المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : منـطق الطير لفريد الدين العطار



شكرى
12-06-2015, 03:58 PM
منـطق الطير لفريد الدين العطار

منـطق الطير

صاغ كبار الشعراء الفرس الكثير من المنظومات البديعة، أشهرها على الإطلاق "منطق الطير" لفريد الدين العطار. عاش صاحبها بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وألّف أعمالا عديدة قيل إن عددها مساو لسور القرآن

الكريم، إلا أن هذا العدد يبقى رمزياً. وقد أحصى البحاثة المختصون الكثير من أسماء الكتب التي نُسبت إلى الشاعر النيسابوري، والثابت أن الأعمال الصحيحة النسب إليه تسعة كتب تُعتبر من قمم الأدب الروحاني العالمي. أعظم

هذه الأعمال وأكثرها ذيوعا كتاب "منطق الطير"، وهو منظومة صوفية رمزية فاق عدد أبياتها الأربعة آلاف وستمئة بيت، محورها رحلة طويلة تقوم بها الطيور المختلفة تحت قيادة الهدهد بحثا عن سلطان لها هو السيمرغ.

في هذه المنظومة التي تضج بالرموز، ترمز الطيور إلى سالكي الطريق إلى الحضرة الإلهية، والهدهد إلى شيخ المريدين، أما السيمرغ المنشود فهو "السلطان المطلق الدائم، ومائة ألف عالم مليئة بالجند والحشم، ليست إلا

نملة على باب هذا السلطان الأعظم".

تحدّث القرآن الكريم عن تسبيح الكائنات لله في الكثير من آياته، وجاء في سورة النور (41): "ألم تر أن الله يسبّح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون". وفي "تفسير

الجلالين": "{ألم تر أن الله يسبّح له من في السماوات والأرض} ومن التسبيح صلاة {والطير} جمع طائر بين السماء والأرض {صافّات} حال باسطات أجنحتهنَّ {كل قد علم} الله {صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون} فيه

تغليب العاقل". في هذا المعنى، كتب الفيض الكاشاني في "تفسير الصافي": "قال بعض أهل المعرفة خلق الله الخلق ليسبّحوه فنطقهم بالتسبيح له والثناء عليه والسجود له". قبله، شرح ابن كثير في تفسيره: "وقوله تعالى

{والطير صافات} أي في حال طيرانها تسبّح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه وهو يعلم ما هي فاعلة، ولهذا قال تعالى {كل قد علم صلاته وتسبيحه}، أي كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل".

في "رسالة الطير"، طار ابن سينا مع الطير وأيقن أن الطريق مليء بالصيادين الذين أمسكوا بالطير في شباكهم، إلا أن الطيور التي تجردت من الأهواء حلقت عاليا وعبرت ثمانية جبال رغبة منها في الوصول إلى المليك الذي

يحررها من شباك التجارب. وفي نص مختصر حمل العنوان نفسه، تحدث الغزالي عن أصناف من الطيور أرادت أن يكون لها ملك، واتفقت أن العنقاء وحدها دون سواها تصلح لهذا الشأن. وقد استولى سلطان الشوق على هذه

الطيور، رغم نداء الغيب الذي صعد من وراء الحجب محذراً: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" (البقرة، 195)، فتركوا الأوكار وعبروا الجبال والبحار، وتعرّضوا لأقسى المحن، "فهلك من كان من بلاد الحر في بلاد البرد، ومات

من كان من بلاد البرد في بلاد الحر، وتصرفت فيهم الصواعق، وتحكمت عليهم العواصف، حتى خلصت منهم شرذمة قليلة إلى جزيرة الملك". قضى بعض من الطيور في طريقه إلى الملك فوقع أجرهم على الخالق، وهم أحياء

"قتلوا في سبيل الله" (آل عمران 169). وحظي الذين وصلوا إلى الجزيرة المنشودة بكمال العناية، "فاطمأنوا وسكنوا واستقبلوا حقائق اليقين بدقائق التكمين، وفارقوا بدوام الطمأنينة إمكان التلوين".

القريب والبعيد

انطلق فريد الدين العطار، على ما يبدو، من "رسالة الطير" التي وضعها الغزالي، وصاغ ملحمته الشعرية الطويلة التي أضحت دالة على اسم مؤلفها. خرجت هذه الملحمة الفريدة تحت عنوان "منطق الطير"، وقد استعار العطار

هذا التعبير من الآية السادسة عشرة من سورة النمل: "وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين". ونجد في هذه السورة القرآنية حديثا عن نملة تنطق وتقول:

"يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" (18). كذلك، يتحدث الهدهد في السورة نفسها عن ملكة سبأ في كلامه الى النبي سليمان: "أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين" (22).

وفقا للتقليد الأدبي الفارسي، استهل العطار كتابه بالمناجاة ومدح الخلفاء الأربعة بعدما مدح الرسول، وفي هذا المدح إشارة واضحة إلى انتمائه إلى المذهب السني. ثم ذمّ الشاعر تعصب أهل المذاهب الإسلامية وختم مقدمته

بالقول في شفاعة النبي من أجل أمته. جاءت منظومة "منطق الطير" في قالب قصصي محكم يتألف من خمس وأربعين مقالة على لسان الطيور تتخللها مجموعة من مئة وإحدى وثمانين حكاية تختلف طولا وقصرا. في هذه

القصص التي توزّعت تبعا للمسائل التي تثيرها حوارات الطيور، نلتقي بالكثير من الأنبياء والأولياء، ومنهم إبرهيم، يعقوب، يوسف، موسى، داوود، سليمان، عيسى، الحلاج، رابعة العدوية، ابرهيم أدهم، مجنون ليلى، هيبوقراطس الذي عُرف باسم بقراط، أرسطاطاليس وتلميذه الإسكندر الذي مات في طريق الدين.

عرف "منطق الطير" شهرة واسعة تخطت بسرعة حدود العالم الفارسي، ونُقل إلى الأردية والتكية قبل أن يُترجم إلى الفرنسية والأسوجية والانكليزية. وقد وصل هذا الأثر في مرحلة متأخرة إلى العالم العربي في ترجمة متقنة

من وضع بديع محمد جمعة صدرت في القاهرة عام 1975 وفي بيروت عام 1979. تبدأ الحكاية باجتماع الطيور التي رغبت في اختيار ملك عليها، وينبري الهدهد ليخبرها أن ليس لها من ملك سوى ذلك المقيم في جبل قاف:

"اسمه السيمرغ ملك الطيور، وهو منا قريب، ونحن منه جد بعيدين، مقره يعلو شجرة عظيمة الارتفاع، ولا يكف لسان عن ترداد اسمه. تكثفه مئات الألوف من الحجب، بعضها من نور، وبعضها من ظلمة، وليس لفرد من كلا

العالمين مقدرة حتى يحيط بشيء من كنهه. إنه الملك المطلق، المستغرق دائما في كمال العز، ولكن كيف يطير الفهم إلى حيث يوجد؟ وكيف يصل العلم والعقل إلى حيث يوجد؟ لا طريق إليه، حتى وإن كثر المشتاقون من الخلق

إليه، وإذا كان وصفه بعيداً عن فعل الروح الطاهرة نفسها، فليس للعقل قدرة على ادراكه، فلا جرم أن يحار العقل، كما أن الروح تحار عن إدراك صفاته، وهكذا تعمى الأبصار".

يشدد الهدهد الحكيم على صعوبة الوصول إلى السيمرغ، وينذر الطيور بأنها ستعرف مشقات قاسية ومكابدات عسيرة قبل الوصول إلى الجمال المطلق والحقيقة التي لا زيف فيها. عند سماعها حديث الهدهد عن أهوال الرحلة،

تحاول الطيور أن تنسحب، وينبري كل من البلبل والببغاء والطاووس والبطة والحجلة والهما والصقر ومالك الحزين والبومة والصعوة في ذكر أعذارها للعدول عن المضي قدما في هذا الطريق، وتجتمع الأصوات كلها في

المقالة الثالثة عشرة لتسأل الهدهد: "يا من له السبق في سلوك الطريق، ويا من بلغ أوج العظمة والتوفيق، نحن حفنة من الضعفاء والعجزة، وقد عدمنا الريش والجناح والجسد والمقدرة، أنّى لنا أن نصل إلى السيمرغ ذي

القدر الرفيع؟". ويجيبهم الطائر الحكيم: "أيها المساكين، إلام هذا الجهل؟ حقاً لا يستقيم العشق وسوء النية. كل من له في الطريق عين مبصرة قد أقبل فرحاً وللروح ناثراً. ولتعلم أنه عندما رفع السيمرغ النقاب، بدا وجهه

كالشمس مشرقا، وألقى بمئات الألوف من ظلال الأرض، وهنا أدرك البصر ظلاً طاهراً، وما أن نثر ظله على العالم، حتى كانت تلك الطيور العديدة التي تبدو كل لحظة، فصورة طير العالم جميعها ما هي إلا ظلّه".

الأودية السبعة

تختار الطيور الهدهد مرشدا لها وتطرح عليه السؤال تلو السؤال حول الرحلة العرفانية وأحوالها، وتبدو إجابات الطير العارف أشبه بالإرشادات الروحية في التجرد من كل ما هو دنيوي ومادي. وتأخذ هذه الإرشادات طابعا حيا

عبر قصص كثيرة تتحدث عمن ذاق حلاوة الوصال وبات شهيدا للعشق الإلهي. يبلغ هذا الإرشاد الذروة في نهاية المقالة الثامنة والثلاثين حيث يذكر الشاعر على لسان طيره الأودية السبعة التي تفصل بين الطيور والأعتاب

العلية، وهي وادي الطلب، وادي العشق، وادي المعرفة، وادي الاستغناء عن الصفة، وادي التوحيد الظاهر، وادي الحيرة الصعب، ووادي الفقر والفناء. "وبعد ذلك لن يكون لك سلوك بالطريق، فإن تدرك نهايته، يتلاش مسيرك، وإن تكن لك قطرة ماء، فإنها تصبح بحراً خضماً".

أصغت الطيور إلى الهدهد ومضت في المسير والطيران نحو ملكها، وقضى عدد كبير منها في هذا الطريق الشاق، منها من غرق ومنها من أسلم الروح عطشاً، ومنها من اختنق حراً، ومنها من أحرقه وهج الشمس. وتوقف

الكثير ممن دهمه التخلف والهجران في طريقه، فلزم كل منهم مكانه وكفّ عن الطلب. ولم ينجح في الوصول إلى الجبل المنشود إلا ثلاثون طائراً فقدوا ريشهم وباتوا "محطمي القلوب، فاقدي الأرواح، سقيمي الأجساد". ولهذا

الرقم في "منطق الطير" دلالة عميقة، فهو بلغة النص الفارسي "سي مورغ"، واسم الملك "سيمرغ"، وفي هذا الجناس تعبير عن مبدأ وحدة الشهود الذي تقوم عليه تحفة العطار.

لم تر الطيور الثلاثون المنهكة شيئا من جلال الحضرة الإلهية في بادئ الأمر، تماما كما لم يتعرف أبناء يعقوب الى أخيهم يوسف الحسن حين جاؤوا إلى مصر طلباً للخبز. وحين استولى اليأس والحسرة على نفوسهم، هتف بهم

حاجب الحضرة، فاشتعلت نار الشوق في قلوبهم من جديد، فعادوا عبيداً للوح وتملكتهم حيرة لم يعرفوها من قبل. وحين أضاءت شمس القربة من جباههم، رأوا أن السيمرغ هو الثلاثون طائراً، وكلما نظروا في اتجاهه "كان

نفسه الثلاثين طائراً في ذلك المكان، وكلما نظروا إلى أنفسهم، كان ثلاثون طائراً هم الشيء الآخر، فإذا نظروا إلى كلا الطرفين، كان كل منهما هو السيمرغ بلا زيادة ولا نقصان. فهذا هو ذاك، وذاك هو هذا، وما سمع أحد قط

في العالم بمثل هذا". على عكس طيور ابن سينا التي عادت أدراجها بعدما حظيت بمقابلة الملك، لم تعد طيور العطار من رحلتها بعدما تجلّت بنور الحضرة، فقد فنيت في الذات الإلهية ولم يعد لها من وجود خارج هذا الفناء،

وامّحت فيه على الدوام، "كما ينمحي الظل في الشمس والسلام".

"كنت أتكلم، ما داموا يسلكون"، يقول العطار في الخاتمة، "ولكن ما إن وصلوا، حتى لم يعد للقول بداية ولا نهاية، فلا جرم أن نضب معين الكلام هنا، حيث فنى السالك والمرشد والطريق".

الفناء والبقاء

ألهمت منظومة "منطق الطير" الكثير من الفنانين على مختلف العصور، إلا أن المنمنمات التي رافقت بعض من نسخها تبقى أكثر هذه الأعمال الفنية قربا من هذا الأثر الخالد. في منمنمة من مخطوط أُنجز عام 1456 وهو من

محفوظات مكتبة برلين، يظهر الهدهد أمام جمع مؤلف من عشرة طيور في صورة تختزل الفصل الأول من منطق الطير. يتكرر المشهد في حلة جديدة في منمنمة من أصفهان حملت توقيع الرسام حبيب الله. في هذه اللوحة، يبلغ

فن التصوير الإسلامي الفارسي القمة وتبدو الحديقة التي شهدت اجتماع الطيور كأنها جنة من جنات عدن. في الجزء الأعلى من التأليف، نرى صيادا يحدق من وراء الصخر في الطيور رافعا يده نحو فمه في حركة ترمز إلى

الدهشة. يقف الهدهد بثبات على صخرة صغيرة بينما تتجه العيون كلها نحوه. هو المرشد والحكيم، وقد قال الرسول فيه: "لا تقتلوا الهدهد فإنه كان دليل سليمان على قرب الماء وبعده، وأحب أن يعبد الله ولا يشرك به شيئا في

أقطار الأرض"، بحسب ما نقله القزويني في "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات".

في مخطوط من محفوظات المكتبة البريطانية يعود إلى نهاية القرن الخامس عشر، مصدره على الأرجح هرات، يظهر الهدهد في وضعية مماثلة أمام طاووس يتقدم رافعا قائمته اليسرى في اتجاهه. نقرأ في مطلع المقالة الخامسة الخاصة بعذر الطاووس: "بعد ذلك، أقبل الطاووس في حلة ذهبية، وازدان كل جناح بألف لون. جاء كأنه عروس يوم الجلوة، وكل ريشة منه مجلوة". يتقدم أحسن الطيور جمالا من المرشد ويسأله أن يعذره عن السفر، فهو ليس من الآملين بالسلطان. ويجيبه الهدهد: "إن كل ما تريده هو منزل ذلك السلطان، فلتقل تقدم قريبا منه".

في صفحة أخرى من مخطوط مكتبة برلين، نشاهد طيراً عظيماَ يفتح جناحيه وسط نيران محرقة كبيرة أمام جمع من الحيوانات المتوحشة والأليفة التي اجتمعت من حوله، تحت سماء من الذهب تعبرها طيور تحني رأسها

لتراقب هذا المشهد الغريب. تجسد المنمنمة حكاية من الحكايات التي جاءت بعد حديث أحد الطيور عن الموت الذي يرهب قلبه ويمنعه من خوض السفر. يحكي الراوي قصة "الققنس النادر الجذاب"، رديف طائر الفينيق الشهير.

ويمتاز هذا الققنس بمنقاره الطويل الذي يشبه الناي، "ففيه ما يقرب مائة ثقب وفتحة، فإن ينح بكل الثقوب متأوهاً يُفقد السمك والطير راحتها واستقرارها، ويسيطر الصمت على جميع الطيور، وتصبح إزاء صوته فاقدة

الشعور". ناهز هذا الطير، الذي شابه بعزفه أورفيوس، الألف سنة وشعر بدنو أجله فجمع حوله من الحطب مئة كومة، ثم وقف ينوح وسطها مرتعدا من خشية الموت. "اعجب الأيام يومه، فهو ينزف دما من آلام قلبه، وعندما

يصل عمره إلى آخر زفرة، يرفرف بجناحيه إلى الأمام والخلف، وتتطاير النار من جناحه. بعد ذلك تصبح النار كل حاله، وسرعان ما تسقط النار في الحطب، فتحرق حطبه في قمة السرور، ويصبح الطائر والحطب كلاهما جمرة

من نار، ثم تتحول الجمرة بعد ذلك إلى رماد. وما إن يختفي كل شيء، حتى يبدو الققنس بين الرماد. عن النار تحيل الحطب رماداً، فكيف يعاود القنفس الظهور بين الرماد؟".

يجيب فريد الدين العطار عن هذا السؤال في نهاية منظومته. وصلت الطيور الثلاثون الى البقاء بعدما أسلمت نفسها إلى الفناء الكلي، "وليس لأحد قط من المحدثين أو القدماء أن يتحدث عن ذلك الفناء وذلك البقاء. وهذا الأمر

بعيد نسبة لك عن مجال النظر، لأن شرحه بعيد عن الوصف والخبر، ولكن في طريق مثل طريق أصحابنا هل يمكن شرح البقاء بعد الفناء؟ وأين يمكن إتمام ذلك؟ إن هذا يلزمه كتاب جديد، ولكن من ذا الذي يدرك أسرار البقاء؟

ومن ذا يكون جديراً بها؟".

سامر سويلم
12-06-2015, 06:07 PM
رغم طول الموضوع الا انه شيق ويستحق القراءة
شكرا اخي جزاك الله خيرا

nada
13-06-2015, 04:50 PM
شكرا وبارك الله فيك على الطرح القيم