمسة زالت الغفلة عن قلبك , و فتح الله تعالى لك في بصيرتك بابا تفهم منه و تدري ما لم تكن تدري قبل ذلك . قال عليه السلام : " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " . و قال الصوفية " ذكر الله تعالى هو مفتاح الفلاح و مصباح الأرواح و عمدة الطريق الى الفتاح , بدايته المعرفة و نهايته العيان " . و قالوا أيضا " باب الدنيا الهوى , و باب الهوى الحرص و باب الحرص الأمل , و الأمل هو الداء العضال الذي لا دواء له , و أصله حب الدنيا , و باب حب الدنيا الغفلة عن الله تعالى , و الغفلة غلاف في باطن القلب يتربى من ترادف الذنوب , و دواء ذلك كله ذكر الله تعالى باسمه الاعظم . و باب الذكر الفكر , و باب الفكر اليقظة , و باب اليقظة الزهد , و باب الزهد القناعة , و باب القناعة طلب الآخرة , و باب طلب الآخرة التقوى , باب التقوى دوام ذكر الله تعالى . فذكر الله تعالى هو قطب رحاها و شمس ضحاها , و به يسلك الطريق , و يصل الى فهم علم التحقيق . و لهذا قيل " اذا رأيت من فتح له بالتصديق بعلم التقيق فبشره , و اذا رايت من فتح له بالفهم فيه فاغبطه , و اذا رأيت من فتح له بالنطق فيه فعظمه , و اذا رأيت جاحد له او مكذبا , ففر منه " . و قالوا أيضا " كل مصدق بهذا العلم فهو من الخاصة , و كل من فهمه فهو من خاصة الخاصة , و كل من عبر عنه أو تكلم به فهو النجم الذي لا يدرك و لبحر الذي لا ينزف " , كذا في أنوار القلوب من العلم الموهوب . قال صلى الله عليه و سلم : " لو عرفتم الله حق معرفته لعلمتم العلم الذي ليس بعده جهل , و ما بلغ ذلك أحد , قيل و لا أنت يا رسول الله , قال و لا أنا , فقيل ما كنا نرى أن الرسل عليهم الصلاة و السلام يغيب عنهم شيء أو تقصر مقاماتهم عن شيء , فقال صلى الله عليه و سلم , الله أعظم شأنا و أعظم سلطانا من أن ينال أحد أمره كله " . أشار الى المعرفة الخاصة بالحق تعالى , و هي الاحاطة بالمعلومات على الاطلاق من غير تقييد . و أما معرفة الخلق فبقدر ما حوطهم يحيطون . فالناس فيها على درجات , و الذاكرون في الدرجة العليا , لأن لكل قلب من الأنوار بحسب ما ظهر له من الأسرار . فليس من اهتدى بنور ذكر الله تعالى الى الله كمن اهتدى بنور غيره اليه , و لا من استدل يالله على الأشياء كمن استدل بالاشياء على الله , فلا يصل الى الفتح الرباني الوهبي من في قلبه مثقال ذرة من احساس الغيرية من نفسه أو غيره . فان قلب العارف لا ينفك عن شهود الحق تعالى بأنه الخالق لكل شيء . فهو له به مشاهد , و كذا سره الا أن مشاهدة السر غير مشاهدة القلب . فالسر ما يكون مكتوبا بين الحق و العبد , يخص الله تعالى به بعض أصفيائه و هو ألطف من الروح , و ليس مطلوب القوم الا هو مشاهدته , لأن المشاهدة وجود بلا حدود , و شهود العين بلا أين و حضور القلب مع الرب . و ما دام حاضر القلب فهو مشاهده تعالى في سائر مخلوقاته , موجدا بلا حلول و لا اتصال و لا انفصال لأنه لا اتصال لأحد بذاته , لأن التقيد مظهر من مظاهره تعالى , أظهره رحمة و هو ايجاده و خلقه , و الاطلاق وصفه تعالى و ستره . و في الحقيقة لا تغاير لأنه واحد أحد , فلا تلحظ لسواه , لأنه الموجد لكل شيء , و مظهره من العدم , و لا انفصل عنه أحد من حيث العلم , لأن أصل ظهور العالم وجود الصفات و هي لا تنفك عن الذات , لأن الذات ظهرت بصور معلوماتها . فما أظهر العالم الا على وفق ما كان عليه في علمه تعالى , لأن تعلقاته أزلية . فالعالم كله قديم في العلم حادث في الظهور . و ما وقع حقيقة التكوين الا على هذه الصور البارزة لعالم الشهادة , لا على الأمور الثابتة في العلم , فافهم و انظر الى الماء بواسطة النار صار محرقا فهي متصلة بالصفات منفصلة بالذات . فاذا أردت الحضور مع الذات العلية على الدوام , فعليك بذكر الله تعالى , لأنه الحضرة الجامعة للحضرات كلها , و الملازمة عليه تفضي الى انمحاق الآثار و نسيان الاغيار كلها , و لهذا قال تعالى " و اذكر ربك اذا نسيت " , خص الذكر بالربوبية , لأنها اسم للمرتبة المقتضية لأسماء التي تطلب الموجودات , و يدخل تحتها اسم العليم و السميع و البصير و القيوم و المريد و الملك و ما أشبه ذلك , لأن كل واحد من هذه الاسماء و الصفات يطلب ما يقع عليه . فالعليم يقتضي المعلوم و القادر يقتضي المقدور , و المريد يطلب مرادا و ما أشبه ذلك . و بالربوبية ظهور الرحمان الى الموجودات , و من هذه المرتبة صحت النسبة بين الله و عباده . و أن للربوبية تجليان , تجل معنوي و تجل صوري . فالتجلي المعنوي ظهوره في أسمائه و صفاته على مااقتضاه القانون التنزيهي من أنواع الكمالات , و التجلي الصوري ظهوره في مخلوقاته على ما اقتاه القانون الخلقي التشبيهي و ما حواه المخلوق من أنواع النقص . فاذا ظهر سبحانه و تعالى في خلق من مخلوقاته على ما استحقه ذلك المظهر من التشبيه , فانه على ما هو عليه من التنزيه سبحانه . و الامر بين صوري ملحق بالتشبيه و معنوي ملحق بالتنزيه . ان ظهر الصوري فالمعنوي مظهر له , و ان ظهر المعنوي فالصوري مظهر له , و قد يغلب حكم أحدهما فينستر الثاني تحت الحكم بالأمر الواحد على حجاب , فافهم , و من هذا قيل شعر :
ففي الخلق عين الحق ان كنت ذا عين و في الحق عين الخلق ان كنت ذا عقل
و ان كنت ذا عين و عقل فما ترى سوى عين شيء واحد فيه بالشكل
فائدة : لا يزال الذاكر يترقى بالذكر الى المراقبة ثم المشاهدة , فيسمى أولا ذا العقل , و هو الذي يرى الخلق ظاهرا و الحق باطنا , فيكون الحق عنده مرآة الخلق , لاحتجاب المرآة بالصورة الظاهرة فيها احتجاب المطلق بالمقيد . ثم يترقى فيسمى ثانيا ذا العين , و هو الذي يرى الحق ظاهرا و الخلق باطنا , فيكون الخلق عنده مرآة الحق لظهور الحق عنده واختفاء الخلق فيه اختفاء المرآة بالصورة , ثم يترقى الى مقام أيضا , فيسمى فيه ذا العقل و العين , و هو الذي يرى الحق في الخلق و هذا أقرب النوافل , و يرى الخلق في الحق , و هذا أقرب الفرائض , و لا يحتجب بأحدهما عن الآخر , بل يرى الوجود الواحد بعينه حقا من وجه و خلقا من وجه . فلا يحتجب بالكثرة عن شهود الوجه الواحد الأحد , كما لا يحتجب بكثرة المرايا عن شهود الواحد الأحد الراءي . أعني لا يزاحم في شهوده لكثرة المظاهر أحدية الذات التي تتجلى فيها , و لا يحتجب بأحدية وجه الحق شهود الكثرة الخلقية , لا يزاحم في شهود أحدية الذات المتجلية في المجالي كثرتها , و الى المراتب حالثلاث أشير بالبيتين و الله أعلم , فتبين تخصيصها بالذكر لما فيها من معنى التربية التي هي ايصال الشيء الى كماله على التدريج , أي تبليغه شيئا فشيئا من نقص الى كمال قدرته له الربوبية , و علقه على النسيان اشارة الى مقامات الفناء الثلاث على التدريج أيضا , و هو أي الفناء عدم الاحساس بعالم الملك و الملكوت , بالاستغراق في عظمة الباري جل جلاله , و مشاهدة الحق تعالى و اليه الاشارة بقولهم الفقر سواد الوجه في الدارين يعني الفناء في العالمين الملكي و الملكوتي . و قال في العوارف : " الفناء أن تفنى عنه الحظوظ , فلا يكون له في شيء حظ , يفنى عن الاشياء كلها شغلا بمن فني فيه " . قيل هو الغيبة عن الاشياء كلها . و قال الخراز : " علامة من ادعى الفناء ذهاب حظه من الدنيا و الآخرة الا من الله تعالى " . ثم اختلفت عبارة القوم في الفناء , و باختصار قالوا : " و يكون من أقسام الفناء , أن يكون في كل فغل و قول مرجعه الى الله تعالى , و ينتظر الاذن في كليات أموره , فيكون في الاشياء بالله تعالى لا بنفسه . فتارك الاختيار منتظر لفعل الحق تعالى فيه , فان . و صاحب الانتظار لاذن الحق تعالى في كليات أموره راجع الى الله تعالى بباطنه في جزئياتها , فان . و من ملكه الله اختياره و أطلقه في التصرف يختار كيف شاء و أراد , لا منتظرا للفعل و لا منتظرا للاذن , هو باق و الباقي في مقام لا يحجبه الخلق عن الحق و لا الحق عن الخلق . و الفاني محجوب بالحق عن الخلق . و الفناء الظاهر لأرباب القلوب و الأحوال , و الفناء الباطن لمن أطلق عن وثاق الأحوال و صار بالله تعالى لا بالاحوال , و خرج من القلب فصار مع مقلبه لا مع قلبه و هو ابتداء و وسطي و نهائيي . فناء و فناء الفناء , و فناء عن الفناء و قد تقدم طرف منه في أثناء الكتاب فلا نطيل به , و الله أعلم . تنبيه : و لا يصل الى هذا الفناء الا بعد الموت الاختياري , و تقدم طرف في معناه , لقوله عليه الصلاة و السلام " لن يرى أحدكم ربه حتى يموت " , الخ , " ومن مات قامت قيامته " , و قد قال تعالى في القيامة " وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة " , الآية . قال في بدء الأمالي :
فينسون النعيم اذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
و في الحديث القدسي : " اذا رأيتني فلا تذكرني , و مهما لم ترني فلا تفارق اسمي " . فتكون الرئية حينئذ هي عين ذكره , بل أفضل منه لوقوع النهي عندها , و يكون النسيان حقيقة عندها , و هو قول صاحب اللبان " اذا نسيت ما سواه و ذكرته فأنت ذاكر حقا " . قال أهل الحقيقة : " حقيقة التوحيد نسيانك أنت في حضورك معه , و هو أن تكون كما كنت قبل نفخ الروح فيك , بأن لا ترى حولا و لا قوة و لا حركة و لا سكونا و لا بعدا و لا وصولا , الا بالله تعالى , و اترك الالتفات الى الأحوال و المقامات و الكرامات و خرق العادات , و دالمعرفة و القرب و دالحب و الوجد و الفقد و غير ذلك , فان ذلك كله بقايا نفسانية تخل باقتضاء الحكمة البالغة , و توجب الحياة الفانية التي لا طائل تحتها . و في الحديث " ان لله عبادا تركوا حظوظ أنفسهم , ثم تركوا الدنيا , ثم تركوا العقبى , ثم تركوا الرئية ثم تركوا المشاهدة , ثم تركوا الترك , ثم ترك الترك فوجدوا الحق تعالى . و شهوده و رئيته أغنتهم عن ذلك من أنفسهم لنسيانهم اياها بموتها قبل موتها , و هو عين حياتها عند موتها , فافهم اللغز وانذفق من الكنز و لا تخشى من الفقر و ان كنت غريبا في فقر , و الحمد لله رب العالمين , انتهى و الله أعلم . و قوله حمدلة هيلة فضلت , أي أيما أفضل , و هو معنى فضلت , الحمد لله أو لا اله الا الله . الحمدلة كالهيللة أحد المصادر المركبة من اسمين كالحوقلة و الحسبلة و قد تقدم معناها , و فضلت فعل و فاعل و هو من التفضيل الذي هو زيادة المزية . الفصل الثالث و الأربون في الجواب على قوله حمدلة هيللة فضلت , أي و ما فضلت حمدلة أو هيللة . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " اختلف العلماء في هذه المسئلة , فقالت طائفة بالأول , لأن في ضمن الحمدلة التوحيد الذي هو لا اله الا الله . ففي قولك الحمد لله توحيد و حمد , وفي قولك لا اله الا الله توحيد فقط . و احتجوا بقوله صلى الله عليه و سلم : " من قال لا اله الا الله كتب له عشرون حسنة و حط عنه عشرون سيئة , و من قال الحمد لله رب العالمين كتب له ثلاثون حسنة و حط عنه ثلاثون سيئة " . و قالت طائفة بالثاني , لأن كلمة لا اله الا الله ترفع الكفر و الاشراك , و اختاره ابن عطية في تفسيره , قال : " و الحاكم بذلك قوله صلى الله عليه و سلم " أفضل ما قلته أنا و النبيون من قبلي لا اله الا الله وحده لا شريك له " . و على هذا فخير القول لا اله الا الله محمد رسول الله فانها كلمة الاخلاص و بها يحصل الخلاص , انتهى كلامه و الله أعلم . قلت لا حجة للطائفة القائلين بأفضلية الحمد لله على لا اله الا الله . أما قولهم في الحمد لله توحيد و حمد , و في لا اله الا الله توحيد فقط , فلا ينهض حجة . و لقائل أن يقول في لا اله الا الله توحيد و حمد أيضا , و بيانه أن معنى لا اله الا الله نفي نقائص و اثبات كمالات , و الكمالات تستوجب الحمد بلا خلاف و مثبتها حامد , لأن الحمد ثناء و الثناء ذكر و الذكر بالجميل هو الحمد . و اذا كان ذلك كذلك فهي حمد و توحيد و تنزيه , و قد اجتمع فيها ما تفرق في غيرها من التوحيد و التحميد و التنزيه بخلاف غيرها . و أما حجتهم بحديث قوله صلى الله عليه وسلم : " من قال لا اله الا الله كتب له عشرون حسنة " , الخ , " و من قال الحمد لله كتب له ثلاثون حسنة " , فلا دليل فيه , و بيانه ن الثواب انما يترتب على قوله لا اله الا الله , و من لم يقلها لا يكتب له ثواب و لو قال الحمد لله ألف مرة . فيحمل قوله صلى الله عليه وسلم " و من قال الحمد لله كتب له ثلاثون حسنة " , أي مع لا اله الا الله , محتمل لوجهين اما مصاحبة و اما ضمنا لترتب الثواب و العقاب عليها . فتبين من هذا أن ما ترتب من ثواب أو من عدم ثواب ذكر أو عمل أو غير ذلك مما يثاب عليه الا كان معلقا عليها , سواء كان مصاحبة أو ضمنا . فهي أفضل الأذكار على الاطلاق , و الجامعة للأسماء و الصفات بالاتفاق . فان قلت فان كان ذلك كذلك , فما معنى تخصيص العدد بالثلاثين في الحمدلة و العشرين في الهيللة . قلت , يحتمل وجوها و أقربها و الله أعلم , أن لا اله الا الله تضمنت حسنتين , حسنة التنزيه و هو النفي , و حسنة التوحيد و هو الاثبات , و الحسنة بعشر أمثالها , فنبه صلى الله عليه و سلم عليه . و الحمد لله تضمنت حسنة التحميد فهي بعشر , و لا تصح هده العشرة الا اذا تضمنت لا اله الا الله , و هي بعشرين كما تقدم , فاجتمع في الحمدلة ثلاثون . نبه عليه صلى الله عليه وو سلم ترغيبا و اشارة الى توقف الثواب على التوحيد بقول لا اله الا الله , و ما كان خيرا الا بشر به صلى الله عليه و سلم , و ما كان شرا الا أنذر عنه و حذر منه . و يحتمل وجها آخر و هو لا اله الا الله و محمد رسول الله , المتضمن فيها جعل اثبات الألوهية حسنة و أثبات الرسالة حسنة , و الحسنة بعشر , فهي العشرون , و يحتمل الحسنات على عدد الحروف المنطوق بها لا المكتوبة و هي عشرون , للحديث الوارد في تلاوة القرآن , و أن الحرف بعشر الى خمسين . و يحتمل هذه الحسنات الذكورة كليات و لواحدة منها أقلها عشر , و الله تعالى أعلم , و كل ذلك محتمل , حدث عن البحر و لا حرج . فانه صلى الله عليه و سلم معدن البالغة و أساس الفصاحة و أوتي جوامع الكلم و شرب من عين التسنيم . فتعين به أن الكلمة المشرفة أفضل الأذكار على الاطلاق , و لذلك كانت مفتاحا لكل مغلاق . و قوله الحمد لله فيه توحيد و حمد , فلو كان كذلك لكان يقتضي اكتفاء دخول الاسلام به , و لا قائل به بخلاف ما ذكرناه في لا اله الا لله , فانه كله على القياس , و يجاب عنه بان مراده بالتوحيد الضمني , و هو اختصاص المحامد بواحد و هو صحيح , لكن فاته أن ذلك متوقف على اثبات التوحيد الطبقي و هو خاص بلا اله الا الله , و الله أعلم . تنبيه : انما كانت الكلمة المشرفة أفضل الأذكار لأنها دالة على ثبوت الألوهية , و الالوهية هي أعلا مظاهر الذات العلية , اذ لها الحيطة و الشمول على كل مظهر و هي عبارة عن حقائق الأشياء أي الموجودات , و حفظها في مراتبها . و نعني بحقائق الموجودات أحكام المظاهر مع الظاهر فيها , أعني به الحق و الخلق . فشمول المراتب الالهية و جميع المراتب الكونية و اعطاء كل حقه من مرتبة الوجود هو معناها , و لا يكون ذلك الا لذات واجب الوجود تعالى و تقدس . و لما كانت الألوهية اعطاء حقائق الوجود و غيره حقها من الحيطة و الشمول , كانت الأحدية التي هي أعلا الأسماء حقيقة من حقائق الوجود تحت الألوهية , و الواحدية تحت الأحدية , و الرحمانية تحت الواحدية , و الربوبية تحت الرحمانية , و الملكية تحت الربوبية , لأن أعلا مراتب الربوبية في اسمه تعالى الملك . فالألوهية أعلا و لهذا كان اسمه تعالى الله أعلا الأسماء حتى من اسمه الاحد الذي هو أعلاها , فافهم كما تقدم . و الأحدية أخص مظاهر الذات لنفسها , و الألوهية أفضل مظاهر الذات لنفسها و لغيرها , و من ثم منع أهل الحق تجلي الأحدية و لم يمنعوا تجلي الألوهية . فان الأحدية ذات محض لا ظهور لصفة فيها فضلا عن أن يظهر فيها مخلوق فامتنع نسبتها الى المخلوقات من كل وجه . فما هي الا للقديم القائم بذاته , و لا كلام في ذات واجب الوجود , فانه لا يخفى عليه شيء من نفسه , فان كنت أنت هو , فما أنت أنت بل هو هو . و أن كان هو أنت فما هو هو بل أنت أنت . فمن حصل في هذا التجلي , فليعلم أنه من تجليات الواحدية , لأن تجلي الأحدية لا يسوغ فيه ذكر أنت و لا ذكر هو . و اعلم أن الوجود و العدم متقابلان و الألوهية محيطة بهما , لأنها تجمع الضدين من القديم و الحادث و الحق و الخلق و الوجود و العدم . فيظهر فيها الواجب مستحيلا بعد ظهوره واجبا , و يظهر المستحيل فيها واجبا بعد ظهوره مستحيلا , و يظهر الحق فيها بصورة الخلق , مثل قوله صلى الله عليه و سلم " رأيت ربي في صورة شاب أمرد " . و يظهر الخلق بصورة الحق مثل قوله صلى الله عليه و سلم " خلق الله ءادم على صورته " . و على هذا التضاد فانها تعطي كل شيء مما شملته من هذه الحقائق حقه من كمال التنزيه و التشبيه , فلا يدرك لها غاية و لا يعلم لها نهاية , و الى سر الألوهية أشار صلى الله عليه و سلم بقوله " أنا أعرفكم بالله و أشدكم خوفا منه " , فما خاف من الرب و لا من الرحمان و انما خاف من الله تعالى , و اليه الاشارة بقوله " و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم " , على أنه صلى الله عليه و سلم أعرف الموجودات بالله تعالى . و ربما يبرز من ذلك الجناب الالهي لا أدري أي صورة أظهر بها في التجلي الالهي , و لا أظهر الا بما يقتضيه حكمها , و ليس لحكمها قانون لا نقيض له , فافهم .
فهو يعلم و لا يعلم و يجهل و لا يجهل اذ ليس لتجلي الالوهية حد يوقف عليه بالتفصيل , فلا يقع عليها الادراك التفصيلي بوجه من الوجوه لأنه محال أن يكون لله تعالى نهاية , و لا سبيل الى ادراك ما ليس له نهاية , و جلكن اله سبحانه و تعالى قد يتجلى لها على سبيل الكلية و الاجمال , و الكمل متفاوتون في الحظ من ذلك التجلي كل على قدر ما فضل له من ذلك الاجمال , و بحسب ما ذهب اليه الكبير المتعال , و الله أعلم . فالألوهية مشهودة الاثر مفقودة في النظر , يعلم حكمها و لا يرى رسمها , و الذات مرتبة العين مجهولة الاين , ترى عيانا و لا يدرك لها بيانا . ألا ترى أنك اذا رايت رجلا يعلم أنه موصوف مثلا بأوصاف متعددة فتلك الأوصاف الثابتة له انما تقع عليها بالعلم و الاعتقاد أنها فيه و لا شهود لها عينا و أما ذاته فأنت تراها بجملتها عيانا , و جلكن تجهل ما فيها من بقية الأوصاف التي لم يبلغك علمها , اذ يمكن أن يكون لها ألف ألف وصف مثلا و ما بلغك منها الا بعضها . فالذات مرئية و الأوصاف مجهولة و لا نرى من الوصف الا الاثر , أما الوصف فهو الذي لا يرى أبدا البتة مثاله . ما ترى من الشجاع عند المحاربة الا اقدامه , و ذلك أثر الشجاعة لا الشجاعة . و لا ترى من الكريم الا اعطائه , و ذلك أثر الكرم لا نفس الكرم , لأن الصفة كامنة في الذات لا سبيل الى بروزها . فلو جاز عليها البروز لجاز عليها الانفصال عن الذات , و هذا غير ممكن , فافهم , و تقدم أنها ليست غيرها و اله أعلم . فائدة : الأحية تطلب انعدام الأسماء و الصفات مع آثارها و مأثراتها . و الوحدانية تطلب فناء العالم بظهور أسماء الحق و أوصافه . و الربوبية تطلب بقائه و الألوهية تطلب فناء العالم في عين بقائه , و بقاء العالم في عين فنائه . و العزة تستدعي رفع المناسبة بين الحق و الخلق . و القيومية تطلب صحة وقوع النسبة بين الله تعالى و عبده , لأن القيوم من قام بنفسه و قام به غيره , انتهى مع اختصار . فهذه نبذة من علم أصل الحقيقة , ذكرناها على سبيل التبرك باشارة بعض الأحبة , و ان كان يعتاص فهم بعض معانيها , فحسب العقل , المعاشي لا الكلي , المستمد من العقل الأول , فانه يزن بكفتين و يجمع بين الضدين , كما بيناه في غير هذا . فعلى الواقف على مثل هذا الكلام أن لايقابله , ان اعتاص عليه فهمه , بالانكار أولا , فيحرم بركة الاستبصار , و ليقابله بالتصديق لعل الله يفتح بالتحقيق و منه الهداية و به التوفيق و الله أعلم . ثم قال عفا الله عنه :
(ما أفضل تسبيحكم تحميدكم و ما معناه اذكروني أذكركم )
اشتمل البيت على سؤالين . الأول ايما أفضل التسبيح أم التحميد , و هو سبحان الله أو الحمد لله . و الثاني , ما معنى قوله تعالى " اذكروني أذكركم " . و بهما تمام خمسة و أربعين سؤالا . قوله ما أفضل تسبيحكم تحميدكم , أي ما افضل التسبيح و هو سبحان الله م التحميد و هو الحمد لله للذاكر , الخ. التسبيح لغة التنزيه مطلقا , و اصطلاحا تنزيه الحق تعالى عن نقائص الامكان و الحدوث . و التحميد مبالغة في الحمد و هو لغة نقيض الذم , و اصطلاحا الثناء على الجميل من جهة التعظيم عن نعمة و غيرها . الفصل الرابع و الأربعون : في الجواب على قوله ما تسبيحكم تحميدكم الخ , أي أيما أفضل قول الذاكر سبحان الله أو قوله الحمد لله . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى في الجوهر الخاص : " التحميد أفضل باتفاق الأحاديث كلها , حتى جاء أنه يملأ الميزان . و قد جاء صريحا أن التسبيح يملأ نصفها و التحميد يملأها , كما قال صلى الله عليه و سلم " تعليم التسبيح نصف و الحمد يملأه " , خرجه الامام و الترمذي من حديث رجل من بني سليم , و خرجه مسلم و النسائي و ابن ماجة و غيرهما . و في حديث عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم " الحمد تملأ الميزان و سبحان الله نصف الميزان " , و سبب ذلك و الله أعلم أن التحميد اثبات المحامد كلها لله تعالى , فدخل في الاثبات صفات الكمال و نعوت الجلال كلها . و التسبيح هو تنزيه الله تعالى عن النقائص و العيوب و الآفات . و الاثبات أفضل من السلب و لهذا لم يرد التسبيح الا مجردا , لكن مقرونا بما يدل على اثبات الكمال . فتارة يقرن بالحمد , كسبحان الله و بحمده , و تارة يقرن باسم من أسماء العظمة و الجلال , كسبحان الله العظيم و نحو ذلك , و الله أعلم , انتهى كلامه . قلت ليس معنى التسبيح الا التنزيه و هو عند أهل الحقيقة عبارة عن انفراد القديم بأوصافه و أسمائه و ذاته كما يستحقه لنفسه من نفسه بطريق الأصالة و التعالي , لا باعتبار المحدث ماثله أو شابهه . فانفرد الحق سبحانه و تعالى عن ذلك , و اذا كان ذلك كذلك فلا تفاضل بينه و بين التحميد , لأنه نسبة جالحمد الى الله تعالى , و هو معنى الثناء , و الثناء هو ثناء الله سبحانه و تعالى على ذاته الكريمة بصفاته العلية , ثناء ذاتيا وحدانيا , اذ صفاته الكمالية من ذاته , و لا صفة كمالية على الحقيقة الا هي صفته , و بأفعاله الجليلة كذلك , اذ لا فعل على الحقيقة الا هو فعله , أفعاله مظاهر أسمائه و متنزلات صفاته . فنسبة الأسماء الشريفة و الصفات العلية و الأفعال الجليلة الى الذات الكريمة على سبيل الاختصاص و الانفراد هو التنزيه و هو التحميد . فالمنزه و الحامد بهذا المعنى واحد , و التحميد و التنزيه هو عين المحمود و المنزه فافهم . الا أن يقال فليس بأيدينا من التنزيه الا التنزيه المحدث , و التحقق به التنزيه القديم , لأن التنزيه المحدث ما بازائه نسبة من جنسه , لأن الحق لا يقبل الضد و لا يعلم كيف تنزيهه . فلأجل ذا يقال " تنزيه عن التنزيه " . فتنزيهه تعالى في نفسه لا يعلمه غيره , و لا نعلم الا التنزيه المحدث , لأن اعتباره عند أهل الحقيقة هو تعدي عن حكم كان مكن نسبته اليه فتنزه و لم يكن للحق شبيها ذاتيا يستحق عنه التنزيه , اذ ذاته هي المنزهة في نفسها عما لا يناسب كبريائها . فعلى أي اعتبار كان و في أي تجل ظهر أو بان تشبيهها , كان كقوله صلى الله عليه و سلم " رايت ربي في صورة شاب أمرد " , أو تنزيها كقوله صلى الله عليه و سلم " نورانيا أراه " . فان التنزيه الذاتي له حكم لازم لزوم الصفة لموصوف , و هو في ذلك التجلي على ما استحقه من ذاته لذاته بالتنزيه القديم الذي لا يسوغ الا له , و لا يعرفه غيره كما تقدم . فانفرد تعالى في أسمائه و صفاته و ذاته و مظاهره و تجلياته بحكم قدمه عن كل ما يناسب الى الحدوث و لو بوجه من الوجوه . فلا تنزيهه كالتنزيه الخلقي , و لا تشبيهه كالتشبيه , تعالى و انفرد سبحانه التنزيه الحقي عن التنزيه و التشبيه الخلقي . تنبيه : التسبيح , و هو قول القائل "سبحان الله " , فباطنه استحضار القلب وقوع نسبة التنزيه الى الله جل و علا عن ما لا يليق بجلاله و كرمه , بما نسبته الافهام الباطلة و جرته الأوهام العاطلة , و هو على ثلاثة أقسام . تنزيه الأفعال عما يقتضي المشاركة حتى يحصل اليقين , علما بأن لا فاعل الا الله تعالى . و تنزيه الصفات عما يقتضي التعداد و المماثلة في شيء منها , حتى يحصل للقلب اليقين عيانا بأن لا حي الا الله تعالى و تنزيه الذات عما يقتضي التعداد في الوجود حتى يحصل اليقين تحققا بأن لا موجود الا الله تعالى , فافهم . و التحميد و هو نسبة الحمد الى اله تعالى , و أجمع تركيب فيه الحمد لله . فباطنه استحضار القلب وقوع نسبة المحامد كلها الى الله جل و علا , و ذلك ان حقيقة الحمد هو الثناء , و الله جل وعلا قد أثنى على ذاته الكريمة بصفاته العلية ثناء ذاتيا وحدانيا كما تقدم . فاذا جميع المحامد كلها لله تعالى ما علم منها و ما لم يعلم . ثم ان العبد اذا تحقق بحقيقة الحمد على ما ذكر , تحقق بأن ذاته عين الحمد , اذ هي فعله جل و علا , فيكون هو نفس الحمد . و كذلك جميع الذوات اذ هي فعله تعالى , و
الله جل و علا هو الحامد . و قد يفنى العبد عن اضافته و نسبته و ينتقل عند ذلك من الحمد القولي و العقلي الى الحمد العيني الجوهري المحمول على ذاته محمل هو هو , و يتحقق عند ذلك بقوله صلى الله عليه و سلم " فان الله يقول على لسان عبده سمع الله لمن حمده " . فالله تعالى هو الحامد المحمود فافهم . و افهم قوله عليه السلام " ربنا و لك الحمد " , أي الحمد مصدره منك و عوده اليك , فلم يحمد الله الا الله تعالى , و من هذا كان الحمد أفضل من التسبيح , لأن الحمد حق و خلق و التسبيح الذي هو التنزيه حق فقط و لم نصل اليه لما تقدم , و ما بأيدينا الا التنزيه المحدث الخلقي كما تقدم . فائدة : انما كانت الحمدلة في حديث علي و غيره تملأ الميزان , و السبلة نصفه , و لم تكن أقل و لا أكثر اشارة , و الله أعلم , الى ما ذكر من أن الحمدلة لها مرتبتان الحقية و الخلقية , و السبحلة فلم يكن لها الا مرتبة واحدة فقط و هي الخلقية , و لا وصول للحقية من حيث الخلق , و الله أعلم . فملأت الحمدلة الكفتين من الميزان , أي المرتبتين لجمعيتها بين الحقية و الخلقية , و ملأت الالسبحلة نصفه , كفة واحدة أي مرتبة واحدة . اما حقية لا وصول اليها من الخلقية , أو خلقية لا تشاركها الحقية , فافهم ذلك و الله المستعان , انتهى باختصار , و الله سبحانه و تعالى أعلم . و قوله , و ما معناه أذكروني أذكركم , أي ما معنى قوله تعالى في التنزيل " أذكروني أذكركم " , الآية . فهو أمر من الحق تعالى لجميع خلقه بذكره و قد تقدم معناه لغة و اصطلاحا . و " أذكركم " مضارع فاعله مستتر و مفعول و هو مجزوم بالأمر لنيابته عن الشرط عند الفارسي و السيرافي . و قيل بنفس الامر لتضمنه معنى حرف الشرط عند الخليل و سيبويه , و الجمهور على تقدير أدات الشرط و فعله و هو الأصح . الفصل الخامس و الأربعون : في الجواب على قوله تعالى أذكروني أذكركم , اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " ذكر علماء التفسير فيها عشرين وجها . أذكروني بطاعتي , أذكركم
|
المفضلات