المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الوأد على الطريقة العصرية (2/3)



محمود
09-12-2016, 09:39 AM
عادل بن سعد الخوفي
استكمالاً للحديث عن العنف الأسري ضد الأطفال والزوجات، وقد ذكرتهما في الجزء الأول، نستكمل -بحول الله- الجزء الثاني في الحديث عن العنف الأسري ضد المسنين والخدم، ومما ذُكر هناك:

"وتنتهي حقبة الجاهلية الأولى بمبعث نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، لتبتدئ حقبة جاهلية القرن الواحد والعشرين في هذا الأمر بسلوكيات أشد وأنكى، فلم يقتصر الوأد فيه على القتل للبنات وبعض الذكور وحسب، بل خرج إلينا تحت شعار "العنف الأسري" ليئد "الأطفال، والزوجات، والمسنين، والخدم"، وقد يَتَّخذ صوراً أخرى من "الوأد" فيقتل براءتهم، وإرادتهم، وحريتهم، وكرامتهم، وحقوقهم، تارة بإيذاء جسدي، وتارة بإيذاء لفظي، وتارة بإيذاء نفسي"([1]).

إنَّ توقير كبار السن والعجزة أمرٌ أبجدي في حياة المجتمعات المسلمة، وفِطرة غريزية لذوي النفوس السليمة، كيف! وقد جعل ذي العزَّة والجلال من تبجيله وتعظيمه -عز وجل- إكرامهم فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ من إِجلالِ اللهِ: إِكرامَ ذي الشَّيْبَة المسلم). ([2])، أي "تَعْظِيم الشَّيْخ الْكَبِير فِي الْإِسْلَام بِتَوْقِيرِهِ فِي الْمَجَالِس وَالرِّفْق بِهِ وَالشَّفَقَة عَلَيْهِ وَنَحْو ذَلِكَ، كُلّ هَذَا مِنْ كَمَالِ تَعْظِيم اللَّه لِحُرْمَتِهِ عِنْد اللَّه".([3]).

بيد أن هذا الواقع قد شابه ما يُعكِّرُ صفوه؛ فقد ظهرت سلوكيات سلبية تُجاه ذي الشيبة المسلم، وهي وإن كانت قليلة مقارنة بمثيلاتها في المجتمعات الأخرى، إلاّ أنها مقلقة، وتستحق الاهتمام لخطورتها وتأثيرها السلبي على ترابط المجتمع وتكاتفه الأسري.

فالآباء والمسنون كانوا يوماً عنوان نهضة أمتنا، وسبب رُقِيِّنا، وتاجاً فوق رؤوسنا؛ فبصماتهم صنعت تميزنا بفضل الله، لقد كان أحدهم رائداً حكيماً في أسرته ومجتمعه؛ فلا يجوز أن نجعله بعد عطائه الفذ منزوياً في ركن، أو ننظر إليه على أنه عبءٌ في مسيرة انطلاقتنا، أو أن نكافئه بعد أن أمسى (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً).([4])، بتعامل يفتقد أدنى مقومات الأدب والشهامة والإحسان؛ فتفتح أمامه أبواب المشكلات النفسية مُشرعة، فالعلاقة بين سوء معاملة المسن والمشكلات النفسية التي تعترضه علاقة طردية، كلَّما زادت سوء المعاملة زادت المشكلات النفسية التي يعيشها.

العنف ضد كبار السن من المشاكل الاجتماعية المتوارية عن الأنظار، لكونها تستهدف المسنِّين من قِبَل أقرب الأشخاص إليهم، وبالتالي يستعصي على المعنيين اكتشافها سريعاً لعلاجها في مهدها، والتعرف على أسبابها ودوافعها، وإن كانت استرعت انتباه المختصين والباحثين مؤخراً.

"رأسها الأشيب محاط بالضمادات، آهاتها تكسر القلب، والحزن يسكن عينيها، هي أم سقطت في حمام منزلها، وهى تعيش وحدها بعد زواج أبنائها، وظلت يومًا كاملاً تئن وتنزف إلى أن تذكرها ابنها وذهب لزيارتها، ونقلها إلى المستشفى، وانصرف مرتاح الضمير، لتكمل هي مأساة وحدتها!"([5]).

و"قصة واقعية حدثت منذ خمس سنوات في عاصمة مملكتنا الحبيبة ملخصها أن أحد الإخوان متزوج ولديه أطفال أكبرهم عمره سبع سنوات، ويعيش معه والده الطاعن في السن، وأمام إلحاح زوجته وكلامها المعسول بوضع والده في إحدى غرف المسجد المجاور لمنزلهم حتى لا يشق عليه الذهاب والإياب من وإلى البيت تيسيراً عليه، مع تعهدها بالاهتمام بكل متطلباته, طرح الرجل المغلوب على أمره الفكرة على والده الذي لم يكن له من خيار إلاّ الموافقة على مضض، وفعلاً ذهب الرجل إلى السوق ومعه ابنه البكر "سبع سنوات" ليشتري لوالده مستلزمات الغرفة التي في المسجد من فرش وسرير ودولاب ونحوه, وكان من عناية الله به أن سأله ابنه الصغير المرافق له عمّا يشتريه ولماذا؟

فأجابه: إن ذلك لجده حيث، إنه سوف يقيم في إحدى غرف المسجد المجاور لمنزلهم، فسأله هذا الطفل الصغير بمنتهى البراءة: ومتى نشتري لك مثل ذلك يا أبي؟!

نزل السؤال على الأب كالصاعقة، وزلزل الأرض من تحت قدميه وأفاق من غيبوبته، فأعاد كل ما اشتراه على صاحب المحل، ولم ينتظر أن يعيد له صاحب المحل فلوسه، وعاد مهرولاً خجلاً إلى والده يقبله ويعتذر له، ويؤكد له أن له أقصى البيت، ولهم أدناه، أما الزوجة العاقة فقد خيرها بين والده وأبنائه أو بيت أهلها، وهكذا عاد الرجل إلى صوابه، وفتح الله على قلبه، وكما تدين تُدان، والجزاء من جنس العمل، وجزاء سيئة سيئة مثلها"([6]).

ويمكننا القول إن مظاهر العنف الأسري الموجَّه للمسنين، آباءً كانوا أو قرابات:

منع الأكل و الدواء عنهم، وعدم الاهتمام بنظافتهم الشخصية أو نظافة وأمان مكان معيشتهم، وعدم تأمين احتياجاتهم، وعدم انتظام مواعيد مراجعاتهم الصحية، وضربهم، وحبسهم أو عزلهم عن المجتمع، وهجرهم، وحرمانهم من الطعام، وتوبيخهم أو تهديدهم أو تخويفهم أو تعنيفهم.

وسبحان مولانا –عز وجل- الذي يقول: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).

قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: "خصّ حالة الكبر؛ لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر، فألزمه في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل؛ لأنهما في هذه الحالة قد صارا كَلاًّ عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه، فلذلك خص هذه الحالة بالذكر"([7]).

وأما الخدم فالحديث عنهم يطول:

"اعترفت صاحبة المنزل أنها قامت بتعذيب الخادمة ومعاقبتها وإحراقها بالنار، الأمر الذي تسبب في وفاتها لاحقاً. وأوضح الطبيب الشرعي الذي عاين الجثة أنه توجد حروق متفرقة في جميع أنحاء الجسم، مع كسر في الساعد الأيمن، إضافة إلى أربعة كسور في أضلع الصدر، كما أن الحروق الموجودة في جسدها قد أصابها التعفن، وتبين وجود آثار ضرب قديمة في الجسد والرأس. وجاء في اعتراف السيدة التي تعمل معلمة أنها كانت تحبس الخادمة وتعذبها بسبب عدم إتقانها للعمل".([8]).

إنَّ العجب لا ينفكُ عن كل ذي ذرة من إيمان، وهو يقارن بين المشهد الذي ذكره لنا أبومسعود الأَنْصَارِىِّ -رضي الله عنه- حيث يقول: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِى فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِى صَوْتًا: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ». فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. فَقَالَ: «أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ»([9]). وعَنْ هِلاَلِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: "عَجِلَ شَيْخٌ فَلَطَمَ خَادِمًا لَهُ، فَقَالَ لَهُ سُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ عَجَزَ عَلَيْكَ إِلاَّ حُرُّ وَجْهِهَا لَقَدْ رَأَيْتُنِى سَابِعَ سَبْعَةٍ مِنْ بَنِى مُقَرِّنٍ مَا لَنَا خَادِمٌ إِلاَّ وَاحِدَةٌ لَطَمَهَا أَصْغَرُنَا فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُعْتِقَهَا"([10]).

وبين مشهد القرن الحادي والعشرين "أدّى تعذيب وحشي تعرضت له خادمة إندونيسية من رب عملها وزوجته لمدة شهر كامل إلى حالة موت كاملة لأعضائها، ترتب عليها قرار الأطباء بتر أطرافها الأربعة بعد إصابتها بالغرغرينا، وحسب المعلومات المتوفرة فقد قام صاحب العمل بربط خادمته في فناء المنزل الخارجي لمدة شهر كامل تحت أشعة الشمس، وقام خلال تلك المدة بضربها بأسياخ الحديد وتكسير أسنانها وقطع شفاهها".([11]).

سبحان الله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، أي قوم هؤلاء القوم، وأية نفوس يحملونها بين جوانحهم؟! وأين هم من توجيه نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: (إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ).([12]).

إنَّ صور العنف على العمالة والخدم في البيوت تحمل أوجهاً متعددة منها: التلفظ عليهم بمفردات بذيئة وعبارات نابية، حبسهم وضربهم وتهديدهم، عدم توفير الطعام واللباس والمأوى المناسب لهم، وتكليفهم بما لا يطيقون من أعمال، أو عدم إعطائهم الوقت الكافي للراحة، وحرمانهم من التواصل مع أسرهم بأي طريقة مناسبة، التعدِّي على ممتلكاتهم أو عدم الوفاء بمرتباتهم وتأخيرها.

إننا محاسبون عمَّن تحت أيدينا من العمالة والخدم، يقول صلى الله عليه وسلم: (قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِى ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ). ([13]).

وصدق الله عز وجل: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).([14]).


ولا يزال للحديث بقية بإذن الله في جزئه الأخير.


([1]) مقطع من الجزء الأول في مقالتي "الوأد على الطريقة العصرية ( 1 / 2 )".

([2]) حديث حسن، انظر حديث رقم: 2199 في صحيح الجامع للشيخ الألباني رحمه الله.

([3]) عون المعبود شرح سنن أبي داود رحمه الله (192:13).

([4]) سورة الروم: 54.

([5]) مأساة جحود الأبناء على أسرة المستشفيات، موسوعة الدين النصيحة.

([6]) من مقال للدكتور / سليمان بن عبد الرحمن العنقري، جريدة الجزيرة 12 رمضان 1421هـ، العدد: 10298.

([7]) تفسير القرطبي 10 /214.

([8]) جريدة عكاظ، الأربعاء 2 ربيع الأول 1428هـ، العدد: 2103.

([9]) رواه مسلم رحمه الله "1659".

([10]) رواه مسلم رحمه الله "4392".

([11]) موقع العربية.نت، السبت 16 صفر 1426هـ.

([12]) رواه البخاري رحمه الله "29"، ومسلم "3140 ".

([13]) رواه البخاري رحمه الله "2227".

([14]) سورة الأنبياء: 47

تاج الدين
10-12-2016, 02:06 PM
شكرا وجزاكم الله كل خير

هشام حسن
12-12-2016, 02:57 PM
شكرا وبارك الله فيك على الموضوع القيم