( و بعد أن سألت يا أواه عن علم لا اله الا الله )

بعد , ظرف زماني باعتبار النطق , و مكاني باعتبار الرقم . قال الجوهري : و بعد نقيض قبل , و هما اسمان يكونان ظرفين اذا أضيفا , و أصلهما الاضافة . فمتى حذفت المضاف اليه لعلم المخاطب بنيتهما على الظم ليعلم أنه مبني , انتهى . و تستعمل مقرونة بأما أو بالواو و لا يجوز الجمع بينهما , الا على جعل الواو استئنافية , و عند انفراد الواو تكون نائبة عن اما , فتكون في الحقيقة نائبة النائب و هو ما تضمنه اما , فيكون المعنى حينئذ أما بعد , مهمى يكن من شيء بعد البيملة و الحمدلة و ما معهما , فأقول لك كذا و كذا . فمهمى مبتدأ و الاسمية لازمة للمبتدا , و يكن شرط و الفاء لازمة له غالبا . فحين تضمنت أما بعد معنى الابتداء و الشرط , أي حلت محلها لحذفهما اختصارا لزمها الفاء غالبا , و لتضمن بعد معنى المضاف اليه . و لهذا بنيت فأما قائمت مقام شيئين , و بعد قام مقام الثالث و هو البسملة و الحمدلة و الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم لاقامة المضاف مقام المضاف اليه كثيرا في كلام العرب اختصارا كما تقدم . فهي حرف شرط و توكيد دائما و تفصيل غالبا , و يجب توسط جزء ما في خبرها بينها وبين الفاء , اما مبتدأ , نحو أما زيد , فمنطلق أو مفعول نحو فأما اليتيم فلا تقهر , و غير ذلك من ظرف أو حال لكراهة توالي لفظة أدات الشرط و الجزاء الموهم أن تلك الفاء عاطفة على مقدر , و الوقع ليس كذلك , بخلاف ما اذا كان جوابها قولا , و أقيمت حكايته مقامه , فلا خلاف في جواز حذفها كثيرا نحو قوله تعالى " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم " , أي فيقال لهم أكفرتم , و أما اذا لم يكن الجواب قولا, فلا تحذف الا ندورا , نحو قوله عليه السلام " أما بعد فما بال رجال .... " , الحديث , و الله أعلم . تنبيه , انما وجب بناء بعد عند حذف ما تضاف اليه ان كان معرفة , و نوي ثبوت معناه لشبهها حينئذ بحروف الافتقار و كانت على حركة ليدل على أصلها و هو الاعراب , و كانت ضمة جبرا لما فاتها من حذف المضاف اليه . و أما اذا ذكر المضاف اليه أو حذف و نوي ثبوت لفظه أو حذف و نو ثبوت معناه و كان نكرة أو حذف ولم ينو لفظه و لا معناه , فانها تعرب في تلك الأحوال الأربعة بالنصب على الظرفية أو الجر بمن خاصة . فائدة : العامل فيها . قال الدماميني انها منصوبة لفظا أو محلا , اما بفعل الشرط المحذوف الذي هو يكن , أو يوجد , و اما بلفظ اما , لنيابتها عن فعل الشرط . و الصحيح , كما قاله ابن جماعة , أنها جزء من الجواب , فتكون ممعمولة لما بعد الفاء . و حكم الاتيان ببعد في الخطب الاستحباب لانه صلى الله علي و سلم كان يأتي بها في الخطب و المكاتبات , و اختلف في من نطق بها أولا على أقوال سبعة : قيل يعرب ابن قحطان و قيل أيوب , و قيل يعقوب , و قيل سحبان , و قيل قس , و قيل كعب , و أقربها أنه داوود عليه السلام , و هي فصل الخطاب الذي أوتيه و قيل غيره . و جمع بين الأقوال بأن كل واحد أول باعتبار قومه , قاله النفراوي رحمه الله تعالى . و قوله " ان سألت يا أواه عن علم " , قال في القاموس سأله كذا و عن كذا و بكذا , بمعنى سؤالا و سؤلا و مسألة و بغير همز ما يسأله الانسان , و هو معنى الطلب , و الأواه الموقن أو الدعاء أو الرحيم أو الرفيق أو الفقيه أو المؤمن بالحبشية (قاموس) . و قال ابن جزى الأواه كثير الدعاء , و قيل كثير الذكر , و قيل كثير التأوه من خوف الله تعالى , انتهى . و قيل التأوه وهو التفجع الذي يكثر حتى ينطق الانيان معه بأوه , و من هذا قول المثقب العبدي :


اذا ما قمت أرحلها بليل تأوه أهة الرجل الحزين


و يروى آهة . و روى بن المبارك في رقائقه بسند الى عبد الله بن شداد , قال : " قال رجل يا رسول الله ما الأواه , قال الأواه الخاشع الدعاء المتضرع " . قال سبحانه " ان ابراهيم لأواه حليمم " , انتهى . و قال في اللباب , الأواه هو الذي يسمع وجيف قلبه من خوف الله تعالى و الله أعلم . و المراد به في النظم صاحبنا و أخونا الولي الصالح الذاكر التقي نقيب حضرتنا سيدي محمد السياري , هو الذي سأل و طلب و حض و حرض على جمع رسالة فيما يتعلق ببعض علوم لا اله الا الله حين سمع و بلغه كثرة المعترضين ممن نسب الى العلم و غيره على بعض الاخوانن , بل على الكل , لتكون عدة , و الرجوع اليها عند كل شدة و الله الموفق للصواب و اليه المرجع و المئاب . و قوله , عن علم لا اله الا الله , أي عن بعض علم ما يتعلق بلا اله الا الله , و المراد به هنا الفصول الخمسة و الأربعون المتضمنة للسؤالات الخمسة و الأربعين أيضا , الآتي ذكرها ان شاء الله تعالى بعد , لقوله تعالى " غاعلم انه لا اله الا الله " . قال ابن جزي : و اسدل بعضهم بهذه الآية على النظر و العلم قبل العمل , لأنه قدم قوله فاعلم على قوله و استغفر , و لقوله عليه السلام " تعلموا العلم و علموه الناس " , رواه البيهقي . و لقوله عليه السلام أيضا " تعلموا اليقين " , رواه الدارقطني . و أخرج الديلمي في مسند الفردوس حديث " من تفقه في دين الله كفاه الله تعالى " . و كما وجب النطق بها أولا , وجب الالعلم بها أولا و اليقين ثانيا و التفقه ثالثا . و لا علم و لا يقين و لا فقه الا بلا اله الا الله , لأن من لم يعلم شيئا لا يتيقن به , ومن لا يتيقن به لا يتفقه فيه و الله أعلم . و لهذا حض صلى اللله عليه و سلم على العلم حتى قال لعلي رضي الله عنه , كما رواه غير واحد , " يا علي كن عالما أو متعلما أو مستمعا و لا تكن الرابع فتهلك , قال علي رضي الله عنه و من الرابع يا رسول الله , قال الذي لا يعلم و لا يتعلمم و لا يسأل العلماء عن أمر دينه و لا دنياه الا أنه هو الهالك , ثلاث مرات " , رواه الغزنوي في مقدمته . و من فضائل العلم ما روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه , قال : " تعلموا العلم فان تعلمه حسنة و و طلبه عبادة و مذاكرته تسبيح و البحث عنه جهاد و تعليمه من لا يعلمه صدقة و بذله لأهله قربة , لأن العلم منازل أهل الجنة و هو المؤنس في الوحشة و الصاحب في الغربة و المحدث في الخلوة و الدليل على السراء و المعين على الضراء و الزين عند الخلاء و السلاح على الأعداء و الهادي الى الرشاد و الظهير رعند الموتو القرين في القبر و الشفيع في القيامة و القائد الى الجنة , يرفع اللهه به أقواما فيجعلهم للخير قادة و في الدين أئمة , تقتفى آثارهم و يقتدى بأفعالهم , يلهمه الله تعالى السعداء و يحرمه الأشقياء " , نسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم و الفهم و يبلغنا منازل الأبرار و يحشرنا في زمرة الأخيار بحرمة لا اله الا الله و المستغفرين بالأسحار بفضله و كرمه , انه خير مأمول و أكرم مسئول . ثم قال عفا الله عنه :

( فهاكه مفصلا جاء على مثال خمس و أربعين سؤلا )

الفاء جواب شرط , متضمن اما النائب عنها , الواو في و بعد كما تقدم , و هاك بالكاف و بالهمزة المفتوحة مكان الكاف و ها بسكون الهمزة , مثل هع , بمعنى خذ , و الضمير على علم , الخ . و مفصلا حال من الضمير في هاكه مؤكدا بمصدر محذوف تقديره تفصيلا , أي مبينا فصلا فصلا على عدد ما يذكره بعده و هو اسم مفعول من المضعف . و التفصيل التبيين , و الفصل لغة الحاجز بين شيئين , و كل ملتقى عضمين في المفصل , و الحق من القول , و فطم المولود و القطع و غيره . و اصطلاحا اسم لطائفة من المسائل يشترك ما قبلها بما بعدها بخلاف الباب . و قوله جاء على مثال خمس و أربعين سؤلا , أي جاء تفصيل علم لا اله الا الله مبينا فصولا على عدد سؤالات خمس و أربعين سؤلا رفعت لبعض علماء أهل المغرب كما تقدم بيانه . و المثال المقدار و القصاص و صفة الشيء و الفراش و الجمع أمثلة , كذا في القاموس , أي جاءت الفصول على مقدار السءالات الخمسة و الأربعين . و قوله سؤلا , الألف بدل من الهاء لضرورة النص , فهو مصدر لسأل لأن سأل له خمسة مصادر . تقول سأل سؤالا و سؤلة بالسكون و مسألة و تساءلا و سؤلة بالتحريك . و قال العكبري, و رجل سؤلة أي كثير السؤال , و كذلك هذه الفصول , مما يجب كثرة السؤال عنها و الفحص و الاشتغال بها و البحث عنها لأنها سبب النجاة من النار و السلامة من غضب الجبار في هذه و تلك الدار , انتهى . و لما كانت السؤالات خمسة و أربعين سؤال , و كانت الفصول المتضمنة الجواب عليها كذلك , كانت هذه الرسالة مرتبة على خمسة و أربعين فصلا و مقدمة و خاتمة , ختم الله تعالى لنا و لقارئها و كاسبها و سامعها بحسن الخاتمة بمنه و جوده و كرمه و فضله , انه على ذلك قدير و بالاجابة جدير هو نعم المولى و نعم النصير , و لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم .
و لما آن الكلام عن المقصود , وجب ذكر المقدمة الموعود بها فيما تقدم . قال تعالى " فاعلم أنه لا اله الا الله " . قال الجوزي لا اله الا الله في كل لسان و من لا ينوي بها نفي ما يجب نفيهه و اثباتت ما يجب اثباته , أي يقول له قل أي شيء أكبر شهادة , قل الله . مثل لا اله الا الله مثل دار السلطان , منها ما يدرك و منها ما لا يدخله الا الخاصة و منها ما لا يصل اليه الا خاصة الخاصة . كل انسان يقول لا اله الا الله , و الأرواح أجناد مجندة و الأطوار متغايرة , منهم من افترسه نفي لا , و منمهم من نجا في سفينة الاثبات , و أسعد الخلق من فهم لا اله الا الله . و اعلم أن اكسير الزيادة و كمياء السعادة و قاعدة كل قدم و حال و مقام و أس أصول دعائم الاحسان و الايمان و الاسلام , هو معرفة التوحيد المجرد عن اضافة التقييد المحفوظ عن تصميم التقليد الموصوف بعلم الأسماء و الصفات , المطلق المنزه عن حدوث طروق الآفات , الجامع لذكر معاني الألوهية , المشتمل على جملة لطائف الأسرار المعنوية , و هو أصل المعارف الدينية و محل العوارف اليقينية , لأن شرف العلوم على قدر شرف المعلوم , و شرف العالم على قدر شرف علمه , و لا شيء أشرف من الحق تعلاى و طلبه , و لا أشرف في الدنيا من معرفة الله تعالى و قربه , و لا شيء أشرف في الجنة من النظر الى وجهه , و كل علم موقوف على معلومهه , و شرفه بشرفه , و معرفة الله تعالى هي الغية القصوى و اللباب الأقصى و من أخذ من العلوم و الحكم أشرفها و أرفعها , و من المعاني صفوها و ألطفها و أنفعها , و فهم حكم باطن أمرها و علم حكم علانيتها و سرها , فقد تجوهر باطن قلبه و تمهد ظاهر أدبه و تسمى في الحقيقة انسانا و شاهد الحق عيانا و صار الخير بالذات في الأوصاف و الصفات صبغة الله تعالى ايمانا و يقينا و تبيانا . و لما جعلها الله تعالى حياة الدارين و نجاتهما , و سبب وجودهما , لقوله تعالى " أو من كان ميتا فأحييناه " , و لقوله عليه السلام " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله " , الخ . و قوله عليه السلام " قال الله تعالى : لا اله الا الله حصني " , الخ . و في الحديث , قال الله تعالى : " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف , فخلقت الخلق لأعرف , فبي عرفوني " . وجب التخلق بها بعد التعلق , ليفيد التخلق , و المراد به هنا الامتزاج الذي أشار اليه أهل الحق كالشيخ السنوسي و غيره , لأن حقيقة التخلق بالاسم هو يقوم العبد به على نحو ما يليق به , و لا يتأتى ذلك في الهيللة و اسم الجلالة الا أن يراد بذلك نزوله الى القلب و سيرانه في الجوارح , و الله أعلم . و حقيقة التحقق بالأسماء معرفة معانيها بالنسبة الى الحق تعالى و بالنسبة الى العبد , و حد التعلق افتقار العبد اليها مطلقا من حيث دلالتها على الذات الأقدس , انتهى . و اذا وجب التعلق والتحقق لما ذكر كما ذكر بالطريق الجسماني , وجب ذلك بالطريق الروحاني , لأن الروح أشرف من الجسد أبدا , و أن الله تعالى أخذ العهد على الأرواح , كما قال ابن سبعين : " أخذ الله تعالى العهد من الأرواح ثم غيبهم في الغيب , فلما أوجد الجسمانية و ربطها مع الأرواح الروحانية , فقررهم على العهد القديم و ذكرهم عليه , ثم ردهم الى الغيب في الأصلاب , ثم أبرزهم في الذر , فذكرهم بالعهد كما أخبر به تعالى بقوله " و اذ أخذ ربك من بني آدم " , الآية . ثم ردهم الى الأصلاب حتى يبرزهم الى عالم الشهادة , و نسي بهم العهد , ثم أخرجهم من ظلمات غيوب الأصلاب , و حرضهم على العهد , فمن نسي عهد الله تعالى انتقم منه بناره , و من أوفى بالعهد كان من أهل الجنة . قال تعالى : " أوفوا بعهدي أوفي بعهدكم " , و قال تعالى " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم و جعلنا قلوبهم قاسية " . قال البجاءي نفعنا اله به , قف على أن من نقض العهد ملعون , و يثمره ذلك قساوة القلب , نعوذ بالله . ثم قال " و جزائهم في الآخرة عذاب أليم " . قلت , و لعل من هذا قولهم من أخذ الورد و ترك , كمن آمن وارتد و العياذ بالله . و كان الشيخ نفعنا الله تعالى به دائما يقولها . ثم قال و لا زال سبحانه و تعالى يذكر العبد العهد حتى يصل الى الجنة , و ذلك أن العبد اذا مات ذكره بسؤال الملكين , و تمامه في كتاب الفراوصني . ثم قال , و الله تعالى خلق الخلق فمنهم صحيح و منهم سقيم , و منهم يطب و منهم سقيم لا يطب . لأنه لما خلق الله تعالى الخلق في الايجاد الأول ثم ردهم الى الأصلاب , ثم نقلهم من الأصلاب الى الأرحام , ثم من اللأرحام الى عالم الشهادة , فمنهم من ثبت شهوده على معرفته لديه في أخذ العهد , فهو صحيح ليس به أذى , و منهم من وقعت الفترة في شهوده , فصار فرقا عن حقيقة المعرفة , فهو سقيم من ذاته , فلا بد من دواء ينفي عنه داءه . و منهم من لم يرجع الى دواء ينفي به داءه و منهم من ليس له دواء و منهم موافقون مراد الله تعالى بهم . فأما الذين لا يطلبون فهم أهل الشمال , و أما الذين لا يرجعون الى دواء ينفون به داءهم فهم فهم الغافلون عن سلوك المقامات ليوفوا بالعهد . و منهم من اشتغل بنفي العلل بأنواع الأدوية , و منهم من عمته العلل , و منهم من خصص ببعض دون بعض , و لكل داء و دواء , لقوله عليه السلام : " الذي أنزل الداء أنزل الدواء " , و كل ذلك تجده في كتاب الله تعالى و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم , كقوله تعالى " و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين " . و من علامة نسيان العهد ملاحظة الطاعة و نسيان الالذنوب , و طلب الجزاء و طلب الكرامات و محبة نعيم الجنة وو الحور الحسان , اذ لو علم أنه مسلوب ما طلب من ذلك شيئا , و ذلك أن الله تعالى خلق الخلق و خلق لهم الأرزاق و أضاف لهم الأموال و النفوس , لقوله تعالى " تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم " , لأن الله تعالى علم أن ما عند الانسان أعز عليه من نفسه و ماله , فسلب المؤمنينن في العهد الأول في أموالهم و أنفسهم ليكون هو محبوبهم و معروفهم و معبودهم , و المال ماله و العبيد عبيده , و لكن أراد أن يسلب أهل وداده عن غيرهم ثم سلبهم عن أنفسهم بقوله تعالى " ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم " , الآية . فأخذ عنهم العهد و الميثاق على ذلك , لقوله تعالى " و أوفوا بالعهد " , الآية . ثم ردهم الى الأصلاب حتى ردهم الى عالم الشهادة , فنسيت طائفة العهد و المواثيق , و ثبتت طائفة على البيع و دفعوا ما باعوا , و ظهرت سريرة ما اشتروا . فمنهم الموقنون الباقون على العهد و المواثيق , و هم أهل محبة الله تعالى . فالمحب لا يقول نفسي , و العارف لا يقول لي , فان كل عارف مسلوب الاختيار , أي عن اختياره و تدبيره و حقوقه . فهؤلاء هم الأصحاء الذين تقدم ذكرهم . فهم لا يحتاجون الى المعالجة من السلوك في المقامات , لأنه اذا أراد السلوك في المقامات , فيكون كالمستضيء بضياء السراج مع ضياء الشمس , فانه لا يظهر ضياء السراج الا مع ظلمة فترة العقل عن حقائق المعارف , و انما يسلك اذا أراد الله تعالى الاقتداء به , و يقتفي الناس أثره , فيكون سلوكه في حق المتبعين أثره , و ان لم يظهر عليه السلوك في المقامات , فهو بين الخلق غريب لا يوصف . فانهم لا يعرفون الا من ظهر في علاج المقاماتت و خفي عنهم أهل الحقائق . و لكن يظهر الله تعالى من أراد أن يظهره للخلق , أنتهى . اذا علمت ذلك , فاعلم أن العهد انما هو تذكير العهد القديم , و أصله بيعة الرضوان , قال تعالى :" لقد رضي الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة " , و كذلك حديث عبادة ابن الصامت , و هو " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا و لا تسرقوا " , الخ الحديث , و قوله تعالى " اذا جاءك المؤمنات يبايعنك " , الآية . و بايع صلى الله عليه و سلم نساءه و بناته , و بين سبحانه الذي وقعت المبايعة عليه بقوله تعالى " يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا و لا يسرقن و لا يزنين و لا يقتلن أولادهن و لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن و أرجلهن " , و الخاتمة , " و لا يعصينك في معروف " , فكان ذلك سنة أهل التصوف رضوان الله تعالى عنهم , لمن خصصه الله تعالى بتحريكه لسلوك طريق الأخرة بخطرة سماوية من الله تعالى و توفيق خاص الاهي . فانه أول ما ينتبه العبد للعبادة بهذه الخطرة الشريفة , و هي المعنية بقوله تعالى " أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه " . قال الغزالي و اليه أشار صاحب الشرع صلوات الله عليه و سلامه بقوله " ان النور اذا دخل القلب انفسح و انشرح , فقيل يا رسول الله , هل لذلك من علامة يعرف بها , فقال , لتجافي عن دار الغرور و الانابة الى دار الالخلود و الاستعداد للموت قبل نزول الفوت" , انتهى . و الطريق الروحاني انما يسلك بأخذ العهد و التلقين . فالعهد لغة , التزام شيء ليوفي به في المستقبل , حقا كان أو باطلا . و منه تعاهدت بنوا فلان على كذا . و شرعا التزام قربة دينية كما تقدم . و شرطه كمال الشيخ و انقياد المريد ووجود التسليك كما تقدم بمعناه , و أما التلقين لغة , التفهيم و شرعا ما فعله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في كلمة الشهادة و هو ما رواه الطبراني و غيرد و البزار من أن النبي صلى الله عليه و سلم لقن أصحابه كلمة لا اله الا الله جماعة و فرادى بعد أن سبق تكرارها منهم منذ أسلموا الى ذلك الوقت . فأما تلقينه صلى الله عليه و سلم جماعة , فقد قال شداد بن أوس رضي الله عنه : " كنا عند النبي صلى الله عليه و سلم , فقال : " هل فيكم غريب " , يعني من أهل الكتاب , قلنا : " لا يا رسول الله " , فأمر صلى الله عليه وسلم بغلق الباب و قال : " ارفعوا أيديكم و قولوا لا اله الا الله " , فرفعنا أيدينا و قلنا لا اله الا الله , ثم قال : " اللهم أنت بعثتني بهذه الكلمة و أمرتني بها و وعدتني عليها الجنة , انك لا تخلف الميعاد " , ثم قال : " ابشروا فان الله غفر لكم " . و أما تلقينه لأصحابه صلى الله عليه و سلم فرادى , فقد روي أن عليا بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه , قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم , فقلت , يا رسول الله دلني على أقرب الطرق الى الله تعالى و أسهلها علي عبادة , و أفضلها عند الله تعالى , فقال : " يا علي عليك بمداومة ذكر الله تعالى سرا و جهرا " , و في رواية " في الخلوة " , فقال علي : " كل الناس ذاكرون يا رسول الله , و انما أريد أن تخصني بشيء " , فقال النبي عليه الصلات و السلام : " مه يا علي , أفضل ما قلته أنا و النبيئون من قبلي لا اله الا الله , و لو أن السماوات السبع و الأرضين السبع في كفة و لا اله الا الله في كفة , لرجحت لا اله الا الله " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " يا علي لا تقوم الساعة و على وجه الأرض من يقول الله الله " , ثم قال علي رضي الله عنه : " كيف أذكر يا رسول الله " . قال صلى الله عليه و سلم : " غمض عينيك و اسمع مني ثلاث مرات , ثم قل أنت ثلاث مرات لا اله الله و أنا أسمع " , ثم رفع رسول الله صلى الله عليه و سلم رأيه و مد صوته و هو مغمض عينيه و قال لا اله الا الله ثلاث مرات و علي يسمع , ثم ان عليا رفع رأيه و مد صوته و هو مغمض عينيه و قال لا اله الا الله ثلاث مرات و النبي صلى الله عليه و سلم يسمع , و هذا أصل التلقين عن الصحابة , عن الحضرة النبوية , عن الحضرة الجبريلية , عن حضرة رب العزة جل جلاله و عم نواله , و الصحابة رضي الله عنهم التابعين , و التابعون عنهم تابعي التابعين , و هكذا تابعوهم الى المشائخ العارفين و التلاميذ المريدين . و لو لا خيفة التطويل المؤدي الى السآمة و الملل , لذكرت نسبنا الروحاني من الأستاذ العارف بالله قطب زمانه و فريد عصره و أوانه , شيخنا و وسيلتنا سيدي محمد ابن عبد الرحمان الأزهري الى الحضرة النبوية الى الحضرة الجبريلية الى حضرة رب العزة جل جلاله و عم فضله و جوده و نواله , كما أشرنا الى ذلك في الرحمانية . و لما كان النظم محتويا على معاني ما يخص الجلالة من حيث النطق و ما يتعلق به , ناسب أن نذكر في المقدمة المعاني التي تخصها من جهة تلقيها الروحاني كما ذكرنا تلقيها الجسماني , لقول عيسى عليه السلام : " ليس منا من لم يولد مرتين " . و قال عليه السلام : " لن يلج ملكوت السماوات من لم يولد مرتين " . فبالولادة الأولى له ارتباط بعالم الملك و بهذه الولادة يصير له ارتباط بالملكوت . قال تعالى : " و كذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين " . و صرف اليقين على الكمال يحصل في هذه الولادة , و بهذه الولادة يستحق ميراث الأنبياء . و من لم يصله ميراث الأنبياء ما ولد و ان كان على كمال من الفطنة و الذكاء , الخ . قاله السهروردي في العوارف , و تمامه فيه فانظره . و لهذا قال تعالى : " فاعلم أنه لا اله الا الله " , خاطب امام الحضرة بالعلم دون المعرفة لشرفيته عليها و لكونهه حجة دونها . قال الجنيد :" العلم أرفع و أكمل و أتم من المعرفة و لأنه يحصل به اظهار الربوبية دون غيره " . ثم قال في العوارف : " الملك ظاهر الكون و الملكوت باطنه , و العقل لسان الروح و البصيرة قلب الروح و اللسان ترجمان القلب , و من البصيرة التي هي قلب الروح تنبعث أشعة الهداية . و لهذا حرم الوقوف مع مجرد العقول الخالية عن نور الهداية المنبعث من قلب الروح المسمى بالبصيرة عند أهل الحق تعالى بالمعنى . و هو موهبة الله تعالى عند الأنبياء و أتباعهم . الصواب , و كما أن في الولادة الطبيعية ذرات الأولاد في أصلاب الآباء منتقلة من آدم عليه السلام الى أولاده على حسب ما قدر الله تعالى في الأزل , كذلك الولادة الروحانية . فمن الأنبياء عليهم الصلات و السلام من أتباعه كثيرة و منهم من أتباعه قليلة , و على ذلك المشائخ رضي الله عنهم , منهم من أتباعه كثيرة , الذين يأخذون عنه العلوم و الأحوال و يؤدونها غيرهم كما وصلت اليهم . و منهم من أتباعه قليلة و منهم من هو عقيم . و هذا النسل هو الذي رد الله به على الكفار حيث قالوا محمد أبتر لا نسل له . قال الله تعالى ردا عليهم : " ان شانئك هو الأبتر " . فكان صلى الله عليه و سلم نسله الروحاني و الجسماني باق الى أن تقوم الساعة , و بيان ذلك , قال عليه السلام : " لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم الى أن تقوم الساعة " , أو كما قال . هذا نسله الروحاني , و أما الجسماني , فقد اتفق أهل الحق على أن كل طائفة لا بد لها من قطب , و أجمعوا أن القطب لا يكون الا من نسله صلى الله عليه و سلم كما ذكره غير واحد و الله أعلم , انتهى . ابتداء ذكر المقصود , قال عفى الله عنه :

( معناها شرط أدب اعرابها تلاوة ما فضلها تكرارها )