فهذه ستةعشر الى الخمسين , فهي ستة و ستون و هو عدد نقط اسم الله تعالى الذي هو الاسم الأعظم الجامع لجميع أسمائه تعالى , ما علم منها و ما لم يعلم . فاذا شفعته بمثله كان مائة و اثنين و ثلاثين و هو عدد اسم محمد صلى الله عليه و سلم و في هذين العددين أسرار و أنوار يعلمها أهلها , منحنا الله تعالى من ذلك بمنه و فضله . (تنبيه) ان كثيرا من العلماء تولعوا بهذا الاستنباط , فكل على قدر مشربه , فبعضهم , كالمقترح استنبط ذلك من الباقيات الصالحات , و فيه وضع الأسرار العقلية في الكلمات النبوية , و القاضي عياض استنبط من الكلمة المشرفة , لكن لا على هذا الوجه الغريب الذي ذكره الشيخ سيدي محمد السنوسي . و بعضهم استنبط من بسم الله , و بعضهم أخذ العقائد من مجموع الكلمتين , أعني لا اله الا الله محمد رسول الله , كالشمني في جزء لطيف , و لو لا خوف الاطالة التي تفضي الى السئامة لذكرت كيفية استنباط كل , و العبد الضعيف سلك مسلكا يظهر أنه أقرب من الجميع , بحيث لا يعجز عنه الضعيف و لا القوي , و خصوصا عند الموت ان شاء الله تعالى بمنه . و سائر الدواهيالعظام و هو استخراج جميع العقائد التي تجب على المكلف معرفتها من لا اله الا الله , كما تقدم , ثم فتح الله تعالى ما هو أقرب منها و هو من اسم الجلالة فقط , الذي هو الله . و بيان ذلك أن الاسم الأعظم فيه لامان و ألفان و هاء . فاللم الأولى , لام الاستغناء و الثانية لام الافتقار اليه , فيكون الغني المفتقر اليه , و هذا معنى الألوهية الجامع لسائر العقائد التي يجب معرفتها . و كيفية استخراج ذلك و استنطاقه أن اللام عددها ثلاثون , فاذا ضربتها في نفسها كان تسعمائة , ثم تضرب اللم في اثنين التي هي مرتبتها لأنها في المرتبة الثانية بالنسبة الى الألف , فالمجموع ستون و تسعمائة , و هو عدد اسمه تعالى غني . ثم تفضي الى اللام الثانية و هي في المرتبة الثالثة بالنسبة الى الألف , كما تقدم , فاعتبرت في محلها و تقدمها مرتبتين , أعني صفرين , كانت بثلاثمائة , ثم اضرب اللام في ثلاثة التي هي مرتبتها , لأنها في المرتبة الثالثة , بتسعين , فضمها الى الثلاثمائة , فالمجموع ثلاثمائة و تسعون و هي عدد فقير . و لذا قلنا الام الأولى لام الغنى و الثانية لام الافتقار كما تقدم . ثم تأخذ الهمزة و تسندها الى اللام و تأتي بألف المد بعد تبديله ياء لاضافته الى الهاء المكسورة للمناسبة , فيكون فقيرا اليه , فاذا كان معنى الله الغني الفقير اليه , و هو معنى الألوهية التي هي معنى لا اله الا الله , المتضمنة لمحمد رسول كما تقدم , كان قول القائل الله متضمنا رسالة رسول الله صلى الله عليه و سلم , للحديث السابق ذكره , و لجواب سيدي يوسف العجمي . و لذا قالوا أن كلمة الله تعالى تكفي عن لا اله الا الله لمن تأهل لها بعد الاسلام . و لما كان ذلك كذلك , كانت العقائد التي يجب على المكلف معرفتها في حق الله تعالى و في حق رسله عليهم الضلات و السلام ستاو ستين على عدد اسمه تعالى الله , و فيه اشارة الى أنه لا يعرف الله الا من عرف الست و الستين عقيدة , و هنا اشارات و أسرار لا تفي بها العبارة . فمن جد وجد , و ما ذلك على الله بعزيز , انه على كل شيء قدير . و في الحديث , قال الله تعالى : " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف , فبي عرفوني " . الباء لمحمد صلى الله عليه و سلم , لأنك اذا شفعت عدد اسم الله تعالى بمثله , كان عدد محمد ¸ صلى الله عليه و سلم . فاهم و اغتنم وادع بخير و الحمد لله رب العالمين . (رجع) قال في الجوهر الخاص تحقيق : انما دخل في هذه الكلمة النفي لتحقيق الاثبات , فان قولك لا صديق لي الا أنت , أشد تحقيقا من قولك أنت صديقي , فمعناه نفي ما يستحيل أن يكون الاها و هو كل الاه يفرض دونه , و اثبات ما يستحيل فقده , و هو الله سبحانه و تعالى . (لطيفة ) لماذا قدم النفي على الاثبات في كلمة التوحيد . قال بعض العارفين بالله تعالى , لأن النفي بلا يجري مجرى الطهارة , و الاثبات بالا يجري مجرى الصلات , و الطهارة مقدمة على الصلات , فوجب تقديم لا اله على الا الله . و أيضا من أراد أن يطلب السلطان في بيته , وجب عليه أن يقدم طهارة البيت . (بيان ) الناس في هذه الكلمة على طبقات : الأولى , و هو أدناها , من قالها لحفظ دمهه و ماله . قال صلى الله عليه وسلم " فاذا قالوها عصموا " , الخ , الحديث . و يدخل في هذا المنافق . الثانية : الذي ضم الى قولها الاعتقاد القلبي على سبيل التقليد الجازم , فتحصل لهم السعادة في العقبى . الثالثة : الذي ضمم معرفة الدلائل الى الاعتقاد بالقلب , و لكن لم تبلغ درجته الى الدلائل اليقينية , الا أنه لم يكن من أهل المشاهدة و المكاشفة و أصحاب التجلي . الرابعة : طائفة خصوا بالمكاشفات و المشاهدات , و خصوا بالتجليات , و ذلك أن مرتبة اللسان مرتبة واحدة , و أما مرتبة القلب متنوعة , منحنا الله تعالى و اياكم من فوائد هذه الكلمة ما تقصر عنه العبارة و لا تحصره الاشارة , آمين , انتهى و الله أعلم . (الفصل الثاني ) في شرطها , فشرطها جزم القلب بمعناها و هو توحيده تعالى , و جزم القلب بذلك من غير تردد و لا شك ولا هم , و هو اثبات القدم له وحده و نفي الحدوث عنه , كما قال الجنيد رضي الله عنه , كذا في الجوهر الخاص . قلت هذا شرط أداء , و أما شرط وجوبها , العقل و التمييز و سلامة حاسة النطق و بلوغ الدعوى , لتصريحهم بأن الصبي و المجنون أنها تجب عليهما تبعا . أما الصبي فباسلام أحد أبويه , و أما المجنون فيتبع وليه , و الخلاف فيمن لم تبلغه دعوة نبيء كما هو معلوم في محله . و كذا الأخرص الذي لم يحرك لسانه بها , و الله أعلم هل يكفيه العلم بها أم لا . و لهذا جرى الخلاف , هل النطق بها شرط في صحة الايمان الذي محله القلب , أو هو شطر أو ليس بشرط و لا شطر . أقوال ثلاثة : فعلى القول أنها شرط لا يصح الايمان الا بالنطق بها في حق القادر دون العاجز , لأن حقيقة الشرط هو ما يلزم من عدمه العدم , فيلزم من عدم النطق بها عدم صحة الايمان . و أما مع العجز فيكفيه التصديق بالقلب , و العجز يكون بمفاجئات الموت و نحوها , كالمكره , بدليل قوله تعالى " الا من أكره و قلبه مطمئن بالايمان " , أي قبل النطق بها , و هذا هو المشهور من الأقوال . و أما على القول بأنها شطر من الايمان فلا يصح الا بها مطلقا , أي في حق القادر و العاجز , لأن الايمان عنده مركب من جزئين , من النطق و التصديق و الماهية المركبة , اذا بطل جزئها بطل جميعها. و على القول بأنها ليست بشرط و لا بشطر , فيصح الايمان بدونها , أي بدون النطق بها مطلقا , أي في حق القادر و العاجز , و هذه الأقوال كلها في حق الكافر . و أما المؤمن بالأصالة , فتجب عليه مرة في عمره , فان ترك نية الوجوب فهو عاص و ايمانه صحيح , انتهى و الله أعلم . ثم يشترط في حقه , أي شرط كمال الاكثار من ذكرها و الوقوف على معناها لينتفع بها دنيا و أخرى . فائدة : قال في اللباب ناقلا عن ابن عطاء الله : " يحتاج قائل لا اله الا الله الى أربعة أشياء , تصديق و تعظيم و حلاوة و حرمة . فمن لا تصديق له فهو منافق و ان قالها , و من لا تعظيم له فهو مبتدع و ان قالها , و لم تجتمع هذه الخصال بكمالها الا في رسول الله صلى الله عليه و سلم و انتهى والله أعلم . الفصل الثالث المتظمن للسؤال الثالث في أدبها : الأدب في لغة الظرف و حسن التناول قاموسا و اصطلاحا , كما في العوارف , هو تهذيب الظاهر و الباطن لقوله عليه الصلات و السلام " أدبني ربي فأحسن تأديبي " . و اعلم أن بالأدب يفهم العلم , و بالعلم يصح العمل , و بالعمل تنال الحكمة . و قال النووي : " أدب الشريعة حلية الظاهر فلا يباح تعطيل الجوارح من التحلي بالأدب " . و قال ابن المبارك : " أدب الخدمة أعز من الخدمة " . و قيل الأدب رعاية كل مقام , و قيل هو رعاية الأعدل قولا و فعلا . و عن العارف ابن سلام : " ربما كنت بحذاء الكعبة أستلقي و أمد رجلي , فجائتني العارفة عائشة المكية , فقالت : " يا أبى عبيد انك من أهل العلم , اقبل مني كلمة , لا تجالسه الا بالأدب , و الا فيمحو اسمك من ديوان القرب " . و في العوارف عن بعضهم , " ما أساء أحد الأدب في الظاهر الا عوقب ظاهرا , و لا في البطن الا عوقب باطنا " . و عن السري السقطي : " مددت رجلي ليلة في المحراب , فنوديت ما هكذا تجالس الملوك , فظممتها ثم قلت , و عزتك لا مددت رجلي أبدا " . قال الجنيد : " فبقي ستين سنة ما مدها ليلا و لا نهارا " . و قال ابن المبارك : " من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن , و من تهاون بها , عوقب بحرمان الفرائض , و من تهاون بها عوقب بحرمان المعرفة , فاذا كان ذلك كذلك , فيجب على المريد الادب و خصوصا في أفضل العبادات التي هي الذكر , و في أفضل الاذكار الذي هو لا اله الا الله , لقوله عليه السلام " أفضل ما قلته أنا و النبيئون من قبلي " , الحديث . فأدبها كما في الجوهر الخاص و غيره عشرون أدبا . منها خمسة سابقة على الذكر , ومنها اثنا عشر في أثناء الذكر , و منها ثلاثة بعد الفراغ منه . قال في الخلاصة المرضية من الدرة المضية : " المراد بالذكر تحقيق الأنس بالله تعالى و الوحشة من الخلق " . فأما الخمسة السابقة على الذكر فأولها التوبة و حقيقتها ترك العبد ما لا يعنيه , قولا و فعلا و ارادة بعد الندم . الثاني , الطهارة الكاملة أي بالغسل و الوضوء . الثالث , السكوت و السكون مع شغل القلب " بالله الله " حتى ما يبقى خاطر مع الله , فينطق بلا اله الا الله , فيحصل له الصدق ان شاء الله تعالى . الرابع , أن يستمد بقلبه حين شروعه في الذكر بهمة شيخه , و لو نادى شيخه بلسانه في الاستغاثة عند الاحتياج جاز , و كيفية ذكرك , كما قال الشيخ جبريل الخرمابادي , قدس سره العزيز , أن يحضر صورة شيخه في قلبه عند ابتداء الذكر و يستمد منه , اذ قلب شيخه من قلب شيخه و هكذا الى الحضرة النبوية , و قلب النبي صلى الله عليه و سلم دائم التوجه الى الحضرة الالهية . فالذاكر اذا تصور صورة شيخه و استمد من ولايته , تفيض الأمداد من الحضرة الالهية على قلب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم , و منه الى قلوب المشائخ على الترتيب حتى تنتهي الى شيخه , و من قلب شيخه الى قلبه فيقوى على استعمال الذكر على الوجه الذي يحصل به الغرض و ان كان بيده سيف الله و هو الذكر , لقوله عليه السلام : " الذكر سيف الله " . و لكن ليس للسيف ضارب الا بقوة مستفادة من حضرة منشىء السيف , فاذا من شيخه , كما تقدم , جاءه المدد , لقوله تعالى " و ان استنصروكم في الدين فعليكم النصر " , انتهى كلامه بمعناه . الخامس , أن يرى استمداده من شيخه هو استمداده من النبي صلى الله عليه و سلم , لأنه نائبه , و لقوله عليه السلام : " الشيخ في قومه كالنبي في أمته " , رواه الفراوصني في كتاب المراءي , و ذكر السند له و قال فان من رأى النقص في شيخه لم ينتفع به , و من قال لشيخه بقلبه لم , لا يفلح أبدا , فكيف بلسانه , و قد تقدم . و قال الامام الجامع المحقق الشريشي في رائيته :

و لا تعترض يوما عليه فانه كفيل بتشتيت المريد على هجر


الى أن قال :

فذو العقل لا يرضى سواه و ان نأى عن الحق ناء اليل عن واضح الفجر


و هو معنى قولهم يجب اتباع أمره و ان ظهر خطأ . و أما الاثناعشر التي في حال الذكر , أولها : الجلوس على مكان طاهر متربعا , أو كجلوسه في حال الصلاة مستقبل القبلة ان كان وحده , و ان كانوا جماعة فيتحلقون حلقة . و فرق بعض المتأخرين بين المبتدء و المنتهي , فقال ان المبتدء يكون كجلوسه في الصلاة و المنتهي متربعا , كذا في الخلاصة المرضية و غيرها . و قال الفراوصني في الكتاب المذكور , هو أن يجلس جلسة هنية , و اختلف في كيفيتها . فالوفائية بالديار المصرية عاينتهم يجلسون على هيئة الجلوس للصلاة , و لا يحول أحدهم قدمه على الأخرى حتى يحول الشيخ و لو جلسوا هنالك الليل و النهار , فاذا حول حولوا الجلسة اليه و هم ورثوها عن سيدي عاي بن وفا , و اختار غيرهم الجلوس مستديرا , و اختار سيدي يوسفف العجمي الجلوس متربعا , و عليه العمل .
قالوا فانها أهنأ جلسة و لذلك تصنعها المرضعة لولدها , و اتفقوا كلهم على استقبال القبلة ان امكن في جلسته , لقوله عليه السلام : " خير الجلوس ما استقبل به القبلة " . و قالوا ان الجلوس الى القبلة ينور القلب , انتهى و الله أعلم . الثاني : أن يضع راحتيه على فخذيه , و زاد الفراوصني , و يغطيهما بثيابه , و لا بد من ذلك , و قد أوصاني بتغطيتهما شيخنا أبو عثمان , يعني به الصفراوي المدفون بكدية عاتي , نفعنا الله به , آمين , انتهى و الله أعلم . الثالث : تطييب مجالس الذكر بالرائحة الطيبة , لأن مجالس الذكر لا تخلو عن الملائكة و عن مؤمني الجن . و قال البجائي , هو أن يبخر المجلس بالروائح الطيبة للملائكة و الانس و الجن و ان كانت حضرة الرياحين فالجمع بين الحالين عجيب . قلت أفاد بقوله " للملائكة " الخ , أن تكون نية التبخير لله تعالى بادخال السرور على الأخ و عملا بالسنة . قال عليه الصلاة و السلام : " من أدخل على أخيه سرورا , خلق الله تعالى من ذلك السرور خلقا يستغفر له الى يوم القيامة " , رواه السيوطي في جامعه . و معلوم أن الملائكة و الانس و الجن جميعا يتلذذون بالروائح الطيبة . و في الاحياء , " من لذذ أخاه المؤمن بما يشتهي كتب الله له ألف ألف حسنة و محا عنه ألف ألف سيئة و رفع له ألف ألف درجة و أطعمه من ثلاث جنات , جنة الفردوس , و جنة عدن , و جنة الخلد , فانظر رحمك الله هذه الفوائد في نية التبخير , فلا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين في الذكر الكثير , انتهى و الله أعلم . الرابع : لبس اللباس الطيب حلا و رائحة , كذا في الخلاصة المرضية , و زاد في الجوهر الخاص و لو شرائط الكتان . و قال البجائي , و عليه أن يلبس اللباس الحسن كما يفعل في الأعياد و المواسم , اذ يستحب فيهما الطيب و الحسن من الثياب , و ينوي بذلك المناجاة و التجمل للملائكة و مؤمني الجن و الانس , و الله جميل يحب الجمال , و ان لبس مرقعة فاجمل , لأن هذا من أوقاتها المطلوبة لها . قلت , و ينبغي تطهير اللباس المعنوي و هو تطهير الباطن بأكل الحلال , لقوله تعالى " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم و ريشا و لباس التقوى " . و في السنن و هو سبحانه يحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر كما يحب أن يرى عليه الجمال الباطن بالتقوى , ذكره الفاكهاني في حرف التاء و قد أشار الى ذلك في مفتاح الفلاح , قال : " و من آدابه الملبس الحلال الطاهر المطيب بالرائحة الطيبة و طهارة الباطن بأكل الحلال " . قال : " و ان كان الذكر يذهب بالأجزاء الناشئة من الحرام , الا أنه اذا كان الباطن خاليا من الحرام و الشبهة , تكون فائدة الذكر بتنوير القلب أكثر و أبلغ . و اذا كان في الباطن حرام غسله منه و نظفه , فكانت فائدته في التنوير أضعف . ألا ترى الماء اذا غسلت به المتنجس أزال النجاسة , و لم تكن فيه مبالغة في التنظيف و لذلك يستحب غسله ثانيا و ثالثا , و اذا دخل المحل المغسول خاليا عن النجاسة زاد بهجة و نظافة من أول غسلة , و اذا نزل الذكر محلا , فان كان فيه ظلمة نوره و ان كان فيه نور زاده و كثره , انتهى . فتبين بهذا المراد بتطهير اللباس الحسي و المعنوي , الظاهري و الباطني , و الله أعلم . الخامس : اختيار مكان مظلم ان أمكن , و زاد البجاءي , وان كان , أي المكان المظلم بحيث لا ثقب فيه و لا طاق , بحيث اذا دخله صوت أداره فيه فصوت , كان أحسن . قلت , و فائدة اختيار المكان المظلم لاجتماع همه من التشتيت و انفراد فكره بذكره من التفريق , بدليل قول زين العابدين في رسالته , للذاكر اختيار بيت مظلم , أو يغمض عينيه عند الشروع في الذكر , فانه أجمع لحواسه الظاهرة و الباطنة , حيث جعل تغميض العينين قائما مقام الظلام الذي هو سبب في جمع الحواس الخ , و الله أعلم . السادس : تغميض العينين . فبتغميض عينيه , تنسد عليه طرق الحواس الظاهرة , و سد الطرق الظاهرة سبب لفتح حواس القلب , كذا في الخلاصة و غيرها . و قال البجاءي , و المراد بتغميضهما أن يجمع همه بذلك لئلا يرى ما يشوشه , و قد شرط ذلك أبو حامد الغزالي في الاحياء في كتاب السماع فيمن حضر السماع أنه من شأنه تغميض عينيه و اطراقه و تجنيبه كل ما يشوش عليه و على السامعين , حتى بقعقعة الثياب , ثم قلا , سمعت شيخنا أبا عثمان , يعني به سيدي سعيد الصفراوي , صاحب كدية عاتي , كما تقدم , يقول : " ينبغي للمريد أن يغمض عينيه حتى في الصلاة , الا في الركوع و السجود , فانهام يركعان و يسجدان . قال لئلا يرى ما يشوشه , و ان كان الفقهاء يقولون أنه مكروه , فانه شبه بالأعمى و لا يعبأ بذلك , فان المحافظة على الجمعية مع الله تعالى أولى و أحق من تتزيين الظواهر , لأن المصلي يناجي ربه , انتهى كلامه , نفعنا الله به و هو عجيب غريب , و قل من ينتبه اليه , و الله تعالى يهدينا الى ما فيه رضاه . السابع : أن يخيل خيال شيخه بين عينيه , و هذا عندهم آكد الآداب , كذا في الخلاصة و الجوهر الخاص و غيرهما . و زاد البجاءي , ليكون رفيقه في الطريق لما قيل الرفيق ثم الطريق , و لذا التلميذ الصادق يسمع لشيخه يذكر معه و لو كان بأرض بغداد أو بأرض الصين , و هو بأرض المغرب مثلا . أو كان الشيخ ميتا في قبره و هو عند الصادقين مجرب علمه من علمه و جهله من جهله , انتهى كلامه رحمه الله تعالى . و قال في مفتاح الفلاح , هذا ان كان تحت نظر شيخ , قلت فان لم يكن شيخ , ينبغي أن يخيل خيال النبي صلى الله عليه و سلم , لتعليلهم بأن شيخه رفيقه في الطريق و أن النبي صلى الله عليه و سلم هو رفيق الرفقاء , فليتنبه له و الله أعلم . الثامن : و هو استواء الصدق و العلانية , كذا في الخلاصة و الجوهر الخاص . قلت , و الصدق لغة ضد الكذب , و اصطلاحا مساواة القول لما في القلب , و لهذا ان الدوام عليه و المبالغة فيه ينتج التصديق و هو الاعتقاد القلبي و الدوام و المبالغة ينتج التحقيق , و هو عمل بالجوارح , لقوله عليه السلام " ان الصدق يهدي الى البر و البر يهدي الى الجنة " . قال بعض العارفين ان مقامات كمال المؤمنين منحصرة في الصدق . فائدة : قال الفاكهاني : " الصدق يشمل الصدق في القول و النية و الارادة و العزم , و صدق الوفا و الوعد , و صدق العمل . فالصدق تحقيق المقامات , و لهذا قيل من اتصف بهذه الأمور السنية , كان صديقا . قال البجاءي , الصدق موهبة من الله تعالى لمن يشاء من عبادهه , و اذا حصل الصدق و الاخلاص بلغ الصديقية . قال الله تعالى : " و الذين آمنوا بالله و رسوله أولائك هم الصديقون و الشهداء عند ربهم " . في أحد التفاسير أن الشهداء هاهنا جمع شهيد , فهم الأحياء عند ربهم يرزقون , لا جمع شاهد , فاذا بلغ المريد الصديقية بهما فيخبر شيخه جميع ما يخطر بقلبه من حسن أو قبيح , أو صديق له ملاطف يريد مثل ما يريد و يكون حافظا لأسراره , و لذا قيل ليس من شرط الشيخ أن يطلع على أسرار المريد و باطنه , و لكن من شرط المريد أن لا يكون خائنا , فانه ان لم يظهر لشيخه جميع ما يخطر بقلبه و باله , فهو خائن و الله لا يحب الخائنين , و قد تقدم . قال الساحلي و من الشرط لزوم الكتم فلا يطلع أحدا على شيء من أعماله و ما يرد عليه في نومه و يقظته , فان الكتم منن شيم الأحرار , و البوح يحجب عن موارد الأسرار ما عدا القدوة . فان الكتم على القدوة خيانة , و قل ما يفلح من يكتم عن قدوته , انتهى و الله أعلم . التاسع : الاخلاص , و هو تصفية العمل من كل شوب , اذ به و بالصدق يصل الذاكر الى درجة الصديقية كما تقدم قبله , كذا في الخلاصة و الجوهر الخاص . قلت , و لما سئل صلى الله عليه و سلم عن الاخلاص قال : " قل الله ثم استقم " , أشار الى أن الاستقامة في العمل مع ذكر الله تعالى هو الاخلاص . و في حديث أخرجه الرداد , " الاخلاص سر من سري استودعته قلب من أحببت من عبادي " . و ذكر الفكهاني عن الجنيد أنه سر بين الله و بين العبد لا يعلمه ملك فيكتبه و لا شيطان فيفسده و لا هوى فيميله . و قيل الاخلاص فقد رأية الاخلاص , و قيل متى أراد العامل على عمله عوضا منه في الدارين لم يكن مخلصا . قال سيدي أحمد بابا التنبكتي رحمه الله تعالى , و روينا عن الأستاذ أبي القاسمم القشيري رحمه الله تعالى , قال : " الاخلاص افراد الحق سبحانه و تعالى في الطاعة بالقصد و هو أن يريد بطاعته اتلقرب الى الله تعالى دون شيء آخر من تصنع لمخلوق أو اكتسابه محمدة عند الناس , أو محبة مدح من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرب الى الله تعالى . و قال السيد الجليل سهل ابن عبد الله التستري رضي الله عنه : " نظر الأكياس في تفسير الاخلاص فلم يجدوا غير هذا , أن تكون حركته و سكونه في سره و علانيته لله تعالى , لا يمازجه نفس و لا هوى و لا دنيا . قال الشيخ زروق في قواعده , اظهار الالعمل و اخفائه عند تحقق الاخلاص مستو , و قال أيضا , ناقلا عن الامام مالك رضي الله عنه , " اذا صح أصل القصد في العوارض لا تضر كمحبة لرجل يحب أن يرى في طريق المسجد لا في طريق السوق . و كما ورد في الحديث , " الرجل يحب جمال نعله و ثوبه " , الخ . و عن الفضيل , " العمل لأجل الناس شرك , و تركه لأجلهم رياء , و الاخلاص أن يعافيك الله منهما " . قال الشيخ زروق , ففي كلامه أن الرياء يقع بالشرك كالفعل , و تحقيق ذلك ما ذكره تاج الدين بن عطاء الله , نفعنا الله به , آمين , في مفتاح الفلاح , قال : " اعلم أن كل شيء يتصور أن يشوبه شيء , فاذا صفى عن شوبه يسمى خالصا , و سمي الفعل المصفى اخلاصا , فكل من أتى بفعل اختياري خالصا , فلا بد له في ذلك الفعل من غرض , فمتى كان الفعل واحدا يسمى ذلك الفعل اخلاصا . الا أن العادة جرت بتخصيص الاخلاص بتجريد قصد التقرب الى الله تعالى عن جميع الشوائب كما أن الالحاد هو الميل , و خصصه العرف بالميل عن الحق " . اذا علمت ذلك فنقول الباعث عن الفعل اما روحاني فقط , و هو الاخلاص , أو شيطاني فقط و هو الرياء , أو مركب منهما و المركب اما أن يتساوى فيه الطرفان , أو يكون الروحاني أقوى أو النفساني أقوى . القسم الأول أن يكون الباعث روحانيا فقط و لا يتصور الا من من محب في الله تعالى مستغرق الهم به , بحيث لم يبقى لحب الدنيا في قلبه مقر , فحين اذ تكسب جميع أفعاله و حركاته هذه الصفة . فلا يقضي حاجته و لا ينام و لا يحب النوم و لا يحب الأكل و الشرب مثلا , الا لكونه ازالة ضرورة أو تقوية على الطاعة . فمثل هذا لو أكل أو شرب أو قضى حاجته فهو خالص العمل في جميع حركاته و سكناته . القسم الثاني أن يكون الباعث نفسانيا و لا يتصور الا من محب للنفس مستغرق الهم بها بحيث لم يبق لحب الله تعالى في نفسه مقر فاكتسبت جميع أفعاله هذه الصفة , فلا يسلم له شيء من عباداته . و أما الأقسام الثلاثة الباقية , فالذي يستوي فيه الباعثان , قال الامام فخر الدين الرازي , الا ظهر أنهما يتعراضان و يتساقطان , فيصير العمل لا له و لا عليه , و الذي يكون فيه أحد الطرفين أغلب فيحبط منه ما يساوي الطرف الآخر , و تبقى الزيادة موجبة لأثرها اللائق , و هو المراد بقوله تعالى " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره " . و تمام التحقيق فيه أن الأعمال لها تأثيرات في القلوب , فان خلا المؤثر عن العارض خلا الأثر عن الضعف , و ان كان الأثر مقرونا بالعارض فان تساويا تساقطا , و ان كان أحدهما أغلب فلا بد أن يحصل في الزائد مقدار الناقص فيسقط بقدره و الزائد خاليا عن العارض فيؤثر لا محالة أثرا ما , و كما لا يضيع مثقال ذرة من الطعام و الشراب و الدواء عن أثر في الجسد , فكذلك لا يضيع مثقال ذرة من الخير و الشر عن أثر في التقريب من باب الله تعالى و التبعيد منه .