المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الطب التجريبي



نسائم الرحمن
02-08-2016, 02:49 PM
الطب التجريبي



في سنة 1865 وفي عز الانبهار بالعلوم التجريبية أصدر كلود برنار كتاب "مدخل إلى الطب التجريبي" ليعلن أن الطب والبيولوجيا عامة، لا يشكلان استثناء في البحث التجريبي، بل هما امتداد طبيعي لقوانين علمية واحدة تنتظم جميع الظواهر، أثبتت التجارب صدقيتها في الفيزياء والرياضيات. ومن ثم فإن البحث في الكائنات الحية يمكن أن يكون موضوعا علميا أصيلا.

ويهمني في هذا المبحث أن أقدم بعض طروحات هذا الكتاب الذي تفصلنا عنه 150 سنة، لنكشف الآليات التي مازال يقوم عليها الطب. فباعتقادي أن هذا الكتاب يعتبر نظرية متكاملة للتطبيقات الطبية السائدة في الطب الدوائي إلى الآن، والذي يستند إلى مرجعية الفيزياء النيوتونية أو ما أصبح يسمى بالفيزياء الكلاسيكية وامتداداتها في سائر الحقول العلمية. ولذلك ليس غريبا أن نجد في الكتاب تصاديا مطلقا مع جميع البحوث التجريبية إلى درجة التماهي الكامل بين البحث في الكائنات الحية والمواد الجامدة.

الحتمية:

قام الطب التجريبي على قاعدة نيوتونية صارمة فحواها أن كل الظواهر، مهما كانت طبيعتها، خاضعة لنظام يمكن للإنسان تفسيره، ومن ثم التنبؤ بكل سيروراته، في نظام حتمي يمكن الإنسان من السيطرة على كل الظواهر مادام يعرف قوانين اشتغالها.

"ثمة حتمية مطلقة في جميع العلوم، لأنه مادامت كل ظاهرة مرتبطة ارتباطا ضروريا بظروف فيزيوكيميائية، فقد أصبح في مقدور المجرب تعديلها بقصد السيطرة على تلك الظاهرة، أعني للعمل على ظهورها أو منعها، ولا جدال في هذا فيما يخص الأجسام الجامدة. وإني أريد البرهنة على أن هذا هو شأن الأجسام الحية، وأن الحتمية قائمة فيها كذلك" ص 62

العلية:

لعل قانون الحتمية يتأسس على قانون آخر هو العلية، أي: ما من نتيجة إلا ولها مقدمة، وما من معلول إلا وله علة، وهذا هو القانون الذي تقوم عليه الفيزياء النيوتونية، فتمدد الحديد كمعلول هو بفعل علة وهي الحرارة، وبذلك تصبح النتيجة حتمية في كل زمان ومكان، فحيثما كانت الحرارة وكان هناك حديد فإنه سيتمدد.

"والقانون يمدنا بعلاقة المعلول العددية بعلته. وهذا هو الفرض الذي يقف عنده العلم. فإذا نحن عرفنا قانون ظاهرة ما، لم تقتصر معرفتنا إذن على الحتمية المطلقة لظروف وجودها، بل أمكننا أن نعرف كذلك العلاقات الخاصة بتغيراتها، بحيث نستطيع التنبؤ بما يطرأ على تلك الظاهرة من تعديل في كل الظروف على السواء" ص 69

غير أن الفيزياء الكلاسيكية تحصر معادلة العلة والمعلول في طابعهما الفيزيقي، فلا وجود لعلل غيبية وإلا تحول موضوع التفكير من العلم إلى الخرافة، ولذلك فعلى الطبيب أن يقف عند حدود وصف الظواهر وتقديم التفسيرات الشكلية لها ، وليس من اختصاصه أن يغوص في أعماق الأشياء. "تسقط الأجسام تبعا لحركة مسرعة نعرف قانونها"، هي الجاذبية. أما لماذا سقط هذا الجسم في هذه اللحظة وليس في لحظة أخرى، ولماذا سقط هذا الجسم ولم يسقط الثاني، فهذه ليس الطب معنيا بالإجابة عنها، بل هي في ذاتها أسئلة خرافية.

"ولا ينبغي أن يتخيل الفيسيولوجي أو الطبيب أن من واجبه البحث عن علة الحياة أو جوهر الأمراض، وإلا كان هذا تضييعا للوقت في الجري وراء الأوهام. فليس في كلمات الحياة والموت والصحة والمرض أية حقيقة موضوعية. إن هي إلا تعبيرات نستعين بها على تصور هيئة ظواهر معينة ومظاهرها". ص 69
إن البحث في جواهر الأشياء، يقول الباحث، ينقل الطب من حدوده العلمية إلى التنجيم، بل قد يصبح "خرافة طبية" لا يمكن تفسيرها، وغياب التفسير هو سقوط في الجهل.

"على أن آراء المذهب الحيوي إذا أخذت بالمعنى الذي أشرنا إليه لم تكن إلا لونا من الخرافة الطبية أي إيمانا بخوارق الطبيعية. وإذا نحن آمنا في الطب بالعلل الخفية التنجيمية سواء سميت حيوية أو غير ذلك دعمنا الجهل، وكان هذا لونا من الدجل غير المتعمد، أعني الاعتقاد بعلم لدني يعسر تحديده، أما الإحساس بالحتمية المطلقة لظواهر الحياة فهو الذي يؤدي إلى العلم الحقيقي" ص 71

الثبات:

تتأسس الحتمية على قانون الثبات، فكل شيء ثابت لا يتحرك، وهذا ما يجعل إمكانية توصيف الأشياء وتنظيمها في معادلات رياضية مسألة قابلة للتطبيق حتى تصير قوانين علمية ذات انتظام حتمي.
"والقوانين ثابتة لا تتغير سواء كان ذلك في الأجسام الحية أو الأجسام الجامدة. والظواهر التي تضبطها تلك القوانين تربطها بظروف وجودها حتمية ضرورية مطلقة". ص 71

إن الثبات يعني جمود الأشياء، الأشياء لا تتحرك بذاتها وإنما هي في حاجة إلى قوة خارجية عنها تزودها بالقوة اللازمة تماما كما يفعل البندول في الساعة، والجسم الإنساني واحد من هذه الأشياء.

"والخلاصة أن المادة الحية كالمادة الجامدة عاجزة عن أن تنشط وتتحرك بنفسها، ويعترض كل تغير في المادة تدخل علاقة جديدة، أعني مؤثرا أو ظرفا خارجيا" ص 82

المادية:

إن تحديد رقعة اللعب في شكلها الفيزيقي يعني إبعاد كل العوالم غير المادية والإبقاء على اللاعبين الماديين، ولذلك كان احتماء الفيزياء الكلاسيكية بالشرط المادي في قبول الظواهر أو رفضها هو التزام قطعي بشروط اللعبة حتى لا يتعطل الجهاز عن التفسير فيضيع كل شيء، وهذا ما يفسر عنف "البراديغم النيوتوني" ومعه كل الحقول التابعة له، ومنها الطب، كلما تطلب الأمر التصدي للعوالم غيرالمنظورة، لأن الأمر يتطلب دفاعا عن السيادة، أو "الأرض المقدسة"، وكانت التوصيفات جاهزة من قبيل "الخرافة" "الجهل" "التخلف" "الشعوذة"، يقول الكاتب:

"وليس ثمة روحانية أو مادية في نظر المجرب الفيسيولوجي. فهذان اللفظان خاصان بفلسفة طبيعية قدم العهد بها وتقدمت بها السن، وقد حكم تقدم العلم بزوالها. ولو كان هذا مجال الحديث في هذه الأشياء لاستطعت بسهولة أن أبين أن البحث في طبيعة الروح والمادة لن يؤدي أبدا إلى قضايا علمية إيجابية، مما يدل على أن هذه الاعتبارات وغيرها كلها لغو لا طائل تحته، وأن ليس لنا ظواهر علينا دراستها وظروف مادية لمظاهرها علينا معرفتها، وقوانين لهذه المظاهر علينا تحديدها" ص 68

التجريبية:

لماذا الإصرار على مادية الأشياء وفيزيقيتها؟

ببساطة لأن قبول الظواهر ورفضها يمر عبر مصفاة التجربة، هكذا يقتضي البراديغم العلمي النيوتوني، وبما أن الأشياء غير المادية لا يمكن تجربتها لأنها غير متحيزة أو غير محسوسة، فإنها بالنتيجة غير علمية. هكذا يصبح العلمي مرادف للمادي التجريبي. إن "الأرض المقدسة" للعلم، لا ترفض الأشياء غير المادية فقط، بل الأشياء المادية أيضا والتي لا يمكن إخضاعها إلى التجربة، أو لا تفضي تجاربها إلى قوانين منظمة.

"والطريقة التحليلية أو التجريبية هي الوسيلة الوحيدة التي نهتدي بها إلى هذا التحديد لظروف الظواهر سواء أكان ذلك في الأجسام الحية أم في الأجسام الجامدة، لأننا نصطنع نفس الطريقة الاستدلالية للتجريب في مختلف العلوم" ص 68

الآلية:

إن القول بخضوع جميع الظواهر لشروط العقل أي القدرة على فهمها ومن ثم التحكم فيها، يعني أن كل شيء في هذا الكون يسير وفق نموذج آلي. فالآلية هي مفتاح فهم الوجود الإنساني وغير الإنساني، فكل شيء مبني على أسس عقلانية تحكمها قواعد منطقية صارمة لا أثر فيها للمصادفة.

"ولا يختلف تركيب الآلات التي يخترعها الذكاء البشري عن تركيب هذه الآلات الحية.. وكذلك الشأن مع الفسيولوجي فلو أنه استطاع الوصول إلى أعماق البيئة الداخلية للآلة الحية لوجد بها حتمية مطلقة ينبغي أن تكون له الأساس الصحيح لعلم الأجسام الحية"ص82

الاستقلالية:

تقود الآلية إلى الاستقلالية التي تعني أن العناصر المجتمعة وإن كانت تشكل بناء عضويا واحدا، فإنها متمايزة، وكل منها مستقل عن الآخر في شكل مؤسسات متخصصة. إن مفهوم المؤسسات ومفهوم التخصص، مفهومان نيوتونيان أصيلان وجدا امتدادهما في المجتمع وفي الطب أيضا، ولذلك ظهرت تخصصات طبية منعزلة، كل تخصص يبحث في العضو الذي يهمه، مع استبعاد الحضور الشمولي، كما لو أن الجسم البشري مؤسسات تشكل جزرا منعزلة في أرخبيل. يقول الكاتب:

"وكل عنصر محدد معدني، عضوي أو غير عضوي، مستقل استقلالا ذاتيا. وهذا معناه أن له خواص يتميز بها، وأنه يبدي أفعالا مستقلة. ومع ذلك فكل جسم من هذه الأجسام عديم الحركة، أعني أنه عاجز عن أن يتحرك بنفسه فلا بد له دائما، كي يتحرك، أن يتصل بجسم آخر ينبهه" ص 81

التجزيئية:

تقود الاستقلالية إلى أخطر مفهوم قامت عليه العلوم التجريبية ووجد قبولا لافتا في الطب وهو التجزيئية، أي إن الآلة المادية المكونة من مؤسسات ذات استقلال ذاتي يمكن تجزيئها وتفكيكها بل يمكن التصرف في قطع غيارها تعديلا وتبديلا.

"وتبدو الحياة في حالة الصحة في النشاط الطبيعي للعناصر العضوية، بينما تتميز الأمراض بظهور نفس تلك العناصر العضوية في مظاهر شاذة، ويستطيع العلاج آخر الأمر أن يؤثر في العناصر العضوية بتعديل البيئة العضوية بالمواد السامة أو الدوائية المعينة. ولابد للوصول إلى حل مختلف هذه المشاكل من تفكيك الكائن جزءا جزءا كما تفكك آلة لتعرف أجزاءها المتحركة ودراستها" ص 67

هكذا تقودنا هذه المفاهيم إلى فهم عميق للنظرية التي يقوم عليها ما أصبح يسمى "الطب الدوائي"، وهي مفاهيم حطمتها جميعها الفيزياء المعاصرة خاصة فيزياء الكوانتم، على نحو ما سنرى في المبحث الثاني "الطب الكوانتي".



منقوول

جنة
03-08-2016, 09:49 AM
شكرا على الموضوع والافادة القيمة اختى ونرجو المزيد

قدرى العلى
04-08-2016, 02:57 AM
شكرا على الموضوع والافادة القيمة بارك الله فيكم

نشوى المياسر
05-08-2016, 06:17 AM
يسلمووو على الافادات القيمة بارك الله فيكم

ساجدة لله
03-09-2016, 02:09 AM
شكرا على الموضوع والافادة القيمة بارك الله فيكم

ابو حاتم
03-09-2016, 11:22 PM
شكرا على الموضوع الهادف والقيم جزاكم الله كل خير