كلام الصمت
03-10-2016, 11:40 AM
اشوراء ... دروس وعبر
بسم الله الرحمن الرحيم
عاشوراء ... دروس وعبر
الحمد لله ربِّ العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين .
أما بعد ؛
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ ؟ ) .
فَقَالُوا : هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا ؛ فَنَحْنُ نَصُومُهُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ ) ؛ فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ . رواه البخاري (3943)، ومسلم (1130) واللفظ له .
هذا الحديث أصلٌ عند العلماء في استحباب صوم يوم عاشوراء ، وهو العاشر من محرَّم ، وهو يوافق يوم الاثنين القادم .
فهو يومٌ عظيمٌ ، أنجَى الله فيه موسى وقومَه وغرَّق فرعونَ وقومَه ؛ ولذا صامَه موسى عليه السلام شكرًا لله تعالى على هذه النِّعمة .
وصامَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأمرَ بصيامه استحبابًا ؛ مُتابعةً لنبيِّ الله موسى عليه السلام ، من باب مُقابلة النِّعَم بالشُّكر في أوقات تجدُّدها . لطائف المعارف لابن رجب صــ 96 .
وقال ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما وقد سُئِلَ عن صيام يوم عاشوراء : " مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الْأَيَّامِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ ، وَلَا شَهْرًا إِلَّا هَذَا الشَّهْرَ " يَعْنِي : رَمَضَانَ . رواه مسلم (1132) .
وفي رواية البخاري : " مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، وَهَذَا الشَّهْرَ " يَعْنِي : شَهْرَ رَمَضَانَ . رواه البخاري (2006) .
فهذا يوم فارِق في تاريخ البشريَّة؛ إنه اليوم الذي نجَّى الله تعالى فيه موسى عليه السلام ومَن معه من المؤمين .
= من الدروس والعبر والمعاني الإيمانية المستفادة من هذا اليوم العظيم :
- أنَّ شأن المؤمن دائمًا الاهتمام بالعباداتوالسؤال عنها ، وفعل بالخيرات والحرص عليها .
فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَّا هاجر إلى المدينة وجد اليهود صائمين ، فسأل عن سببصيامهم : ( مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ ؟ ) .
والإنسان إذا ذهبَ إلى مكان جديد يلفتُ نظرَه ما يشغل قلبه ويهتم به .
وشتان بين اهتمامات الناس !
فمن الناس مَن إذا دخل مدينةً ؛ لفتَ نظرَهُ مبانيها الشاهقة وسيارتها الفارهة .
ومنهم مَن يلفت نظرَه زحامُ الناس أو نظامهم ، أو غير ذلك .
لكن المؤمن يهتم بالعبادات ، وما يتعلق بها ؛ فهي التي تلفت نظره وتشغل قلبه .
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ *** وَتَأْتي عَلَى قَدْرِ الْكِرَامِ الْمَكَارِمُ
وَتَعْظُمُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا *** وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ
- ومن المعاني الإيمانية : التذكير بأيام الله، وما صنع الله فيها من الآيات ، وما حدث فيها من العبر والعظات ؛ لتكون نبراسًا للمؤمنين في كل زمان ومكان .
فيوم عاشوراء " يَوْمٌ عَظِيمٌ " ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللهِ ) . رواه البخاري (1893) ، ومسلم (1892) .
وقد أمر الله تعالى بالتذكير بما في أَيَّامِ اللهِ من العِبَر والعظات : ( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) .
وقد حدثت فيه آية من آيات الله حيث أنجى نبيه ، وأهلك عدوه .
يقول الله عزَّ وجلَّ : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) :
ما أعظمَ تأييدَ الله وانتصارَه لأوليائه من رسلِه وأنبيائِه وعبادِه المؤمنين !
وما أشدَّ انتقامَه من أعدائه المكذِّبين على قوَّتهم وشِدَّة بطشهم !
قال الله تعالى عن فِرعون : ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) .
( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) .
ها هو فِرعونُ يغرَق ويحيطُ به الغَرَق من كلِّ مكان ، وهو الذي طغى وتجبَّر وادَّعى الألوهيَّة فقال : ( يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) ، ( فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) .
وتفاخر بما لا يُساوي قطرةً في مُلك الله تعالى : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) !
ناسيًا أنَّ المُلكَ كلَّه لله ، وأنَّ الله هو الذي أعطاه ، وأطعمَه وسقاه !
رُوي أنَّ خليفةَ المسلمين هارونَ الرَّشيد رحمه الله لمَّا قرأ هذه الآية : ( قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) ، ورأى تفاخُر فرعون بمُلك مصر ؛ قال : " لعنَه الله ! ما كان أرقعَه [أي: ما أشدَّ خِفَّة عقله]! ادَّعى الرُّبوبيَّة بمُلك مصر ؟! واللهِ ؛ لأولينَّها أخسَّ خدَمي " ؛ فولَّى حُكم مصر خادمًا له اسمه : الخصيب ، كان يصبُّ له الماء عند الوضوء ! وَفَيات الأعيان لابن خَلِّكان (1/188)، وفتح البيان في مقاصد القرآن لصديق حسن خان (12/361) .
- ومن الدروس المستفادة : معيَّة الله تعالى لأنبيائه وأوليائه :
فلمَّا خرج موسى عليه السلام مُنفِّذًا أمر ربه ، متجهًا ناحية الشرق ؛ أمر فرعون بجمع كل الجنود ، وفي الوقت نفسه يُهَوِّنُ ، ويُحَقِّرُ من شأن بني إسرائيل كعادة أهل الباطل في كل زمان : ( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) .
جمعَ فرعون جنوده ، وطارد المؤمنين في ناحية الشرق ( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) .
وصلَ موسى إلى ساحل البحر الأحمر وخلفه فرعون وجنوه . فلما تراءى الجمعان صرخ ضعاف الإيمان ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) ، فرَّد عليهم موسى بقوة الإيمان : ( كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .
- ونجَّى الله تعالى( بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ) .
- ونجَّاهم من الغرق ، وأغرق فرعون وجنده: ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ *آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) .
- إن قصة موسى عليه السلام مع فرعون مليئة بالعبر والعظات ؛ ولذا كثر ورودها في القرآن الكريم حتى قال بعض العلماء : " كاد القرآن أن يكون كله لموسى ". الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/199).
فينبغي علينا أن نعتبر بآيات الله ؛ فإنَّ فيه عِبَرًا مقنعة للمؤمنين : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) ، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) .
وأما الجاحد والمعاند فلا يقنعه شيء : ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) .
- ومن المعاني الإيمانية : نصر الله لأنبيائه وأوليائه ، وإهلاكه لأعدائه :
لمَّا سأل النبي اليهود عن صومهم هذا اليوم قالوا : " هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ ". رواه البخاري (2004) ، ومسلم (1130) ، واللفظ له .
وهذه حقيقة يقينية، قال تعالى : ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) ، وقال : ( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) .
حتى لو تأخر النصر قليلاً فإنه قادم ، فالحق بطيء ولكنه يومًا يجيء ، كما في حديث هرقل حين قال لأبي سفيان : " سَأَلْتُكَ كَيْفَ كان قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ، ثُمَّ تَكُونُ لهم الْعَاقِبَةُ ". رواه البخاري (7)، ومسلم (1773) .
وإهلاك الله للظالمين سنة كونية؛ قال تعالى : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ) .
- ومن الدروس والعِبَر : أنَّ المسلمين أحق بجميع الأنبياء من كل الأمم :
فقد صامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأمر المسلمين بصيامه ؛ معلِّلاً ذلك بقوله : ( فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ ) . فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ . رواه البخاري (2004) ، ومسلم (1130) .
وهذا كقول الله تعالى : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) .
" فأحقُّ الناس بمتابعة إبراهيم الخليل : الذَّين اتبعوه على دينه ، ( وَهَذَا النَّبِيُّ ) يعني : محمَّدًا صلى الله عليه وسلم ، ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) : من أصحابه المهاجرين والأنصار ومَن بعدهم " . تفسير ابن كثير (2/58) .
فكذلك أحقُّ الناس بمتابعة موسى وأَوْلاهم به هم المسلمون ، الذين يتَّبعون دِينَ الإسلام الذي هو دين موسى وجميع الأنبياء عليهم السلام : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ) ؛ فالمسلمون لم يحرِّفوا ولم يبدِّلوا ولم يغيِّروا كما فعلَ اليهود .
والمسلمون يؤمِنون بموسى وغيره من أنبياء الله : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) .
وفي هذا لفتةٌ مهمَّةٌ إلى هذا الرِّباط العميق بين المسلمين بعضهم البعض ، وإن اختلفت أزمانُهم وبعُدَت أماكنهم ، وضرورة تحقيق الأُخُوَّة الإيمانيَّة بين المسلمين ، وتحقيق الولاء لله تعالى ورسوله وعباده المؤمنين ، التي من أهمِّ مُقتضياتها :
إمداد المسلمين لإخوانهم ، وخاصَّةً المحتاجين والمكروبين والمحصورين منهم ، في الداخل والخارج ، أفرادًا وجماعاتٍ ، ونُصرتهم ، ودَعمهم ، والتضامُن معهم ، ومُواساتهم .
- ومنها : مخالفة المشركين ، واستقلال الأمة الإسلامية في عقيدتها ، وصبغتها :
فقد تعمَّد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخالفة اليهود في صيام عاشوراء .
فعَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ ) .
قَالَ : فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رواه مسلم (1134) .
وفي رواية : ( لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ [السنة الآتية]لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ ) . رواه مسلم (1134) .
إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بمخالفة المشركين حتى في أدق الأمور ، فقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَالِفُوا الْيَهُودَ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ ) . رواه أبو داود (652) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3210) .
ونهى نهيًا شديدًا عن التشبُّه بهم ، فقال : ( مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ) . رواه أبو داود (4031) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6149) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي بَعْضِ الْهُدَى الظَّاهِرِ يُوجِبُ الْمُقَارَبَةَ ، وَنَوْعًا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ ، يُفْضِي إلَى الْمُشَارَكَةِ فِي خَصَائِصِهِمْ الَّتِي انْفَرَدُوا بِهَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَرَبِ ، وذَلِكَ يَجُرُّ إلَى فَسَادٍ عَرِيضٍ " .الفتاوى الكبرى (6/175) .
- ومن الدروس أيضًا :تشابه قلوب المؤمنين عبر الأزمان؛ إذ تجتمع على الإيمان بالله ورُسُله ، وتعظيم أيام الله ، وعبادة الله وحدَه لا شريك له ، ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) .
وكذلك تتشابه قلوب الكافرين عبر الأزمان، فتجتمع على تكذيب آيات الله ، ومُعاداة رسول الله : ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ، ( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) .
- ومنها : الفرح بنجاة المؤمنين وما يصيبهم من الخير والرخاء والنصر ، والفرح بهلاك الظالمين :قال تعالى : ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ) ، ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) .
وقال تعالى : ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
وقد شَتَمَ رَجُلٌ ابنَ عَبَّاسٍ ، فقال ابنُ عَبَّاسٍ : " إِنَّكَ لَتَشْتُمُنِي ، وَفِيَّ ثَلاثُ خِصَالٍ ، إني لآتِي على الآيَةِ من كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وجل ، فَلَوَدِدْتُ أَنَّ جَمِيعَ الناس يَعْلَمُونَ منها ما أَعْلَمُ منها .
وَإِنِّي لأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ من حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ يَعْدِلُ في حُكْمِهِ ، فَأَفْرَحُ بِهِ ، وَلِعَلِّي لا أُقاضِي إليه أَبَدًا .
وَإِنِّي لأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ قد أَصَابَ الْبَلَدَ من بِلادِ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَفْرَحُ ، ومالي بِهِ مِنِ سَائِمَةٍ " . رواه الطبراني في المعجم الكبير (10/266) .
الخطبة الثانية :
الحمد لله ربِّ العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين .
أما بعد؛
= إنَّ عاشوراء يوم عظيم حقًّا:
ولكن هناك تعظيم حقيقي لهذا اليوم ، وهناك تعظيم مُزَيَّف .
فمن التعظيم الحقيقي : صيامه :
فقد عظَّمه موسى عليه السلام؛ فصامه ، شكرًا لله على نعمة النجاة وإهلاك العدو .
وصامه اليهود تبعًا لموسى: قالوا : " فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا ؛ فَنَحْنُ نَصُومُهُ " . مسلم (1130) .
- وكان أهل الجاهلية يعظِّمونه: فكانوا يصومونه : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الجَاهِلِيَّةِ . رواه البخاري (1893) ، ومسلم (1125) .
ومن تعظيمهم له أنهم كانوا يسترون فيه الكعبة: قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " كَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ ". رواه البخاري (1592) ، ومسلم (1125) .
وعظَّمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فصامه ، وأمر المسلمين بصيامه . رواه البخاري (2004) ، ومسلم (1130) .
وكان صيامه مفروضًا ثم نُسِخَ: قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِصِيَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ .
فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ ؛ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ ) . رواه البخاري (1592) ، ومسلم (1125) .
ولكن استحباب صيام عاشوراء ما زال باقيًا :
خطب مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَقَالَ : أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ ؟
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِهَذَا الْيَوْمِ ، ( هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ ، وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، وَأَنَا صَائِمٌ ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُفْطِرَ فَلْيُفْطِرْ ) . رواه البخاري (2003) ، ومسلم (1129).
ومن فضل صيامه : أنه يكفِّر ذنوب سنة، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صيامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ ) . رواه مسلم (1162) .
قال الإمام البيهقي رحمه الله : " وهذا فيمَن صادفَه صومُه وله سيِّئات يحتاج إلى ما يكفِّرها ، فإن صادفَه صومُه وقد كُفِّرت سيِّئاته بغيره ؛ انقلبَت زيادةً في درجاته " . فضائل الأوقات صــ 438 .
ويُسَنُّ صيام التاسع أيضًا: فحِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ ) .
قَالَ : فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رواه مسلم (1134) .
فقد صام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العاشر ، وعزم على صيام التاسع ، فمن الأفضل صيام التاسع والعاشر .
وصوم عاشوراء عند العلماء على ثلاث مراتب :
أكملها :صيام ثلاثة أيَّام ، التاسع والعاشر والحادي عشر ؛ وقد جاء في ذلك حديثٌ ضعيفٌ ، لفظه : ( صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، وَخَالِفُوا فِيهِ الْيَهُودَ ، صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا ) .
وفي رواية للبيهقي : ( صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا ) . رواه الإمام أحمد (2154) ، والبيهقي في السُّنن الكبرى (4/287) ، وهو في الضعيفة (4297)، وضعَّفه الأرناؤوط أيضًا (4/52) ، لكن حسَّن إسنادَه الشيخ أحمد شاكر .
لكن وردَ فِعلُ ذلك عن بعض السَّلف من باب الاحتياط . لطائف المعارف صــ 52 .
والثاني :أن يُصام التاسع والعاشر . وعليه أكثر الأحاديث ، وهو الذي وردَت به السُّنَّة .
ويُشرع أيضًا صيام العاشر مع الحادي عشر بدلاً من التاسع والعاشر أو لمَن فاته صيامُ التاسع ؛ مُخالفةً لليهود : ( صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا ) .
والثالث :إفراد عاشوراء بالصِّيام وحدَه . زاد المعاد لابن القيِّم (2/72) ، وفتح الباري لابن حجر (4/246).
- وأما التعظيم المُزَيَّف ليوم عاشوراء:
فمنه : ما يفعله بعضُ أهل البِدَع [الشيعة]بأنفسهم في عاشوراء ، من اتِّخاذ هذا اليوم مأتمًا ويومَ حُزنٍ ونياحة ولَطْمٍ وشقٍّ للجيوب والثياب ، وتعذيب أنفسهم بالآلات الحادَّة ، والضرب بالسلاسل والحديد ، بما يُسَمُّونه : " اللطميَّة " و" التطبير " ، وخلط هذا بسبِّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، ودُعاء الحُسَين من دون الله ؛ كلُّ هذا لأجل مقتل الحسين بن عليِّ رضي الله عنهما في هذا اليوم !
وهذا من أعمال الجاهليَّة ، ففي الحديث : ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ) . رواه البخاري (1294) ، ومسلم (103) .
والمؤمن عند المصيبة يصبِر ويحتسِب ويرضى بقضاء الله تعالى .
وعلى العكس من ذلك : هناك مَن يقيم الحفلات في يوم عاشوراء ، ويصنع الحلوى ، بل هناك نوع من الحلوى تُصنع خصيصًا لهذا اليوم تصنع من الأرز واللبن ، تسمى " عاشوراء " ، ومنهم من يصنع "فطيرة عاشوراء " ، وهذا تشبُّه باليهود والنصارى لتعظيمهم هذا اليوم .
وهكذا اجتالتهم الشياطين عن هدي النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ، وعن سبيل المؤمنين في هذا اليوم العظيم ، فمنهم مَن حوَّله إلى مأتم وعزاء ، ومنهم مَن حوَّله إلى احتفال وغناء .
وكلُّ هذا من البِدَع المُحْدَثات التي حذَّر منها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حيث قال : ( وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ) . رواه أبو داود (4607) ، والترمذي (2976) ، وابن ماجه (44)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (8/150) .
نسأل الله تعالى أن يوفِّقنا إلى اتباع سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يجنِّبنا البِدَع ، إنه سميع قريب مجيب .
اللهمَّ اغفِر لنا ذنوبَنا ، وكفِّر عنَّا سيئاتِنا ، وتوفَّنا مع الأبرار .
اللهمَّ اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين .
وارْحَم موتانا وموتَى المسلمين .
واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين .
وفرِّج كرب المكروبين .
وانصُر إخواننا المستضعَفين .
اللهمَّ انصُر الإسلام وأعِزَّ المسلمين .
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين .
بسم الله الرحمن الرحيم
عاشوراء ... دروس وعبر
الحمد لله ربِّ العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين .
أما بعد ؛
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ ؟ ) .
فَقَالُوا : هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا ؛ فَنَحْنُ نَصُومُهُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ ) ؛ فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ . رواه البخاري (3943)، ومسلم (1130) واللفظ له .
هذا الحديث أصلٌ عند العلماء في استحباب صوم يوم عاشوراء ، وهو العاشر من محرَّم ، وهو يوافق يوم الاثنين القادم .
فهو يومٌ عظيمٌ ، أنجَى الله فيه موسى وقومَه وغرَّق فرعونَ وقومَه ؛ ولذا صامَه موسى عليه السلام شكرًا لله تعالى على هذه النِّعمة .
وصامَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأمرَ بصيامه استحبابًا ؛ مُتابعةً لنبيِّ الله موسى عليه السلام ، من باب مُقابلة النِّعَم بالشُّكر في أوقات تجدُّدها . لطائف المعارف لابن رجب صــ 96 .
وقال ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما وقد سُئِلَ عن صيام يوم عاشوراء : " مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الْأَيَّامِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ ، وَلَا شَهْرًا إِلَّا هَذَا الشَّهْرَ " يَعْنِي : رَمَضَانَ . رواه مسلم (1132) .
وفي رواية البخاري : " مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، وَهَذَا الشَّهْرَ " يَعْنِي : شَهْرَ رَمَضَانَ . رواه البخاري (2006) .
فهذا يوم فارِق في تاريخ البشريَّة؛ إنه اليوم الذي نجَّى الله تعالى فيه موسى عليه السلام ومَن معه من المؤمين .
= من الدروس والعبر والمعاني الإيمانية المستفادة من هذا اليوم العظيم :
- أنَّ شأن المؤمن دائمًا الاهتمام بالعباداتوالسؤال عنها ، وفعل بالخيرات والحرص عليها .
فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَّا هاجر إلى المدينة وجد اليهود صائمين ، فسأل عن سببصيامهم : ( مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ ؟ ) .
والإنسان إذا ذهبَ إلى مكان جديد يلفتُ نظرَه ما يشغل قلبه ويهتم به .
وشتان بين اهتمامات الناس !
فمن الناس مَن إذا دخل مدينةً ؛ لفتَ نظرَهُ مبانيها الشاهقة وسيارتها الفارهة .
ومنهم مَن يلفت نظرَه زحامُ الناس أو نظامهم ، أو غير ذلك .
لكن المؤمن يهتم بالعبادات ، وما يتعلق بها ؛ فهي التي تلفت نظره وتشغل قلبه .
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ *** وَتَأْتي عَلَى قَدْرِ الْكِرَامِ الْمَكَارِمُ
وَتَعْظُمُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا *** وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ
- ومن المعاني الإيمانية : التذكير بأيام الله، وما صنع الله فيها من الآيات ، وما حدث فيها من العبر والعظات ؛ لتكون نبراسًا للمؤمنين في كل زمان ومكان .
فيوم عاشوراء " يَوْمٌ عَظِيمٌ " ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللهِ ) . رواه البخاري (1893) ، ومسلم (1892) .
وقد أمر الله تعالى بالتذكير بما في أَيَّامِ اللهِ من العِبَر والعظات : ( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) .
وقد حدثت فيه آية من آيات الله حيث أنجى نبيه ، وأهلك عدوه .
يقول الله عزَّ وجلَّ : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) :
ما أعظمَ تأييدَ الله وانتصارَه لأوليائه من رسلِه وأنبيائِه وعبادِه المؤمنين !
وما أشدَّ انتقامَه من أعدائه المكذِّبين على قوَّتهم وشِدَّة بطشهم !
قال الله تعالى عن فِرعون : ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) .
( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) .
ها هو فِرعونُ يغرَق ويحيطُ به الغَرَق من كلِّ مكان ، وهو الذي طغى وتجبَّر وادَّعى الألوهيَّة فقال : ( يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) ، ( فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) .
وتفاخر بما لا يُساوي قطرةً في مُلك الله تعالى : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) !
ناسيًا أنَّ المُلكَ كلَّه لله ، وأنَّ الله هو الذي أعطاه ، وأطعمَه وسقاه !
رُوي أنَّ خليفةَ المسلمين هارونَ الرَّشيد رحمه الله لمَّا قرأ هذه الآية : ( قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) ، ورأى تفاخُر فرعون بمُلك مصر ؛ قال : " لعنَه الله ! ما كان أرقعَه [أي: ما أشدَّ خِفَّة عقله]! ادَّعى الرُّبوبيَّة بمُلك مصر ؟! واللهِ ؛ لأولينَّها أخسَّ خدَمي " ؛ فولَّى حُكم مصر خادمًا له اسمه : الخصيب ، كان يصبُّ له الماء عند الوضوء ! وَفَيات الأعيان لابن خَلِّكان (1/188)، وفتح البيان في مقاصد القرآن لصديق حسن خان (12/361) .
- ومن الدروس المستفادة : معيَّة الله تعالى لأنبيائه وأوليائه :
فلمَّا خرج موسى عليه السلام مُنفِّذًا أمر ربه ، متجهًا ناحية الشرق ؛ أمر فرعون بجمع كل الجنود ، وفي الوقت نفسه يُهَوِّنُ ، ويُحَقِّرُ من شأن بني إسرائيل كعادة أهل الباطل في كل زمان : ( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) .
جمعَ فرعون جنوده ، وطارد المؤمنين في ناحية الشرق ( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) .
وصلَ موسى إلى ساحل البحر الأحمر وخلفه فرعون وجنوه . فلما تراءى الجمعان صرخ ضعاف الإيمان ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) ، فرَّد عليهم موسى بقوة الإيمان : ( كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .
- ونجَّى الله تعالى( بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ) .
- ونجَّاهم من الغرق ، وأغرق فرعون وجنده: ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ *آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) .
- إن قصة موسى عليه السلام مع فرعون مليئة بالعبر والعظات ؛ ولذا كثر ورودها في القرآن الكريم حتى قال بعض العلماء : " كاد القرآن أن يكون كله لموسى ". الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/199).
فينبغي علينا أن نعتبر بآيات الله ؛ فإنَّ فيه عِبَرًا مقنعة للمؤمنين : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) ، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) .
وأما الجاحد والمعاند فلا يقنعه شيء : ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) .
- ومن المعاني الإيمانية : نصر الله لأنبيائه وأوليائه ، وإهلاكه لأعدائه :
لمَّا سأل النبي اليهود عن صومهم هذا اليوم قالوا : " هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ ". رواه البخاري (2004) ، ومسلم (1130) ، واللفظ له .
وهذه حقيقة يقينية، قال تعالى : ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) ، وقال : ( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) .
حتى لو تأخر النصر قليلاً فإنه قادم ، فالحق بطيء ولكنه يومًا يجيء ، كما في حديث هرقل حين قال لأبي سفيان : " سَأَلْتُكَ كَيْفَ كان قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ، ثُمَّ تَكُونُ لهم الْعَاقِبَةُ ". رواه البخاري (7)، ومسلم (1773) .
وإهلاك الله للظالمين سنة كونية؛ قال تعالى : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ) .
- ومن الدروس والعِبَر : أنَّ المسلمين أحق بجميع الأنبياء من كل الأمم :
فقد صامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأمر المسلمين بصيامه ؛ معلِّلاً ذلك بقوله : ( فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ ) . فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ . رواه البخاري (2004) ، ومسلم (1130) .
وهذا كقول الله تعالى : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) .
" فأحقُّ الناس بمتابعة إبراهيم الخليل : الذَّين اتبعوه على دينه ، ( وَهَذَا النَّبِيُّ ) يعني : محمَّدًا صلى الله عليه وسلم ، ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) : من أصحابه المهاجرين والأنصار ومَن بعدهم " . تفسير ابن كثير (2/58) .
فكذلك أحقُّ الناس بمتابعة موسى وأَوْلاهم به هم المسلمون ، الذين يتَّبعون دِينَ الإسلام الذي هو دين موسى وجميع الأنبياء عليهم السلام : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ) ؛ فالمسلمون لم يحرِّفوا ولم يبدِّلوا ولم يغيِّروا كما فعلَ اليهود .
والمسلمون يؤمِنون بموسى وغيره من أنبياء الله : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) .
وفي هذا لفتةٌ مهمَّةٌ إلى هذا الرِّباط العميق بين المسلمين بعضهم البعض ، وإن اختلفت أزمانُهم وبعُدَت أماكنهم ، وضرورة تحقيق الأُخُوَّة الإيمانيَّة بين المسلمين ، وتحقيق الولاء لله تعالى ورسوله وعباده المؤمنين ، التي من أهمِّ مُقتضياتها :
إمداد المسلمين لإخوانهم ، وخاصَّةً المحتاجين والمكروبين والمحصورين منهم ، في الداخل والخارج ، أفرادًا وجماعاتٍ ، ونُصرتهم ، ودَعمهم ، والتضامُن معهم ، ومُواساتهم .
- ومنها : مخالفة المشركين ، واستقلال الأمة الإسلامية في عقيدتها ، وصبغتها :
فقد تعمَّد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخالفة اليهود في صيام عاشوراء .
فعَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ ) .
قَالَ : فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رواه مسلم (1134) .
وفي رواية : ( لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ [السنة الآتية]لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ ) . رواه مسلم (1134) .
إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بمخالفة المشركين حتى في أدق الأمور ، فقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَالِفُوا الْيَهُودَ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ ) . رواه أبو داود (652) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3210) .
ونهى نهيًا شديدًا عن التشبُّه بهم ، فقال : ( مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ) . رواه أبو داود (4031) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6149) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي بَعْضِ الْهُدَى الظَّاهِرِ يُوجِبُ الْمُقَارَبَةَ ، وَنَوْعًا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ ، يُفْضِي إلَى الْمُشَارَكَةِ فِي خَصَائِصِهِمْ الَّتِي انْفَرَدُوا بِهَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَرَبِ ، وذَلِكَ يَجُرُّ إلَى فَسَادٍ عَرِيضٍ " .الفتاوى الكبرى (6/175) .
- ومن الدروس أيضًا :تشابه قلوب المؤمنين عبر الأزمان؛ إذ تجتمع على الإيمان بالله ورُسُله ، وتعظيم أيام الله ، وعبادة الله وحدَه لا شريك له ، ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) .
وكذلك تتشابه قلوب الكافرين عبر الأزمان، فتجتمع على تكذيب آيات الله ، ومُعاداة رسول الله : ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ، ( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) .
- ومنها : الفرح بنجاة المؤمنين وما يصيبهم من الخير والرخاء والنصر ، والفرح بهلاك الظالمين :قال تعالى : ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ) ، ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) .
وقال تعالى : ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
وقد شَتَمَ رَجُلٌ ابنَ عَبَّاسٍ ، فقال ابنُ عَبَّاسٍ : " إِنَّكَ لَتَشْتُمُنِي ، وَفِيَّ ثَلاثُ خِصَالٍ ، إني لآتِي على الآيَةِ من كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وجل ، فَلَوَدِدْتُ أَنَّ جَمِيعَ الناس يَعْلَمُونَ منها ما أَعْلَمُ منها .
وَإِنِّي لأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ من حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ يَعْدِلُ في حُكْمِهِ ، فَأَفْرَحُ بِهِ ، وَلِعَلِّي لا أُقاضِي إليه أَبَدًا .
وَإِنِّي لأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ قد أَصَابَ الْبَلَدَ من بِلادِ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَفْرَحُ ، ومالي بِهِ مِنِ سَائِمَةٍ " . رواه الطبراني في المعجم الكبير (10/266) .
الخطبة الثانية :
الحمد لله ربِّ العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين .
أما بعد؛
= إنَّ عاشوراء يوم عظيم حقًّا:
ولكن هناك تعظيم حقيقي لهذا اليوم ، وهناك تعظيم مُزَيَّف .
فمن التعظيم الحقيقي : صيامه :
فقد عظَّمه موسى عليه السلام؛ فصامه ، شكرًا لله على نعمة النجاة وإهلاك العدو .
وصامه اليهود تبعًا لموسى: قالوا : " فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا ؛ فَنَحْنُ نَصُومُهُ " . مسلم (1130) .
- وكان أهل الجاهلية يعظِّمونه: فكانوا يصومونه : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الجَاهِلِيَّةِ . رواه البخاري (1893) ، ومسلم (1125) .
ومن تعظيمهم له أنهم كانوا يسترون فيه الكعبة: قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " كَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ ". رواه البخاري (1592) ، ومسلم (1125) .
وعظَّمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فصامه ، وأمر المسلمين بصيامه . رواه البخاري (2004) ، ومسلم (1130) .
وكان صيامه مفروضًا ثم نُسِخَ: قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِصِيَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ .
فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ ؛ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ ) . رواه البخاري (1592) ، ومسلم (1125) .
ولكن استحباب صيام عاشوراء ما زال باقيًا :
خطب مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَقَالَ : أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ ؟
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِهَذَا الْيَوْمِ ، ( هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ ، وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، وَأَنَا صَائِمٌ ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُفْطِرَ فَلْيُفْطِرْ ) . رواه البخاري (2003) ، ومسلم (1129).
ومن فضل صيامه : أنه يكفِّر ذنوب سنة، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صيامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ ) . رواه مسلم (1162) .
قال الإمام البيهقي رحمه الله : " وهذا فيمَن صادفَه صومُه وله سيِّئات يحتاج إلى ما يكفِّرها ، فإن صادفَه صومُه وقد كُفِّرت سيِّئاته بغيره ؛ انقلبَت زيادةً في درجاته " . فضائل الأوقات صــ 438 .
ويُسَنُّ صيام التاسع أيضًا: فحِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ ) .
قَالَ : فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رواه مسلم (1134) .
فقد صام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العاشر ، وعزم على صيام التاسع ، فمن الأفضل صيام التاسع والعاشر .
وصوم عاشوراء عند العلماء على ثلاث مراتب :
أكملها :صيام ثلاثة أيَّام ، التاسع والعاشر والحادي عشر ؛ وقد جاء في ذلك حديثٌ ضعيفٌ ، لفظه : ( صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، وَخَالِفُوا فِيهِ الْيَهُودَ ، صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا ) .
وفي رواية للبيهقي : ( صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا ) . رواه الإمام أحمد (2154) ، والبيهقي في السُّنن الكبرى (4/287) ، وهو في الضعيفة (4297)، وضعَّفه الأرناؤوط أيضًا (4/52) ، لكن حسَّن إسنادَه الشيخ أحمد شاكر .
لكن وردَ فِعلُ ذلك عن بعض السَّلف من باب الاحتياط . لطائف المعارف صــ 52 .
والثاني :أن يُصام التاسع والعاشر . وعليه أكثر الأحاديث ، وهو الذي وردَت به السُّنَّة .
ويُشرع أيضًا صيام العاشر مع الحادي عشر بدلاً من التاسع والعاشر أو لمَن فاته صيامُ التاسع ؛ مُخالفةً لليهود : ( صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا ) .
والثالث :إفراد عاشوراء بالصِّيام وحدَه . زاد المعاد لابن القيِّم (2/72) ، وفتح الباري لابن حجر (4/246).
- وأما التعظيم المُزَيَّف ليوم عاشوراء:
فمنه : ما يفعله بعضُ أهل البِدَع [الشيعة]بأنفسهم في عاشوراء ، من اتِّخاذ هذا اليوم مأتمًا ويومَ حُزنٍ ونياحة ولَطْمٍ وشقٍّ للجيوب والثياب ، وتعذيب أنفسهم بالآلات الحادَّة ، والضرب بالسلاسل والحديد ، بما يُسَمُّونه : " اللطميَّة " و" التطبير " ، وخلط هذا بسبِّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، ودُعاء الحُسَين من دون الله ؛ كلُّ هذا لأجل مقتل الحسين بن عليِّ رضي الله عنهما في هذا اليوم !
وهذا من أعمال الجاهليَّة ، ففي الحديث : ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ) . رواه البخاري (1294) ، ومسلم (103) .
والمؤمن عند المصيبة يصبِر ويحتسِب ويرضى بقضاء الله تعالى .
وعلى العكس من ذلك : هناك مَن يقيم الحفلات في يوم عاشوراء ، ويصنع الحلوى ، بل هناك نوع من الحلوى تُصنع خصيصًا لهذا اليوم تصنع من الأرز واللبن ، تسمى " عاشوراء " ، ومنهم من يصنع "فطيرة عاشوراء " ، وهذا تشبُّه باليهود والنصارى لتعظيمهم هذا اليوم .
وهكذا اجتالتهم الشياطين عن هدي النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ، وعن سبيل المؤمنين في هذا اليوم العظيم ، فمنهم مَن حوَّله إلى مأتم وعزاء ، ومنهم مَن حوَّله إلى احتفال وغناء .
وكلُّ هذا من البِدَع المُحْدَثات التي حذَّر منها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حيث قال : ( وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ) . رواه أبو داود (4607) ، والترمذي (2976) ، وابن ماجه (44)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (8/150) .
نسأل الله تعالى أن يوفِّقنا إلى اتباع سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يجنِّبنا البِدَع ، إنه سميع قريب مجيب .
اللهمَّ اغفِر لنا ذنوبَنا ، وكفِّر عنَّا سيئاتِنا ، وتوفَّنا مع الأبرار .
اللهمَّ اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين .
وارْحَم موتانا وموتَى المسلمين .
واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين .
وفرِّج كرب المكروبين .
وانصُر إخواننا المستضعَفين .
اللهمَّ انصُر الإسلام وأعِزَّ المسلمين .
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين .