تبارك
29-11-2014, 11:01 PM
للحقيقة المحمـدية أسماء كثيرة، باعتبـــار وجوهها واعتباراتها، منها : التعيّن الأول، والإنسان الكامل، والتجلّي الثاني، وحقيقة الحقائق، والبرزخ الجامع، وواسطة الفيض والمدد، وحضرة الجمع، ومركز الدائرة، ونور الأنوار .
الحقيقة المحمدية هي أول مرتبة وتنزّل للذات العليّة. والصورة الإنسانية هي آخر تعيّن وتنزل لها على أرض الكثرة والحدوث. فلولا سريان الوجود من خلال الحقيقة المحمدية، ما كان للعالم من ظهور، ولا صح وجود لموجود، لبعد المناسبة، وعدم الارتباط. وخلاصة القول لا تصح نسبة وجود الموجودات، إلا بواسطة هذه الحقيقة الشريفة.
وللحقيقة المحمـدية أسماء كثيرة، باعتبـــار وجوهها واعتباراتها، منها : التعيّن الأول، والإنسان الكامل، والتجلّي الثاني، وحقيقة الحقائق، والبرزخ الجامع، وواسطة الفيض والمدد، وحضرة الجمع، ومركز الدائرة، ونور الأنوار.
وإذا أردنا أن نصفها بعبارة أقل التباساً نقول: هي مجموعة صور آدم عليه السلام الظاهرة والباطنة. بمعنى آخر أن الحقيقة المحمدية هي تعيّن الحق لنفسه، بجميع معلوماته ونسبه الإلهية والكونية. فالوجود الحق ظهر في الحقيقة المحمدية بذاته، وظهر في سائر المخلوقات بصفاته. فما صدر عن الله تعإلى بغير واسطة إلا هذه الحقيقة.
والحقيقة المحمدية هي المنيرة لكل سراج حسّاً ومعنى، من نبي وولي، لأنها المظهر الأول، والحقـيقة الكلية الجامعة وهي المشهودة لأهل الشــهود، وهــي التــي يتغزّلون بها ويتلذذون بحديثها في أسمارهم!.
وكما أن الحقيقة المحمدية هي سبب خلق العالم ونتيجته وأكمل ثمراته، كذلك تتحقق بها وبالرسالة الأحمدية الكمالات الحقيقية للكائنات قاطبة، إذ تصبح المخلوقات بجميع مراتبها الوجودية مرايا باقية للبارئ عز وجل تعكس تجليات أسماء الجمال والجلال.
الحقيقة المحمدية موضوع مثير للكثير من النقاش والجدل، حسم فيه كبار العارفين فكان التواصل والادعان للحق، وخاض فيه غيرهم فأنجبر الاجترار والتكرار الممل ، وخير الكلام كلام الحق لأهل الحق من أجل الحق.
أَمَّا حَقِيقَتُهُ المُحَمَّدِيَّةُ صلى الله عليه وسلم: فَهِيَ أَوَّلُ مَوْجُودٍ أَوْجَدَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ حَضْرَةِ الغَيْبِ، وَلَيْسَ عِنْدَ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ مَوْجُودٌ قَبْلَهَا، لَكِنَّ هَذِهِ الحَقِيقَةَ لاَ تُعْرَفُ بِشَيْءٍ. وَقَدْ تَعَسَّفَ بَعْضُ العُلَمَاءِ بِالبَحْثِ فِي هَذِهِ الحَقِيقَةِ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الحَقِيقَةَ مُفْرَدَةٌ لَيْسَ مَعَهَا شَيْءٌ، فَلاَ تَخْلُو، إِمَّا أَنْ تَكُونَ جَوْهَراً أَوْ عَرَضاً، فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ جَوْهَراً، افْتَقَرَتْ إِلَى المَكَانِ الذِي تَحُلُّ فِيهِ، فَلاَ تَسْتَقِلُّ بِالوُجُودِ دُونَهُ، فَإِنْ وُجِدَتْ مَعَ مَكَانِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلاَ أَوَّلِيَّةَ لَهَا لأَنَّهُمَا اثْنَانِ، وَإِنْ كَانَتْ عَرَضاً لَيْسَتْ بِجَوْهَرٍ، فَالعَرَضُ لاَ كَلاَمَ عَلَيْهِ، إِذْ لاَ وُجُودَ لِلعَرَضِ إِلاَّ قَدْرَ لَمْحَةِ العَيْنِ ثُمَّ يَزُولُ، أَيْنَ الأَوَّلِيَّةُ التِي قَلْتُمْ؟ وَالجَوَابُ عَنْ هَذَا المَحَطِّ: أَنَّهَا جَوْهَرُ حَقِيقَةٍ، لَهُ نِسْبَتَانِ: نُورَانِيَّةٌ وَظَلْمَانِيَّةٌ، وَكَوْنُهُ مُفْتَقِراً إِلَى المَحَلِّ لاَ يَصِحُّ هَذَا التَّحْدِيدُ، لأَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ يَعْتَدُّ بِهِ مَنْ تَثَبَّطَ عَقْلُهُ فِي مَقَامِ الأَجْسَامِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ هَذِهِ المَخْلُوقَاتِ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ تَحُلُّ فِيهِ، وَكَوْنُ العَقْلِ يُقَدِّرُ اسْتِحَالَةَ هَذَا الأَمْرِ، بِعَدَمِ الإِمْكَانِ بِوُجُودِ الأَجْسَامِ بِلاَ مَحَلٍّ، فَإِنَّ تِلْكَ عَادَةٌ أَجْرَاهَا اللهُ تَعَالَى تَثَبَّطَ بِهَا العَقْلُ، وَلَمْ يُطْلَقْ صَرَاحُهُ فِي فَضَاءِ الحَقَائِقِ. وَلَوْ أُطْلِقَ صَرَاحُهُ فِي فَضَاءِ الحَقَائِقِ، لَعَلِمَ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ العَالَمِ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ.
وَحَيْثُ كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، فَاللهُ تَعَالَى خَلَقَ الحَقِيقَةَ المُحَمَّدِيَّةَ جَوْهَراً غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إِلَى المَحَلِّ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ مَنْ كُشِفَ لَهُ عَنِ الحَقِيقَةِ الإلَهِيَّةِ، عَلِمَ يَقِيناً قَطْعِيّاً أَنَّ إِيجَادَ العَالَمِ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ مُمْكِنٌ إِمْكَاناً صَحِيحاً.
أَمَّا الحَقِيقَةُ المُحَمَّدِيَّةُ فَهِيَ فِي هَذِهِ المَرْتَبَةِ، لاَ تُعْرَفُ وَلاَ تُدْرَكُ، وَلاَ مَطْمَعَ لأَحَدٍ فِي نَيْلِهَا فِي هَذَا المَيْدَانِ، ثُمَّ اسْتَثَرَتْ بِأَلْبَاسٍ مِنَ الأَنْوَارِ الإِلَهِيَّةِ، وَاحْتَجَبَتْ بِهَا عَنِ الوُجُودِ، فَهِيَ فِي هَذَا المَيْدَانِ تُسَمَّى رُوحاً بَعْدَ احْتِجَابِهَا بِالأَلْبَاسِ، وَهَذَا غَايَةُ إِدْرَاكِ النَّبِيئِينَ وَالمُرْسَلِينَ وَالأَقْطَابِ، يَصِلُونَ إِلَى هَذَا المَحَلِّ وَيَقِفُونَ، ثُمَّ اسْتَثَرَتْ بِأَلْبَاسٍ مِنَ الأَنْوَارِ الإِلَهِيَّةِ أُخْرَى وَبِهَا سُمِّيَتْ عَقْلاً، ثُمَّ اسْتَثَرَتْ بِأَلْبَاسٍ مِنَ الأَنْوَارِ الإِلَهِيَّةِ أُخْرَى، فَسُمِّيَتْ بِسَبَبِهَا قَلْباً، ثُمَّ اسْتَثَرَتْ بِأَلْبَاسٍ مِنَ الأَنْوَارِ الإِلَهِيَّةِ أُخْرَى، فَسُمِّيَتْ بِسَبَبِهَا نَفْساً، وَمِنْ بَعْدِ هَذَا ظَهَرَ جَسَدُهُ الشَّرِيفُ صلى الله عليه وسلم.
فَالأَوْلِيَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي الإِدْرَاكِ لِهَذِهِ المَرَاتِبِ، فَطَائِفَةٌ غَايَةُ إِدْرَاكِهِمْ نَفْسُهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ عُلُومٌ وَأَسْرَارٌ وَمَعَارِفٌ، وَطَائِفَةٌ فَوْقَهُمْ غَايَةُ إِدْرَاكِهِمْ قَلْبُهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ عُلُومٌ وَأَسْرَارٌ وَمَعَارِفُ أُخْرَى، وَطَائِفَةٌ فَوْقَهُمْ غَايَةُ إِدْرَاكِهِمْ عَقْلُهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَهُمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ عُلُومٌ وَأَسْرَارٌ وَمَعَارِفُ أُخْرَى، وَطَائِفَةٌ وَهُمْ الأَعْلَوْنَ بَلَغُوا الغَايَةَ القُصْوَى فِي الإِدْرَاكِ، فَأَدْرَكُوا مَقَامَ رُوحِهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ غَايَةُ مَا يُدْرَكُ، وَلاَ مَطْمَعَ لأَحَدٍ فِي دَرْكِ الحَقِيقَةِ فِي مَاهِيَّتِهَا التِي خُلِقَتْ فِيهَا.
وَفِي هَذَا يَقُولُ أَبُو يَزِيدٍ: "غُصْتُ لُجَّةَ المَعَارِفِ طَلَباً لِلوُقُوفِ عَلَى عَيْنِ حَقِيقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا بَيْنِي وَبَيْنَهَا أَلْفُ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ، لَوْ دَنَوْتُ مِنَ الحِجَابِ الأَوِّلِ لاَحْتَرَقْتُ بِهِ كَمَا تَحْتَرِقُ الشَّعْرَةُ إِذَا أُلْقِيَتْ فِي النَّارِ".
وَكَذَا قَالَ الشَّيْخِ مَوْلاَنَا عَبْدِ السَّلاَمِ فِي صَلاَتِهِ: "وَلَهُ تَضَاءَلَتِ الفُهُومُ، فَلَمْ يُدْرِكْهُ مِنَّا سَابِقٌ وَلاَ لاَحِقٌ".
وَفِي هَذَا يَقُولُ أُوَيْسُ القَرَنِي لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ، وَسَيِّدِنَا عُمَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: لَمْ تَرَيَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ ظِلَّهُ، قَالاَ: وَلاَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ قَالَ: وَلاَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، فَلَعَلَّهُ غَاصَ لُجَّةَ المَعَارِفِ طَلَباً لِلوُقُوفِ عَلَى عَيْنِ الحَقِيقَةِ المُحَمَّدِيَّةِ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا أَمْرٌ عَجَزَ عَنْهُ أَكَابِرُ الرُّسُلِ وَالنَّبِيئِينَ، فَلاَ مَطْمَعَ لِغَيْرِهِمْ فِيهِ، اِنْتَهَى.
وَمَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ [الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي] فِي صَلاَتِهِ: "اللَّهُمَّ أَلْحِقْنِي بِنَسَبِهِ"، مَعْنَاهُ هُوَ كَوْنُهُ خَلِيفَةً عَنِ اللهِ فِي جَمِيعِ المَمْلَكَةِ الإِلَهِيَّةِ فَلاَ شُذُوذَ، مُتَّصِفاً بِجَمِيعِ صِفَاتِ اللهِ وَأَسْمَائِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ عَيْنُهُ، فَهَذَا هُوَ نَسَبُهُ مِنَ الحَضْرَةِ الإلِهِيَّةِ، وَبِعِبَارَةٍ قَالَ رَضِيَ الله عَنهُ: يَعْنِي شَيْخَنَا طَلَبَ مِنَ اللهِ أَن يُحَقِّقَهُ بِنِسْبَتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الحَضْرَةِ الإِلَهِيَّةِ، وَتَحَقُّقُهُ بِحَسَبِ ذَلِكَ النَّسَبِ، وَهِيَ العُلُومُ المُحَمَّدِيَّةُ، وَالأَوْلِيَاءُ فِيهَا كُلٌّ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ وَمَحْتِدِهِ فَغَايَةُ مَا يُدْرَكُ مِنْهَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ.
وَقَالَ أَيْضاً رَضيَ الله عَنهُ: فَمَنْ وَصَلَ إِلَى سِتَّةٍ وَسِتِّينَ مِنَ العُلُومِ المُحَمَّدِيَّةِ أَوْ أَزْيَدَ، فَلاَ يَضُرُّهُ مُجَالَسَةُ الخَلْقِ وَلاَ مُكَالَمَتُهُمْ، فَلاَ يَسْمَعُ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَاسْتَوَتْ خَلْوَتُهُ وَجَلْوَتُهُ.
قَالَ رَضيَ الله عَنه: مَنْ أَدْرَكَ العِلْمَ الأَوَّلَ مِنَ العُلُومِ المُحَمَّدِيَّةِ، وَقَسَّمَهُ عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ جُزْءاً، وَعَلِمَ جُزْءاً وَاحِداً مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ جُزْءاً، فَلُهُ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُفَسِّرَ كُلَّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ وَجْهاً مِنَ التَّفْسِيرِ، وَأَحَاطَ بِجَمِيعِ العُلُومِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، هَذَا لِمَنْ عَلِمَ جُزْءاً وَاحِداً مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ جُزْءاً مِنَ العِلْمِ الأَوَّلِ، فَضْلاً عَنِ العِلْمِ الوَاحِدِ كُلِّهِ، فَضْلاً عَنِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ إِلَى آخِرِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ عِلْماً فَاعْرِفِ النِّسْبَةَ، اِنْتَهَى.
جواهر المعاني
الشيخ التجاني
الحقيقة المحمدية هي أول مرتبة وتنزّل للذات العليّة. والصورة الإنسانية هي آخر تعيّن وتنزل لها على أرض الكثرة والحدوث. فلولا سريان الوجود من خلال الحقيقة المحمدية، ما كان للعالم من ظهور، ولا صح وجود لموجود، لبعد المناسبة، وعدم الارتباط. وخلاصة القول لا تصح نسبة وجود الموجودات، إلا بواسطة هذه الحقيقة الشريفة.
وللحقيقة المحمـدية أسماء كثيرة، باعتبـــار وجوهها واعتباراتها، منها : التعيّن الأول، والإنسان الكامل، والتجلّي الثاني، وحقيقة الحقائق، والبرزخ الجامع، وواسطة الفيض والمدد، وحضرة الجمع، ومركز الدائرة، ونور الأنوار.
وإذا أردنا أن نصفها بعبارة أقل التباساً نقول: هي مجموعة صور آدم عليه السلام الظاهرة والباطنة. بمعنى آخر أن الحقيقة المحمدية هي تعيّن الحق لنفسه، بجميع معلوماته ونسبه الإلهية والكونية. فالوجود الحق ظهر في الحقيقة المحمدية بذاته، وظهر في سائر المخلوقات بصفاته. فما صدر عن الله تعإلى بغير واسطة إلا هذه الحقيقة.
والحقيقة المحمدية هي المنيرة لكل سراج حسّاً ومعنى، من نبي وولي، لأنها المظهر الأول، والحقـيقة الكلية الجامعة وهي المشهودة لأهل الشــهود، وهــي التــي يتغزّلون بها ويتلذذون بحديثها في أسمارهم!.
وكما أن الحقيقة المحمدية هي سبب خلق العالم ونتيجته وأكمل ثمراته، كذلك تتحقق بها وبالرسالة الأحمدية الكمالات الحقيقية للكائنات قاطبة، إذ تصبح المخلوقات بجميع مراتبها الوجودية مرايا باقية للبارئ عز وجل تعكس تجليات أسماء الجمال والجلال.
الحقيقة المحمدية موضوع مثير للكثير من النقاش والجدل، حسم فيه كبار العارفين فكان التواصل والادعان للحق، وخاض فيه غيرهم فأنجبر الاجترار والتكرار الممل ، وخير الكلام كلام الحق لأهل الحق من أجل الحق.
أَمَّا حَقِيقَتُهُ المُحَمَّدِيَّةُ صلى الله عليه وسلم: فَهِيَ أَوَّلُ مَوْجُودٍ أَوْجَدَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ حَضْرَةِ الغَيْبِ، وَلَيْسَ عِنْدَ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ مَوْجُودٌ قَبْلَهَا، لَكِنَّ هَذِهِ الحَقِيقَةَ لاَ تُعْرَفُ بِشَيْءٍ. وَقَدْ تَعَسَّفَ بَعْضُ العُلَمَاءِ بِالبَحْثِ فِي هَذِهِ الحَقِيقَةِ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الحَقِيقَةَ مُفْرَدَةٌ لَيْسَ مَعَهَا شَيْءٌ، فَلاَ تَخْلُو، إِمَّا أَنْ تَكُونَ جَوْهَراً أَوْ عَرَضاً، فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ جَوْهَراً، افْتَقَرَتْ إِلَى المَكَانِ الذِي تَحُلُّ فِيهِ، فَلاَ تَسْتَقِلُّ بِالوُجُودِ دُونَهُ، فَإِنْ وُجِدَتْ مَعَ مَكَانِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلاَ أَوَّلِيَّةَ لَهَا لأَنَّهُمَا اثْنَانِ، وَإِنْ كَانَتْ عَرَضاً لَيْسَتْ بِجَوْهَرٍ، فَالعَرَضُ لاَ كَلاَمَ عَلَيْهِ، إِذْ لاَ وُجُودَ لِلعَرَضِ إِلاَّ قَدْرَ لَمْحَةِ العَيْنِ ثُمَّ يَزُولُ، أَيْنَ الأَوَّلِيَّةُ التِي قَلْتُمْ؟ وَالجَوَابُ عَنْ هَذَا المَحَطِّ: أَنَّهَا جَوْهَرُ حَقِيقَةٍ، لَهُ نِسْبَتَانِ: نُورَانِيَّةٌ وَظَلْمَانِيَّةٌ، وَكَوْنُهُ مُفْتَقِراً إِلَى المَحَلِّ لاَ يَصِحُّ هَذَا التَّحْدِيدُ، لأَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ يَعْتَدُّ بِهِ مَنْ تَثَبَّطَ عَقْلُهُ فِي مَقَامِ الأَجْسَامِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ هَذِهِ المَخْلُوقَاتِ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ تَحُلُّ فِيهِ، وَكَوْنُ العَقْلِ يُقَدِّرُ اسْتِحَالَةَ هَذَا الأَمْرِ، بِعَدَمِ الإِمْكَانِ بِوُجُودِ الأَجْسَامِ بِلاَ مَحَلٍّ، فَإِنَّ تِلْكَ عَادَةٌ أَجْرَاهَا اللهُ تَعَالَى تَثَبَّطَ بِهَا العَقْلُ، وَلَمْ يُطْلَقْ صَرَاحُهُ فِي فَضَاءِ الحَقَائِقِ. وَلَوْ أُطْلِقَ صَرَاحُهُ فِي فَضَاءِ الحَقَائِقِ، لَعَلِمَ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ العَالَمِ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ.
وَحَيْثُ كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، فَاللهُ تَعَالَى خَلَقَ الحَقِيقَةَ المُحَمَّدِيَّةَ جَوْهَراً غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إِلَى المَحَلِّ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ مَنْ كُشِفَ لَهُ عَنِ الحَقِيقَةِ الإلَهِيَّةِ، عَلِمَ يَقِيناً قَطْعِيّاً أَنَّ إِيجَادَ العَالَمِ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ مُمْكِنٌ إِمْكَاناً صَحِيحاً.
أَمَّا الحَقِيقَةُ المُحَمَّدِيَّةُ فَهِيَ فِي هَذِهِ المَرْتَبَةِ، لاَ تُعْرَفُ وَلاَ تُدْرَكُ، وَلاَ مَطْمَعَ لأَحَدٍ فِي نَيْلِهَا فِي هَذَا المَيْدَانِ، ثُمَّ اسْتَثَرَتْ بِأَلْبَاسٍ مِنَ الأَنْوَارِ الإِلَهِيَّةِ، وَاحْتَجَبَتْ بِهَا عَنِ الوُجُودِ، فَهِيَ فِي هَذَا المَيْدَانِ تُسَمَّى رُوحاً بَعْدَ احْتِجَابِهَا بِالأَلْبَاسِ، وَهَذَا غَايَةُ إِدْرَاكِ النَّبِيئِينَ وَالمُرْسَلِينَ وَالأَقْطَابِ، يَصِلُونَ إِلَى هَذَا المَحَلِّ وَيَقِفُونَ، ثُمَّ اسْتَثَرَتْ بِأَلْبَاسٍ مِنَ الأَنْوَارِ الإِلَهِيَّةِ أُخْرَى وَبِهَا سُمِّيَتْ عَقْلاً، ثُمَّ اسْتَثَرَتْ بِأَلْبَاسٍ مِنَ الأَنْوَارِ الإِلَهِيَّةِ أُخْرَى، فَسُمِّيَتْ بِسَبَبِهَا قَلْباً، ثُمَّ اسْتَثَرَتْ بِأَلْبَاسٍ مِنَ الأَنْوَارِ الإِلَهِيَّةِ أُخْرَى، فَسُمِّيَتْ بِسَبَبِهَا نَفْساً، وَمِنْ بَعْدِ هَذَا ظَهَرَ جَسَدُهُ الشَّرِيفُ صلى الله عليه وسلم.
فَالأَوْلِيَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي الإِدْرَاكِ لِهَذِهِ المَرَاتِبِ، فَطَائِفَةٌ غَايَةُ إِدْرَاكِهِمْ نَفْسُهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ عُلُومٌ وَأَسْرَارٌ وَمَعَارِفٌ، وَطَائِفَةٌ فَوْقَهُمْ غَايَةُ إِدْرَاكِهِمْ قَلْبُهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ عُلُومٌ وَأَسْرَارٌ وَمَعَارِفُ أُخْرَى، وَطَائِفَةٌ فَوْقَهُمْ غَايَةُ إِدْرَاكِهِمْ عَقْلُهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَهُمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ عُلُومٌ وَأَسْرَارٌ وَمَعَارِفُ أُخْرَى، وَطَائِفَةٌ وَهُمْ الأَعْلَوْنَ بَلَغُوا الغَايَةَ القُصْوَى فِي الإِدْرَاكِ، فَأَدْرَكُوا مَقَامَ رُوحِهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ غَايَةُ مَا يُدْرَكُ، وَلاَ مَطْمَعَ لأَحَدٍ فِي دَرْكِ الحَقِيقَةِ فِي مَاهِيَّتِهَا التِي خُلِقَتْ فِيهَا.
وَفِي هَذَا يَقُولُ أَبُو يَزِيدٍ: "غُصْتُ لُجَّةَ المَعَارِفِ طَلَباً لِلوُقُوفِ عَلَى عَيْنِ حَقِيقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا بَيْنِي وَبَيْنَهَا أَلْفُ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ، لَوْ دَنَوْتُ مِنَ الحِجَابِ الأَوِّلِ لاَحْتَرَقْتُ بِهِ كَمَا تَحْتَرِقُ الشَّعْرَةُ إِذَا أُلْقِيَتْ فِي النَّارِ".
وَكَذَا قَالَ الشَّيْخِ مَوْلاَنَا عَبْدِ السَّلاَمِ فِي صَلاَتِهِ: "وَلَهُ تَضَاءَلَتِ الفُهُومُ، فَلَمْ يُدْرِكْهُ مِنَّا سَابِقٌ وَلاَ لاَحِقٌ".
وَفِي هَذَا يَقُولُ أُوَيْسُ القَرَنِي لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ، وَسَيِّدِنَا عُمَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: لَمْ تَرَيَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ ظِلَّهُ، قَالاَ: وَلاَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ قَالَ: وَلاَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، فَلَعَلَّهُ غَاصَ لُجَّةَ المَعَارِفِ طَلَباً لِلوُقُوفِ عَلَى عَيْنِ الحَقِيقَةِ المُحَمَّدِيَّةِ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا أَمْرٌ عَجَزَ عَنْهُ أَكَابِرُ الرُّسُلِ وَالنَّبِيئِينَ، فَلاَ مَطْمَعَ لِغَيْرِهِمْ فِيهِ، اِنْتَهَى.
وَمَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ [الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي] فِي صَلاَتِهِ: "اللَّهُمَّ أَلْحِقْنِي بِنَسَبِهِ"، مَعْنَاهُ هُوَ كَوْنُهُ خَلِيفَةً عَنِ اللهِ فِي جَمِيعِ المَمْلَكَةِ الإِلَهِيَّةِ فَلاَ شُذُوذَ، مُتَّصِفاً بِجَمِيعِ صِفَاتِ اللهِ وَأَسْمَائِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ عَيْنُهُ، فَهَذَا هُوَ نَسَبُهُ مِنَ الحَضْرَةِ الإلِهِيَّةِ، وَبِعِبَارَةٍ قَالَ رَضِيَ الله عَنهُ: يَعْنِي شَيْخَنَا طَلَبَ مِنَ اللهِ أَن يُحَقِّقَهُ بِنِسْبَتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الحَضْرَةِ الإِلَهِيَّةِ، وَتَحَقُّقُهُ بِحَسَبِ ذَلِكَ النَّسَبِ، وَهِيَ العُلُومُ المُحَمَّدِيَّةُ، وَالأَوْلِيَاءُ فِيهَا كُلٌّ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ وَمَحْتِدِهِ فَغَايَةُ مَا يُدْرَكُ مِنْهَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ.
وَقَالَ أَيْضاً رَضيَ الله عَنهُ: فَمَنْ وَصَلَ إِلَى سِتَّةٍ وَسِتِّينَ مِنَ العُلُومِ المُحَمَّدِيَّةِ أَوْ أَزْيَدَ، فَلاَ يَضُرُّهُ مُجَالَسَةُ الخَلْقِ وَلاَ مُكَالَمَتُهُمْ، فَلاَ يَسْمَعُ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَاسْتَوَتْ خَلْوَتُهُ وَجَلْوَتُهُ.
قَالَ رَضيَ الله عَنه: مَنْ أَدْرَكَ العِلْمَ الأَوَّلَ مِنَ العُلُومِ المُحَمَّدِيَّةِ، وَقَسَّمَهُ عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ جُزْءاً، وَعَلِمَ جُزْءاً وَاحِداً مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ جُزْءاً، فَلُهُ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُفَسِّرَ كُلَّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ وَجْهاً مِنَ التَّفْسِيرِ، وَأَحَاطَ بِجَمِيعِ العُلُومِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، هَذَا لِمَنْ عَلِمَ جُزْءاً وَاحِداً مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ جُزْءاً مِنَ العِلْمِ الأَوَّلِ، فَضْلاً عَنِ العِلْمِ الوَاحِدِ كُلِّهِ، فَضْلاً عَنِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ إِلَى آخِرِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ عِلْماً فَاعْرِفِ النِّسْبَةَ، اِنْتَهَى.
جواهر المعاني
الشيخ التجاني