المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العلم المرفوع المبحث الاخير



محب التيجانية
08-10-2016, 11:45 AM
العلم المرفوع

المبحث الاخير


رابط المبحث الاول (http://alchamel114.org/vb/showthread.php?t=26168)

رابط المبحث التاني (http://alchamel114.org/vb/showthread.php?t=26169)

رابط المبحث الثالث (http://alchamel114.org/vb/showthread.php?t=26170)

اهل العلم والعبادة:

العبادة هي مقصد وجود الإنسان بل هي مقصد وجود كل المخلوقات, وهي الطريق إلى ولاية الله ومعرفته, وهي الطريق إلى جنة الدنيا والآخرة وسعادة الدنيا والآخرة.., قال الله تعالى: (وما خلقت الجنة والإنس إلا ليعبدون) وقال سبحانه: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) وقال سبحانه: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) وقال سبحانه: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله إلا بذكر الله تطمئن القلوب)

وفي الحديث القدسي: (يا بن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقا, ابن آدم لا تباعد عني فأملأ قلبك فقرا وأملأ يديك شغلا)اه رواه الطبراني في المعجم الكبير (20/216) عن معقل ابن يسار رضي الله عنه وصححه الحاكم (2/481) ووافقه الذهبي, ورواه ابن حبان في صحيحه (2/119) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

فإذا وفقك الله تعالى -أخي الكريم- للعلم فاشكره على ذلك بالعبادة والقنوت له, وفي الحديث: (أفلا أحب أكون عبدا شكورا) متفق عليه, فكان شكر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لنعمة غفران الذنوب بالقيام بالعبادة, وفي اقتضاء العلم العمل (ص/39): (عن صالح بن رستم قال: قال لي أبو قلابة: إذا أحدث الله لك علما فأحدث له عبادة، ولا يكن إنما همك أن تحدث به الناس)اه

والفقيه والعالم هو المداوم على العبادة, ففي سنن الدارمي 1/101: (عن عمران المنقري قال: قلت للحسن يوما في شيء قاله: يا أبا سعيد ليس هكذا يقول الفقهاء فقال: ويحك ورأيت أنت فقيها قط, إنما الفقيه: الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بأمر دينه المداوم على عبادة ربه)اه

وقال الإمام الشاطبي في الموافقات (1/60): (كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى لا من جهة أخرى, فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع...والشرع إنما جاء بالتعبد وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السلام)اه

وللعلم طغيان لا يقل عن طغيان المال والخلاص منه يكون بالعبادة, روى الخطيب في اقتضاء العلم العمل (ص/28): (عن يوسف بن الحسين قال: في الدنيا طغيانان: طغيان العلم وطغيان المال، والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة، والذي ينجيك من طغيان المال الزهد فيه)اه

فينبغي للمنتسب للعلم أن يكون له حظ من العبادة ولا يعتمد على مجرد العلم, وقد كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: (ينبغي للعالم أن يكون له خبيئة من العمل الصالح فيما بينه وبين الله عز وجل ولا يعتمد على العلم فقط فإنه قليل الجدوى في الآخرة)اه العهود المحمدية ص267
وكان الإمام النووي رحمه الله يقول: (عليكم بالإخلاص في العلم لينفع الله تعالى به العباد قال: ولم يبلغنا عن أحد من العلماء غير العاملين أنه رؤي بعد موته فقال: غفر الله لي بعلمي أبدا)اه العهود المحمدية ص267

أهل العلم وقيام الليل

وأخص العبادات التي ينبغي على المنتسب إلى العلم أن يتحلى بها هي قيام الليل, فلا يحسن بطالب العلم أن ينام وقت تقسيم الجوائز والعطايا, كان ذو النون المصري يقول: (كيف يكون طالب العلم عاملا به وهو ينام وقت الغنائم ووقت فتح الخزائن ووقت نشر العلوم والمواهب في الأسحار لا يتهجد من الليل ساعة)اه العهود المحمدية ص266

وفي العهود المحمدية أيضا ص267: (قال أبو عصمة: بت ليلة عند الإمام أحمد أطلب الحديث فوضع لي إناء فيه ماء للتهجد, فجاء إلى صلاة الصبح فوجد الإناء بحاله فقال لي: لماذا جئت؟ فقلت جئت أطلب الحديث فقال: كيف أعلمك الحديث وليس لك تهجد في الليل؟ اذهب لحال سبيلك)اه

وروى ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (34 /138) بسنده (عن أحمد بن أبي الحواري قال: دخلت على أبي سليمان الداراني فسلمت عليه فقال: إليك عني يا بطال إن الله تعالى ينزل في كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني كيف ينام حبيب عن حبيبه؟! وإني لمطلع عليهم إذا قاموا, جعلت أبصارهم في قلوبهم فكلموني على المخاطبة فأقول: بعيني من تلذذ بكلامي واستراح إلى مناجاتي يا جبريل ناد فيهم: لم هذا البكاء الذي نسمعه منكم؟ هل أخبركم مخبر عني أن حبيبا يعذب أحباءه؟ كيف أعذب أقواما إذا جنهم الليل تملقوني؟)اه

وبقيام الليل تحسُن الوجوه وتُكسى بالأنوار, وتُلْقى محبة أهلها في القلوب, روى ابن أبي الدنيا في كتابه التهجد وقيام الليل (ص/341) بسنده (عن إسماعيل بن مسلم قال قيل للحسن: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره نورا)اه
وفي كتاب التهجد لابن الخراط: (قال سعيد بن المسيب رحمه الله: إن الرجل ليصلي بالليل، فيجعل الله في وجه نورا يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط فيقول: إني لأحبُ هذا الرجل)اه بواسطة رهبان الليل للعفاني 3/35

ولا يُحرَم من قيام الليل إلا محروم قيدته خطاياه وذنوبه, روى ابن أبي الدنيا في كتابه التهجد وقيام الليل (ص/405) بسنده عن الحجاج الصواف قال: قيل لعبد الله بن مسعود: ما نستطيع قيام الليل؟ قال: أقعدتكم ذنوبكم)اه, وروى أيضا في كتابه التهجد وقيام الليل (ص/406) (عن الحسن قال: إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل)اه

وروى أبو نعيم في حلية الأولياء (8/96) بسنده (عن الفضيل بن عياض قال: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطيئتك)اه

وفي قوت القلوب لأبي طالب المكي (1/75): (قال رجل للحسن: يا أبا سعيد إني أبيت معافى وأحب قيام الليل وأتخذ طهوري فما بالي لا أقوم؟ فقال: ذنوبك قيدتك يا ابن أخي, وقال سفيان الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته، قيل له: ما هو؟ قال: رأيت رجلاً بكى فقلت في نفسي: هذا مراء)اه


البرنامج العملي العبادي

إن الهدف من السلوك والتزكية هو وصول المرء إلى مقام الإحسان (الإحسان في معاملة الخالق والإحسان في معاملة المخلوق) وذلك إنما يكون بالتخلية والتحلية للظاهر والباطن, والظاهر سبع جوارح: السمع والبصر واللسان واليد والرجل والبطن والفرج, والباطن أمران: القلب والفكر, والتخلية تكون (بالترك) والتحلية (بالفعل)

والمُعين على ذلك بتوفيق الله تعالى -بعد أداء الفرائض- هو مجاهدة النفس بالمداومة على النوافل قال الله تعالى في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده ورجله..) رواه البخاري

وأعظم النوافل تزكيةً للنفس هو الإكثار من ذكر الله قال صلى الله عليه وآله وسلم : (إن القلوب لتصدى كما يصدى الحديد قالوا: فما جلاؤها يا رسول الله؟ قال: كثرة ذكر الله)اه رواه ابن شاهين وابن عدي, وفي مصنف ابن أبي شيبة 6/164: (عن الأسود بن هلال المحاربي قال: قال لي معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة يعني نذكر الله)اه وفي شعب البيهقي 1/75: (عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن رواحة قال لصاحب له : تعال حتى نؤمن ساعة, قال : أو لسنا بمؤمنين؟ قال : بلى ولكنا نذكر الله فنزداد إيمانا)اه

قال ابن قيم الجوزية في الوابل الصيب من الكلم الطيب ص52: (ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا تُرك صدئ وإذا ذكر جلاه, وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب؛ وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر, فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكماً على قلبه، وصدؤه بحسب غفلته) اه
(وربما هون الكثير ممن ينتسب إلى العلم والدعوة من أمر العبادات والأذكار وحضور الجماعات وأنواع القربات التي يُتوخى من ورائها إصلاح القلب وإيقاظه للحقيقة الإسلامية وتخليصه من أمراضه التي نحن بصدد الحديث عنها, واعتبروا ذلك من دأب العامة وعاداتهم وتصوروه شيئا لا يليق بمن نشط للحركة والدعوة الإسلامية..

إنه وهم عجيب ومؤسف, سببه الذهول عن الفارق الأساسي الكبير بين الإسلام والمذاهب الفكرية الأخرى, وسبب ذلك الذهول انصرافهم عن مجاهدة النفس وتركها مع ما تهواه وتطمح إليه)اه رسالة (باطن الإثم) للبوطي ص59

وعلى المنتسب إلى العلم ألا يسوف في البدء بالسير إلى الله تعالى فإن التسويف جند من جنود إبليس, روى الخطيب في اقتضاء العلم العمل (ص/210): (عن قتادة، عن أبي الجلد قال: (قرأت في بعض الكتب: إن (سوف) جند من جند إبليس)اه وقال ابن عطاء الله في الحكم: (إحالتك الأعمال على وجود الفراغ من رعونات النفس)اه وقال أبو الربيع: (سيروا إلى الله عرجا ومكاسير ولا تنتظروا الصحة)اه وانظر رسالة آداب سلوك المريد ص13
وأول شيء في السير إلى الله هو باعث يقذفه الله في قلب المرء يزعجه ويقلقه ويقول له: إلى متى الغفلة؟ سر إلى الله, قد وصل القوم وأنت ما زلت مكانك

فإن قيل: كيف يأتي هذا الباعث إلى القلب؟ قيل: هذا الباعث يقذف في القلب بأربعة أشياء: بالترغيب والترهيب والتشويق والنظر

- بالترغيب في رضا الله والجنة وما أعده الله لأوليائه في الدنيا والآخرة

- والترهيب من غضب الله والنار وما أعده الله للغافلين في الدنيا والآخرة

- والتشويق للقاء الله والوصول إليه والأنس به والتلذذ بمناجاته

- والنظر إلى الصالحين, والنظر من الصالحين, أما النظر إليهم ففي الحديث: (خيار عباد الله الذين إذا رءوا ذكر الله) رواه أحمد (4/227) عن عبد الرحمن بن غنم, وإما النظر منهم ففي الحديث: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) رواه الطبراني (8/102) عن أبي أمامة والترمذي (5/298) عن أبي سعيد, وفي الحديث القدسي: (كنت بصره الذي يبصر به) وفي رواية: (فبي يبصر) رواه البخاري عن أبي هريرة

وعلى المرء أن يتعرض لتلك الأسباب ليحل في القلب ذلك الباعث, فإذا حل ذلك الباعث في القلب فيجب تجاهه أربعة أشياء: شكر الله تعالى عليه وتقويته وحفظه والاستجابة له

- فشكر الله تعالى عليه, بأن يتأمل: كم من المنتسبين إلى العلم وغيرهم ممن لم يقذف في قلبه ذلك الباعث, وكيف خصه الله به

- وتقوته تكون بشيئين: (بالذكر) وخصوصا ثلاثة أنواع من الذكر: التهليل والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم , (وبالفكر) وخصوصا ثلاثة أنواع من الفكر: التفكر في نعم الله ويورث محبة الله, والتفكر في آيات الله ويورث عظمة الله, والتفكر في أحوال الدنيا والآخرة وأهلهما ويورث الزهد في الدنيا والعمل للآخرة

- وحفظه يكون بشيئين: مجالسة أهل الصلاح والبعد عن مجالسة البطالين

- والاستجابة له تكون بالبدء بالسير إلى الله تعالى وعدم التسويف
ثم أول خطوة يخطوها المرء في الطريق بعد الباعث هي تصحيح التوبة من كل الذنوب الظاهرة والباطنة التي بين العبد وربه والتي بين العبد والخلق, ولا يمكن للمرء أن يسير إلى الله تعالى وهو مصر على ذنب أو في رقبته حقوق للخلق

ثم عليه بملازمة النوافل, فيكون له نصيب: من قيام الليل ويحافظ على الرواتب والوتر والضحى, ويجتهد إلا يمر عليه يوم من غير صدقة ولو باليسير, ويكون له نصيب من الصوم ولو ثلاثة أيام من كل شهر, ويحافظ على قراءة القرآن أقل شيء جزء في اليوم, ويحافظ على الأذكار المقيدة والمطلقة, فالمقيدة كأذكار الصباح والمساء والنوم والاستيقاظ وأدبار الصلوات والدخول والخروج من البيت والمسجد وغيرها من أذكار المناسبات, والمطلقة كالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والحوقلة والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويحاول أن يكثر من ذلك ما استطاع وخصوصا التهليل والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم

ويجب عند أهل التزكية والسلوك أن تكون الصلاة والذكر والقرآن وغيرها من العبادات بحضور القلب فإن القيام بذلك من غير حضورٍ أثرُه ضعيف على القلب, ويجعل السير بطيئا, ثم المداومة على النوافل وحضور القلب فيها يحتاج إلى مجاهدة في أول الأمر وكما قيل: جاهد تشاهد, ثم بعد ذلك يصير الحضور عادة للمرء, فأوله عناء وآخره هنا.. أوله كُلفة وآخره ألفة.

كما يجب أيضا مراعاة خواطر القلب: النفسانية والشيطانية ويكون ذلكبأشياء منها: صرف تلك الخواطر وعدم الاسترسال معها وكُرهها والاستعاذة بالله منها, ثم إن المداومة على النوافل وحضور القلب فيها هو سبب رئيس في كشف تلك الخواطر والتخلص منها؛ لأنه كلما قرب الإنسان من الله تعالى ازداد معرفة بعيوب نفسه.

وتفاصيل ذلك كله يُرجع فيه إلى كتب التزكية والسلوك وخصوصا: كتاب (منهاج العابدين إلى جنة رب العالمين) للإمام الغزالي وكتاب (رسالة آداب سلوك المريد) للإمام الحداد, ولكن هناك أمر يختصر للمرء طريق السير إلى الله تعالى, ألا وهو أن يتربي على يد شيخ أهل للتربية, وهو ما سيكون الحديث عنه في المبحث التالي:

التزكية والسلوك على يد شيخ مربي

تقدم معنا أن علم التزكية والسلوك -وإن كان قد ألفت الكتب في تبيين حقيقته وتوضيح نهجه ومعالمه- ليس بعلم نظري, بل أعمال ووظائف ومجاهدات في الظاهر والباطن وفقا لنظام معين تورث بإذن الله معارف وأنوارا وأحوالا في قلب السالك من ذاقها ذاق طعم الإيمان, يذوقها المرء ولا يستطيع أن يعبر عنها لأن العبارة تعجز عنها وإذا عبر غلط.

ومهما قرأ الشخص عن التزكية والسلوك وعن تلك الأحوال فلن يتحصل عليها, قال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين 1/71 : (وأما الكتب والتعليم فلا تفي بذلك بل الحكمة الخارجة عن الحصر والعد إنما تتفتح بالمجاهدة والمراقبة ومباشرة الأعمال الظاهرة والباطنة والجلوس مع الله عز وجل في الخلوة مع حضور القلب بصافي الفكرة والانقطاع إلى الله تعالى عما سواه)اه
وهذا الأمر يحتاج في العادة إلى أن يتربى الشخص على يد شخص أهل للتربية والتزكية, ويكون ذلك الشيخ أيضا قد تربى على من هو أهل لذلك وهكذا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المزكي الأول الذي قال الله عنه ( يتلو عليهم آيته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة )
قال الإمام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 11/510: (لا ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الإيمان والقرآن كما تلقى الصحابة ذلك عن النبي [صلى الله عليه وآله وسلم] وتلقاه عنهم التابعون وبذلك يحصل اتباع السابقين الأولين بإحسان, فكما أن المرء له من يعلمه القرآن ونحوه فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر)اه

ومما يؤكد أهمية الشيخ المربي قوله تعالى: (ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) فعلامة إضلال الله للعبد عدم وجود الولي المرشد وعلامة هدايته له أن يوفق لولي مرشد, وتأمل قوله: وليا مرشدا, تجد أن المرشد إذا لم يكن وليا فهو غير كاف, وكذا الولي إذا لم يكن مرشدا
والشيخ المربي هو الأب الروحي قال الإمام ابن تيمية: (الولادة نوعان: أحدهما: هذه المعروفة, والثانية: ولادة القلب والروح وخروجهما من مشيمة النفس وظلمة الطبع, قال: وهذه الولادة لما كانت بسبب الرسول كان كالأب للمؤمنين...قال: فالشيخ والمعلم والمؤدب أب الروح والوالد أب الجسم)اه نقله تلميذه في مدارج السالكين 3/70

وقبله قال الشيخ عبد القادر الجيلاني في الفتح الرباني ص 236 : ( يا من أراد السلوك استدل بمن قد سلك وعرف المواضع المخوفة منها وهم المشايخ العمال بالعلم المخلصون في أعمالهم, يا غلام كن غلام الدليل اتبعه واترك رحلك بين يديه وسر معه ) اه

وقال الإمام الطِّيبي كما في "تنوير القلوب" للكردي (ص/45): (أجمع أهل الطريق على وجوب اتخاذ الإنسان شيخاً له, يرشده إلى زوال تلك الصفات التي تمنعه من دخول حضرة الله بقلبه؛ ليصح حضوره وخشوعه في سائر العبادات, من باب مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولا شك أن علاج أمراض الباطن واجب. فيجب على كل من غلبت عليه الأمراض أن يطلب شيخاً يخرجه من كل ورطة, وإن لم يجد في بلده أو إقليمه وجب عليه السفر إليه)اه.

وقال الإمام أبو حامد الغزالي في رسالته خلاصة التصانيف ضمن مجموع رسائله ص112: (الخامس: أن يكون له مرشد ومرب ليدله على الطريق ويرفع عنه الأخلاق المذمومة ويضع مكانها الأخلاق المحمودة.

ومعنى التربية أن يكون المربى كالمزارع الذي يربي الزرع فكلما رأى حجرا أو نباتا مضرا بالزرع قلعه وطرحه خارجا ويسقي الزرع مرارا إلى أن ينمو ويتربى ليكون أحسن من غيره, وإذا علمت أن الزرع محتاج للمربي علمت أنه لا بد للسالك من مرشد مرب البتة, لأن الله تعالى أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام للخلق ليكونوا دليلا لهم يرشدهم إلى الطريق المستقيم وقبل انتقال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدار الآخرة قد جعل الخلفاء الراشدين نوابا عنه ليدلوا الخلق إلى طريق الله وهكذا إلى يوم القيامة فالسالك لا يستغنى عن المرشد البتة)اه
والفوائد التي يجنيها من يتزكى على يد شيخ مربي كثيرة جدا ومنها:

- أن الشيخ دليل مجرِب, والمسافر في طريق يسلكه لأول مرة لا بد له من دليل عادة وإلا فلا مفر من الضياع والتيه في سفره, عصمنا الله وإياكم من التيه والضياع, ولذا قال سفيان الثوري ما معناه: (عبدت الله سنين ثم لقيت عبد الواحد بن زيد فبان لي أن عندي من الكبائر ما لم أكن أعلمه) وقال بعض السلف: (عِلمُنا هذا من لم يعلمه مات مصرا على الكبائر وهو لا يشعر)

- كما أن من عادة النفس التفلت والهروب من التكاليف فإذا شعر الشخص بوجود من يتابعه فهذا أدعى للالتزام بالتكاليف

- كما أن أول العلل والأمراض تحطما عند التربية على يد شيخ مربٍ هو مرض الكبر والعجب و(الأنا) فإن قبول النفس بمربي هو بحد ذاته بعدٌ عن هذه الأمراض, ومن لم يتربى على يد شيخ فإنه لا يتخلص من هذه الأمراض في الغالب

- كما أن الشيخ يربيه بحالهِ قبل قالهِ وهو ما يسمى في المصطلح المعاصر (التربية بالقدوة) وقد قال بعض السلف ما معناه: (إني لأتذكر شيخي فأتقوى على العبادة شهرا فكيف إذا رأيته فكيف إذا سمعت كلامه ؟!) وفي صفة الصفوة (2/392): ( عن الجنيد بن محمد قال: كان لي شيوخ كانت رؤيتهم لي قوة من الأسبوع إلى الأسبوع وإن أبا بكر بن مسلم منهم)اه وفي صفة الصفوة (3/267): (عن جعفر قال: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع نظرة, وكنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أن وجهه وجه ثكلى, وعن مطر الوراق قال: ما اشتهيت أن أبكى قط حتى اشتفى إلا نظرت إلى وجه محمد بن واسع, وكنت إذا نظرت إلى وجهه كأنه ثكلَ عشرةً من الحزن)اه وفي حلية الأولياء (2/158): (عن أشعث بن عبد الله قال: كنا إذا دخلنا على الحسن خرجنا ولا نعد الدنيا شيئا)اه

فإن قيل: إن القيام بالشرائع يغني عن الشيخ, فجوابه: ما قاله صاحب كتاب العهود المحمدية ص369 حيث قال: (وقد أجمع الأشياخ على أنه لو صح لعبد أن يأتي بالمأمورات على الوجه الذي أمر الله تعالى به من غير خلل لما احتاج أحد إلى شيخ لكن لم يصح لهم ذلك فاحتاجوا ضرورة إلى من يبين لهم مراد الحق فلذلك احتاج أتباع المجتهدين إلى المجتهدين) اه

وإن قيل: أين هم الشيوخ المربون الذين يزكون نفوسنا ويأخذون بأيدينا إلى الله؟ قيل: من جد وجد ومن صدق الله صدقه, ولو صدق المريدون لوجدوا المشايخ على الأبواب, قال ابن عطاء الله في الحكم: (سبحان من لم يجعل الدليل عليهم إلا من حيث الدليل عليه ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه)اه

وبعد أن عرفنا أهمية الشيخ المربي لا بد من التنبيه إلى أمر مهم جدا ألا وهو الحذر من الأدعياء, فقد انتصب للتربية من ليس أهلا لها.

فإن قيل: كيف أعرف الأدعياء من غيرهم؟ قيل: تعرف ذلك بأن تنظر في الصفات والأخلاق, ويكون ذلك بأن تجالس الشيخ وتسمع له وتقرأ له وتجالس مريديه وطلابه, فإن رأيت فيه صفات وأخلاق الشيخ المربي فهو أهل للتربية وإلا فلا.

فإن قيل: وما هي صفات وأخلاق الشيخ المربي؟ فالجواب: هو ما قاله الإمام الغزالي في خلاصة التصانيف حيث قال ص113: (وشرط المرشد أن يكون عالما لكن ليس كل عالم يصلح للإرشاد بل لا بد له أن يكون عالما له أهلية صناعة الإرشاد, ولهذا المرشد علامات ونحن نذكر لك ما لا بد له منها بطريق الإجمال حتى لا يدعي الإرشاد كل متحير, فالمرشد هو:

- الذي يكون قد خرج من باطنه حب المال والجاه

- وتأسس بنيان تربيته على يد مرشد كذلك وهلم حتى تنتهي السلسلة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- وذاق بعض الرياضات كقلة الأكل والكلام والنوم وكثرة الصلاة والصدقة والصوم

- واقتبس نورا من أنوار سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم

- واشتهر بالسيرة الحسنة والأخلاق المحمودة من صبر وشكر وتوكل ويقين وطمأنينة وسخاء وقناعة وأمانة وحلم وتواضع ومعرفة وصدق ووقار وحياء وسكون وتأن وأمثالها

- وتطهر من الأخلاق الذميمة كالكبر والبخل والحسد والحقد والحرص والأمل الطويل والطيش ونحوها

- وسلِم من تعصب المتعصبين واستغنى عن علم المكلفين بالعلم المتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

فالاقتداء بمثل هذا المرشد هو عين الصواب والظفر بمثله نادر لا سيما في هذا الزمان فإنه كثر فيه من يدعى الإرشاد وهو في الحقيقة يدعو الناس إلى اللهو واللغو, بل ادعى كثير من الملحدين الإرشاد بمخالفة الشريعة وبسبب غلبة هؤلاء المدعين اختفى المرشدون الحقيقون في أركان الزوايا

وبما ذكرناه عُلم بعضُ علامات المرشد الحقيقي, حتى أنه من وجد متخلقا بها علم أنه من المرشدين ومن لم يكن متخلقا بها علم أنه من المدعين, فإن تحصل أحد على مثل هذا المرشد وقَبِلَهُ المرشدُ وجب عليه احترامه ظاهرا وباطنا)اه كلام الغزالي

وقال الإمام الشاطبي في الموافقات (1/93): (للعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق مع ما تقدم وإن خالفتها فى النظر وهى ثلاث:

- إحداها: العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقا لفعله فإن كان مخالفا له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه ولا أن يقتدى به في علم وهذا المعنى مبين على الكمال في كتاب الاجتهاد والحمد لله

- والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم وملازمته لهم فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك وهكذا كان شأن السلف الصالح, فأول ذلك ملازمة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذهم بأقواله وأفعاله...وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى فقهوا ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك...

- والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واقتداء التابعين بالصحابة وهكذا في كل قرن)اه

وقال الشوكاني كما في الفتح الرباني 2/1044: (فيا طالب الخير إذا ظفرت يداك بواحد من هؤلاء الذي هم صفوة الصفوة وخيرة الخيرة فاشددهما عليه واجعله مؤثرا على الأهل والمال والقريب والحبيب والوطن والسكن)اه

فإن قيل: إن وجدتُ أكثرَ من شيخ فيهم تلك الصفات والأخلاق, فكيف يكون الاختيار من بينهم؟ قيل: عليك بالاستخارة وكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكثرة الدعاء بـ (يا دليل الحائرين) وبعد ذلك لا بد أن يأتيك من الله تعالى ما يرشدك إلى شيخك ومربيك, إلهام أو رؤيا أو طمأنينة قلب...إلخ ثم عليك بالاستفادة من جميع الشيوخ المربين.

نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يدلنا عليه وأن يوصلنا إليه وأن يعيننا على أنفسنا وأن يجعلنا من العلماء العاملين وأن يجعلنا من المقربين المحبوبين لديه, وأن يجعل علمنا حجة لنا لا علينا والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سدينا محمد وآله وصحبه وأتباعه

عبد الفتاح بن صالح قديش اليافعي
اليمن – صنعاء

بهاء الدين
08-10-2016, 07:46 PM
مشكور وجزاك الله كل خير على الطرح الطيب

روضة العامودى
10-10-2016, 05:06 AM
شكرا على الطرح والافادات القيمة بارك الله فيكم

نور الهدى
11-10-2016, 06:09 PM
شكرا على الطرح الطيب بارك الله فيكم

tafouket
12-10-2016, 07:11 PM
شكرا على الطرح الطيب وجزاكم الله كل خير

هاشم
18-10-2016, 03:02 AM
شكرا اخى محب التيجانية على مساهماتك القيمة ونرجو المزيد

جمال الرصافي
21-10-2016, 08:37 PM
شكرا على المواضيع القيمة فى السير والسلوك وجزاكم الله كل خير

جنة
24-10-2016, 05:06 AM
شكرا على الموضوع والافادة جزاكم الله كل خير

جيهان
03-11-2016, 02:50 PM
شكرا على الموضوع والافادة

ابو على
09-11-2016, 07:13 PM
شكرا على العرفانيات الطيبة جزاكم الله كل خير

صفوان حجازى
10-11-2016, 02:21 PM
مشكور وجزاكم الله كل خير

الفرغل ابو الرجال
16-11-2016, 01:48 AM
مشكور وجزاك الله كل خير اخى على الطرح القيم

ابو حاتم
20-11-2016, 06:30 PM
شكرا على الموضوع والافادة بارك الله فيكم

بلال
23-11-2016, 02:20 AM
شكرا على الموضوع القيم ونتمنى المزيد منك اخى محب التيجانية