المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأقلقول



ظفار العدوى
08-12-2014, 02:14 AM
الأقلقول

كثير ھي المدن التي بنيت فوق مدن ، كأنھا غطاء من الحاضر يدرأ بھ الماضي ويخفى عن
الأنظار. وكما أن من فتنة الله في خلقھ أن تغيب آثار وتندرس وتنمحي نھائيا فلا يدرك المرء
منھا شيئا ، فإن من فتنتھ أيضا أن تعيش آثار أخرى لتظل شاھدا على ما ارتكبتھ الأمم
المندرسة من موجبات دمارھا وإجلائھا عن الأرض إلى حين .
ما أغرب ھذا الإنسان في تعاملھ مع الماضي ، وإن ھذا الماضي لو كان شيئا مطروح ا
أرضا لتسابق الناس إليھ ، ولتدافعوا للأخذ منھ على ما يحملھ من مسببات عذاب قوم كثيرين.
فالإنسان يبتعد بسھولة عن الخير والفضيلة ولا يعود يقترب منھما إلا بشق الأنفس . إن مبلغ
ھمھ زينة الحياة الدنيا ، ومن ھنا يجد الشيطان الفرصة لتكبيلھ وجره إلى أسواق الضلالة
فيبيعھ نفسھ ثم يستغرق في الضحك على ذقنھ .
إن للشيطان أساليب للغواية والإيقاع يصعب على الإنسان حصرھا لأنھا تكمن في نفسھ
ھو، ويصعب عليھ فھمھا لأنھا تكون مجمل فھمھ وتستحوذ على تفكيره وتحد آفاق عقلھ ،
فيستسلم للضلالة ، بل يعمل على تطويرھا يقوده ويرشده إلى ذلك الشيطان المعلم والمرشد ،
حتى أننا نرى اليوم كيف تشعبت طرق الضلالة واكتسبت من الأشكال الصبغات الشيء
الكثير بما جعلھا في بعض أنواعھا شديدة الشبھ بسبل الھداية والصلاح .
وللضلالة تاريخ عميق الجذور في فھم الإنسان وفي حياة سلوكھ ، وللشيطان يد وأية يد
في تعھد غرساتھا أسباب بالعناية وتمكينھا بكل أسباب النمو والإثمار، كما لھ مع الإنسان
قصص لا تحصى بعضھا من صميم الواقع ، وبعضھا الآخر من صميم تحكي عن بلادة
الإنسان متى أضلھ الله ، وغبائھ المفرط متى أسلم مقوده لنفسھ ولھواه .

وفي فترة زمنية من عمر التاريخ ، وفي مدينة كان اسمھا
((لد)) ، وكان أناسھا أمة يوحدھا
الجھل وسوء الفھم والصنيع ، قدم رجل غريب جعل يتفحص السكان المارين به كأنه
يبحث عن شخص ضل عنه ، فإذا بشيخ من الأھالي يسأله : أيھا الرجل الغريب ھل تبحث
عن أحد؟ فقال الرجل : بلى ، إنني أبحث عن الأقلقول . وقبل أن يرد الرجل الغريب على
الشيخ بادره رجل كان قد سمع تحاورھما : لعل ھذا الأقلقول شيء معقول . وسمع آخر
الحديث فأضاف : ربما يكون شيئا غير معقول . وقال ثالث : لعل الأقلقول شيء معقول
ولا معقول ، فقاطعه قائلا للأول بلى إنه لمعقول...وبدأت الجماعة الصغيرة ھذه تتصايح
فيما بينھا فأجتمع الناس حولھا وسألوا عن الخبر فقال الشيخ : ھذا الرجل الغريب جاء
يبحث عن الأقلقول ، فقال الناس جميعا : وما الأقلقول؟ فقال الرجل الغريب : اجلسوا
ياقوم حتى أحدثكم عنه ...وقبل أن يتم كلامه اقتحم الجمع رجل فقال : ياقوم إن كان ھذا
الرجل يبحث عن الأقلقول ، فإني قد رأيته . فقيل له وما ھو؟
قال : إنه ثعلب ، ولما رأى الاستغراب باديا على الوجوه عاد فاستطرد : إني رأيت ثعلبا
وبعد حين انقلب إلى رجل وقد تركته خارج المدينة وجئت لأخبركم بأمره تبعه الناس
يصيحون وقد تركوا أمتعتھم في السوق دون حراسة ، وبعد أن أضناھم البحث ساعات
صبيانا وشيوخا ونساء وفتيانا دون أن يعثروا على أحد ، رجعوا إلى المدينة فلم يجدوا
أمتعتھم حيث تركوھا في السوق ، ولم يجدوا كذلك الرجل الغريب الذي كان السبب في كل
ھذا ، فما كان منھم إلا أن جھزوا أنفسھم وأعدوا العدة وانطلقوا خارجين من ديارھم في
البحث عن الرجل المجھول بعدما أطلقوا عليه اسم الأقلقول .
بلغ القوم ديارا ، فوجدوا شيخا جالسا قرب حائط فقالوا له : أرأيت رجلا اسمه الأقلقول؟
قال: صفوه ، فقال كبيرھم : إنه رجل أغبر، كويل الشعر، ولعله شيطان يتشكل فيصبح
ثعلبا ، وقد سرق أمتعتنا ، استغرب الشيخ وقال : إذا كان حقا يتشكل في صفة ثعلب ،
فلربما يكون الآن كلبا أو حمارا . فكر القوم في الأمر فجمعوا دواب أھل تلك الديار وقالوا
للشيخ : أحرسھا حتى نرجع لعلنا نجده في مكان آخر .
فلما انصرفوا في أثرھم جد من في الديار ليستطلعوا الخبر، أخذ الشيخ الدواب وغادر
المدينة حتى إذا بلغ قرية اجتمع بأھلھا وأخذ ينادي فيھم : أيھا الناس إن ثمن ھذه الدواب
زھيد ، إن فيھا الخير والبركة ، وفيھا سر الأقلقول . سأله أھل القرية : الأقلقول؟ فقال :
إنه علم عن الأجداد ومعرفة لمعنى الأوتاد ، وسر دفين لن يعرفه سوى مشتري ھذه
الدواب. ثم باع الدواب بعد أن انطلت مقولته على أھل القرية ، وغادرھا لا يلوي على
شيء .
أخذ أھل القرية يبحثون فيما اشتروه من حيوانات حتى وقف عليھم رجال بادروھم
بالسؤال عن مصدر الدواب ، وأوضحوا لھم أنھا سرقت منھم عنوة . أجاب أھل القرية :
بل إنھا ملك لنا ، وقد دفعنا لقاءھا أموالنا ، وفضلا عن ذلك فإن فيھا الأقلقول ! فلم يتمالك
الرجال الوافدون إلا أن ھموا بالدواب فأوسعوا فيھا ذبحا وتقتيلا ظنا منھم أنھم يقتلون
غريمھم الأقلقول مادام موجودا بينھا . فتسارع أھل القرية إلى أسلحتھم وشب قتال عنيف
بين الفريقين لم ينج منه سوى رجل واحد وقف مشدوھا بين القتلى ، ولم ينتبه إلا وقد وقف
عليه رجل غريب سأله ما الخبر، فرد عليه : إن الأقلقول كان السبب في ھلاكھم ، وحكى
له القصة . سأله الرجل : وما الأقلقول؟ فأجابه وھو يضمد جراحه : إنه رجل يسرق
الديار، ويتشكل في كل صورة. فسأله الغريب إن كان ھو الشيطان ، فرد عليه : بل إنه
شخص أسود الشعر أغبره أزرق العينين...استغرب الرجل الغريب وصاح : إن كانت ھذه
ھي أوصافه حقيقة فإنھا تنطبق عليك...بل لعله أنت...ثم استل سيفه ووجه إليه طعنة أراده
بھا قتيلا .
انطلق الغريب إلى أن بلغ المدينة الأولى ((لد)) فوجد أھلھا بين معول ومنتحب
فاستفسرھم عن الأمر، فقيل له إن الرجال خرجوا من المدينة منذ يومين في أثر الأقلقول
ولم يعد منھم أحد ، فبادرھم بالقول : إن رجالكم قد ھلكوا ، وإني قد قتلت الأقلقول الذي
كان سببا في ھلاكھم ، فصاح فيھم شيخ عجوز : إياكم أن تثقوا في ھذا الغريب ، إنه لھو
الأقلقول نفسه، إنه يشبه الرجل الغريب الذي سرق أمتعتنا واختفى بھا . ولم ينتظر القوم
حتى يتبينوا كلام شيخھم ، فاجتمعوا على الغريب فقتلوه . وبينما ھم كذلك إذ برجل يصيح
فيھم : أيھا الناس لا تتدخلوا فيما لا يعنيكم ، ولا تلقوا بالا لأقوال ھذا وذاك فتفتتنوا كما
حدث لرجالكم الھالكين ، وكما حدث لآخرين ليس لھم من الأمر شيء . فقال آخر من بين
القوم . ياھذا إن كلامك لعلى صواب ، فھلا أخبرتنا ما ھو الأقلقول؟ فأجابه الرجل " إن
الذي تقوله غير معقول ، والأقلقول ما ھو إلا مثل أظھر لكم ما ھو معقول ، وما ھو عين
الخطأ ، ولولا اتبع رجالكم الذي سرق ، ولولا اتبعوا كلام الشيخ الذي دلھم على ما لا
أصل له لما ھلكوا ، فدعوا البحث عن ھذا الأقلقول .
لم يقتنع القوم بقول الرجل فباتوا ليلتھم متفكرين متدبرين أمر الأقلقول كأنھا لم يتعظوا
مما حدث . فلما أصبح الصباح جاء إلى المدينة رجل معه قرد يرقصه ويسلي به الناس ،
ولم يكن أھل المدينة قد شاھدوا قردا من قبل . انتبه ھؤلاء إلى صبي صغير يصيح في
أبيع : يا أبت أنظر، أليس ھذا ھو الأقلقول(مشيرا إلى القدر)، إنه يشبه الإنسان ، فعادت
بذلك ذكرى الأقلقول إلى عقول القوم فأخذوا القرد وقتلوه ، وصاحبه يصيح ويعول دون أن
يھتم به أحد ، حتى إذا انتھوا من القرد حمله إلى مكان على مشارف المدينة ودفنه فيه ،
ولبث قبره مطأطئ الرأس ، فمر به رجل فسأله : ياھذا لماذا أنت على ھذه الحال ، وعلام
تبكي؟ فقال له مجيبا : إنني أبكي من كان لي موردا للرزق ومجلبة للقوت. فجلس الرجل ......... تابع

ظفار العدوى
08-12-2014, 02:15 AM
على جانبه وقد أخذته به الشفقة . فمر بالاثنين تاجر غني وھما على تلك الحال فألقى إليھم
بمال دون أن يعلم أن القبر إنما ھو لقرد . ولما رجعا إلى المدينة ومعھما ما ألقاه إليھما
التاجر من مال كثير سألھما أھل المدينة عن المال فقالا : إن القبر فيه بركة . فتسارع
الناس على القبر فعكفوا عليه حتى مر بھم التاجر المذكور فحسب أنھم من أقارب الميت
صاحب القبر فأعطاھم مزيدا من المال فزاد ذلك في اعتقادھم بصحة ادعاء الرجلين، فبنوا
على القبر معبدا وطفقوا يعبدون صاحبه(القبر). وقالوا إنه إله للخير، وجعلوا من صاحب
القرد حارسا للمعبد ، فنحت ھذا الأخير صنما من الحجر شبيھا بالإنسان في جسمه
وبالقرد في سحنته ، وسماه الأقلقول ! وھو الاسم الذي لم يسمعه سوى من الصبي الذي
كان سببا في ھلاك القرد .
مر رجل بالمكان والناس عاكفون وقد بنوا صرحا ضخما فسألھم عما يعبدون فقالوا له :
إننا نعبد إله الخير، فقال : وما اسمه؟ فأجاب صاحب القرد : إن اسمه الأقلقول ، فقال
الرجل : وكيف لي أنا بخيره؟ فرد صاحب القرد : عليك أن تردد اسمه عند طلوع الشمس
وعند الغروب ، وأن تقرب له قربانا .
ففعل الرجل ما طلب منه ، فأعطي فرسه ، ثم جاء رجل آخر فقيل له نفس الكلام فقدم
إبلا ، وأھدى آخر مالا وھكذا...حتى أصبح أھل القرية موسرين بما ينھال عليھم من الھدايا
والأموال والقرابين . وغدا اسم الأقلقول يذكر في كل وقت ، والقرابين من الحيوانات
المختلفة تقدم له بغير حساب .
جاء رجل غريب عن المدينة فخاطب القوم قائلا : أيھا الناس إنكم لجاھلون ، وما تعبدون
إلا اسما سميتموه لا يأتي بسلطان مبين ، فقال الناس : إنه يدعونا على شيء لا علم لنا
به، خذوه فغلوه فلا بد أن إلھنا مسه بالجنون . فكان كل من تفوه بسوء عن الأقلقول يسجن
ويعذب وينكل به ثم ينفى من المدينة .
حل بالمدينة الثرية وباء أودى بحياة أھلھا فبقيت من بعدھم الأموال مھجورة لا يستطيع
أحد من الربوع المجاورة لمسھا لاعتقاد أنھا ملك للأقلقول وتحمل لعنة ، إلى أن مر رجل
بالمدينة فأخذ كل ما فيھا من ثروات دون أن يصاب بسوء . تحول ھذا إلى الناس في قرية
مجاورة وصاح فيھم : إن الأقلقول أصبح إلھا للمال ، وإنه وھبكم كل ما لديه من ثروة .
وشاع الخبر في المدن المجاورة ، فھجم قوم على أھل القرية التي صارت إليھا الأموال
وقتلوا كل من فيھا . فصاح كبيرھم : إن الأقلقول لم يمسنا بضرر، بل إنه نصرنا في
الحرب ، إنه إله الحرب .
وصنع للأقلقول تمثال آخر يناسب صفته الجديدة ولبث الناس يقربون له القرابين ،
واستمروا على حالھم يعبدون مالم يكن لھم عليه من سلطان مبين .
حل رجل بالمعبد الذي يأوي الصنم الجديد ، فوجد رجلا يقرأ في ألواح من الخشب
مجموعة بخيوط ككتاب ، فسأله عن شأن الألواح فرد عليه : إن فيھا سر الأقلقول . فعاد
فسأله عن ھذا الاسم فأجابه : إنه إله لا نعرف صفاته ، إنه يتشكل في الأشخاص وفي
الحيوانات ويمنح المال وينصر في الحرب ، إنه إله الخير والشر معا ، ھكذا علمنا آباؤنا
وأجدادنا ونحن على ما كانوا عليه سائرون .
ثارت ثائرة القادم الجديد ، فاستل سيفا وھو يصرخ : إن ھذا لشرك بالله ، وما للأقلقول
ھذا من صفات ، ثم طعن الرجل صاحب الألواح فأراده قتيلا . ولما توجس خوفا على
نفسه من قوم القتيل فر ھاربا من المدينة والألواح المنقوشة بين يديه .
وصل الرجل إلى بيته وكان له ابن وحيد مع زوجته بادره بالسؤال عما دھاه فحكى له
قصته مع صاحب الألواح وأضاف : إن الناس يابني قد ضلوا السبيل وأنھم ليتبعون
الشيطان كأنه إله . ھذا ما وجدته في ألواح الأقلقول . فسأله الابن عن ھذا الأقلقول فأخبره
إن الشيطان يدعو الناس إلى الإتيان بخير مزعوم بعبادة الأقلقول الذي ليس إلا شيئا غير
مفھوم . فقال الابن وھل أصاب الناس خير من ھذه العبادة؟ فرد عليه الأب : أي ولدي
لقد در عليھم أموالا طائلة تزيد في ضلالھم ، وھي من عند الله ولا صلة لھا بالأقلقول .
فصاح الابن مھللا : إن كان القوم قد نالوا من ذلك مالا فرسالة الشيطان إذن صدق . فلم
يتمالك الرجل الصالح نفسه فضرب ابنه ضربة ألقته على الأرض وقد فارق الحياة . وظل
واجما أمام الموقف يجتر ما مر به ، وكانت زوجته ترقب الواقعة عن كتب دون أن ينتبه
إليھا فارتمت عليه فجأة من الخلف وفي يدھا خنجر أغمدته في ظھره . ثم اختطفت الألواح
وفرت إلى أبيھا الذي لم يكن قد سمع عن أي غله شيئا . ولما اطلع الأب على ما حوته
الألواح آمن بما جاء فيھا وشيد بدوره معبدا ثم سار يدعو الناس جھلا إلى عبادة الأقلقول ،
فكانوا يجتمعون حوله يعلمھم من أسرار ھذا الإله الجديد ، الذي غدوا يتقربون إليه
ويتضرعون ألا يلحق بھم ما ألحقه بسابقيھم من عذاب وھلاك ، وأن يشملھم برحمته
وخيراته . والتبس الأمر فاختلط الحق بالباطل .
في القرية الجديدة لم يقم للأقلقول صنم ، وإنما ازدھر انتشار الألواح الحاملة لتعاليمه .
وانتشر الباطل وعم الفساد ، وانطلقت طرق تطبيقية كانت بداية لأساليب السحر،
فأصبحت للناس قوة وسيطرة. وأصبح كل من له قوة فوق قوة يدعي اللوھية ويتشبه
بالأقلقول ويسبغ على نفسه صفات وأفعال المنح والمنع . وتعددت الصفات الإلھية فعادت
الأصنام إلى الظھور وتعددت بدورھا وانتشرت في المعابد والبيوت . ولم يعد أحد من
الناس يسترشد بكلمة حق ، أو يستمع إلى موعظة وقد تعددت الآلھة وتنوعت ، حتى جاء
الطوفان ، فھلك من ھلك وبقي من الناس من بقي .
بعد الطوفان ، ظھر رجل حكيم يعظ الناس فقال لھم : إنه قبل الطوفان كان أناس طغاة
يعبدون الأصنام ويقربون القرابين للجن والشياطين ، واتخذوا من دون الله آلھة فغضب
عليھم الله وأغرقھم فلم ينج منھم إلا نوح ومن كان معه ممن اتبعوا إرشاداته ، كان الحكيم
يتحدث والناس ملتفون حوله في اھتمام إلى أن اقتحم الجمع رجل فجأة وصاح في الجموع
: أيھا الناس ، إن ھذا الذي يتحدث إليكم ليس له من العلم شيء ، وإنما يريد أن يضلكم فلا
تتبعوه ، وإني قد بحثت في الأرض فوجدت حجرا منقوشا يحمل علما . فسأله الناس عن
أي علم يتحدث ، فأجابھم : إنه يحمل سر الأقلقول . فتعجب القوم وعادوا إلى السؤال عن
الأقلقول فقال لھم الحكيم : دعوني أفسر لكم ما ھو . فصاح الآخر : كلا ، إنني أولى منه
بالعلم ، فاتبعوني أريكم موضع الحجر المنقوش .
سار الناس في أثره وتركوا الحكيم وحيدا يحدث نفسه . فبلغوا مكان الحجر وقد نقش
عليه مالم يكن لھم به علم . التفوا حول مكتشف الحجر الذي جلس ليحدثھم عن أسرار وقد
جمعھم كھف لجئوا إليه وكان الحجر في إحدى زواياه . وبينما ھم كذلك إذ برجل لا
يعرفونه ينقض عليھم صارخا : إن ھذا الكھف أنا الذي وجدته وقد كان مغلقا وما كان لكم
أن تدخلوه ، وقبل أن ينتبه القوم إلى أنفسھم أستل سيفه وأخذ يعمله فيھم وھم عزل حتى
انتھى منھم . وأخذ ألواحا نقل غليھا ما كان منقوشا على الحجر. كان ذلك يمثل رموزا لھا
معان كثيرة عالجھا الرجل بالجمع والتفريق والخلط والقلب حتى اكتشف أسرارھا فإذا ھي
أصول للسحر جمعھا ورتبھا في ثلاثة كتب من رقع جلد الحيوان ، ثم أوقد نارا ووضع
أمامھا صنما ، وصار يقدس النار ويتعبد إليھا حتى ظھرت له ما يشبه كرامات جعلت
الناس يحجون إليه ليعلمھم ، فجمع بذلك مالا وشيد معبدا كساه ذھبا . كان ھذا الرجل يحمل


اسم
((رع)) .
في ذات مجلس من مجالسه طلب إلى المريدين من حوله أن يعتبروه خليفة الأقلقول في
الأرض ، ثم أوعز إليھم باسم ھذا الأخير أن يذبحوا بقرة ففعلوا دون جدال وجعلوا فيما
بعد يعبدون البقر لاعتقادھم أن فيھا سر الأقلقول ، وأن الإله

((رع)) يتقمصھا .
لم تكن ھذه ھي خاتمة القصة الطريفة التي تضمنھا كتاب الأقلقول عن ھذا الاسم اللغز، أو
الاسم الرمز إن صح التعبير. وما ھذه سوى القصة الحقيقية لما سارت عليھ أحداث الخلق
قبل الطوفان ، وھي تحمل الكثير عما جاء بعده)ھكذا يجعلنا كتاب الأقلقول نعتقد) وقد
اقتضى الرأي أن تنقل ھذه القراءة ملخصا للقصة بنوع من التصرف تجنبا – كالعادة –
للغوص في رموز وطلاسم يتضمنھا الكتاب ليستأنس بھا كل باحث متخصص أن يخوض
فيھا من لھ باع في ھذا العلم .
إن كلمة اسم الأقلقول ھذا يظل مجھولا لدى إنسان ھذا العصر وحتى العصور التي سبقتھ .
إلا أن مدلولھ لم يبرح قط مجال تعامل البشر ومجال تفكيرھم العقيم . فالآلھات مازالت
متعددة اليوم وإن اختفت الأسماء والأقنعة والحيل التنكرية . والأصنام منتصبة ھنا وھناك
وإن أخذت أشكالا عصرية كأوراق النقد بدل الذھب ، وآبار النفط بدل أبطال الأساطير
القديمة ، والآلات والصواريخ والإيديولوجيات الوضعية بدل الحجارة والنجوم والكواكب .
لقد اختفى اسم الأقلقول حقيقة ، ولكن الناس لا يزالون يتداولون كتبھ التي انتقلت من
الرقع الجلدية لتصبح أحسن شكلا وإخراجا وزخرفة ، وابلغ قولا وأكثر تنوعا في السماء
والمضامين .
قلت إن ھذه ليست ھي خاتمة قصة الإنسان مع الأقلقول(أو الشيطان في ھذا التقمص
الجديد). فالكتاب يتضمن حكاية بداية أصول السحر الأولى إلى أن أصبحت في أوج القوة
والتطور، وغدت منبع كل اتجاه نحو الشرك، والإلحاد ، وادعاء الألوھية ، ونشر الفتنة بين
الناس ، ويتضمن الكتاب أيضا قصة ظھور أسرار الكذب باستعمال علم الحساب ، ثم التغيير
والقلب في مجال القوى واستخراجھا بنفس علم الحساب ، ثم ظھور عاد ، وقصة إقامة مدينة
((


إرم)) ذات العماد ، ثم ظھور النبي ھود عليھ السلام الذي أصيب بعده قوم عاد بالرجفة . ثم
ظھور ثمود وقصة صخرتھ التي ألقيت في الوادي وذبحت حولھا القرابين ، والطريقة التي
وضعت بھا الصخرة وحسابات التنجيم التي اقتضت زمانئذ وضع أحجار مختلفة حولھا بم ا
يوافق أوضاع النجوم والكواكب السيارة ، ثم التفرعات السلالية والعرقية التي جاءت بعد عاد
وقومھ ، والتي استوطن المنحدرون عبرھا أصقاع آسيا والھند ومصر واليونان
وفارس...الخ، وما تبع ذلك من تعدد في الأنبياء والرسل الذين كانوا يظھرون في كل قوم
وكل قبيلة ، على أن اختفوا جميعا فظھر ذو القرنين منفردا فجعل ينتقل بين القرى والأمم
فجال بقاع الأرض جميعا .
ويشتمل الكتاب بموازاة ھذا السرد التاريخي ، الباطني المنبع(ھو لمطابقتھ) تماما لما جاء
بھ الله تعالى في كتابھ العزيز الذي ھو المصدر الأول للباطن الديني ، على رسوم تبين
مراحل تطور قوى الظلمات وتشكلھا في الخيال الأول والثاني والثالث وطاقاتھا في الباطن
الظلماني (غير الحقيقي) فيخلص إلى القول :
((


إن ھذه القوى المتشكلة تسبب في أضرار كثيرة أھونھا الخمول والكسل وثقل الفكر
والأعضاء ، وھذا ما أصيب به إنسان اليوم . فھو لا يقدر على العمل ، وبه إعياء ، وآلام
عضلية وكثرة نوم دون فائدة ، لأن قوى النوم فقدت صبوتھا الأصلية ، فأصبح النوم مجرد
ثقل يھزم الجسم فلا راحة بعده

)) .
إن إنسان اليوم ينظر على نفسھ فيجد أنھ تحضر وتطور فيأخذه بنفسھ الزھو ويجره إلى
الخيلاء والتباھي ، وإنھ لا يباھى سوى نفسھ ، ولا يتطاول إلا عليھا ، ويجد نفسھ وقد امتلك
وسائل دمار ماحق ، وما يھدد بذلك سوى ذاتھ ووجوده ، ويجد نفسھ وقد اكتسب مفاھيم
حديثة لزجة تنزلق بھ إلى مواقف التكذيب بملك الله والمجادلة في آياتھ ظنا منھ أنھ بلغ القمة
ولم يعد بحاجة على معتقد ومتكأ ، وما فَتّت بذلك سوى علاقتھ بنفسھ بعد أن سعى إلى تفتيت
علاقتھ بخالقھ وھو الذي قال في ھذا الإنسان : إنھ نسي الله فأنساه نفسھ .
أخيرا ما أسھل ما يستطيع الإنسان بھ التكذيب والتلفيق والمراوغة . وما أسھل أن يعمل ھذ ا
الإنسان في حياتھ ووجوده في الدنيا من ھدم وتخريب بمعاول من قيم دخيلة ومقاييس محدثة
مختلة وإيديولوجيات كأنھا قيست على مخلوقات تشكيلية لا تمت للإنسان بصلة . وما أبسط
أن يظل المرء فاغرا فاه في موقف المتفرج المجرد من كل إرادة ، الفاقد لكل إحساس
بإنسانيتھ ، مادام ھذا الموقف يجعلھ في حل من أي التزام أو عھد أو ميثاق...لكن ما أصعب
أن يجد نفس الإنسان منفذا إلى فطرتھ ، وشفافيتھ وعافيتھ الجسدية والنفسية التي قال تعالى
أنھ كان بھا {

في أحسن تقويم}قبل أن يرد إلى {أسفل سافلين}،(وما أبشع أسفل سافلين اليوم،
إلا من آمن) وھذه ، ھي الكوة الوحيدة التي تركھا الخالق سبحانھ مفتوحة لمن وعي مكر الله
فخشيھ واجتنب الوقوع فيھ...فياللھول ، وما أصعب ذلك حقا .

كوثر
27-01-2015, 03:18 PM
شكرا على القصة الممتعة والعبرة المستفادة

لمياء الدميرى
29-01-2015, 12:06 AM
جزاك الله خير الجزاء

يمنة
30-01-2015, 10:34 PM
شكرا على القصة القيمة