شكرى
07-04-2016, 04:13 AM
حقيقة الاتصال بالعالم الغيبي وصوره:
بعد ان تبين لنا في النقطة السابقة وجود العالم الغيبي وبعض حقائقه الأولية فإنه يهمنا في هذه النقطة الحديث بصورة إجمالية أيضاً عن حقيقة الاتصال بالعالم الغيبي وموجوداته وصور هذا الاتصال وأشكاله. والحديث عن هذا الأمر حديث له أهمية خاصة لأننا نشعر أن الكثير من الناس يحملون تصورات مشوهة ومغلوطة عن كيفية الاتصال بالعالم الغيبي وقبل ذلك عن حقيقة الارتباط بهذا العالم وإمكانية ذلك وعدمه.
وقبل بيان صور وأشكال اتصال الإنسان بالعالم الغيبي وموجوداته نريد أن نقدم المقدمة التالية وهي: أن كل إنسان موحد يؤمن بالله ورسالاته لابد وأن يعتقد بإمكانية ارتباط الإنسان بالغيب ولو في حالات مخصوصة وعند أفراد مخصوصة من الناس، وعلى هذا الأساس يؤمن هذا الإنسان بدعوات الأنبياء والرسل (ع) لأنها لا تتأتى للأنبياء والرسل (ع) إلا من خلال ارتباطهم بالله سبحانه وتعالى ونزول الوحي عليهم بواسطة الملائكة أو القذف في القلب أو بأي واسطة أخرى، ومن خلال هؤلاء الرسل والأنبياء (ع) يوصل الله عز شأنه أوامره ونواهيه إلى عامة الناس، وليس من الممكن ولا بمقدور أي إنسان ان يكلمه الله بصورة مباشرة ويوحي إليه ما يشاء، لأن الارتباط بالله وتبليغ أحكامه إلى الناس مهمة ثقيلة لا يتوفر على شرائطها إلا القليل من الناس، ولذلك فإن الله سبحانه يقول: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم). (الشورى: 51)
والاتصال بالله سبحانه وتعالى وبعالم الغيب عن طريق النبوة والرسالة هو الطريق الوحيد الذي يطمئن الإنسان من خلاله إلى صحة وواقعية ما يصل إليه من عالم الغيب وما وراء المادة، وذلك لأن الحفظ والصيانة من الخطأ والاشتباه أمران مضمونان في هذا النوع من الارتباط بالعالم الغيبي، وهذا ما نلمحه من خلال تأكيد القرآن الكريم على مقتضيات العصمة والحفظ في مبدء ومنتهى وواسطة هذا الارتباط الغيبي بين الله تعالى وأنبيائه ورسله (ع). فالوحي ينزل من الله جل جلاله والله لا يقول إلا الحق ولا يهدي إلا إلى الصراط المستقيم (قل الله يهدي للحق) (يونس: 35)، (ذلك بأن الله هو الحق) (الحج: 6)، (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل). (الأحزاب: 4)
وواسطة هذا الاتصال هو الملك الذين ينزل على الرسل والأنبياء (ع) بالوحي من السماء، وقد وصف الله تعالى ملائكته بأنهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (التحريم: 6) ووصف الملك الذي ينزل على خاتم الأنبياء والرسل (ص) بالوحي والقرآن بالأمين فقال: (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين). (الشعراء: 192 ـ 193)
ومنتهى هذا الاتصال الغيبي هو النبي أو الرسول الذي يتلقى الوحي من الله بواسطة الملائكة، ومن يتلقى الوحي من الله ويبعثه الله بالنبوة والرسالة لا يمكن أن يكذب أو أن يحرف الكلام، وهو ما يثيره القرآن الكريم في العديد من آياته كقوله تعالى: (ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (النجم: 2 ـ 4)، وقوله سبحانه: (إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين) (الحاقة: 40 ـ 47) وكقوله تعالى على لسان نبيه موسى (ع): (إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا اقول على الله إلا الحق). (الأعراف: 104 ـ 105)
وعلى هذا الأساس فإن جميع تنزلات الوحي على الأنبياء والرسل (ع) تكون بالحق، قال تعالى: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) (الإسراء: 105) وقال سبحانه: (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ) (البقرة: 176)، وقال عز شأنه في شأن كل الأنبياء الذين أوحى إليهم: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه). (البقرة: 213)
ومن المهم أن نشير في ختام حديثنا عن الوحي إلى أن الوحي في المصطلح القرآني لا يختص بالأنبياء والرسل (ع)، بل هو على أنواع وأشكال ومراتب وما يختص بالأنبياء والرسل (ع) هو المرتبة العالية من الوحي التي تستلزم حمل رسالة إلهية أو دعوة ربانية إلى الناس، وعدم اختصاص الوحي بالأنبياء والرسل (ع) دلت عليه الكثير من آيات القرآن الكريم كقوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون) (النحل68)، وقوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه). (القصص: 7)
هذا ما أردنا بيانه بالنسبة إلى الطريق الأول من طريق الاتصال بالغيب وأما الطرق الأخرى للاتصال بعالم الغيب والارتباط بما وراء الطبيعة فإن الحديث عنها يطول وسنحاول تقديم بعض الحقائق والتصورات عنها ضمن الخلاصة التالية:
يعتقد جل الفلاسفة والعرفاء من الإسلاميين وغيرهم بوجود عوالم غيبية يمكن للإنسان الارتقاء إليها والتوصل إلى اكتشاف حقائقها بطريق أو آخر، وأهم تلك العوالم هو عالم المثال، وهو عالم بين عالم الأجسام وعالم الأرواح المجردة "فهو من حيث أنه غير مادي شبيه بعالم الأرواح، ومن حيث أنه ذو صورة وشكل ومقدار شبيه بعالم الأجسام". (رسائل قيصري، رسالة التوحيد والنبوة والولاية 17). وهذا العالم توجد فيه حقائق الأشياء والموجودات وصورها المثالية ويمكن للإنسان من خلال تجريد نفسه أن يتصل بهذا العالم وأن يتعرف على ما فيه من حقائق وصور، "وجميع أرباب المكاشفة أكثر ما يكاشفون الأمور الغيبية يكون في هذا العالم وفيه يتجسد الأعمال والافعال الإنسانية الحسنة والقبيحة كل بما يناسبها. ولكل إنسان فيه نصيب وهو القوة الخيالية التي فيها يرى المنامات". رسائل قيصري، رسالة التوحيد والنبوة والولاية 18.
وسنتحدث بعد قليل عن حقيقة المكاشفة التي يدعي أهل العرفان أنها طريق من طرق تحصيل المعارف الغيبية والإلهية. وما يلزم التنبيه عليه إن الإنسان حينما يتجرد وتسمو نفسه إلى الاتصال بالعالم العلوي فإن أول ما يتعرف عليه من عوالم الغيب هو هذا العالم المثالي، وفي ذلك يقول القيصري أحد أبرز علماء العرفان: "وأول ما ينفتح للإنسان عند غيبته من هذا العالم الجسماني هذا العالم المثالي، وفيه يشاهد أحوال العباد بحسن صفاء الباطن، وقوة الاستعداد. فإن من يشاهد أمراً يقع بعد سنة أقوى استعداداً ممن يشاهد ما يقع دون تلك المدة. وكل ما يشاهد في الخيال المقيد قد لا يكون محتاجاً إلى التعبير وهو القليل والأكثر ما يحتاج إليه، وذلك لأن المعاني إذا ظهرت بالصور إنما يظهر فيها بحكم المناسبة بينها وبين ما يظهر فيها من الصور، فلابد أن يعبر الرائي أو من يعبر له من تلك الصور إلى المعنى الظاهر فيها. وقد يكون أضغاث أحلام لا يلتفت إليه لسوء مزاج الدماغ، لذلك يصيب بعض المنامات ويخطأ بعضها".رسائل قيصري، رسالة التوحيد والنبوة والولاية 18.
وبعد أن أدركنا وجود هذا العالم وحقيقته فإنه سيتضح لنا ان اتصال الإنسان بعالم الغيب يعني قدرته على الاطلاع على ما في العوالم الغيبية وبالأخص عالم الثال من صور ومعلومات، ولا ينبغي الاعتقاد بأن اطلاع الإنسان على ما في عالم المثال من صور وحقائق ينحصر في طريقة واحدة وأسلوب معين، بل من المقرر بين علماء العرفان ـ وهم أكثر من اهتم وعنى بمثل هذه المسائل ـ ان تحصيل القدرة على الاطلاع على عالم الغيب يمكن من خلال عدة طرق، والبعض من هذه الطرق ربما لا يكون مكتسباً أصلاً، وإنما تتدخل بعض العوامل الوراثية والبيئية في وجوده وحصوله عند البعض من الناس، وعلى هذا الأساس فقد قسم العرفاء الكشف والذي يعني اطلاع الإنسان على ما وراء هذا العالم المادي من حقائق ومعلومات وصور إلى قسمين:
الأول: الكشف الحقيقي المعنوي، وهو يعني ظهور المعاني العينية والحقائق الغيبية، وهو يحصل بسبب تزكية النفس ومجاهدتها بالمجاهدات الشرعية.
الثاني: الكشف الصوري غير الحقيقي، وهو يعني اطلاع الإنسان على المغيبات المختصة بالخلق، بالإضافة إلى اطلاعه على ما في عالم المثال عن طريق الحواس الخمس.
وهذا النوع من الكشف يحصل بعوامل ثلاثة:
الأول: المجاهدات الشرعية والتي تعني تهذيب الإنسان نفسه وتطهيرها من أوساخ التعلق بالمادة وانقطاعه إلى الحق جل وعلا.
الثاني: المجاهدات غير الشرعية كما يفعله بعض أصحاب الرياضات النفسية والبدنية من أتباع الأديان والمذاهب الباطلة من كثرة الجوع وقلة النوم، فإن لهذه المجاهدات تأثيراً على نفسية الإنسان ولو كانت من غير طريق شرعي. وفي ذلك يقول بعض العرفاء: "وأما فراسة أهل الرياضة بالجوع والخلوة وتصفية البواطن من غير وصلة إلى جانب الحق، فلهم فراسة كشف الصور والأخبار بالمغيبات المختصة بالخلق، فهم لا يخبرون الا عن الخلق، لأنهم محجوبون عن الحق". (حيدر الآملي: جامع الأسرار ومنبع الأنوار 468).
الثالث: ما يحصل بسبب خاصية معينة تكون في النفس ترجع إما لعامل وراثي أو لوقت الولادة ومكانها أو لوضع البلد والبيئة الجغرافية. وقد اهتم علم "الباراسيكولوجيا" في عصرنا الحديث باكتشاف هذه الخاصية التي تتمتع بها بعض النفوس البشرية ودراسة الظواهر الخارقة للعادة التي تتولد من وجود هذه الخاصية عند البعض من الناس.
****************
المصدر: الجزء الثاني من بحث مطول بعنوان"حقائق مهمة للشباب عن عالم الغيب وقضايا الروح "
بعد ان تبين لنا في النقطة السابقة وجود العالم الغيبي وبعض حقائقه الأولية فإنه يهمنا في هذه النقطة الحديث بصورة إجمالية أيضاً عن حقيقة الاتصال بالعالم الغيبي وموجوداته وصور هذا الاتصال وأشكاله. والحديث عن هذا الأمر حديث له أهمية خاصة لأننا نشعر أن الكثير من الناس يحملون تصورات مشوهة ومغلوطة عن كيفية الاتصال بالعالم الغيبي وقبل ذلك عن حقيقة الارتباط بهذا العالم وإمكانية ذلك وعدمه.
وقبل بيان صور وأشكال اتصال الإنسان بالعالم الغيبي وموجوداته نريد أن نقدم المقدمة التالية وهي: أن كل إنسان موحد يؤمن بالله ورسالاته لابد وأن يعتقد بإمكانية ارتباط الإنسان بالغيب ولو في حالات مخصوصة وعند أفراد مخصوصة من الناس، وعلى هذا الأساس يؤمن هذا الإنسان بدعوات الأنبياء والرسل (ع) لأنها لا تتأتى للأنبياء والرسل (ع) إلا من خلال ارتباطهم بالله سبحانه وتعالى ونزول الوحي عليهم بواسطة الملائكة أو القذف في القلب أو بأي واسطة أخرى، ومن خلال هؤلاء الرسل والأنبياء (ع) يوصل الله عز شأنه أوامره ونواهيه إلى عامة الناس، وليس من الممكن ولا بمقدور أي إنسان ان يكلمه الله بصورة مباشرة ويوحي إليه ما يشاء، لأن الارتباط بالله وتبليغ أحكامه إلى الناس مهمة ثقيلة لا يتوفر على شرائطها إلا القليل من الناس، ولذلك فإن الله سبحانه يقول: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم). (الشورى: 51)
والاتصال بالله سبحانه وتعالى وبعالم الغيب عن طريق النبوة والرسالة هو الطريق الوحيد الذي يطمئن الإنسان من خلاله إلى صحة وواقعية ما يصل إليه من عالم الغيب وما وراء المادة، وذلك لأن الحفظ والصيانة من الخطأ والاشتباه أمران مضمونان في هذا النوع من الارتباط بالعالم الغيبي، وهذا ما نلمحه من خلال تأكيد القرآن الكريم على مقتضيات العصمة والحفظ في مبدء ومنتهى وواسطة هذا الارتباط الغيبي بين الله تعالى وأنبيائه ورسله (ع). فالوحي ينزل من الله جل جلاله والله لا يقول إلا الحق ولا يهدي إلا إلى الصراط المستقيم (قل الله يهدي للحق) (يونس: 35)، (ذلك بأن الله هو الحق) (الحج: 6)، (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل). (الأحزاب: 4)
وواسطة هذا الاتصال هو الملك الذين ينزل على الرسل والأنبياء (ع) بالوحي من السماء، وقد وصف الله تعالى ملائكته بأنهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (التحريم: 6) ووصف الملك الذي ينزل على خاتم الأنبياء والرسل (ص) بالوحي والقرآن بالأمين فقال: (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين). (الشعراء: 192 ـ 193)
ومنتهى هذا الاتصال الغيبي هو النبي أو الرسول الذي يتلقى الوحي من الله بواسطة الملائكة، ومن يتلقى الوحي من الله ويبعثه الله بالنبوة والرسالة لا يمكن أن يكذب أو أن يحرف الكلام، وهو ما يثيره القرآن الكريم في العديد من آياته كقوله تعالى: (ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (النجم: 2 ـ 4)، وقوله سبحانه: (إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين) (الحاقة: 40 ـ 47) وكقوله تعالى على لسان نبيه موسى (ع): (إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا اقول على الله إلا الحق). (الأعراف: 104 ـ 105)
وعلى هذا الأساس فإن جميع تنزلات الوحي على الأنبياء والرسل (ع) تكون بالحق، قال تعالى: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) (الإسراء: 105) وقال سبحانه: (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ) (البقرة: 176)، وقال عز شأنه في شأن كل الأنبياء الذين أوحى إليهم: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه). (البقرة: 213)
ومن المهم أن نشير في ختام حديثنا عن الوحي إلى أن الوحي في المصطلح القرآني لا يختص بالأنبياء والرسل (ع)، بل هو على أنواع وأشكال ومراتب وما يختص بالأنبياء والرسل (ع) هو المرتبة العالية من الوحي التي تستلزم حمل رسالة إلهية أو دعوة ربانية إلى الناس، وعدم اختصاص الوحي بالأنبياء والرسل (ع) دلت عليه الكثير من آيات القرآن الكريم كقوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون) (النحل68)، وقوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه). (القصص: 7)
هذا ما أردنا بيانه بالنسبة إلى الطريق الأول من طريق الاتصال بالغيب وأما الطرق الأخرى للاتصال بعالم الغيب والارتباط بما وراء الطبيعة فإن الحديث عنها يطول وسنحاول تقديم بعض الحقائق والتصورات عنها ضمن الخلاصة التالية:
يعتقد جل الفلاسفة والعرفاء من الإسلاميين وغيرهم بوجود عوالم غيبية يمكن للإنسان الارتقاء إليها والتوصل إلى اكتشاف حقائقها بطريق أو آخر، وأهم تلك العوالم هو عالم المثال، وهو عالم بين عالم الأجسام وعالم الأرواح المجردة "فهو من حيث أنه غير مادي شبيه بعالم الأرواح، ومن حيث أنه ذو صورة وشكل ومقدار شبيه بعالم الأجسام". (رسائل قيصري، رسالة التوحيد والنبوة والولاية 17). وهذا العالم توجد فيه حقائق الأشياء والموجودات وصورها المثالية ويمكن للإنسان من خلال تجريد نفسه أن يتصل بهذا العالم وأن يتعرف على ما فيه من حقائق وصور، "وجميع أرباب المكاشفة أكثر ما يكاشفون الأمور الغيبية يكون في هذا العالم وفيه يتجسد الأعمال والافعال الإنسانية الحسنة والقبيحة كل بما يناسبها. ولكل إنسان فيه نصيب وهو القوة الخيالية التي فيها يرى المنامات". رسائل قيصري، رسالة التوحيد والنبوة والولاية 18.
وسنتحدث بعد قليل عن حقيقة المكاشفة التي يدعي أهل العرفان أنها طريق من طرق تحصيل المعارف الغيبية والإلهية. وما يلزم التنبيه عليه إن الإنسان حينما يتجرد وتسمو نفسه إلى الاتصال بالعالم العلوي فإن أول ما يتعرف عليه من عوالم الغيب هو هذا العالم المثالي، وفي ذلك يقول القيصري أحد أبرز علماء العرفان: "وأول ما ينفتح للإنسان عند غيبته من هذا العالم الجسماني هذا العالم المثالي، وفيه يشاهد أحوال العباد بحسن صفاء الباطن، وقوة الاستعداد. فإن من يشاهد أمراً يقع بعد سنة أقوى استعداداً ممن يشاهد ما يقع دون تلك المدة. وكل ما يشاهد في الخيال المقيد قد لا يكون محتاجاً إلى التعبير وهو القليل والأكثر ما يحتاج إليه، وذلك لأن المعاني إذا ظهرت بالصور إنما يظهر فيها بحكم المناسبة بينها وبين ما يظهر فيها من الصور، فلابد أن يعبر الرائي أو من يعبر له من تلك الصور إلى المعنى الظاهر فيها. وقد يكون أضغاث أحلام لا يلتفت إليه لسوء مزاج الدماغ، لذلك يصيب بعض المنامات ويخطأ بعضها".رسائل قيصري، رسالة التوحيد والنبوة والولاية 18.
وبعد أن أدركنا وجود هذا العالم وحقيقته فإنه سيتضح لنا ان اتصال الإنسان بعالم الغيب يعني قدرته على الاطلاع على ما في العوالم الغيبية وبالأخص عالم الثال من صور ومعلومات، ولا ينبغي الاعتقاد بأن اطلاع الإنسان على ما في عالم المثال من صور وحقائق ينحصر في طريقة واحدة وأسلوب معين، بل من المقرر بين علماء العرفان ـ وهم أكثر من اهتم وعنى بمثل هذه المسائل ـ ان تحصيل القدرة على الاطلاع على عالم الغيب يمكن من خلال عدة طرق، والبعض من هذه الطرق ربما لا يكون مكتسباً أصلاً، وإنما تتدخل بعض العوامل الوراثية والبيئية في وجوده وحصوله عند البعض من الناس، وعلى هذا الأساس فقد قسم العرفاء الكشف والذي يعني اطلاع الإنسان على ما وراء هذا العالم المادي من حقائق ومعلومات وصور إلى قسمين:
الأول: الكشف الحقيقي المعنوي، وهو يعني ظهور المعاني العينية والحقائق الغيبية، وهو يحصل بسبب تزكية النفس ومجاهدتها بالمجاهدات الشرعية.
الثاني: الكشف الصوري غير الحقيقي، وهو يعني اطلاع الإنسان على المغيبات المختصة بالخلق، بالإضافة إلى اطلاعه على ما في عالم المثال عن طريق الحواس الخمس.
وهذا النوع من الكشف يحصل بعوامل ثلاثة:
الأول: المجاهدات الشرعية والتي تعني تهذيب الإنسان نفسه وتطهيرها من أوساخ التعلق بالمادة وانقطاعه إلى الحق جل وعلا.
الثاني: المجاهدات غير الشرعية كما يفعله بعض أصحاب الرياضات النفسية والبدنية من أتباع الأديان والمذاهب الباطلة من كثرة الجوع وقلة النوم، فإن لهذه المجاهدات تأثيراً على نفسية الإنسان ولو كانت من غير طريق شرعي. وفي ذلك يقول بعض العرفاء: "وأما فراسة أهل الرياضة بالجوع والخلوة وتصفية البواطن من غير وصلة إلى جانب الحق، فلهم فراسة كشف الصور والأخبار بالمغيبات المختصة بالخلق، فهم لا يخبرون الا عن الخلق، لأنهم محجوبون عن الحق". (حيدر الآملي: جامع الأسرار ومنبع الأنوار 468).
الثالث: ما يحصل بسبب خاصية معينة تكون في النفس ترجع إما لعامل وراثي أو لوقت الولادة ومكانها أو لوضع البلد والبيئة الجغرافية. وقد اهتم علم "الباراسيكولوجيا" في عصرنا الحديث باكتشاف هذه الخاصية التي تتمتع بها بعض النفوس البشرية ودراسة الظواهر الخارقة للعادة التي تتولد من وجود هذه الخاصية عند البعض من الناس.
****************
المصدر: الجزء الثاني من بحث مطول بعنوان"حقائق مهمة للشباب عن عالم الغيب وقضايا الروح "