.
و قسم مختلف فيه , و هو ثلاثة أسماء , الرحمان و الرحيم و الرب معرفين , و قسم يجوز معرفا باتفاق و هو ما عدى القسمين المذكورين . التنبيه الرابع فيما يتعلق بالرحيم .الفائدة الأولى في معناه و قد تقدم . الثانية , وزنه , فهو فعيل على طريق المبالغة كعليم و خبير . الثالثة في اشتقاقه , فهو من الرحمة كما تقدم . الرابعة , هل عربي أو عجمي فهو عربي باتفاق . الخامسة في معنى الألف و اللام فيه , ففيه قولان تعريفية أو عهدية , و معناه الرحمان الذي عهدت منه الرحمة . السادسة , هل يجوز التسمية به , فقد تقدم ذلك . السابعة في موارد فعيل في كلام العرب . الأول أن يكون أصلا في بابه لم ينقل عن بناء آخر كظريف وشريف . الثاني , بمعنى فاعل كعليم وقدير . الثالث بمعنى مفعول كقتيل وجريح . الرابع أن يكون بمعنى مفعل بكسر العين كأليم و وجيع . الخامس بمعنى مفعل بفتح العين كسيف حديد و باب وصيد أي محدد و موصد أي مطبق , يقال أوصدت الباب اذ أطبقته , و منه قوله تعالى " و كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " , أي بالموصد و الله أعلم . السادس بمعنى مفاعل , بكسر العين كجليس و نديم أي مجالس و منادم و أكيل و شريب و حسيب , و منه قوله تعلى " ان الله كان على كل شيء حسيبا", أي محاسبا . السابعة بمعنى مفعل بتشديد العين المكسورة كصميم و بشير أي مصمم ومبشر الى آخر صيغه الستة عشر المذكورة في محالها , فلا نطيل بها . و المراد بالرحيم هنا من هذه الموارد هو المعنى الثاني بمعنى فاعل , و الله أعلم . (تذييل ) اختلف أرباب المعاني في معاني الأحرف الثلاث التي هي الباء و السين و الميم و في الأسماء التي هي بعدها , التي هي الله و الرحمان والرحيم . قيل الباء بهاء الله تعالى , و السين سموه , و الميم مجده , و قيل بركته و سموه و هيبته . وقيل بره و سره و مغفرته , و قيل بهجة المغفرة و سرور المحبة و ملك الشهادة , و قيل بقاء رب العالمين و سلامه على المؤمنين و محبته لعباده المؤمنين . و قيل بره لأهل السعادة و سبق رحمته لأهل الجهالة و المقام المحمود لأهل الشفاعة . و أما الأسماء الثلاثة التي هي الله تعالى و الرحمان و الرحيم عند أرباب المعاني , قيل خالق البرايا و معطي العطايا و غامر الخطايا . قيل علام الغيوب و ساتر العيوب و غافر الذنوب و الله تعالى أعلم . (لطيفة ) انما كان حروفها تسعة عشر حرفا لأنها على عدد الزبانية التسعة عشر , لقوله تعالى " عليها تسعة عشر " , الآية . روي عن ابن مسعود أنه قال : "من أراد أن ينجيه الله تعالى من التسعة عشر الزبانية التي ذكرها الله تعالى في كتابه , فليقل بسم الله الرحمان الرحيم , لأنهم على عدد حروفها , فكل حرف منها جنة لملك من تلك الملائكة ". و انما كان عدد الملائكة تسعة عشر و لم يكن أكثر ولا أقل قولان . الأول لمقابلتها ساعات الليل والنهار الأربعة والعشرين ما عدى أوقات الصلوات الخمسة , تشريفا و تعظيما لها , فانه لا يكون فيها عذاب . و الثاني , انما كانت تسعة عشر لمقابلتها طبقات جهنم 18 و أبوابها 7 لقوله تعالى " لها سبعة أبواب ", الآية . الباب الأول للمعذبين من الموحدين و الستة الأبوب السفلى للكفار , في كل باب ثلاث طبقات , فتضرب في ستة بثمانية عشر , و التاسع عشر باب الموحدين الأعلا , فمجموع ذلك تسعة عشر على عدد خزنة جهنم . فان الله تعالى جعل على كل باب من أبواب الكفار ثلاثة من الزبانية , و جعل على باب الموحدين ملكا واحد . و انما الحكمة في جعل الله تعالى على أبواب الكفار ثلاثة من الزبانية و على باب الموحدين ملكا واحدا , قال ابن الخطيب : الكفار معذبون على ثلاثة أشياء , و هي ترك الايمان و ترك النطق باللسان و ترك العمل بالجوارح , و المؤمن لا يعذب الا على شيء واحد , و هو ترك العمل بالجوارح . و قيل الحكمة في جعل الله تعالى أبواب جهنم سبعة ليكون ذلك على عدد جوارح الانسان السبعة , و هي السمع والبصر و اللسان واليد و الرجل و البطن و الفرج . و انما جعل "بسم" من ثلاثة أحرف مقابلة للثلاثة الأسماء , و هم الله والرحمان و الرحيم . و الحكمة في كونها ثلاثة لأن يؤمن الله تعالى قائلها من المخاوف الثلاثة , الدنيا و الآخرة و البرزخ , و هو ما بين الدنيا و الآخرة . فاذا قال العبد "بسم الله الرحمان الرحيم " أمنه الله تعالى من المخاوف الثلاثة. و قيل لأن الخلق ثلاثة أصناف : الظالم لنفسه و المقتصد و السابق بالخيرات , كما جاء ذلك في الكتاب العزيز , ثم بعد ذلك قلت :

( قال عبد الرحمان و هو المذنب يرجو رضاء من اليه المهرب )

"قال" فعل ماضي , و هو ما وقع في زمن متقدم , و مقوله ما بعده و هو الحمد لله الخ . و انما قلت ذلك ولم نقل وقع موضع المستقبل , كما وقع الكثير ممن عبر بالماضي عن المستقبل , و ان كان جائزا في اللغة الفصحى , فاني لم أبتدىء أولا بهذا البيت الا بعد تمام النظم , بناء على عدم الظهور و الدعوى و استشعار النفس الى الهوى . ثم بعد ذلك , ألهم الله تعالى الى ذكر الاسم أولا لفوائد تحصل بذلك و الله أعلم . منها أن الواقف عليه لا يخلو من أن يكون معتقدا فيرغب في النظر فيه , فيستفيد, أو يكون منتقدا فيبحث على خلل فيصلحه أو ينبه عليه . و منها أن يكون عالما فيتذكر أو جاهلا فيتبصر وغير ذلك مما يطول ذكره , و أسأل الله تعالى الاخلاص في الأقوال و الأفعال و العصمة في السرائر و الأحوال , انه على ذلك قدير و هو نعم المولى و نعم النصير . و"عبد الرحمان " , هو اسم الناظم , و هو عبد الرحمان ابن أحمد ابن حموده ابن مامش الجزائري منشأ , القسنطيني دارا , الحنفي المالكي الشافعي الحنبلي مذهبا, الأشعري الماتريدي اعتقادا , الخلوتي النقشبندي طريقة . ( تنبيهان ) اللأول و الثاني , قال عليه السلام : " أحب الأسماء الى الله , عبد الله و عبد الرحمان , فينبغي لذلك شكرا زائدا على الدوام الى أن يصل الى الآجلة , فانه تعالى رحمان الدنيا و الآخرة و رحيمهما كما تقدم , و لاضافة هذا العاجز اليهما فضلا منه من غير استحقاق , و ينبغي أيضا التحقق بهذا الاسم لمن تسمى به , كما وصف الله تعالى عباد الرحمان في قوله تعلى " و عباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " , الى قوله " و اجعلنا للمتقين اماما " , الآيات , من الله تعالى بذلك علينا بجوده و فضله , انه سميع مجيب و لمن دعاه قريب . قوله , وهو المذنب , اسم فاعل من أذنب , الرباعي , و هو من يلتبس باثم , فيشمل الكباير و الصغاير , بحسب المقامات , لقوله عليه السلام " حسنات الأبرار سيآت المقربين " . وصف نفسه به اعترافا واعتذارا من العبد اللئيم السقيم بين يدي الكريم الحليم , طمعا في عدم المؤاخذة فضلا ومنة , اذ الكريم اذا اعترف له واعتذر , جاد و تفضل وترك المؤاخذة . قال الشاعر :" دية المذنب عندنا الاعتذار , الخ . و روى الترمذي و غيره حديث "من أتى أخاه متنصلا من ذنبه , فليقبل اعتذاره محقا كان أو مبطلا , فان لم يفعل لم يرد الحوض " , و في معناه أنشد فقال :
اقبل معاذر من يأتيك معتذرا ان بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره و قد أجلك من يعصيك مستترا
و في معنى ذلك قيل :
اذا اعتذر الصديق اليك يوما فجاوز عن مساويه الكثيره
فان الشافعي روى حديثا باسناد صحيح عن المغيره
عن المختار أن الله يمحو بعذر واحد ألفي كبيره
و روى ابن ماجة , " من اعتذر اخاه بمعذرة فلم يقبلها كان من الخطيئة , مثل صاحب المكس , اذ لا يأتي الا ذو قلب سليم , ومن لازم الاعتذار الذل و الانكسار و المسكنة و الاعتراف بالعجز و الاستغفار . و قبول العذر من شئن كرام الناس , و لا أحد أحب اليه العذر من الله تعالى , و من أجل ذلك بعث المبشرين و المنذرين . ووصف الذ نب أيضا يقتضي طلب المغفرة , لقوله عليه السلام : " لولا أنكم تذنبون لذهب الله بكم و خلق خلقا يذنبون فيغفر لهم ", أخرجه الترمذي و رواه مسلم من طريق أبي أيوب الأنصاري , و لفظه أن أبى أيوب قال , حين حضرته الوفاة , " كنت كتمت عنكم حديثا سمعته من رسول الله , صلى الله عليه و سلم , و سوف أحدثكموه و قد أحيط بنفسي , سمعته يقول "لو لا " الخ . (تنبيه ) الذنوب داء , و قال عليه السلام " ما أنزل الله تعالى من داء الا أنزل له دواء , رواه البخاري . فدواء الذنوب التوبة و هي لغة الرجوع . يقال تاب اذا رجع , و شرعا الرجوع الى الله تعالى عما هو مذموم شرعا الى ما هو محمود فيه , و شرطها الندم و الاقلاع في الحين , و العزم أن لا يعود , فان تعلقت بآدمي , اشترط رد المظالم الى أهلها , و هي واجبة على الفور . و قال السبكي , رحمه الله تعالى , و هي التوبة الندم (1) و تتحقق بالاقلاع و عزم ان لا يعود و تدارك ممكن التدارك , و تصح و لو بعد نقضها عن ذنب و لو صغيرا و مع الاصرار على آخر و لو كبيرا عند الجمهور . فائدة : الذنوب كبائر و صغائر , و باجتناب الكبائر يغفر الله تعالى الصغائر
بفضله و وعده الصادق , لقوله تعالى "ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " , الآية . و قال عليه السلام " باجتناب الكبائر تغفر الصغائر ". قال في " اللباب " , الكبائر سبعة متفق عليها , و عشر مختلف فيها . فالمتفق عليها , الشرك بالله و القنوط من رحمة الله و الأمن من مكر الله و قتل النفس التي حرم الله و اليمين الغموس والسرقة و عقوق الوالدين , و العشرة المختلف فيها , شهادة الزور و قذف المحصنات والسحر و الزنى واللواط و المشي بالنميمة و الفرار من الزحف و أكل مال اليتامى ظلما و الربى في الأموال و شرب الخمر . قال في "اللباب تفسير نوادر الكتاب " , فمن اجتنب هذه السبع عشرة كبيرة , و أقام الصلاة , غفر الله ما عداها من الصغائر , بدليل الكتاب و السنة , فضلا من الله تعالى و نعمة , و الله غفور رحيم . و قد قسم العلماء هذه الكبائر السبع عشرة على الأعضاء السبع الآتي ذكرها . ثلاثة في اللسان : اليمين الغموس و قذف المحصنات و شهادة الزور.
و ثلاثة في اليد : قتل النفس و السرقة و السحر . و ثلاثة في القلب : الشرك بالله و الأمن من مكر الله و القنوط من رحمة الله . و ثلاثة في البطن : شرب الخمر و أكل الربا و أكل أموال اليتامى ظلما . و اثنان في الفرج : الزنى و اللواط . و اثنان في الرجل : المشي بالنميمة و الفرار من الزحف . و واحد في سائر الجسد : و هو عقوق الوالدين . (تنبيه ) ان الذنوب ليست منحصرة فيما يتبادر اليه فهم العامة من قبائح الاعمال المتقدم ذكرها و غيره , بل من الذنوب ما هو صادر عن الأجنة و مداركها أكثر و أكبر . فصغير ذنوب البواطن أكبر من صغير ذنوب الظواهر , وكبيرها أكبر من كبيرها , بل ربما يوازي بعض صغائر البواطن كبائر الظواهر , و قد تكون كبائر الأجنة كفرا أو شركا صريحا , أو ما يؤدي الى ذلك . و كم للأجنة من ذنوب يصر عليه من يعد في جملة العابدين , كرؤية العمل و الادلال به على الله تعالى . ولقد سئلت سيدتنا عائشة رضي الله تعالى عنها , فقيل لها : " متى يكون الرجل مسيئا ", قالت : " اذا ظن احتقار أنه محسن ". و من الذنوب ما هو أكبر من ذلك كالاعجاب بالعمل والفخر به و ازدراء من يظن أنه القصور عن عمله و الركون الى ما اعتاده مثلا من اجابة الدعاء , حتى يحمله ذلك على دعوى التصرف في الوجود بدعائه , أو بخاطره و نحو ذلك . و من أنواع الذنوب الباطنة الكبر و العجب و الرياء و السمعة و حب المال و الجاه و الحقد و الحسد و البغض لبعض من أحبه الله تعالى , والحب لبعض من أبغضه الله , و لقد غلب اصرارنا على ذنوب كثيرة كبيرة و هي في عيون عقولنا صغيرة , و ان ذلك من النفاق , نسئل الله تعالى التوبة و الفكاك منها بمنه و فضله . و قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه , قال :" ان المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه , و أن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه , فقال به كذا ". و قال ابن شهاب بيده فوق أنفه . و قد كان سيد المخلوقات من غفر الله تعالى ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر و عصمه من الزلات يقول " اللهم أنت ربي لاالاه الا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت , أعوذ بك من شر ما صنعت , أبوء لك بنعمتك علي و أبوء بذنبي فاغفر لي فانه لا يغفر الذنوب الا أنت ". و كان بعض مشائخي , رحمهم الله تعالى , يقول " أستغفر الله العظيم من كل قول وكل عمل و كل اعتقاد أمرني الله و رسوله به فتركته , أو
نهاني الله و رسوله عنه ففعلته " . وكان يكثر من هذا الاستغفار في عامة أوقاته , رحمه الله و نفعنا به , آمين . قوله يرجو , مضارع رجا . قال الجوهري , و الرجاء من الأمل , ممدود . يقال رجوت فلان , أرجوه رجوا و رجاء و رجاوة , و هو لغة ضد اليأس , و شرعا ضد الخوف . و قد يكون الرجاء بمعنى الخوف . قال الله تعالى : " ما لكم لا ترجون لله وقارا " , الآية , أي لا تخافون عظمة الله تعالى . و الرجى بالقصر ناحية البير و حافتاه , و كل ناحية رجى , و هو عند أهل الحق تعلق القلب بمحبوب ممكن الحصول , أو الثقة بالجود من الكريم الموجود , أو سرور الفؤاد بحسن الميعاد , و هو ثلاث مراتب . الأولى , رجاء الشفاعة مع حالة الاسراف و قلة العمل . فيرجو دخوله في شفاعة الشافعين من رسول الله صلى الله عليه و سلم و غيره من عباد الله الصالحين , لقوله تعالى "و لسوف يعطيك ربك فترضى " . و هو صلى الله عليه و سلم لا يرضى بأحد من أمته في النار . و قال الامام علي كرم الله تعالى وجهه : " هذه أرجى آية في القرآن " , فعامة المسلمين يرجون الشفاعة مع صحة الايمان بالله تعالى و رسوله و اليوم الآخر , و اقامة حدود الله تعالى , فان ذلك موجب استحقاق الشفاعة . الثانية , رجاء قبول الأعمال , قيجتهد في تخليصه من الشرك الخفي , كالرياء و السمعة والعجب وطلب الثواب و الدرجات و نحو ذلك , المشار اليه بقوله تعالى " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " . الثالثة , رجاء سعة الرحمة و المنة , لقوله تعالى " و رحمتي وسعت كل شيء " . و قال عليه السلام ما معناه , " ان الله خلق , يوم خلق السماوات و الأرض , مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماوات و الأرض , جعل منها رحمة في الأرض , فيها تعطف الوالدة على ولدها , و الوحوش و الطيور بعضها على بعض , و أخر تسعا و تسعين . فاذا كان يوم القيامة كملها بهذه الرحمة ". قوله رضا , الرضاء بالمد و بالقصر , و الرضوان بالضم و بالكسر بمعنى . الا أن الممدود مصدره عن الأخفش , و هو لغة ضد السخط , و عند أهل الشرع سرور القلب بمر القضاء . وفي الحديث , "غضب الله عقوبته و رضاه ثوابه" . ورد قول من قال غضب الله تعالى النار و رضاه الجنة , لأنهما مخلوقتان و صفة المولى جل جلاله غير مخلوقة , الا أن يقال أن النار تستوجب بغضب الله تعالى و الجنة تستوجب برضاه . فعقوبته نار و آفة و بلاء , أعاذنا الله تعالى من ذلك بمنه و فضله و ثوابه جنة و راحة و نعمة من الله تعالى علينا بذلك بفضله و جوده . قال تعالى " رضي الله عنهم ورضوا عنه " الآية . و نتيجة رضى الله تعالى , الرضى عنه في كل ما قضى وقدر . و هو في البدايات الرضى بالله ربا و بالاسلام دينا و بمحمد صلى الله عليه و سلم نبيا رسولا , وفي النهايات القيام بالحق في ذاته و صفاته , فلا يرضى الا برضى الله كما في سائر رسومه و صفاته . و عند أهل الحقيقة , الانطماس في نور تجلي الهوية و عدم الشعور بالاينية , كما في الشريعة سرور القلب بمر القضاء كما تقدم . (تنبيه) الرضى أحد مقامات الصالحين , يترقى اليه من مقام التفويض الذي هو أعلى مقام التسليم . و الباعث على الرضى حسن الضن بالله تعالى , و عليه مدار العبودية و أساسها . و لذلك كان من الأصول الموصلة الى الله تعالى , و لا يصح لذي طريقة تحقق فيها دونه , قاله الخروبي , انتهى و الله أعلم . قوله "من ", أي الذي ,"اليه المهرب", و هو الله تعالى , المفهوم من الحال كقوله تعالى "انا أنزلناه ", الآية . أو الرحمان المذكور في قوله , قال عبد الرحمان الخ , و لا مهرب الى غيره تعالى , اذ لا ملجأ منه الا اليه , لقوله تعالى " ففروا الى الله ", الآية . أي فروا الى الله تعالى من كل شيء شاغل للقلب عن مراقبته و جريان حكمه على خلقه . و لذا لما صبت أموال الغنائم بين يدي علي كرم الله تعالى وجهه, قال : " اليك يا دنيا فقد طلقتك ثلاثا " , أشار , رضي الله عنه , الى فرار العامة , و أما فرار الخاصة فهو بالقلوب , سواء كانت الشواغل أم لم تكن , و ذلك أن القلب اذا صلح لا يرضه شيء , و اذا فسد لا ينفعه شيء , قاله في اللباب , انتهى . قلت , و لهذا قال في الحكم , انما استوحش العباد و الزهاد من كل شيء لغيبتهم عن الله في كل شيء , فلو شهدوه في كل شيء لم يستوحشوا من شيء . و قال الواسطي , " فروا من رؤية النفوس الى رؤية الله تعالى , فيما ساء و أسر و نفع و ضر , لأن أحوال العبد أربعة لا خامس لها . طاعة ومعصية , و نعمة وبلية , و الفرار من الكل الى الله تعالى واجب في الجميع . فمن النعمة و الطاعة بالشكر و الاخلاص . قلت , و من المعصية و البلية بالتوبة و الصبر . قيل فروا من عملكم الى علم الله و من تدبيركم الى تدبيره , و قيل فروا من الكثرة الى الوحدة , و من الشفع الى الوتر , و من التفرقة الى الجمع , و الله يجتبي اليه من يشاء . و قيل ان الله تعالى واجب الهجرة على عباده من المذام الى المحامد , حسا و قلبا . فاذا فسد المحل و أهله فالهجرة حسية , و اذا لم يفسد , كانت قلبية , لقوله عليه السلام : " لا هجرة بعد الفتح و لكن جهاد و نية ", الحديث . فالهجرة هجرتان , كبرى و صغرى , كما ان الجهاد جهادان أصغر و أكبر . فالهجرة الصغرى هجرة الأجسام من الأوطان , لقوله تعالى "قل ان كان آبائكم و أبنائكم و اخوانكم ", الآية . و الهجرة الكبرى هجرة القلوب بترك السوى , لقوله عليه السلام :"نية المؤمن خير من عمله , و نية الفاسق شر من عمله ". و الجهاد الأصغر جهاد الأجسام مع الأجسام و الجهاد الأكبر جهاد القلوب مع النفوس, لقوله عليه السلام : " هبطتم من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر " , بعد رجوعه من غزوة كان فيها. قيل له وما الجهاد الأكبر يا رسول الله , قال :"جهاد النفس " , أو كما قال , انتهى . قال عفى الله عنه :

( الحمد لله الذي أورثنا كتابه و حصنه أدخلنا )