المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقدمة عن الرمزية (رونيه غينون).



شاهين
29-11-2014, 09:27 PM
مقدمة عن الرمزية (رونيه غينون).
بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على رسوله الأمين و على آله و صحبه.

للرمزية أهميتها، و قد اعتنى رونيه غينون بها عناية خاصة حتّى أنه صنّف فيها كتابا سمّاه (رموز العلم المقدس)، كتابٌ جمع فيه الكثير من الرموز الدينية و الروحية و السرّانية ...

أقدّم لكم هذه المقدمة عن الرمزية، ترجمتها من الكتاب المذكور بتصرف خفيف، أوردها المصنف عند حديثه عن الكلمة و الرمز.



...إنّ الرّمزية تظهر لنا على أنها تُناسب متطلبات الطبيعة الإنسانية. فالطبيعة الإنسانية ليست روحية محضة، فهي تحتاج إلى قاعدة محسوسة لترتفع إلى المراتب العليا. فيجب النظر إلى التركيب الإنساني كما هو، فهو واحد و متعدد في نفس الآن...

إن روحاً محضة، بالتأكيد، لا تحتاج لأيّ شكل خارجي و لا لأيّ عبارة لتفهم الحقيقة أو لتتواصل مع روح أخرى، لكنّ الأمر يختلف عند الإنسان.

في المضمون، إنّ كل عبارة و كل صيغة، مهما كانت، هي رمز للفكر الذي تترجمه خارجيا؛ و اللغة، بهذا المعنى، ليست إلاّ رمزية. فلا يوجد إذن من تعارض بين استخدام الكلمات و استخدام الرموز الصورية، بل إنّ هاتين الأداتين في التعبير يكمّل بعضهما البعض.

بشكل عام، اللغة تحليلية منطقية، شأنها كشأن العقل الإنساني الذي تعتبر أداته الخالصة، و بالمقابل، تُعتبر الرمزية جمعية و حدسية نوعا ما، و هذا ما يؤهلها أكثر من اللغة لتصبح نقطة انطلاق للحدس الروحي الذي يفوق العقل و الذي لا يجب أن نخلط بينه و بين الحدس الأدنى الذي يذكرونه فلاسفة العصر. و عليه، إذا لم نقنع بملاحظة الفرق، و إذا أردنا الحديث عن الأعلى و الأدنى، فإنّ الفوقية ستكون للرمزية الجمعية لأنّها تفتح إمكانيات لا محدودة للإدراك، بينما اللغة، بمفاهيمها المحدودة و المتوقفة، تضع حدودا ضيقة أمام الفهم.

فلا يجب أن نقول إذن أنّ الرمزية لا تصلح إلاّ للعامة، بل العكس قد يكون هو الصحيح، و الأفضل أن نقول أنّها تصلح للجميع لأنها تُعين الجميع على الفهم التّام و الفهم العميق للحقائق التّي تمثلها. و هكذا، فإنّ الحقائق السامية التي لا يُمكن الكشف عنها و لا توصيلها بأي وسيلة من الوسائل، يُصبح من الممكن تبليغها عندما توضع في قوالب رمزية فتتخفّى بتلك الرموز لدى البعض لكنّها تظهر فيها جليّة عند من لديه النّظر الصحيح.

هل هذا يعني أنّ استخدام الرمزية ضرورة؟ هنا يجب التّمييز: فبشكل مطلق، جميع الأشكال الخارجية ليست ضرورية، كلّها عرضية و مُتجَاوزَة بالنسبة لما تُعبر عنه أو تمثله. لهذا نجد في تعاليم الهندوس أنّ صورة ما ،أيّا كانت، و ليكن مثلا صنما يرمز لخاصية من خصائص الألوهة، لا يجب أن تُعتبر إلاّ كإطار، كنقطة انطلاق مِن أجْل التّأمّل، فهي ليست إلاّ مقوٍّ، و لا شيء أكثر. يوجد نص في الفيدا يوضح بشكل جلي دور الرموز و الأشكال الخارجية بشكل عام: هذه الأشكال هي بمثابة الفرس الذي يمكّن الإنسان من السفر بسرعة أكبر و بمشقة أقل. فمن غير شك يمكن للإنسان، إذا لم يتوفر لديه الفرس، أن يصل إلى هدفه، لكن بصعوبة كبيرة. فإذا كان بإمكانه استعمال الفرس و لم يستعمله بحجة أنّه أهل لأن لا يلجأ لأيّ معونة فهو على خطأ؛ و هذا هو بالضبط شأن من يقلل من أمر الرمزية.

لكن لا يجب اعتبار الرمزية من الجانب الإنساني فقط كما فعلنا حتّى الساعة، بل يجب، لاكتشاف كل حمولتها، أن يتمّ تناولها من الجانب الإلهي أيضا، إذا جاز التعبير. فإذا لاحظنا أنّ الرمزية لها أساس في طبيعة الكائنات و الأشياء، و أنّها في تطابق تام مع هذه الطبيعة، و إذا ما تأملنا و وجدنا أن القوانين الطبيعية ليست إلا تعبيرا و تمظهرا للإرادة الإلهية، ألا يدعو ذلك إلى التنصيص على أنّ أصل الرمزية ليس إنسانيا، كما يقول الهندوس، و بعبارة أخرى، أنّ مبدأه قديم جدا و أقدم من الإنسانية؟

ليس الأمر لغواً حين نذكّر، أثناء الحديث عن الرمزية، بالكلمات الأولى للإنجيل (في البدء كان الكلمة). فالكلمة، اللوغوس، هي في نفس الآن فكر و كلام...إنّها مكان الإمكان؛ و بالنسبة إلينا فإنّها تتمظهر في الخلق...

إنّ الخلق هو نتيجة الكلمة، و هو أيضا تمظهرا و تجسيدا خارجيا لها، و لهذا يُعتبر العالَم كلغة إلهية لمن يفهم ذلك. و لم يخطئ الفيلسوف بيركلي عندما كان يقول عن العالَم أنّه (اللغة التي يحدّث بها الروح المطلق الأرواح المقيّدة)؛ و لكنه أخطأ عندما اعتقد أن اللغة ليست إلا علامات تعسّفية، إذ في الحقيقة ليس ثمة أيّ تعسّف في اللغة الإنسانية، فكل دلالة، في الأصل، لا بدّ و أن يوجد فيها من نسبة أو تناغم طبيعي بين الدال و المدلول.

فما سمّى آدم الكائنات الحيّة إلاّ لأنّ الله عرّفه طبيعتهم، و كلّ التعاليم التقليدية تتفّق على أنّ الإسم الحقيقي للكائن لا يمكن إلاّ أن يدلّ على طبيعته أو ماهيته.

إذا كانت الكلمة فكرا في الداخل و كلاما في الخارج، و إذا كان العالم هو نتيجة الكلم الإلهي الأزلي، فإن الطبيعة كلها لا يمكن أن تُعتبر إلاّ كرمز للحقيقة الميتافيزيقية. كل شيء، تحت أيّ شكل من الأشكال، يترجم و يمثّل هذا المبدأ بطريقته الخاصة و حسب نظامه الوجودي؛ و هكذا، من نظام إلى آخر، تتعاقب الأشياء و تتناسب ليحصل التناغم الكوني التام و الذي ليس إلا انعكاسا للوحدة الإلهية نفسها.

و هذا التناسب هو الأساس الحقيقي للرمزية و لأجل ذلك أمكن لقوانين مجالٍ سفلي أن تُتّخذَ دائما رمزا لحقائق نظام علوي، إذ ثمّة يكمن عمقهم الروحي الذي يُعتبرُ في نفس الآن مبدأهم و منتهاهم.

و نذكر بهذا الخصوص خطأ التّأويلات العصرية (الطبيعية) للنظريات التقليدية القديمة، إذ تقوم هذه التّأويلات بقلب تراتبية العلاقات بين مختلف أنظمة الحقائق: كمثال، الرموز و الأساطير لم يكن دورها أبدا أن تمثل حركة الأفلاك، و الحقيقة أنّنا نجد كثيرا صورا مستلهمة من هذه الحركة لكنّها تعبّر بالمحاكاة على شيء آخر، و ذلك لأن قوانين هذه الحركة تُترجم مادّيا المبادئ الميتافيزيقية التي تخضع لها. يُمكن للسفلي أن يرمز للعلوي، لكن العكس يستحيل، فإذا كان الرمز أقرب للنظام المحسوس الذي يمثله، كيف يمكنه أن يلعب الدور المنوط به؟

في الطبيعة، يمكن للمحسوس أن يكون رمزا للامحسوس، و النظام الطبيعي بأكمله يمكن أن يرمز للأمر الإلهي...ثمّ إن الطبيعة لا يمكن أن يكتمل مفهومها إلا إذا نظرنا إليها أنّها تمدّنا بالوسيلة التي ترتقي بنا إلى معرفة الحقائق الإلهية، و هذا هو بالضبط الدور الذي شهدنا به للرمزية.

مركوش
30-11-2014, 10:41 AM
شكرا على الطرح القيم والراقى ونتمنى المزيد من هذه المواضيع الهادفة والقيمة دمتم ودامت اقلامكم المتميزة وانتقاءاتكم الرائعة

رشيد66
27-04-2015, 09:37 PM
جزاك الله كل اخي الكريم وبارك الله فيك

ترنيم
28-04-2015, 10:35 PM
بارك الله فيكم وعليكم

كارم المحمدى
04-05-2015, 12:33 PM
شكرا على المقالة القيمة جزاك الله كل خير

قويدار السيد
07-05-2015, 06:23 PM
جزاك الله كل اخي الكريم وبارك الله فيك