المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجواب المسكت في الرّد على من تكلّم في طريق الإمام التجاني بلا تثبّت



محب التيجانية
04-04-2016, 08:22 PM
بسم الله الرحمـن الرحيـم

اللهمّ صلّ على سيّدنا محمّد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حقّ قدره ومقداره العظيم .

دعـت بعدمـا أبـدا مبـاسمـه الفجـر

مُهَفْـهَفَـة يسبـي العقـولَ جمـالُـها

تقـول استَفِـقْ إنّ الرّكـائب سـاقَهـَا

فقلـت لصحبـي والأبـاعـر تشتـكـي

أتـأمَـل ذات الخـال أنـي ظـاعــن

وأنــي للـوادي المـقـدّس تــارك

وهـل تترك العيـس الهوامي مسارحـا

وإن هـاج مـن حَرِّ الهـواجـر فيحهـا

فـلا والـذي خـصّ المُجَـابَ وقـومَـه

بني عقبـة الشيـخ الهجـان ابن نافـع

ولا خـيـر إلاَّ فـي نـزار وخـيـرهـم

بأسيـافـهـم فتـح المغـارب كلـهـا

ومن نورهـم فتـح القلـوب التي دجَـتْ

بسـيّـدنـا المـخـتـار لا زال ذكـره

وبالشيـخ مـولانـا والإمـام محـمـد

ونجلهـمـا المختـار خـيـر خليـفـة

ورابـع أركــان الخـلافـة أحـمــد

بهـم نُصِـرَ الإسـلام وازدان وازْدَهـَى

بهـم نَـشَـرَ الله العـلـوم فأصبـحـت

بهم فاضـتِ الأسـرارُ والنـورُ والتُّقـَى

أسيـّـدنـا البكـاي يـا مـن إذا بـدا

خلفْـتَهـُم في المكـرمـات وفي العـلا

وأبدَيْـتَ سـرّا لم يكـن قبـل بـاديـا

وبَـابُـك بـاب الله فـاض بـه النّــدا

وعَلْيـَاكَ لا يستوعـب القـولُ وصْفَهـَا

فـلا زال كـلُّ الكـون يثنِـي وأهـلُـه

وزال عـن الإشـراق من ليلـهِ الحجْـر

أَفِي لَحْظِهـا سحـرٌ بلـى إنـه السّحـرُ

وأحـدجهـا من قبـلِ إِسفـارِه السفـر

بهــدر وما تغنـي الشكـايـة والهـدر

عن الحـيّ لا يقضـي بما تأمـل الدهـر

وتلـك ُالتـي لا يستـقـلّ بهـا العـذر

مبـاركهـا أمـن ومنهـلـهـا غـمـر

أفـاءت عليهـا الظِلَّ أدواحُـهُ الخضْـرُ

بمـا لم يَنَـلْ زيْـدٌ سِوَاهُـمْ ولا عَمْـرُ

مناسـب تأبـى أن يفـوتـهـم فخـر

علـى كـل حـال مـا تـوارثـه فِهْـرُ

علـى حيـن عَمّتْهـَا الضلالـةُ والكُفْـرُ

بهـا ظلـم الأهـواء واجتاحهـا الـوزر

يحُـفّ بـه الرضـوان إنْ جلـى الذكـر

فَـذَانِ همـا الشمـس المنيـرة والبـدر

كمـا تَخْلُـفُ الآسـادَ أشبَالُهـَا الخـزرُ

أولئـك فـي أَوْجِ المعالـي هُـمُ الزُّهْـرُ

ولازَمَـهُ فـي ظِلِّـهِـم ذلـك النَّـصْـرُ

وقـد طـاب منها بعـد طَـيِّهَا النّشْـرُ

فـأضحـى لَدَيْهِـمْ كالعَلانِـيـةِ السِّـرُّ

مُحَيّـاهُ حَيَّتـْنـَا البشَـاشـةُ والبِشْـرُ

وشَـيّـدْتَ ما شـادُوا وشُـدَّ بِـكَ الأزْرُ

كذلـك فضـلُ اللَّـهِ ليْـس لـه حَصْـرُ

لمستمطــريـه لا بكـي ولا نـــزر

وفضـلُـك يَكْبُـو دون غايَتِهِ الْفِـكـرُ

عليـك كما يُثنِـي على الوابِـلِ الزّهـْرُ


اللّهم إنّا نبرأ إليك من الحول والقوة . اللّهم إنّا نعوذ بك وبآياتك المتلوّة والمجلوّة ، من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، واتّباع أهوائنا . اللّهم إنك تعلم عجزنا وفقرنا وذلّتنا وضعفنا . اللّهم إنّا لا ندّعي أن يكون شئ من العزة أو القوة أو الكمال وصفنا ، إلاّ أن يشاء الله ربنا ، وسِع ربّنا كل شئ علما ، على الله توكلنا ، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين . اللّهم إِنّا نستوهبك سكينة تنعش القلوب والأرواح ، وطمأنينة يتجلّى بها علينا في ظلمات هذا الزمان ضوء الصباح . وإنّا نحمدك اللّهم حمدا كثيرا كما أنت أهله ، ونصلّي ونسلّم على بدر الوجود ، وقِبلة السجود ، سيّدنا ومولانا محمد الذي عمّ جميعَ المكوّناتِ نوالُه وفضلُه ، وعلى آله وأصحابه الهداة المهتدين ، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . ثم نخصّ بأزكى التّحايا وأنماها ، مَنْ خصّه الله بأسنى المواهب والعطايا وأسماها ، ومن هو مثابة الجلالة التي تفوت المطامع ، ومَنْ هو مركز الأصالة التي تزهُو بها الجوامع والمجامع ، ومَنْ هو مطْلع الأسرار الخافقة الألوية ، والسيادة المشرقة أفلاكها العلوية ، ومَنْ هو مظهر المعارف التي زانها الجمع بعد الفرق ، ومَنْ هو بحر الحقائق التي تمُوج ما بين الغرب والشرق ، إمام الطريقة ، وشيخ السّنة والحقيقة ، ومَنْبَع الفيوض اللّدُنِّيةِ على الإطلاق ، والمتحلّي بمكارم الشّيَم وأحاسن الأخلاق :

أغـر ميـمـون وجـه يستضـاء بـه

يتـلـو الأئمـة مـن آبـائـه وبـهـم

تبلّـج السعـد عـنـه وهـو مقتـبـلُ

فـي كـل ما أتـلـوه يُضْـرَب المـثـلُ

أبو العباس سيدي أحمد البكّاي بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المختار ، أعَزّ الله أولئك الأئمة العالية الأقدار ، التي عليها المدار .

وبعد : فإننا نحمد إليكم الله الذي تعالى جدّه ، وهو الذي ليس لأحد سلطان على مَنْ هو عبده ، ونسأله لنا ولكم العفوَ والعافيةَ ودوامَها ، وإخصابَ الآمال بحيث لا ينال المُحِلُّ سَوَامَها . ، وقد بلغني كتابكم الكريم ، وخطابكم الواجب التهويل والتعظيم ، وكان مورده لدينا عيدا جسيما، وموسما وسيما :

سقانـي فأهـلا بالسقايـة والسـاقـي

وقـد نشـأت لـي نشـوة بعـد نشـوة

سـلافـا بها قـام السـرور على سـاق

تـمــد بـروحـانـيــة ذات أذواق

إذ أَهّلَنَا اللهُ سبحانهُ للحضور في بالِكم ، وشرّفنا بمواجهة إقبالكم . إلاّ أنه مع ذلك الفرح الزائد ، الخارق للعوائد ، أَوْقَعَنَا في حيرة أيّة حيرة ، كادت أن تُنْسِينَا خيْرَهُ ، وذلك أنّنا لا ندري ما هو الصواب : هل الجواب أو ترك الجواب ؟ لأن الجواب يقتضي كلاما ، ومقامُكم العالي لا يقتضي إلاّ انقيادا واستسلاما . ولكن نحمد الله الذي شرح بعد تلك الحيرة صدورَنا ، وأنَار بتوفيقه أمورَنا ، فنظرْنا فإذا نفوسكم النورانية المطمئنة ، منزهّة عن كل علّة ومَظَنّة ، وعَلِمْنا حقا أنّ مراد هِمَمِكم إنما هو الوقوف على محض الحق ، وإعطاء كل مستحق ما استحق ، وأن الأمر كما قال الشيخ أبوالقاسم السهيلي رحمه الله تعالى :

إذا نظرتَ الأمورَ بعين الإنصاف لا بعين الشهوة والتعصّب للمذاهب ، ظهرتْ الحقائق ، واتّضحت الطرائق .

ومن آكد الدواعي إلى الجواب ، أنّ جنابكم الأطهر لا يجوز بحال أن يُعرَض عنه ويُستظهَر .

وممّا جرّأنا على الجواب أيضا ـ مع حقارة أنفسناعندنا ، وإن كنا قد تعدينا في ذلك طورنا وحدنا ـ ما قاله الشيخ زروق ، ونصّه :

تحقّق العلم بالمزية لا يبيح السكوت بعد تعيّن الحق إلا بعد العلم بحقيقة ما عليه الفاعل من غير شك ، ثم إنْ وقع إنكار ، فليس بقادحٍ في واحد منهما ، كما قال الخضر لموسى عليهما السلام في أول أمرهما إلخ كلامه .

ومع هذا العذر الواضح في إتيان الجواب ، فإن الحق الذي لا مِرْية فيه أننا في غنى عن ذلك ، وفي شغل شاغل . أما الغنى عنه فإن الله عز وجل متكفل بالدفاع عن حوزة أوليائه ، وهم أيضا ليس شئ ينقص من عَلِيِِّ أقدارهم ، وربما حاول المنتقص تنقيصهم ، فيزيدهم بذلك كمالا وشرفا . قال الشيخ ابن عَبَّاد رضي الله عنه في بعض رسائله :

ثم لنا في الإنتظام في سلك من اعتُرِض عليه من أهل الحق ، ونُسِب إلى الضلال والزندقة ، وهم خاصة الأولياء ، نعمة جزيلة لا يُقَدَّرُ قدرُها ، ولا يُوَفَّى شكرُها ، بَيْدَ أنهم لم ينقصهم ذلك ذرة واحدة من أحوالهم المكينة ، ولم ينقلب متنقِصهم إلا بالعين السخينة

. وأما الشغل الشاغل ، فإننا والعياذ بالله تعالى وإليه المشتكى غرقَى في غمار عيوب أنفسنا ، وحصائد جوارحنا . قال الشيخ الشعراني رضي الله عنه :

قال أخي أفضل الدّين : " لو كشف للإنسان لراى ذاته كلها عيوبا اجتمعتْ ، وضُمّ بعضُها إلى بعض فصارت صورة إنسان . وفي التمهيد لأبي عمر بن عبد البر رحمه الله بسنده : أن بعض الأمراء سأل محمد بن واسع عن القضاء والقدر ؟ فقال له : أيها الأمير ، إنّ الله تعالى لا يسأل يوم القيامة عبده عن القضاء والقدر ، وانما يسأله عن عمله ". اهـ .

لنفسـي أبكـي لسـت أبكـي لغيـرهـا

لنفسـي في نفسي عن الناس شـاغـل

فمَنْ كان مثلنا لا تسَعه مقاولة أمثالكم الذين فرغوا من تهذيب أنفسهم ، وأقامهم الله تعالى مقام الإرشاد لخلقه من أبناء جنسهم ، وكان ـ والله ـ عدم التصدي للجواب أهمّ لنا ، وأليَقُ بنا ، لولا عارض عرَض وحق مفترض ، وهو ما رواه ابن المبارك من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الساكت عن الحق كالمتكلم بالباطل وكاتم الشهادة كالشاهد بالزور ومحرّم الحلال كمحلّل الحرام » . ولسنا نقول أنكم تقولون الباطل ، حاشا لله ، لكن المبطلون همُ الداغلة الذين بلّغوكم غير الحق . فإنما أنتم بشر تقضون بما تسمعون ، وأما جنابكم الطاهر المحفوظ ، فقد برّأه الله تعالى بقولكم فيما بلغنا ، كما أن حاكي الكفر ليس بكافر .




تابع

محب التيجانية
04-04-2016, 08:24 PM
( فصل )فإذا تمهد هذا ، فنقول بحول الله وقوته ، معترفين بالقصور والتقصير ، مقتصرين على ما يفيد مطلق التبصير ، فاعلم أيها الشيخ الإمام الهمام ، الذي هو مظهر رحمة الله تعالى المُفَاضة على الأنام ، أننا قد تيقّـنًا أنك بالغت في إرادة الخير لنا بمقتضى اجتهادنا وجميل اعتقادك .

ودعـوتنـي وزعمـت أنك نـاصحـي

وعـرضـت ديـنـا لا محـالـة أنــه

ولقـد صـدقـت وكنـت ثَـمّ أمـيـنـا

مـن خـيـر أديـان البـريـة ديـنـا

وذلك شأن أمثالكم الهادين المهتدين ، الأُمَنَاء الناصحين ، لا يزالون يدعون إلى الفلاح ، ويتمنون لجميع المسلمين عموم الخير الصلاح ، ولا شك أن كل مؤمن يرجو لأخيه المؤمن ما يرجو لنفسه لقوله صلى الله عليه وسلم « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » . ومقتضى هذه الشفقة التي تثيرها المحبة والأخوة في الله تعالى ، أنّ كل من دخل في طريق من طرق المشائخ رضوان الله عليهم ينبغي له أن يدعو من أحَبَّهُ وأشفق عليه وآخاه ، إلى الدخول في مثل ما دخل هو فيه ، وربما دعا كل واحد منهما صاحبه إلى ما عنده ، لأن كلاّ منهما مُحبٌّ للآخر ومُشفق عليه ، وكل منهما يرى أن طريقه أحسن الطرق ، وأن شيخه أكمل المشائخ ، وذلك هو الواجب عليه . قال في الذهب الإبريز في مناقب سيدي عبد العزيز ، ونصه :

" وإنما وجب عليه ذلك لأن الشيخ الذي يرى من مريده الإلتفات إلى غيره يقطع عنه المادة ، والمريد الذي يدخل في صحبة شيخ من المشائخ وهو يرى أن في الوجود مثل شيخه أو أكمل ، يبقى متشوّفا إلى ذلك الأكمل في اعتقاده ، فيراه شيخه متشوفا إليه ، فيقطع عنه المادة ، فلا يكون بالأول ولا بالثاني " . قال الشيخ ، يعني سيدي عبد العزيزرضي الله عنه : " وقد رأينا مثل هذا في زماننا كثيرا ، والله يكون لنا وليا ونصيرا " أهـ

. وقال أبو العباس الشريشي في قصيدته الرائية المسماة بـ : ( سرائرالأنوار وأنوارالسرائر) :

ولا تـقـدمـن قبـل اعتـقـادك أنـه

مـربّ ولا أولـى بها منـه في العصـر

ولعل أصل هذه النصيحة ما في الموطأ والبخاري وغيرهما ، من « أن أبا الدرداء رضي الله عنه كتب إلى أخيه سلمان الفارسي رضي الله عنه ، وأبو الدرداء بالشام وسلمان بالمدينة الشريفة : هلُمّ إلى الأرض المقدِّسة ، فكتب إليه سلمان : إنّ الأرض لا تقّدس أحدا وإنما يقدسه عمله ، وقد بلغني أنك صرت طبيبا تداوي إلخ » .

وأما أنا ياسيدي ، فإنّ شرْحَ قضيتي هذه في قضية سيدنا حذيفة بن اليمان وسيدنا عمّار بن ياسر رضي الله عنهما ، حيث « قال لهما نفر من اليهود بعد وقعة أُحُدٍ : لو كنتم على الحق ما هُزمتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم ، فقال لهم عمّار : كيف نَقْضُ العهدِ فيكم ؟ قالوا : شديد قال : فإني عاهدت الله تعالى أن لا أكفر بمحمد ما عِشْتُ ، فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ ، وقال حذيفة : وأما أنا فإنني رضيت بالله ربّاً وبمحمد صلّى الله عليه وسلم نبيّاً ، وبالإسلام ديناً ، وبالقرآن إماماً ، وبالكعبة قِبْلة ، وبالمؤمنين إخواناً ، ثم أَتَيَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبراه بذلك ، فقال لهما : أصبتما الخير وأفلحتما » .

وإنني لو كنت مستفتيا فيما دعيتُ إليه غير قلبي ، لكان مقامك العزيز أولى من يُستفتَى في ذلك ، فتكون صورة الإستفتاء هكذا : " ما يقول أهل الله تعالى العلماء العاملون ، في رجل مؤمن بايع وليًّا من أولياء الله تعالى ، وألْقى إليه قياده ، وعاهد الله تعالى على متابعته في السرّ والجهر على قدر الطاقة . والحالة أنه ما دخل في عهد ذلك الولي حتى استقرأ جميع الطرق الموجودة بعقله ، وتوسّم جميع المشائخ الموجودين ، وظهر له بالبرهان الذي اعتمده ، والمعيار الذي اتخذه لارتياده واختياره لنفسه ، أنه ليس فوق الأرض ، ولا تحت السماء ، من هو أقرب إلى حضرة الله تعالى المقدسة ، وحضرة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والتي يريد السلوك إليها ، والإتصال بها ، من ذلك الشيخ الذي أجره رسنه ، وفوّض إليه إرادته . ونفرض ذلك الرجل المؤمن أحد أتباعكم ومريديكم ، هل يجوز له أن ينقض ذلك العهد ، ويتركه ويذهب إلى غير شيخه ، ويدخل في عهده تاركا لقدوته الأوّل ؟ وهل له عذر عند الله تعالى ؟ وهل لفعله وجه عند أهل الطريق ؟ ولا يستدل بمثل قضية الشيخ زروق مع شيخه الزيتوني والحضرمي رضي الله عنهم ، فإن الناس قد نصوا على أنها من باب غر وسلم . والذي تقرر عندنا هو قول إمام هذه الطريقة الشيخ الأكبر ، سلطان العارفين ، محي الدين بن عربي الحاتمي رضي الله عنه ، ونصّ ما ذكره في كتاب التجليات له :

المبايَعون ثلاثة : " الرسل ، والأشياخ ، والسلاطين ، والمبايَع في الحقيقة في هذه الثلاثة واحد ، وهو الله تعالى ، وهؤلاء شهداء الله تعالى على بيعة هؤلاء الأتباع " إلى أن قال ، بعد ذكر شروط المبايع فتحا وكسرا : " والبيعة لازمة لهم حتى يلقوا الله تعالى ، ومن نكث من هؤلاء الأتباع فحسبه جهنم خالدين فيها ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، هذا حظه في الآخرة ، وأما في الدنيا فقد قال أبو يزيد في حق تلميذه لما خالفه : دعوا من سقط من عين الله تعالى ، فرُئِيَ بعد ذلك من المخنّثين ، هذا لمّا نكث . أين هذا ممن وفّى بعهد الله تعالى مثل تلميذ أبي سليمان الداراني ؟ الذي قال له : ألق نفسك في هذا التنور ، فألقى نفسه فيه بلا توقف ، فعاد عليه بردا وسلاما ؟ هذه نفحة الوفاء " . اهـ . من الكتاب المذكور .





تابع

محب التيجانية
04-04-2016, 08:36 PM
( فصل )
ومما يجب ذكره هنا ، لا لكونه مجهولا فيعرف ، أو خفيا فيظهر ، فإنه أجلى من شمس الظهيرة وأشهر .

كأنه الشمـس في البرج المنيـف علـى

كـل البـريـة لا نــار علـى عـلـم

ولكن ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيي عن بينة ، وللـرد على من بلّغكم ـ ، أيّدكم الله ـ أنّ شيخنا أبا العباس التجاني رضي الله عنه لا طريق له ، حتى قلتم فيما كتبتم إلينا بأيديكم أنه شيخ معدوم ، وطريقه غير معلوم . فيقال سبحان الله سبحانه سبحانه كيف يسلِب العارفَ معرفتَه إذا أراد امتحانه ؟! لو غيرك قالها يا أبا عبيده !!

وأما الشيخ رضي الله عنه فقد لقي في طريق إرادته الجمّاء الغفير من الرجال بالمغرب والمشرق : في فاس ، وجبال الزبيب ، والواسطة ، وزواوة ، وتوات ، وإفريقية ، ومصر ، والحرمين الشريفين ، وتلقّى منهم الأسرار والأنوار ، وَوَرِث جلَّهم في مقاماتهم ، وبشّروه بما يؤول إليه أمره من عِظَم الشأن ، والتوحّد في القطبانية العظمى التي لم تكن لغيره ، وأخْذُهُ الطريقة الخلوتية متّصل السند ، مرفوعُ العمد من شيخه سيدي محمود الكردي المصري رضي الله عنه ، عن الشيخ الحفني إلى سيد الوجود صلى الله عليه وسلم ، كما هو مذكور في جواهر المعاني وغيره . ولما سرد في الجواهر ذلك السند العظيم ، أنشد :

أولـئـك آبـائـي فجئـنـي بمثلـهـم

إذا جمعتـنـا يـا جـريـر المجـامـع

ولقي قطبين جليلي القدر والشأن ، وأخذ عنهما أسرارهما ، وبشّرَاهُ بِنَيْلِ المكانة العليا من العرفان ، أحدهما بالمغرب ، وهو القطب الأشهر الشريف مولانا الطيّب بن محمد بن عبد الله الشريف الوزاني رضي الله عنه ، والثاني بالمشرق ، وهو القطب الجامع أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد الكريم السّمّان ساكن المدينة الشريفة رضي الله عنه . هذا كله في حال سلوكه وإرادته ، وأما الإذن له في هداية الخلق فمن حضرة سيّد الوجود صلى الله عليه وسلم كفاحا ، يقظة لا مناما ، وقال له صلى الله عليه وسلم : ( أنه لا مِنّة لأحَدٍ مِنَ الخلائق عليك ) . فلا واسطة بينه وبين رسول الله صلىالله عليه وسلم ، ولا مِنّة لأحَدٍ عليه إلاّ له عليه الصلاة والسلام ، كما هو شأن من تفضّل الله عليه بالوصول إلى هذا المقام المسمى عند أهل الله تعالى بالختم ، فطريقته رضي الله عنه محمدية جادّة مشهورة .

فإذا ثبت اتصال شيخنا في إرادته وسلوكه من كل جهة بالأولياء الأكابر ، والمشايخ الكرام ، والأقطاب المشاهير العظام ، فكيف يقال أنه لا طريق له ، أو طريقه غير معلوم ؟ هذا والله العجب ! وأعجب منه أن مِن الناس من يظن أنه لا يصل إلى الله تعالى أحد إلاّ على يد شيخ ، ويستدلّ بمثل ما نقله الشيخ سيدي عبد الوهاب الشعراني في ترجمة الشيخ شمس الدين الحنفي رضي الله عنه أنه كان يقول :
والله ما عرف الكيلاني وابن الرفاعي وغيرهما الطريق إلى الله إلا بالتربية على يد شيخ . اهـ .

ويأتي قريبا إن شاء الله عن الشعراني نفسه وغيره أن التربية قد انقطعت منذ أزمان . فمقتضى كون التربية اليوم معدومة مع كون الوصول لا يمكن بدونها أن لا يوجد وصول لأحد في هذا الزمان ، وذلك تهافت باطل .

والحق أن الفتح والوصول قد كانا بالتربية لمّا كان الزمان صالحا كزمان الكيلاني والرفاعي وأمثالهما ، وبعد ذلك صار لا يكون إلا بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقول الشيخ زروق عن شيخه كما يأتي :

رأيت أبواب الله تعالى قد استدارت للغلق ، فلم يبق باب مفتوحا إلا باب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وإلى هذا أشار البوصيري في الدالية بقوله :

وتـزوّد التقـوى فـإن لـم تستـطـع

فـمـن الصـلاة علـى النـبـي تـزوّدِ

قال صلى الله عليه وسلم للذي قال له أجعل صلاتي كلها لك « إذًا تكفى همك ويغفر ذبك » . فمن فهِمَ عن الله تعالى عَلِم أن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الطريق الواضح إلى حضرة الله تعالى قطعا ، بلا خوف ولا حرج . قال الشيخ الشعراني في ترجمة أبي المواهب أنه قال :

ومِنَ المريدين من يتولى الله تعالى تربيتَه من غير واسطة لأحد من الأئمة حتى لا يكون لواسطة عليه مِنّة ، ومنهم من يتولاّه بواسطة بعض الأولياء ولو ميتا في قبره ، فيُرَبّي مريدَه وهو في قبره ، ويسمع مريدُه كلامَه من القبر ، ولله عباد يتولّى تربيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه من غير واسطة بكثرة صلاتهم وتسليمهم عليه .

قال الشيخ زرّوق في أواخر ( شرح حزب البحر ) :

وممّا كتب لنا به شيخنا أبو العباس الحضرمي في وصيته الأولى : " وعليك بدوام الذكر والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهي سلم ومعراج إلى الله تعالى ، وسلوك إلى حضرته إذا لم يلق الطالب شيخا مرشدا " .

ومعلوم ما وقع آخر المائة الثامنة بين فقراء الأندلس من الإختلاف حتى تضاربوا بالنعال ، فقال بعضهم : يمكن الإستغناء بالكتب عن الشيخ ، ومنع البعض ، وكتبوا إلى الآفاق ، ومعلوم جواب الإمام ابن عبّاد رضي الله عنه في ذلك فلا نطيل به . وقال حجة الإسلام الغزالي في المنهاج :

قد يكون ذلك بلا شيخ ، ولكن الشيخ فاتح .

وقال الشيخ أبو العباس سيدي أحمد بن موسى اليماني رضي الله عنه :

" من لم يكن له شيخ يُربّيه فليلزم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي تربّيه بأحسن الآداب النبوية ، وتهديه بإشراق أنوار الأخلاق المحمدية ، وترقّيه إلى أعلى درجات الكمال ، وتوصله إلى المحل الأسنى من حضرة الملك الكبيرالمتعال ، وتنعمه برؤية الله تعالى ، وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم " . وقال رضي الله عنه : " بكثرة الصلاة على رسول الله صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبِقلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌعرفتُ الواحد الأحد " .

فأين قول من بلّغكم ـ رضي الله عنكم ـ : أن شيخنا ليس له شيخ ولا طريق ؟ فهل ذلك إلا جهْلٌ بما تقدّم ، أوعنادٌ وغفلةٌ ؟

وهل تـرك الإنسـان في الديـن غايـة

إذا قـال قـلّـدت النـبـي مـحـمـدا

فعلى كل حال فهو قول بلا دليل ، ودعوى بلا حجة .

والـدعـاوى ما لـم يقيمـوا عليـهـا

بـيّـنـات أبـنـاؤهـا أدعــيــاء

وكان من حق ذلك المبلِّغ أن يُنهى ويُزجر إن كان معاندا ، ويُعلَّم إن كان جاهلا ، ولكن الأمر لله سبحانه ، وعفوه سبحانه أوسع .

فهذه الطريقة المحمدية ، والحمد لله ، واضحة موصولة الأسباب ، مفَتّحة الأبواب لمن أراد سعادته من أولي الألباب ، إلاّ أنها عزيزة الوجود ، وأهلها أعزّ مِنْ كل عزيز . قال الشيخ الشعراني :

وهذا مقام شريف لا يصل إليه السالك إلا بعد مجاوزة مائتي ألف حجاب وسبعة وأربعين ألف حجاب وتسعمائة وتسعة وتسعين حجابا ، فليس هذا لكل وليّ .

وهذه الحجب هي المنازل التي ورثها الأولياء من المرسلين ، قاله الشيخ الأكبر في الباب 73 من الفتوحات ، وقال :

إنه كلّمَا نزل الولي مقاما منها يخلع عليه من العلوم ما لا يحصى ، لكل منزل ذوق خاص لا يكون لغيره .

إلا أن شيخنا ، وإن شاركه بعض من قبله من الأولياء الكاملين في الوصول إلى هذا المقام ، فإنه لايشاركه فيه من بعده لأنه الختم الأكبر الذي ختم الله به المقام المحمدي ، أخبره بذلك من لا يتطرق الرّيب إلى إخباره صلى الله عليه وسلم ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .

وإلى شيخنا التجاني رضي الله عنه أشار الشيخ الأكبر محيي الدين رضي الله عنه بقوله في الفتوحات :

وقد اجتمعْتُ به سنة 478 ، يعني بالخاتم المحمدي الذي لا ختم بعده ، ورأيت العلامة التي أخفاها الله تعالى فيه عن عيون عباده ، وكشفها لي بمدينة فاس حتى رأيت خاتم الولاية المحمدية منه ، ورأيته مبتلى بالإنكار عليه فيما يتحقق به في سرّه من العلوم الربانية . أهـ .

ولا شك أن الإجتماع المذكور برزخي والله أعلم ، ولا شكّ أن سبب " الإنكار " هو انحجاب المنكِر عن مقام المنكَر عليه ، وعُلوّ مقام المنكَر عليه على مقام المنكِر ، كقضية الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي مع الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنهما ، وكم لها من نظير ، لأن من جهل شيئا عاداه . قال الشيخ الشعراني في اليواقيت والدرر في مناقب شيخه الخوّاص :

وسمعته يقول : " الخلق على طبقات : عامّة ، فقهاء ، متصوفة ، صوفية ، عارفون ، كاملون ، مكمّلون , أقطاب . فكل من كان في مرتبة من هذه المراتب ينكر ما وراءها ضرورة لعدم ذوقه له ، فالفقيه يُنكِرُ على المتصوّف ، والمتصوف ينكر على الصوفي ، والصوفي ينكر على العارف ، وهذا لا ينكر على أحد لمروره على المراتب كلها . ومرادنا بالإنكار من حيث الفهم لا الإنكار من حيث الأحكام الشرعية " اهـ .

فإذا تقرر هذا ، ظهر لك أنّ الإنكارَ على شخص عارف دليلٌ واضحٌ على أكمليته . وقد تقدّم في صدر هذا التقييد قول الشيخ ابن عبّاد : " ثم لنا في الإنتظام في سلك من اعتُرِض عليه من أهل الحق ، ونُسِب إلى أهل الضلال والزندقة ، وهم خاصة الأولياء ، نعمة جزيلة لا يُقدَّر قدرُها ، ولا يُوفَّى شكرُها " الخ . ولذلك قيل :

كلما اتّسعتْ دائرة المعرفة ضاقت دائرة الإنكار .

ومدار طريقة شيخنا رضي الله عنه على قطبين :

الصلاة المفروضة ، والمحافظة عليها أكثر من غيرها بأدائها على الوجه الأكمل بقدر الإمكان.

الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإكثار منها آناء الليل وأطراف النهار مع مراعاة الأدب مع حضرة الله تعالى ، وحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإخلاص والتعظيم والمحبة .

وأما عمود نسبه رضي الله عنه فإنه مرفوع إلى محمد المهدي المعروف بالنفس الزكية ، بن عبد الله الكامل ، بن الحسن المثنى ، بن الحسن السبط ، بن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ومولاتنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها ، بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكره الثقات وحرّروه ، وذكره الشيخ رضي الله عنه عن نفسه وعن آبائه العلماء الأئمة الكرام ، والناس مصدّّقون فيما حازوه من النسب لأنفسهم ، لا سيما من هو مسلّم العدالة ، والموصوف بالولاية ، والتبحّر في العلوم الشرعية الظاهرة والباطنة . فقولكم ، أيّدكم الله وأرضاكم : " ويذكر أنه شريف ما أعظمه ، على قدر صحّة ذلك عندي وضعفه " ، من العجب بمكان ، ولكن أنتم أعلم . وما ذكرنا هذا فضولا ، ولكن القول للقول سلم ، وأما من بلّغكم ذلك على شك وارتياب وهو يسر حسوا في ارتغا فيقال له لما حيل بينه وبين ما نوى وإبتغى:

عبـد شمـس أبـي فـإن كنت غضبـى

فـاملئـي وجهـكِ الجميـل خمـوشـا

وأما أتباعه الذين بلّغك من بلّغك عنهم أنهم لا إمام ولا مأموم ، أي ليسوا بشئ ، فإنهم والله من خير هذه الأمة ، وهم بحمد الله مطهرون من كل مذمّة ، وكيف لا وهم الصائمون القائمون ، يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، فمنهم من لا يعرف المنام بالليل أصلا ، ومنهم من لا يعرف الطعام والشراب بالنهار إلاّ في الأعياد ، ومنهم من لا ينقص ورده من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الفاتح لِمَا أغلق عن عشرة آلاف بين اليوم والليلة ، ولا يدّعون دعوى ولا مزيّة ولا خصوصية ولا تمييزاً عن الجنس ، كلٌ ذي حرفة في حِرْفَتِهِ ، وكل ذي شغل في شغله ، مع أن منهم المتصرفين في الكون بالأحوال الصادقة لا بالخواص والإستعدادات الطبيعية . فلا شكّ أنهم السادات الملامتية الذين رئيسهم ذو الخلال أبو بكر الصديق الاكبر رضي الله عنه وعنهم . .

حسبـي بهم من غيـرهـم بـدلا فَهُـم

إنّـي ختمـت علـى الضميـر بحبّـهـم

وجعلـتـه حـرمـا لهـم فـسـواهـم

إن لاح لـي مـن أفـق مغناهـم سنـى

رَوْحِـي وريحـانـي وبـرء سقـامـي

فـغـدا هـواهـم فيـه زهـر كـمـام

مـا إن لــه بـحـمـاه مـن إلـمـام

فعلـى الـوجـود تحيـتـي وسـلامـي

وإنما عرّفناكم ـ أعزكم الله ـ بجلالتهم الحقيقية التي لا شك فيها بالمشاهدة والعيان ، والتي لا تحتاج إلى دليل ولا برهان ، وإلا لم يصح شئ في الأذهان ، لأن الذي بلّغكم إنما أخبركم أنه ليس لهم طريق إلا الرقص واللعب ، فحملتكم الحميّة الإيمانية ، والغيرة الإسلامية ، حتى تلوتم في حقهم ، لأجل تلك الحمية ، قوله تعالى : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية . سبحان الله تعالى !!! أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ، يشبه بالكفار ؟ بل بأقبح المشركين الذين كانوا يشوّشون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته وطوافه : يقفون عراة ، بعضهم عن يمينه صلى الله عليه وسلم وبعضهم عن يساره ، ويرفعون أصواتهم بالهجر والفحش ، ويصدّون كل من أراد الإستماع لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن العظيم . هذا أحد الوجوه التي فُسّرت بها الآية الكريمة وأحسنها ، فأين حالة المؤمنين التجانيين لو لم يكن لهم إلا حالة الإيمان الذي كله خير ، والمؤمن بخير على كل حال ، من حالة أولئك البعداء المشركين الذين لا حالة أقبح ولا أخزى من حالتهم ؟ وأين وجه الشبه بينهم ؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ولكن الغيرة المتقدمة تحمل على مثل ذلك . قال قال صلى الله عليه وسلم إنَّ الغيرة أنْ لا تبصر أعلا الوادي من أسفله . وأما ذلك المُبلّغ من الداغلة الذين ابتلاهم الله تعالى بكراهة أهل الخير ، والإزدراء بأهل الإيمان ، فليس معه كلام ، وإن كان من أهل الخير المغفّلين فإن قوله غير مقبول في هذا المقام .

كضـرائـر الحسنـاء قلـن لـوجههـا

حــسـدا وبغـضـا إنـه لـدمـيـم

وأما قولكم رضي الله عنكم " : وأما الطريق الذي يذكر التجانيون عن التجاني فليست بطريق ، إنما ذكروا تواجداً ورقصًا ولعبًا وهجراناً لأولياء الله تعالى ، هذا ما بلغني من طريقهم " .

فـقـول لـه وقـع الأسـنّـة لـم أزل

أكـفّ عـنـانـا عنـه عـنـد طـراد

وما أحسن قولكم " هذا ما بلغني الخ " . فإن كان المراد بالطريق هو المثابرة على ذكر الله تعالى ، والإفراط من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإقامة الفرائض على أكمل الوجوه ، واجتناب المنهيات ، والعمل على الإخلاص والشوق والمحبة ، فوالله ما رأينا طريقا أحسن من طريق التجانيين رضي الله عنهم ، وإن كان الطريق شيئا آخر ، فليس لهم طريقا إلا ما ذكرنا ، وإن كان مراد منبلّغكم بالرقص واللعب هو ذكر الله تعالى على الصفة الموجودة اليوم في جميع أمصار المسلمين ، وفي جُلّ حضرات المشائخ ، وزوايا الأولياء شرقا وغربا من غير نكير ، وتلك الصفة هي مراد الأقدمين بالتعبير والذكر بالسماع ، وقد اختلف الناس فيه قبل اليوم بالجواز والكراهة والمنع ، وألّف كل فريق تآليف تصحح مذهبه ، وفرغ من ذلك قبل هذا الزمان بكثير ، والمسائل الخلافية الإجتهادية ليس لأحد أن يستدل على مجتهد بقول مخالفه ، وأما اليوم فقد وقع الإتفاق على الجواز بعد ذلك الخلاف ، وجرى به عمل المسلمين في أمصارهم المعتبرة التي تؤخذ الأحكام الشرعية من اتفاقهم ، فكان الأمر فيه كما قال العلامة الحجة المتبحر الأورع الأتقى ، سيدي محنض بابا ، أبقى الله بركته وبارك في وجوده المسلمين والإسلام آمين .

جـرى علـى ذلـك مـــذ أعـصـار

فـوقـع الإجـمـاع بـعـد الخـلــف

شـرقـا وغـربـا عـمـل الأمـصـار

فـيـه فـجـاز اليـوم دون خـلــف

وإن كان إنما قال ذلك في الإجتماع على الذكر والجهر ، ولكن الحكم واحد والعلة واحدة ، فإن كان مراد مبلغكم باللعب هو هذا ، فقد أفضى به اتّباع هواه إلى تسمية ذكر الله لعبا ، وتسمية الذاكرين لله تعالى من الأولين والآخرين لاعبين ، وقد أوقعه بغيه على أولياء الله تعالى التجانيين في تضليله أعلام الأمة وهداتهم الذين هو وغيره في ظِلالهم ، وقد باء بما نعوذ بالله مما ابتُلِيَ به . قال الأستاذ أبو القاسم القشيري رضي الله عنه في رسالته :

سألت الأستاذ أبا علي الدقاق عن السماع غير ما مرة ، كأني أطلب رخصة في السماع . فلما رأى طول معاودة سؤالي له قال لي : " قال المشائخ : كل ما جمع قلبك على الله تعالى فلا بأس به " ، وقيل لأبي سالم : كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد والسري وذو النون وغيرهم يفعلونه فقال : " كيف أنكره وقد أجازه من هو خير مني ؟ " اهـ كلام الرسالة .

وفي قوت القلوب :

" إنْ أنكَرْنا السماع أنْكَرْنا على سبعين صدّيقا من خيار هذه الأمة " ، قال : " وإن كنا نعلم أن الإنكار أقرب إلى قلوب القراء ، إلا أننا لا نفعل لأنا نعلم ما لا يعلمون ، وسمعنا من أحوال السلف ما لا يسمعون " .

قال في عوارف المعارف :

قول الشيخ أبي طالب هذا معتبر ، لوفور علمه ، ومعرفته بأحوال السلف ، ومكان تقواه وورعه وتحرّيه للصواب .

قال الشيخ ابن البناء ناظم المباحث :

وحـيـث كَــلّـتْ نُـجُـبُ الأبــدان

وهـو صــراط عـنـدهـم مـمـدود

قـيـل احْـدهَـا يا حـاديَ الأظـعـان

يَـعـبُـره الـواجــد والفـقـيــد

وقول أبي عليّ الدقاق المتقدم ، وهو " قال المشائخ : كل ما جمع قلبك على الله إلخ " ، هو مثل ما نقل القاضي عياض ، عن ابن مهدي قال :

سمعت مالكا يقول : لو كنت أعلم أن قلبي يصلح بالجلوس على كناسة لجلست .

وقال الجنيد :

كل ما يجمع العبد على مولاه فهو مباح .

وقال الشيخ زروق :

معظم نظر القوم إلى ما يجمع القلوب على مولاها . فمن ثمّ قالوا بأشياء في باب الأدب أنكرها من لم يعرف قصدهم

. والقصيدة النونية المروية بالتواتر عن الشيخ أبي مدين رضي الله عنه : " ما تركت لقائل مقالا إن كان ممن ذاق من مشارب القوم وإلا فينشد له بيت واحد منها وهو :
إذا لم تـذق ما ذاقـت الناس في الهـوى

فبـاللـه يا خـاليَ الحشـا لا تعـنِّفنـا

وأبو مدين رضي الله عنه حجة الله في الخلق ، وهو ممن أخذ عن الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه . يقول الشيخ الشعراني رضي الله عنه في اليواقيت والجواهر :

أن الخضر عليه السلام سئل عن أبي مدين فقال فيه : " إنه جامع لأسرار المرسلين ، لا أعلَمُ أحدا في عصري هذا أجمع لأسرار المرسلين منه " اهـ .

وهذا الرقص الذي ينكره الجاهل به هو الذي أصفه لك أيها الإمام حتى كأنك حاضر عنده ، وهذه الكيفية الموجودة اليوم التي جرى بها العمل أصلها للسادات الخلوتية رضي الله عنهم ، والله أعلم ، وتبعهم الناس على ذلك . وهي أنهم في عشية يوم الجمعة ، إذا بقي للغروب نحو ساعة واحدة ، يجلسون جلوس أحقر العبيد بين يدي أعز مالك غالب قاهر ، ثم يفتتحون بالبسملة والفاتحة ، ثم بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصوات تكون أولا ضعيفة لطيفة ، تعلم منها الذلة والخشوع والمسكنة والخضوع ، ثم يشرعون في الكلمة الطيبة ، ولا يزالون يرددونها على كيفيات معلومة ، وجلّها مذكور في كتاب الجواهر الخمس لغوث الله الشطاري ، مع حركة معلومة الهيئة عندهم أيضا ، يشيرون بالنفي يمينا وشمالا ، وبالإثبات إلى أمام ، مع الإشارة إلى القلب في جهة اليسار ، وإيقاع اسم الجلالة على القلب بالقصد والإشارة ، وذلك له أثر عظيم . حتى إذا غلب الإثبات عندهم بكثرة الأنوار ، وتلاشت في مشهدهم جميع الأغيار ، إقتصروا على اسم الذات الأقدس فافردوه بالذكر ، فيقومون حينئذٍ على أقدامهم إجلالا لذلك الإسم ومسماه . فيذكرون قياما بسكينة ووقار أولا مع حركة خفيفة ، ثم بعد ذلك منهم من يهتز على قدر ما يجد ويتجلى في قلبه ، إما فرحا بكونه أوقفه مولاه في بابه ، وإما بكونه أهّلَه لذكره لحضرة اقترابه مع جملة أحبابه ، وإما بكونه عبدا لمالك الملوك الذي تولاه ، فيتيه على الأكوان بعظمة مولاه كما قال عياض :

ومـمـا زادنـي طـربـا وتـيـهــا

دخـولـي تـحـت قـولـك يا عبـادي

وكـدت بـأخـمـصـي أطـأ الثـريـا

وأَنْ صّـيـرْتَ أحـمـد لـي نـبـيّـا

وإما لغير ذلك مما لا يمكن إحصاؤه وضبطه لاختلاف استعدادات القلوب ، وتوجهات المتوجهين . وفي خلال هذا الذكر ، من أوله إلى آخره ، ينشدهم منشد منهم أقوال المتغزلين في حضرة مولانا جل جلاله ، وحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيزداد بذلك ما يَجِدُون ، ويوجد ما يفقدون . فإن قيل كيف يزيد سماع الأغزال وُجْدَان الواجد ، ويُوجِد ما فَقَدَ الفاقدُ ؟ فالجواب : إن ذلك من الأذواق التي لا تفي العبارة بشرحها ، وقد أشار إلى ذلك في عوارف المعارف فقال :

وكان الراسبي يشغل أصحابه بالسماع وينعزل عنهم يصلي ، فقد تُطْرق النغمات مثل هذا المصلي فتنزل النفس إليها مُتَنَعِّمَة بذلك ، فيزداد مورد الروح بذلك صفاءً . اهـ .

وقال الإمام ابن العربي المعافري في سراجه نكتة بديعة وهي :

أن النفس تميل إلى اللهو ، وتسرع إلى الغزل ، فينشد المرء الأشعار الغزلية تانيسا لها ، ويقصد بها الحقائق الإلهية ، والشمائل النبوية تحقيقا معها

. وقال الشيخ أبو حامد الغزالي في الإحياء بعد كلام :

" ينزلون ما يسمعونه على أحوال أنفسهم في معاملتهم لله تعالى وتَقَلّب أحوالهم ، فإن للمريد لا محالة مقصدا ، وهو معرفة الله تعالى والوصول إليه ، فإذا سمع ذكر خطاب أوْعتاب ، أو قبول ، أو رَدّ ، أو وَصْلٍ ، أو هجر ، أو قرب ، أو بُعد ، أو تَلَهُّف على ما فات ، أو تَعَطُّشْ إلى منتظَر ، أو شوق إلى وَارِد ، أو طمع ، أو يأس ، أو استيناس ، أو وفاء بوعد ، أو نقض لعهد ، أوْ خوف فراق ، أو فرح بِوصال ، أو ذكر ملاحظة الحبيب ، أو مدافعة القريب ، أو همول العبرات ، أو ترادف الحسرات ، أو حلول الفراق ، أو عسر الوصال ، أو غير ذلك مما تشتمل عليه الأشعار الغزلية ، فلا بد أن يوافق بعضها حال المريد في طلبه فيجري مجرى القداح الذي يوري زناد قلبه فتشتعل به نيرانه ، ويَقْوَى له انبعاث الشوق وهيجانه ، وتهجم عليه بسببه أحوالٌ مخالفةٌ لعادته ، ويكون له مجال رحب في تنزيل الألفاظ على أحواله . فالسماع يُهّيج الشوق إن كان ثَمّ شوق حاصل ، وإن لم يكن ثَمّ شوق حاصل فالسماع يجتلبه ، فللكسب مدخل في باب الأحوال ، ولذلك ورد الخبر بالأمر لمن لم يحضره البكاء أن يتباكى ، فإن هذه الأحوال قد تتكلف مباديها " ، إلى أن قال : " فإذا انضاف إليها صوت طيب ، ونغمات طيبة موزونة ، زاد وقعه " .

من الأحياء بنقل الإمام العلامة العارف بالله تعالى سيدي محمد بن يوسف المواق .

وقال الشيخ الإمام العارف بالله سيدي محمد بن عبد الله الهبطي في شرح نونية أبي مدين الغوث عند قوله :

إذا اهـتـزت الأرواح شـوقا إلى اللقـا نعم ترقـص الأشباح يا جاهـل المعنـى

بعد الكلام على الروح والشوق :

قال الإمام ضياء الدين أبو النجيب عبد القاهر السهروردي رضي الله عنه : " ثم أن أهل السماع في حال سماعهم يتفاوتون ، فمنهم من يغلب عليه في حال السماع الخوف والحزن والشوق ، فيؤدي به إلى البكاء والأنين والشهقة وتخريق الثياب والغيبة والإضطراب ، ومنهم من يغلب عليه الرجاء والمحبة والإستبشار ، فيؤديه إلى الطرب والرقص والتصفيق" أهـ . ثم قال الهبطي : وقوله : " يا جاهل المعنى " ، أي المقصود عند القوم بالوجد وما ينشأ عنه من رقص الأشباح بسبب اهتزاز الأرواح ، واهتزاز الأرواح بسبب تذكارها ما كانت عليه من المسامرة مع المحبوب يوم أَلَسْتُ بِرَبِّكُم ، ولذلك قال الجنيد لمّا سئل عن شخص وقور لا يحل سرّه وقاره بحال ، فإذا سمع صوتا موزونا يظهر فيه قلق ، وتَصْدُرْ منه حركات غير معتادة ، فقال الجنيد : " لما خاطب الحق تبارك وتعالى يوم الميثاق ذرات ذريات آدم ، بقيت حلاوة ذلك الخطاب في مسامع أرواحهم ، لا جرم أنهم إذا سمعوا صوتا طيبا تذكروا حلاوة ذلك الخطاب الغير المعتادة شوقا وطربا " أهـ كلام الإمام الهبطي رحمه الله تعالى .

ومعلوم ما وقع للقاضي الذي منع قوما يذكرون الله جهرا ، كما هو الشأن ، فكانوا يذكرون سرا ، فتضرروا بذلك ضررا كبيرا ، حتى مات بعضهم ، فتهدمت دار القاضي عليه مع جميع أهله وأولاده ، وجميع ما يملك من الحيوان وغيره ، كما ذكره الشيخ الشعراني في العهود المحمدية . ولا شك أنهم في حالة هذا الذكر الموصوف لا يتأتى أن يخطر في بالهم لامال ولا ولد ولا جاه ، ولا نفع ولا ضر ، ولا غير من الأغيار ، لأن جوارحهم وأعضاءهم كلها ذاكرة ، وظاهرهم وباطنهم مستغرق في مذكورهم ، مُتَجَمِّعٌ بِكُلِّيَتِّه عليه ، فأي جمع أقوى من هذا الجمع ، وأية حالة غير هذه تفيد مثل هذه الإفادة العظيمة ؟ بل قَلّ ما تتفق هثل هذه الجمعية لأكابر المجتهدين بغير هذه الكيفية ، ولهذا اختار الأئمة رضوان الله عليهم هذه الكيفية الشريفة . فهذا الإسم الشريف في هذا الوقت الشريف الذي كاد المعتبرون أن يتفقوا على أن هذه الساعة هي ساعة الجمعة .

إذا محـاسنـي اللاتـي أَصُـولُ بـهـا

كانـت ذنوبـا فقـل لـي كيـف أعتـذر

فلينظر الموفق الذي شرح الله صدره للحق ، وعرف مقاصد الأولياء وآدابهم ، إلى هذه الحالة الشريفة التي سماها ذلك المبلّغ الجهول ضلالاً ولعباً ، وآذى لله تعالى مالا يحصى من الأولياء بغيًا عليهم ، واستخفافًا بحرمة الإيمان ، ورِضًى عن نفسه ، وتعالياً بها ، واحتقاراً لغيره من المؤمنين ، مع ما تحصنوا به من حرمة الإيمان لو لم يكن لهم من الخصال غير الإيمان . والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا . قال الشيخ محي الدين بن عربي في باب الوصايا من الفتوحات :

إياكم ومعاداة أهل لا إله إلا الله فإن لهم الولاية العامة ، فهم أولياء الله تعالى ولو أخطأوا وجاءوا بقراب الأرض خطايا لايشركون بالله شيئا فإن الله تعالى يتلقّى جميعها بمثلها مغفرة ، ومن تبثت ولايته حرمت محاربته ، وإنما جاز لنا هجر أحد من الذاكرين الله لظاهر الشرع من غير أن نؤذيه او نزدريه .

وأطال في ذلك .

قال الشيخ البرزلي :

رأيت كثيرا من أشياخي ليس ذلك طريقهم ، لاينكرون على هؤلاء القوم . ولا يجوز أن يُسْتَدَلَّ على مثل هذا بقوله تعالى : وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وفي التمهيد : " من سرّته حسنته وساءته سيئته إنه مؤمن " . فمَنْ كان كذا أين تكون الشهادة عليه بغير الإيمان ؟ " . قال : " وقد ضلت جماعة ، وخالفوا أهل السنة والجماعة ، واستدلوا بظاهر قوله تعالى : وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وانظر لو كانت حِسْبته تسوغ من هذا الوجه لكانت لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن كان في أمتي مُحَدثّون فعمر منهم » ، ومع ذلك لما لقيه سيدنا معاوية رضي الله عنه في موكبه العظيم قال : هذا كسرى العرب ، ثم سأله سيدنا عمر رضي الله عنه ، فقال له سيدنا معاوية : نحن بأرض العدو ، والجواسيس كثيرون بها ، فأردنا أن نُظْهر من عز السلطان ما نرهبهم به ، وإن نهيتني انتهيت ، فقال : لا أنهاك ولا آمرك ، إنْ كان ما تقول حقا إنه لرأي أريب ، وإن كان باطلا إنه لخدعة أديب " . اهـ . كلام البرزلي .

وانظر ما تقدم عن البرزلي من قوله :

ولا يجوز أن يستدل على هذا بقوله تعالى: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه

، فإن الإستدلال على السادة التجانيين وغيرهم بقوله تعالى : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون أخطر وأهول والله غفور رحيم . وقال الشيخ العلامة البركة سيدي محمد بن يوسف العبدري المعروف بالمواق :

رويت عن شيخي المنشوري ، عن جدي ابن بقى ، عن شيخه المقري أنه كان يقول : " الشطح كناية ، والكرامة عناية ، والإعتراض جناية ، إياك و ( لِمَ ) " . اهـ .
وقال في التمهيد :

نظر ابن عمر رضي الله عنه إلى الكعبة فقال : " والله إن لك لحرمة ، ولكن المؤمن أعظم حرمة منك ، حرّم الله عرضه وماله ودمه ، وأن لا يظن به إلا خيرا " . اهـ .

وكان من حق هذا المبلغ الذي بلغكم ، أيدكم الله ، إن كان ممن لا يرى السماع ، مع ما تقدم من أدلة الجواز المتفق عليه اليوم ، أن يقول : نحن لا نرى هذا ، ولا نعرف شيئا منه ، ولعلّ ما وقع عليه اتفاق الأمصار اليوم له وجه حسن لم نطلع عليه ، فإن الأمة لا تجتمع على ضلال ، فلو قال مثل هذا من القول لكان قد سلم من هذه الورطة الشنيعة ، غفر الله لنا وله ولجميع المسلمين آمين .

وبقي أن نقول في قول من بلّغكم أن شيخنا أبا العباس التجاني رضي الله عنه ليس من أهل التربية :

خذهـا وهـات ولا تمـزج فتظلـمـهـا

المـاء فـي النـار أصـل غيـر مطـرد

إن أراد بالتربية التربية المشهورة الإصطلاحية التي كان سَلَكَهَا وسلك بها الجنيد والسري وابن ادهم وأمثالهم ، فإنها اليوم طريق مهجورة مندثرة الأعلام ، وقد نص الائمة على أنها مطموسة لا يمكن لأحد الأخذ عليها . قال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه :

واعلـم بـأن طـريـق القـوم دارسـة

وحَـالُ مَنْ يدّعيهـا اليـوم كيف تـرى

وذلك في زمن أبي مدين ، وكان في المائة السادسة ، لأن وفاته كانت سنة 594 هـ ، فأحرى اليوم . فمن ادعاها فالحال يكذّبه ، فإنّ أحوال السلف رضوان الله تعالى عليهم لايخفى شئ منها على أحد ، فنحن نرى أصحاب من ادعى ذلك أحوالهم كلها مناقضة لأحوال السلف أكلا وشربا ولباسا ، وإقبالا على الدنيا ، ورغبة في الرئاسة ، وتهافتا على أبواب الظلمة ، إلى غير ذلك مما لا يسعهم إنكاره . فلذلك قال أبو مدين : " من يدّعيها " ، وسمّى ذلك دعوى لا غير ، وقال :

حال من يدّعيها يُكذِّبُه في دعواه ، فلو كان عاقلا ما ادّعَى أَمراً وهو يحمل منه شاهداً عليه .

وقد هتك الشيخ الشعراني ستر المدّعين لذلك في رسالته المسماة بــموازين القاصرين ، وقد قال شيخنا أبو العباس التجاني رضي الله عنه :

مثل مَنْ طلب الإستقامة التامة اليوم كمثل مَن طلب سُلّما يصعد به إلى السماء .

والإستقامة التامة هي ثمرة التربية ، لأنها مجاهدة النفوس على سلوك طريق السلف الصالح شبرا بشبر ، وإصبعا بإصبع ، وذلك في هذا الزمان من قبيل المحال العادي ، مثل الصعود إلى السماء بسلم . وقال الشيخ زروق :

قال شيخنا الحضرمي : " إرتفعت التربية بالإصطلاح ، ولم يبق إلا الإفادة بالهمة والحال ". إنتهى . وقال الشيخ زروق أيضا ، ولعله عن شيخه المذكور : " رأيت أبواب الله قد استدارت للغلق ، ولم يبق مفتوحا إلا أبواب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

وقال العلاّمة العارف بالله أبو علي اليوسي رضي الله عنه :

قد نص شيوخ الطريق على انقطاع التربية المصطلح عليها منذ أزمان ، وكرهوا السلوك عليها والتسليك بها .

وقال الشيخ سيدي عبد الوهاب الشعراني في موازين القاصرين ما نصه :

" وسبب ترك العارفين فتح باب المشيخة والتسليك في هذا الزمان شهودهم كثرة البلايا النازلة على الخلق ليلا ونهارا ، وعلمهم بأن الأمر نازل إلى وراء ، وقد اشتد الأمر ، ولا يزيد إلا شدة حتى تكمل الدورة وتقوم القيامة " ثم قال : " إذا علمت هذا علمت أن ترك العارفين فتح هذا الباب في هذا الزمان هو الصواب ، فلا يفتحه الآن إلا من أعمى الله تعالى بصيرته وبصره من هؤلاء المدعين للمراتب والمتنازعين عليها ". أهـ . كلام الشعراني .

وإن أراد المبلِّغ المذكور بالتربية الترقية بالهمة والحال ، وملابسة الزمان على مقتضى مراد الحق سبحانه وتعالى ، فإن شيخنا رضي الله عنه هو سيد المربين ، وقدوة السالكين بالأمرين المذكورين جميعا . أما الترقية بالهمة فقد شاهدنا أقواما من أصحابه من أغمار الناس ، وجفاة العوام ، إما دبّاغ أو حائك أو فلاح ، في البعد الأبعد من الخير ، فما هو إلا أن وقعت عليه نظرته ، ونزل عليه طابعه بأن أتاه صادقا ، وتلقن منه ، وذكر ورده المحمدي أدنى مدة ، فتنقلب أحواله ، وتصفوا مشاربه ، وينشط لعبادة ربه ، ويَعْظُم شوقُه إلى ما عند الله ، وتَقِلّ رغبته في الغرض الفاني ، وربما نطق بالحكمة ، وتفجر بالحقائق ، ويشرق ظاهره بالأنوار التي في باطنه ، وهذا القدر مشاهَد في أصحابه لا ينكره أحد ممن شاهدهم ومارسهم ، وذلك بلا خلوة ولا رياضة ، وقد ضمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من داوم على ورده بل على محبته لله تعالى لا يموت إلا وليا .

وخاصية ورده رضي الله عنه أنه لا يذكره أحد صادقا في طلب الله تعالى إلا ظهرت عليه تلك الأحوال كلها أو جلها على قدر قوة استعداده وضعفه .

وأما الأمر الثاني ، وهو مسايرة الوقت ، فتلك عمدة حاله رضي الله عنه ، يحض على ذلك ويقول :

الفقير ابن وقته ، ولون الماء لون إنائه ، وما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يُظهِر في الوقت غيرَ ما أظهرَه الله تعالى .

ويدلّ على مثل ما قال محي الدين الـحاتمي رضي الله عنه وهو قوله :

إعلم يا بني أن للحق وجوها كثيرة ، فخذ منها ما يوافق زمانك .

ومن ذلك نهيّه أصحابه عن زيارة التعلق والإستمداد لغيره من الأولياء الأحياء والأموات ، وذلك بأمر سيد الوجود صلى الله عليه وسلم له بذلك . قال له صلى الله عليه وسلم : " مُرْ أصحابَك أن لا يزوروا أحدا من الأولياء إلا إذا مروا بأصحابي فليزوروهم " . مع أن هذا ، عند المشائخ المعتبرين ، أمر معروف ، وشرط مشروط ، وإنّما ترَكَهُ مَنْ تَرَكَهُ ، إمّا لعدم معرفته به لكونه أجنبيا من الطريق واغلا فيها ، وإما لكونه متهاونا به وبما ينشأ عنه من المفاسد ، لظهور مصلحة أخرى هي أهم وآكد من ذلك ، والله أعلم . وقد أشار أبو العباس الشركيتي إلى الحكمة في عدم إباحة الزيارة للمريد في رائيته ، والشريشي يروي عن العالم الكبير ، قاضي القضاة ، أبي صالح سيدي نصر بن الشيخ سيدي عبد الرزاق بن الشيخ الكامل سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنهم ، قال الشريشي :

فـإنّ رقـيـب الإلـتـفـات لـغـيـره

يقـول لمحبـوب السـرايـة لا تسـري

والحجة القاطعة في ذلك قول الشيخ والدكم المبرور ، سيدي محمد بن المختار رضي الله عنه في جنة المريد ، ونصه ، بعد ما ذكر وظائف الشيخ :

ثم لا يترك أصحابه يزورون شيخا آخر ، ولا يصلح ذلك بالمريد إذِ المضرة لهم بذلك متحققة الوقوع . قال في الإبريز : " وكنت مع الشيخ ذات يوم في الباب الجديد ، فنظر إليّ وقال : لا يطمع أحد في معرفة الله تعالى وهو لا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يطمع أحد في معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرف شيخه ، ولا يطمع أحد في معرفة شيخه وهو لم يُصَلِّ على الناس صلاة الجنازة . فإذا خرج الناس عن نظره ، وصار لا يبالي بهم في أقواله وأفعاله وشوؤنه كلها ، جاءته الرحمة من حيث لا يحتسب " .

وقد ورد في الخبر :

إجعل عملك كله لوجه واحد يكفيك الوجوه كلها .

ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون . ولعل هذا هو مراد من بلّغكم عن السادات التجانيين أن فيهم هجرانا لأولياء الله تعالى ، كما هو بخطّكم الشريف ، وهو مراده لا محالة ، لأنك لو سألته عن جزئية واحدة من هذا المدّعي لما وجد إلا أن يقول : أنهم لا يزورون أحدا غير شيخهم ، أي لا يتعلّقون إلا به ، ولا يستمِدّون إلا منه ، فهذا هو الذي سماه هجرانا لأولياء الله تعالى . كلا والله العظيم إنهم ليعظّمون أولياء الله تعالى غاية التعظيم ، وذلك من الآداب المشروطة عليهم في طريقهم ، وكأنّ ذلك المبلّغ يرى أن من لم يزر الأولياء – أي لم يستمد منهم ـ فقد هجرهم ، ولم يعظمهم ولم يحترمهم ، وهذه غباوة ظاهرة ، فنسبة ذلك إلى التجانيين رضي الله عنهم من التنقيص للمسلمين بلا منقص وهو خطر ، لا سيما إن جاء من قِبَلِ مَنْ يُستسقَى بهم المطر أمثالكم ، أيّدكم الله . وبالله عليكم ، مَنْ هو غير المعظِّمٍ لأولياء الله تعالى ؟ هل هم السادات التجانيون المَوْصُوفون ، أو هذا المبلغ الذي أعرض عن الإشتغال بنفسه ، ومعالجة عيوبه ، والتزود لمعاده ، واشتغل بالفضول البعيد عنه بمراحل ، ودأبَ على تنقيص أولياء الله المؤمنين ، ونسبته إليهم ما هم برآء منه ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .

ثم أن قولكم ـ أدام الله رفعة أقداركم وإشراق أنواركم ـ فيما كتبتموه : " ولا شك أنه لا أهل طريق إلاّ يعلمون أن الطريقة القادرية أفضل ، ولا أصحاب شيخ إلاّ يعلمون أن الشيخ عبد القادر أفضل " . فاعلم سيدي أنّنا ما فهمنا هذه الكلية ، ولا تصورنا إدخالها تحت القواعد العلمية ، ولا كلام لنا في فضل الشيخ مولانا عبد القادر رضي الله عنه ، ولا في كماله ، ولا في جلالة قدره ، ولا في فخامة شأنه ، ولا في شموخ عنايته ، ولا في عموم هدايته ، وشهرة ولايته ، فإنه إمام الصديقين ، وقدوة المستهدين ، وحجة العارفين . وإنما الكلام فيما اقتضاه قولكم المتقدّم من أفضليته على كل من سواه من الأولياء ، وما خَفِيَ عنكم ـ أيّدكم الله ـ ما وقع من الخلاف في تفضيل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بعضهم على بعض ، ما عدا نبينا سيد الوجود صلى الله عليه وسلم الذي ثبتت سيادته على بني آدم وغيرهم من جميع المخلوقين ، وسائر العالمين . وكذلك ما وقع من الخلاف في تفضيل الصحابة الكرام رضوان الله عنهم بعضهم على بعض ، ما عدا الصدِّيق رضي الله عنه ؟ بالتفضيل كما علمتم توقيفي : ما ورد من الشارع صلى الله عليه وسلم قلنا به وما لا فلا . ومما ورد تفضيل الخلفاء على الترتيب المشهور ، قال الشيخ سيدي عبد الوهاب الشعراني في لطائف المنن ، بعد كلام نفيس :

ولا يلزم من الأفضليةِ الظاهرةِ الأفضليةَ الباطنةَ ، بل الواجب علينا محبة الجميع ، والوقف عند ما أمر الله به .

وقال الشيخ ابن عباد في معنى الأفضلية التي ثبتت بين الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ومن في معناهم ما معناه : "

إنما وقعت الأفضلية بينهم بحكم الله تعالى لا لِعِلّة موجبة وجدت في الفاضل دون المفضول ، فللسيد أن يفضل بعض عبيده على بعض وإن كان كل منهم كاملا في نفسه ، والتمثيل بالسيد أمر تقريبي ، إذ لا يخلو من البواعث والأغراض ، وحضرة مولانا جل وعلا منزهة عن ذلك " ، إلى أن قال : " والتفضيل راجع إلى اختيار سيد الجميع ، وهو الله تعالى ، وبذلك نَسْلَمُ من سوء الأدب مع خواص الله تعالى وأحبائه ، ومعه سبحانه ، وإلاّ فسوء الأدب لازم لزوما ضروريا ، كما تواطأ عليه الجهّال ، ولا أقول أنهم في ذلك بمنزلة من هدم قصرا وبنى مصرا ، أو بنى قصرا وهدم مصرا ، ولكن بمنزلة من هدمهما معا ، إذِ الأفضل لا يجب أن يُفضَّل بما لم يجعلْه الله سببا لأفضليته ، والمفضول لا يجب أن يكون مفضولا بما لم يجعله الله تعالى سببا لمفضوليته ، والله تبارك وتعالى لا يحب أن يفاضَل بين أحبائه بما لم يجعله سببا للمفاضلة بينهم ، فآلَ سوءُ الأدب معهم إلى سوء الأدب مع الله سبحانه وهو عظيم " .

واعتراض الشيخ أحمد باب كلام الشيخ ابن عباد هذا مردود ، وربما قيل أنه من الفضول معدود ، وحاصل ما في المسألة من أصلها أن المزية لا تقتضي الأفضلية والله أعلم . ومن ذلك فرار الشيطان من سيدنا عمر بن الخطاب ، ولم يكن ذلك لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما مع ما ورد أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :« لو حدثتك بفضائل عُمَر طول عُمُرِ الدنيا ما فرغت منها ، وإنما عمر حسنة واحدة من حسنات أبي بكر » . ولهذا قالوا إن الكرامة لا تقتضي التفضيل ، كما قال الجنيد :

مشى رجال باليقين على الماء ، ومات رجال بالعطش وهم أفضل منهم .

ومن أجل هذا كان الأكابر لا يرضون بالكرامة ، وكان شيخ المشائخ مولانا عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه يُدْعي الجبل الراسي لأنه ما رضي بإظهار كرامة ، ولا إخبار بغيب ، فقيل له في ذلك فقال :
يمنعني من ذلك قوله تعالى : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا

، قال في الجيش الكبير :

فاعتبر هذا ، فإنّ كثيرا من الناس إذا سمع فضلا لعمل ، أو كرامة لشخص ، إغترّ بها ، فاعتقد أفضليته .

وإنما قال صاحب الجيش ذلك ردّاً على بعض الجهّال حين سمع قول من قال أن بعض صيغ الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يثاب المصلي بها مرة واحدة ثواب ختمات من القرآن العظيم ، فقال ذلك الجاهل هذا يقضي أن تلك الصيغة من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من القرآن الذي هو كلام الله تعالى ، وهذا منه جهل بما تقدم من النصوص المحرّرة ، والقواعد المقررة . قال العلامة البركة أبو عبد الله سيدي محمد الخرشي في شرحه الصغير للمختصر ، عند قول المصنف : " وفضل حج على غزو إلاّ لخوف وركوب الخ " ، بعدما قرر كلام المصنف ، وأنّ الحجّ راكبا أفضل من الحجّ ماشيا ما نصّه :

ولا يعارض هذا ما رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة وللماشي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة » ، لأن المزية لا تقتضي الأفضلية .

وقال الشيخ محي الدين الحاتمي في الباب 438 من الفتوحات :

فإنْ قلتَ فما الفرق بين الوارث المحمدي والوارث لغيره من الأنبياء ، فالجواب : إن الفرق بينهما ، أن ورثة الأنبياء آياتهم في الآفاق ، من خرق العوائد وغيرها ، والوارث المحمدي آياته في قلبه ، فلذلك كان الوارث المحمدي مجهولا في العموم ، معروفا في الخصوص لا غير ، لأن خرق عادته إنما هو حال وعلم في قلبه ، فهو في كل نفس يزداد علما بربه علم حال وذوق لا يزال كذلك

. فإذا كانت الوراثة المحمدية ، التي هي أعظم الموجبات للتفضيل ، أمرا خفيا محله القلب ، فكيف يقدر أحد أن يفضّل أحدا على أحد من غير إخبار ممن له العلم بما في القلوب ؟ لا محالة أن ذلك خطر محذور ، وبيان المحذور الواقع في ذلك ، أي في التفضيل بلا إذن ، معتبر . إنك إذا فضّلتَ أحدا على أحد فقد نقصت ذلك المفضول ، وهذا وإن كان يؤمن توهمه من الخاصة الأقوياء ، فإنه لا يؤمن من العامة الضعفاء ، كما نبّهَ عليه قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تفضّلوني على يونس بن متى » ، قال القاضي عياض في الشفاء :

إنما نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك سدّاً للذريعة لئلاّ يتوهّم أحدٌ في جانب يونس عليه السلام المنزه ما لا يليق .

وذكَرَ مثلَ ذلك الحافظ بن حجر في شرح هذا الحديث ، وكذا ذكره الجلال السيوطي في الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج ، وقال العلاّمة المقري في محاضراته ، قال يونس بن حبيب :

أقبح الهجاء بالتفضيل

يعني كقول الشاعر :

وشتـان ما بيـن اليـزيديـن في النـدا

يـزيـد سلـيـم والأغـر بـن حـاتـم

وتمام كلام المقري

ولا دليل على وجوب التفضيل ، ولا على كون شئ من حقيقة الإيمان يؤمن فيه الخطر ولو من بعض الوجوه ، فَسَدُّ هذا الباب واجب

. وقد نقل العلامة الشيخ أحمد بابا في رسالته المسماة بـنيل الأجر والسول لخدمة آل بيت الرسول ، عن الإمام المتفق على جلالته عز الدين بن عبد السلام في قواعده الكبرى في هذا المعنى ، مقالة هائلة تركْنَا نَقْلَهَا هنا ، لأنها لا تليق مواجهة جلالتكم بها ، والحجة القاطعة في ذلك هي قول جدكم الشيخ الأكبر سيدي المختار رضي الله عنه في الكوكب الوقاد ، ونصه :

ولا ينبغي لأحد أن يحكم بتفضيل شخص على شخص ، ولا نوع على نوع إلا بتوقيف ممن له التفضيل ، أو بدليل يستدل به من كتاب الله تعالى ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع أمّتِهِ .

وأما اعتقاد أفضلية الطريقة القادرية ـ أيّد الله برهانها ، وكثّر في الأمة أهلها ـ فإنما يجب اعتقاد ذلك على أهلها الذين كتبهم الله في قسمتها ، وإلاّ ، لو كان كل الناس يعتقدون أفضليتها ، ما عدَلَ أحد عنها ، إذِ العقلاء مجبولون على أخذ الأفضل وترك المفضول ، وأما مَنْ ليس من قسمتها ، فإنّ كل واحد يجب عليه اعتقاد أن طريقته أفضل من غيرها ، وشيخه أكمل من غيره ، وإلا لم يحصل على طائل ولا نفع . قال في الإبريز ، بعد ما أنشد قول الشريشي المتقدم وهو " ولا تقدمن قبل اعتقادك الخ " ما نصه :

قال الشيخ : " أي ولا تقدمن على شيخ من المشائخ بقصد الدخول في صحبته حتى تعتقد أنه من أهل التربية ، وأنه لا أحق منه بها في زمانه ، وإنما وجب عليه ذلك لأن الشيخ الذي يرى مِنْ مريده الإلتفات إلى غيره يقطع عنه المادة ، والمريد الذي يدخل في صحبة شيخ ، وهو يرى في الوجود شيخا مثل شيخه أو أكمل ، يبقى متشوفا إلى ذلك الأكمل ، فيراه شيخه متشوفا إليه ، فيطع عنه المادة ، فلا يكون بالأول ولا بالثاني " ، قال الشيخ : " وقد رأينا هذا في زماننا كثيرا ، والله يكون لنا وليا ونصيرا .

وقد قالوا :

إن الأرزاق المعنوية مثل الأرزاق الحسية السلطانية في الشاهد ، فإن الشأن في هذه أنّ أرزاق الأجناد تخرج من حضرة السلطان وتدفع للقهرمان الأعظم ، فيفرقها على عدد الأمراء التي للأجناد ، يأخذ كل بحسب ما في ديوانه ، هذا في زمامه فلان وفلان وفلان إلى آخر ما هو من جماعته ، وهذا كذلك وهذا كذلك . فإذا ذهب أحد من أصحاب الأمير زيد إلى الأمير خالد مثلا ، فقال له ادفع لي رزقي المرتب لي من حضرة السلطان ، فإنه ينظر في ديوانه فلا يجده فيه ، فيقول له ليس لك رزق عندي ، فإذا رجع إلى أميره زيد فإنه يغضب عليه ، ولا يقبله في الغالب إلا أن تدركه عناية ، أو عطفة رحمة . قالوا : ومثل ذلك الحضرة العليّة المقدسة ، فإن الأمدادات الإلهية كلها تبرز منها على يد سيد الوجود صلى الله عليه وسلم ، ثم يفرقها على عدد حضرات المشائخ ، وكل شيخ يأخذ بحسب ما في ديوانه من الأتباع ، وهذا هو الحكمة في أن كل طائفة لا ترى أحسن من طريقها ، ولا أكمل من شيخها ، لئلاّ تبطل تلك الحكمة ، وتختل القسمة .

وقولهم : ثم يفرقها على حضرات المشائخ الخ ... ، مجرد تقريب وتمثيل ، وإلا فإن استمداد جميع العوالم العينية والغيبية من بحره صلى الله عليه وسلم ، له تفاصيل عجيبة تدهش العقول ، فإن القطب له ستة عشرة عالما إحاطيا ، الدنيا والآخرة عالم واحد منها ، والقطب يمدها جميعها ، ويمد ما فيها من الذوات ، يعطي كل ذرة حقها ، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يمده بهذا المدد التام ، ويقوّيه على حمل أعباء هذا المقام ، ومَنْ أراد الإطّلاع على ذلك فلينظر كتاب الحجب للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي رضي الله عنه ، وقد تقدم هذا إجمالا على وجه آخر ، وأيضا لذلك موجب آخر يرجع إلى الأول ، وهو ما أشار إليه الشيخ زروق رضي الله عنه ، بعدما ذكر أن اتباع الأحسن أبدا محبوب طبعا ، مطلوب شرعا ، وإنّ التصوف مبني على اتّباع الأحسن ، واستدلّ بقوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، قال :

" والإستحسان يختلف باختلاف نظر المستحسن " . ثم قال : " وتعدد وجوه الحسن يقتضي بتعدد الإستحسان ، فمِنْ ثَمّ كان لكل فريق طريق الخ كلامه " . وقال في محل آخر : " وفي اختلاف المسالك راحة للسالك ، وإعانة له على ما أراد من بلوغ الإرب ، فلذلك اختلفت طرق القوم ، ووجوه سلوكهم ، فمِنْ ناسكٍ يؤثرُ الفضائلَ على كل حال ، ومِنْ عابد يتمسك بصحيح الأعمال ، ومِنْ زاهد يفِرّ مِن الخلائق ، ومِنْ ورِعٍ يحقق المقام بالإحتياط ، ومِنْ متمسك يتعلق بالقوم في كل مناط ، ومِنْ مريد يقوم بمعاملة البساط ، والكل في دائرة الحق بإقامة حق الشريعة ، والفرار من كل ذميمة وشنيعة " انتهى كلام الشيخ زروق .
وانظر إلى ما نقله الشيخ سيدي عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه في كتاب اليواقيت والجواهر ، في المبحث الخامس ، في كرمات الأولياء ، ونصه :

فإن قلتَ : فهل القتل بالهمة ، والعزل والولاية ، الذي يقع من بعض الأولياء ، كمال فيهم أو نقص ؟ فالجواب : هو نقص بالنسبة لما فوقه من المقامات ، وقد أُعطِيَ الشيخ أبو السعود بن الشبلي التصرف في الوجود فتركه وقال : " نحن قوم تركنا الحق يتصرف لنا " ، فكان أكمل من الشيخ عبد القادر الجيلاني مع أنه تلميذه ، هكذا ذكره الشيخ في الباب 192 من الفتوحات . وأيضا فإن العارف الكامل لا يجد في الكون شيئا حقيرا يرسل تصريفه عليه ، وينفذ همته فيه . ومِنْ شرط نفوذ الهمة أن يكون على حقير فيرى صاحب الحال نفسه كبيرا ، وغيره حقيرا فيجمع حقارته في قلبه ثم يتوجه إليه فيؤثر فيه . قال : وسمعت شيخنا سيدي عليّا الخواص رضي الله عنه يقول : " الكامل من الأولياء هو من مات على التصريف والتدبير اكتفاء بفعل الله تعالى له ".

ومثل هذا ما ذكره الشيخ العلامة العارف بالله تعالى ، المنلا إبراهيم بن حسن الكردي الكوراني الشهرزوري ، ساكن المدينة الشريفة صلى الله وسلم على مشرفها في رسالته المسماة بالمسلك الجلي في شطح الولي ، فإنه نقل عن الشيخ الأكبر الحاتمي رضي الله عنه من الفتوحات في الباب 198 ، لمّا تكلّم على قوله صلى الله عليه وسلم : « أنا سيد ولد آدم ولا فخر » ، وأتى في ذلك بكلام عجيب ، وكذا على قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام إني عبد الله آتاني الكتاب الآيات ، ، قال في آخر ذلك :

فهذه كلها لو لم تكن عن أمر الهي بالوحي لكانت مِنْ قائلِها شطحا . فإنها كلمات تدلّ على الرّتبة عند الله تعالى على طريق الفخر بذلك على الأمثال والأشكال ، وحاشا أهل الله تعالى أن يتميزوا عن الأمثال أو يفتخروا ، ولهذا كان الشطح رعونة نفس ، فإنه لا يصدر عن محقق أصلا ، فإن المحقق ما له مشهود سوى ربه ، وعلى ربه ما يفتخر وما يَدّعي ، بل هو ملازم عبوديته ، مهيأ لما يرِدُ عليه مِنْ أوامره ، فيسارع إليها ، وينظر جميع من في الكون بهذه المثابة . فإذا شطح فقد انحجب عمّا خلق له ، وجهل نفسه وربه ولو انفعل عنه جميع ما يدعيه من القوة ، فيحي ويميت ، ويوَّلي ويعزل ، وما هو عند الله بمكان ، بل حكمه حكم الدواء المسهل أو القابض ، يفعل بخاصية الحال لا بالمكانة عند الله تعالى ، كما يفعل الساحر بخاصية الصنعة . ثم قال الشيخ محي الدين : هذا إذا كان بحق مذموم ، فكيف لو صدر من كاذب ؟ . فإن قلت : وكيف صورة الكذب مع وجود الفعل والأثر منه ؟ قلنا : نِعْمَ ما سألتَ عنه ، أما صورة الكذب فإن أهل الله تعالى لا يؤثّرون إلا بالحال الصادق ، وذلك المسمى شطحا عندهم ، حيث لم يقترن بأمر إلهي كما تحقق عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . فمن الناس من يكون عالما بخواص الأسماء ، فيظهر بها الآثار العجيبة ، والإنفعالات الصحيحة ، ولا يقول أنّ ذلك عن أسماء عنده ، وإنما يظهر ذلك عند الحاضرين أنه من قوة الحال ، والمكانة عند الله تعالى ، والولاية الصادقة ، وهو كاذب في هذا كله ، وهذا لا يسمى شطحا ، ولا صاحبه شاطحا ، بل هو كذب محض ، صاحبه ممقوت . فالشطح كلمة صادقة ، صادرة عن رعونة نفس عليها بقية طبع ، تشهد لصحابها ببعده عن الله تعالى في تلك الحال " . اهـ كلام ابن عربي بنقل الملا إبراهيم المذكور .

فإن قيل : إنّ الدّل على أفضلية الشيخ مولانا عبد القادر على جميع الأولياء هو قوله قدمي على رقبة كل ولي لله تعالى ، فالجواب : إن هذه المقالة ، وإن تلقّاها جميع الناس بالإذعان والقبول ، فقد حملها الناس على أنّ المراد أولياء زمانه لا غير ، ويأتي فيها ما تقدم من كونها مزية بدليل قضية أبي السعود المتقدمة ، أوعامة في أهل زمانه . وأبو السعود نادر لا حكم له ، والحكم للغالب ، ولم نر أحدا حملها على ما يعُمّ زمانه وغيره ، وعلى فرض وجوده ، فقد تقدمت القواعد المقررة المفروغ منها آنفا ، وانظر لو حملت المقالة الجيلالية على العموم لناقضها ما نقله صاحب ممتع الأسماع وغيره عن الإمام الأعظم ، شيخ المشائخ سيدي أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي رضي الله عنه وهو قوله :

قيل لي يا عبدي فضلتك على خلقي بكثرة صلاتك على نبيّي .

ومِمّن صرّح بأن المقالة خاصة بأهل زمانه برزخ الشريعة والحقيقة ، شيخ المربين ، وقدوة العلماء والعارفين ، أبو العباس سيدي أحمد زروق رضي الله عنه ، فإنه قال في التوطئة لبيان فضل الشيخ عبد القادر ما نصه :

إثبات الحكم بالذاتيات ليس كإثباته بعوارض الصفات ، فقوله صلى الله عليه وسلم :« سلمان منّا أهل البيت » لأنه متصف بجميع جوامع النسب الدينية ، حتى لو كان الدين منوطا بالثريا لأدركه . وقد قيل في قوله صلى الله عليه وسلم : [ الأقربون أولى بالمعروف ] أنه يعني إلى الله تعالى ، إذ لا يتوارث أهل مِلّتين ، فالمعتبر أصل النسب الديني . ثم إذا انضاف إليه الطيني كان له مؤكِّدا ، فلا تلحق رتبة صاحبه بحال . وقد أُجِيبَ عن قول الشيخ أبي محمد عبد القادر الجيلاني : " قدمي على رقبة كل ولي لله تعالى " ، أنه في زمانه . ثم بين جزئيتين من كثرة عبادته وعلمه ، يعنى مع نسبه الشريف ، ففاق باجتماع هذه الثلاثة فيه جميع أهل زمانه ، فاستحق المقالة المذكورة عليهم .

فإذا حكّمنا هذا الضابط وأخذنا بمقتضاه ، وهو أن كل من اجمعت له هذه الخصال الثلاث استحق الأفضلية الظاهرة المسلّمة على غيره ممن ليس كذلك ، فإن الشيخ الجزولي رضي الله عنه ، لأجل هذه الخصال الثلاث ، نال مثل المرتبة التي نالها مولانا عبد القادر رضي الله عنه ، بل توَلّى الله تبارك وتعالى أن يقول ذلك عنه حيث أخبره به ، وإن كان لا فرق في الحقيقة ، لأن مقالة الشيخ عبد القادر إنما تكون عن إذن من الله سبحانه .وكذلك شيخنا أبو العباس التجاني رضي الله عنه ، فإنه قد اجتمعت له هذه الخصال المذكورة فلا شك ، وزاد خصلة رابعة ، وهي كونه في آخر الآخرين من الزمان ، فلذلك صدر منه مثل المقالة الجيلانية ، بل أزْيد منها . وإنما وقعت الزيادة ـ والله أعلم ـ للخصلة الرابعة ، ولمكان الختم المتقدم ذكره ، وقد أخبره صلى الله عليه وسلم مِن عُلُوّ شأنه على غيره مِنَ الأولياء في الدنيا والأخرى بما يبهر العقول لو ذكرناه . وإنما نذكر الآن شيئا واحدا اقتضاه المقام ، وهو أن جميع الطرق تضمحل ، ولا يبقى إلا طريقه ، وذلك واقع ما له من دافع بحول الله وقوته ، وعناية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك لِسِرِّ الختم الذي تقدم الكلام عليه . ثم نقول كما قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن يعقوب الفيروزابادي رحمه الله تعالى في شيخه محي الدين الحاتمي رضي الله عنه :
واللـه واللـه واللـه العـظـيـم ومـن

إن الذي قـلـت بعـض من منـاقـبـه

ومـا علـيّ إذا ما قلــت معـتـقـدي

أقـامـه حـجـة للـديـن بـرهـانـا

مـا زدت إلاّ لعَـلِّـي زدت نقـصـانا

دع الجـهـول يظـن الحـق بهـتـانـا

وهذا لا تسعه حوصلة من حجّر فضل الله تعالى ، وأراد وقفه على ما عرفه واعتاده وقال حجرا محجورا ، بل يتخذ من وصف مولانا جل وعلا بالإطلاق والإختيار عدوا مهجورا ، نسأل الله السلامة والعافية .
وأراهـم لم يجعلـوا الـواحـد القـهـا

ر فـي الخـلـق فـاعـلا ما يـشـاء

أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب
، ويرحم الله القائل

لـكـن نـور الحـق جـل فـلا يـرى

إلا بتخصـيـص مـن اللـه الصـمـد

وما أرى مَنْ حجر فضل الله تعالى ، وأراد إجراء قضاء الله وقدَره على وِفْق مراده وهواه ، إلاّ كما حكى صاحب الذهب الإبريز في مثل هذا ، ونصّه :

ووقعت لي مناظرة أخرى مع بعض الفقراء المنتسبين إلى خدمة الصالحين رضي الله عنهم ، وذلك أني كنت أنا وهو نختلف إلى بعض الأولياء كثيرا ، فلما مات ذلك الولي جعلت أختلف إلى ولي آخر ، وبقي هو في زاوية الأول ، فلقيني ذات يوم فقال لي : أردت نصيحتك يا فلان ، فقلت له : حُبّاً وكرامةً ، وعلى الرأس والعين ، وقد فهمت مراده ، فقال : إنك كنت أولا مع سيدي فلان ، وكانت ولايته لا يشك فيها أحد ، ولا يختلف فيها اثنان ، وقد ذهبتَ اليوم إلى غيره ، فأنت بمثابة من ترك الجواهر واليواقيت واستبدلها بالأحجار ، فقلت له : أنت تتكلم عن بصيرة أو عن غير بصيرة ؟ فإنْ كان كلامك عن بصيرة فاذكرها لنا حتى نذكر لك ما عندنا ، وإنْ كان كلامك عن غير بصيرة فاذكر دليله ، فقال لي : ظاهر مثل الشمس ، فقلت له : فإن قال لك قائل إنّ كلامك هذا يبعدك من الله ويقربك من الشيطان فَبِمَ تجيبه ؟ فسكت ولم يدر ما يقول ، فقلت له : إني فكّرت في دليلك ، وجُلْتُ بخاطري في برهانك ، فلم أجد لك دليلا إلا أمرا واحدا ، فقال : وما هو ؟ فقلت له : إنك تزعم أنك شريك لله تعالى في ملكه ، بحيث لا يعطي شيئا ، ولا يفتح على أحد ، إلا بإذنك . والله تعالى في زعمك لا يعطي إلا بإذنك ، فمِنْ هذا الطريق تهيأ لك الإنكار على عباد الله الصالحين . ولو كنتَ تعتقد أنّ الله تعالى لا شريك له في ملكه ، ولا منازع له في عطائه ، لسلّمتَ لعباد الله تعالى ما أعطاهم ربُّهم عزّ وجلّ من الخيرات ، فقال الفقير : أنا تائب إلى الله تعالى ، والله ما نحن إلا فضوليون وما كنا ننكر إلا بالباطل ، والله الموفق .





تابع

محب التيجانية
04-04-2016, 08:39 PM
تتمة

وقولكم أيدكم الله : " فإنّ التجاني لا علم لك به إذ لم تَلقَهُ ، ولم تَلْقَ عنه ذا عِلْمٍ تثق به إلخ " فإنّ ظاهره صريح أو كالصريح في أن مَنْ لم يَلْقَ أحدا مِنَ المشائخ لا يمكنه اتباعه ، ولا الإنتفاع به ، ولا الدخول في حزبه . وأنه إن فعل ذلك مخاطر بنفسه فقط ، أو بنفسه وغيره إن استتبع أحدا . وهذا يقتضي بفحواه أنّ من لم يلقَكُم ـ حفظ الله وجودكم ـ لا نسبة بينه وبينكم ، بل من لم يلق الشيخ عبد القادر مثلا لا نسبة بينه وبينه كذلك ، ولم نعلم أحدا قال ذلك . وقد علمت سيدي أن اللقاء لم يشترطه أحد حتى من أهل الصحيح ما عدا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رضي الله عنه ، شرَط ذلك زيادة في التأكيد ، وقد رأيتَ سيدي ما أقامه عليه تلميذه الإمام مسلم بن الحجاج في أول صحيحه من الأدلة الظاهرة البالغة ، والحجج الواضحة الدامغة ، حتى أبطل ذلك الشرط وهدمه من أول أساسه . هذا في رواية الحديث الكريم . وأما في تلقين الأوراد ، إذا ثبت الإذن فيها على الوجه المعلوم ، فلم نعلم أحدا اشترط اللقاء فيها ، بل ولا المعاصرة ، وذلك لأن صوَر المعتقدات إذا برزت لا تحتاج إلى صوَر الأشخاص ، بخلاف صور الأشخاص فإنها تحتاج إلى صور المعتقدات ، هكذا علّلَ هذه المسألة الشيخ الشعراني ناقلا عن الشيخ أبي الحجاج الأقصري . قال الشعراني :

وفي هذا أعظم دليل ، وأوضح حجة ، لأصحاب الخرقة الأحمدية الرفاعية ، والبرهانية ، والقادرية ، ولا عبرة لمن خالفهم في ذلك وقال إن هؤلاء أموات لا ينطقون ، لأن المقتدى به إنما هو أقوالهم وأفعالهم المنقولة إلينا ، الثابتة عندنا لا أشخاصهم . أنظر ترجمة أبي الحجاج المذكور من الطبقات الشعرانية .

هذا مع أننا والحمد لله مولانا قد لقينا شيخنا لقاء التبرك ، ورأيناه وزرناه ودعا لنا بالخير ، وسمعنا منه ما نفتخر به ونتشرف به في الدنيا والآخرة . وأما الأخذ عنه إذ ذاك فلم نكن بصدده لأن ذلك في حالة الحداثة ، وحين السعي في تحصيل ما قسم من علوم الرسوم ، والأحكام الشرعية . وكنا نظن إذ ذاك أنه ليس الشيخ إلا الذين نأخذ عنهم تلك الرسوم . إلا أنّ الله تبارك وتعالى بفضله ورحمته ألاح لنا في تلك الحالة إشراقة تهدي إلى محبته ومحبة أوليائه ، فكنت أسمع بعض أشياخي الصالحين الذين أقرأ عليهم يقول المرة بعد المرة ، إذا عنت عويصة من أقوال المفسرين أو المحدثين ، قال الشيخ العارف بالله تعالى سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه ، ويبالغ في تعظيم ذكره ، فسألت الناس مَنْ هذا الذي يعظمه الشيخ هذا التعظيم كلما ذكره ؟ فقيل لي : وليّ كبير الشأن ، متبحر في جميع العلوم ، لايُسْأل عن شئ من العلوم إلا أجاب بصريح الحق والصواب ، بلا رَوِيّة ولا مراجعة كتاب ، فيكتب السائل جوابه من إملائه وحفظه كأنه يسرده من أصل صحيح . فكنت أتعجب من ذلك ، وعلمت أن لله تعالى أولياء ، فزرع الله في قلبي محبة الصالحين ، فلم أزل أسأل عنهم وعن أحوالهم ، وخصوصا شيخنا رضي الله عنه ، فأبحث عن أصحابه وأتلقى منهم أخباره وأحواله الشريفة ، فتَرْبُو محبة الله تعالى في قلبي ، ويزداد شوقي وغرامي . فلم يلبث الشيخ رضي الله عنه أن توفي إلى رضوان الله الأكبر وكرامته الباقية ، وكنت مِمّنْ حضر جنازته والصلاة عليه والحمد لله . فلما أخذت طريقته المباركة عن وارثي أنواره .

أتانـي هـواهـا قبل معـرفـة الهـوى

فصـادف قلـبـا خـاليـا فتـمـكّـنا

واعلم أيها السيد المبارك الكريم أن حامل الكتاب ، الفقيه البركة السيد عبد الله الفاعم حفظه الله ورعاه ، وأحمدَ في جميع الحالات مسعانا ومسعاه ، لما بلغ هذه الحضرة ، ولقِيَنَا بَشّرَنا بأنه صحِبَ معه كتابا من حضرتكم العالية بالله إلينا ، ولم يدفعه لنا ، وذهب إلى فاس وأقام بها شهورا عديدة ، وذكر أنه وجّهَ لنا كتابكم من فاس مع من أفشاه وأذاع أمره ، وحمله على غير وجهه ، فسمعنا ذلك من الأجانب فصَدّقْنا ولم نقطع ، وكذّبْنَا ولم نَنْفِ . فلما رجع من فاس دفع لنا الكتاب بعدما كُتِبَ بأيدي الناس ، ووصل إلى حضرة السلطان نصره الله تعالى ، وأعلى كلمته ولولا ذلك لكان الجواب على غير هذا الوجه . وقد أبْرَزْتم ذلك الكتاب في صورة النصيحة ، وقد علمتم أن الواجب في النصيحة أن تكون مكتومة ، وإلا كانت فضيحة كما قال الشيخ الإمام زروق ، ونصه :

تعريف العيوب مع الستر نصيحة ، ومع الإشاعة والهتك فضيحة . فمن عرّفك بعيوبك من حيث لا يشعر الغير فهو الناصح ، ومن عرّفك من حيث شعور الغير فهو الفاضح ، وليس لمسلم أن يفضح مسلما إلا في موجب حكم بقدره ، من غير تتبع لما لا تعلّق له بالحكم ، ولا ذِكْر عيب أجنبي عنه ، وإلا انقلب عليه الحكم بقهر القدرة إلإلهية ، وبحسب الحكمة الربانية والوعد الصادق . اهـ المراد منه .

وقد كتب يحي بن يزيد إلى الإمام مالك رضي الله عنه ما نصه :

بلَغَني أنك تلبس الرقيق ، وتأكل الرقاق ، وتجلس على الوطيء ، وتجعل على بابك حاجبا ، وقد جلست مجلس العلم ، واتخذك الناس إماما ، ورضوا بقولك ، فاتّقِ الله يا مالك وعليك بالتواضع . كتبته لك بالنصيحة كتابا ما اطّلع عليه أحد ألا الله تعالى .

فإذا علمتم هذا فاعلموا أيضا أن بعض الناس ، مِمّنْ يزعم أنه من أصحابكم ، والله يعلم حقيقة نسبتهم إليكم ، قد تعلقوا بهذا الكتاب المحدث عنه ابتغاء الفتنة ، ظانّين أن مثل ذلك يضع مَنْ رفَعَه الله ، أو يُهِينُ مَنْ أعزه الله سبحانه .

كنـاطـح صخـرة يوما ليـوهـنـهـا

فلم يضـرهـا وأوْهـى قرنـه الـوعـل

وربما نسبوا لكم ما لم تقصدوه ، وألزموكم ما لم يلزمكم مِنْ محتمل الألفاظ ، وحاولوا بذلك إيقاد نار الفتنة بين طائفتين عظيمتين من المسلمين ، وأنتم أعزكم الله إنما أوقفكم الله في بابه الكريم لإطفاء نار الفتن لا لإيقادها ، وليس مثل جلالكم ينمى إلى إيقاظها من رقادها . وأما أصحابنا أيدهم الله ، فإن شأنهم الإخلاد إلى الضعف ، والتحمّل للأذى من إخوانهم المؤمنين ، لا سيما من هو منتسب إلى باب من أبواب الله تعالى ، ولكن جنس الإنسان من حيث الجبلة الأصلية على قسمين ، قسم غلبت عليهم الحِدّة وعدم الثبات ، وقسم غلبت عليه الرزانة والتوقّف في الأمور .

فأما القسم الأول إذا ظُلِمَ وبُغِىَ عليه فإنه يحتج بقوله تعالى : الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ويقول :

وكنـت إذا قـوم رمـونـي رميتـهـم

فهـل أنا في ذا يـا آل همـدان ظـالـم

فإذا عوتب ونُهى عن المُجاراة في هذا المضمار ، لجّ وأماط عن وجهه الخمار ، وقال مَن استُغْضِبَ ولم يغضب فهو حمار وأنشد :

لا تطمعـوا إن تهينـونـا ونكـرمـكـم

وأن نـكـفّ الأذى عنـكـم وتـوذونـا

وأما القسم الثاني فإنه لا يزال يتغافل ويتصامم ويغض الطرف ويصرف نفسه عن مقابلة الشر بالشر كلما أمكنه الصرف ، فإذا غُلِبَ ، وانفلت مِنْ يده الصبر وسُلِبَ ، عَصِلَ وحشد ، وقام فأنشد ، قول من كان دأبه اتباع الرشد .

لم أكن من جُنَاتِها علم اللـ

ـه وإني بِحَرِّها اليوم صالي

ومَن نهاه قال له إليك عني ، قربا مربط النعامة مني ، فلو لم تنبه القطا ما سرت ، ولا كانت قبل الإصباح انتشرت ، وهنا قِسْمٌ ثالث لا يفزع إلا إلى التفويض والتسليم ، والشكاية إلى الحكيم العليم ، ولا يزيد على ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم :

إن الأُلى قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

وهذا القسم أضر وأنكى على الخائف من سطوة الملك الجبار ، الحكم العدل الغالب القهار سبحانه .

اللهم اشهد فإنك خير الشاهدين ، واحكم بيننا بالحق فإنك خير الحاكمين ، وسلام على الأنبياء والمرسلين والحمد لله رب العالمين . إلى هنا انتهى القصد في جوابكم ، أبقاكم الله ومصدر الرحمة والسعادة من أبوابكم ، وقد تركنا التعرض لكثير من كلامكم لأمور تجب مراعاتها ، ولأن الكلام عليها يستدعي طولا ، ومرادنا التنبيه على ما لا بدّ منه لاغير ، فإن شئتم كان اقتصارا من المدى ، وكل مريد الحق والله أعلم ، وإن شئتم كان استباقا ، وقلتم وقلنا ، فإن القول للقول سلم . وعذرا أيها السيد القدوة الهمام ، والغوث المتبع الإمام ، فمثل علاكم من عذر من اعتذر ، وسارع إلى مغفرة من الله وابتدر ، وقد قدمنا بيان الباعث على الجواب والداعي إليه ، مع الإقرار بسوء الأدب المتوقع لديه ، وقد قيل المُقِرّ بالذنب ما أذنب ، كالمغتسل إثر ما أجنب ، ومن أعظم مواهب الله ونعمه علينا أننا وجدنا في قولكم فيما بلغنا متسعا ، فجعلنا ذلك المبلغ مَعادا لضمير الخطاب ومرجعا ، على أن ما جلبناه من الثقات من الأنقال هي المباشرة للخطاب في تحقيق المقال ، فكنتم على حال مبرّئين ، وكنا بحمد الله غير مجترئين ، وها أنا أقف عجزا وإعياء ، وأنشد استحياء :

يا كتابي بالله قبِّلْ يديه

بدلا من فمي ففيه احتشام

حمدا لمن تفضل على من شاء من عباده ، بما قدره له في أزله مِن وافر إمداده ، وخص كُلاًّ بما أراد ، رغما على من ركب متن العناد ، فالكل بتقديره ، وأنّى لِغَيْرِهِ الخوض في تيار بحار إسعاده وتدميره ، سبحانه مِنْ إله أمَرَ خلقه بارتكاب الإنصاف ، وحذرهم من الإعتساف ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ينبوع الكمالات ، وعلى آله وصحبه بُدُور الهالات ، وعلى أولياء الله تعالى في جميع الجهات وكل الأوقات . أمّا بعد : فقد نجز بِعَون الله طبع الرسالة الموسومة بالجواب المسكت في ردّ ما نسب للطريقة التجانية الشهيرة من الأمور التي ليس لها أصل ، مع بيان أن هاته الطريقة أدلتها أقوى أدلّة ، وأنها جمعت الخير كله ، فرحم الله مؤلفها ما أبرعه ، وبقول الحق ما أصدعه . وكان تمام طبعها بالمطبعة التونسية الرسمية يوم السبت الثامن عشر (18) من شهر جمادى الثانية سنة 1307 هـ .

منة الله
08-04-2016, 12:37 PM
شكرا وبارك الله فيكم على الطرح الطيب

عثمان
09-04-2016, 01:22 PM
شكرا على المواضيع القيمة والافادة المهمة وجزاكم الله كل خير

اليمنى
10-04-2016, 03:29 PM
بارك الله فيكم على الطرح الطيب العطر وجزاكم الله كل خير

جنة
11-04-2016, 09:12 PM
بارك الله فيكم على الطرح الطيب ونرجو المزيد

سيد مختار
13-04-2016, 04:24 PM
بارك الله فيكم على الطرح الطيب وجزاكم الله كل خير

فتحى المعلم
14-04-2016, 02:18 PM
جزاكم الله كل خير على الطرح الطيب ونرجو المزيد عن السادة التيجانية واسرارهم القيمة

nona
16-04-2016, 03:50 PM
شكرا على الطرح الطيب العطر وجزاكم الله كل خير

كارم المحمدى
01-05-2016, 12:24 PM
شكرا على الطرح الطيب ورضى الله عن اولياء الله الصالحين فى كل وقت وحين

رؤى
05-05-2016, 10:10 PM
شكرا وبارك الله فيكم على الطرح الطيب

ادهم
06-06-2016, 05:30 PM
شكرا على الطرح الطيب بارك الله فيكم

اشرف زهران
09-06-2016, 07:37 PM
بارك الله فيكم على الطرح الطيب والسيرة العطرة جزاكم الله كل خير

نذار الشامى
15-06-2016, 05:42 PM
شكرا على الطرح الطيب والسيرة العطرة جزاكم الله كل خير

محمد مشعل
13-07-2016, 02:11 AM
شكرا على الطرح الطيب بارك الله فيكم

وعد المحبة
18-08-2016, 09:12 AM
شكرا على الطرح الطيب وجزاكم الله كل خير

رفيدة حسين
04-09-2016, 08:28 PM
شكرا وجزاكم الله كل خير

بلال
09-09-2016, 12:33 AM
شكرا على الطرح الطيب وجزاكم الله كل خير

عايدة البكرى
18-09-2016, 06:22 PM
شكرا على الطرح الطيب جزاكم الله كل خير

عثمان
05-10-2016, 06:31 PM
بارك الله فيك اخي

ابو حاتم
09-10-2016, 03:50 PM
شكرا على الالطرح الطيب وجزاكم الله خير