المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التصوف في الهند: المبحث الثاني: علاقة الصوفية الچشتية مع السلاطين



نسائم الرحمن
05-01-2017, 11:22 PM
التصوف في الهند


المبحث الثاني: علاقة الصوفية الچشتية مع السلاطين


مواقف الصوفية من السلطان:

معظم الصوفية الكبار من المتقدمين المنتمين إلى الطريقة الچشتية كانوا يجتنبون الاختلاط مع السلاطين والأمراء[36]. فكانوا يرون أن دورهم الأساسي هو تقويم الناس دينيًا واجتماعيًا وخلقيًا ونشر الثقافة الإسلامية وغيرها لأنهم باعتقادهم أن المجالس مع السلاطين وتقوية العلاقات معهم أو العمل في المصالح الحكومية تفسد الأعمال الروحانية والتـزكية والسلوك وقد كانوا يعرفون ذلك من التراث الصوفي الذي عاشوا فيه قبل وصولهم إلى الهند. ومن هنا ما كانوا يحبون أن يحضروا في القصر السلطاني تحت أي ظرف. وقد عاصر الشيخ قطب الدين بختيار الكعكي السلطان شمس الدين ايلتتمش (607-633هـ/1210-1236م)،[37] والذي كان قد فتح أبواب الهند للمهاجرين ومنهم العلماء والمشايخ الذين كان السلطان يحترمهم ويوقرهم ويعتقد فيهم. وتفيد المصادر بخروج السلطان لمسافة أميال لاستقبال أي شيخ فور ورود خبر وصوله وكان يصر على أن يقيم معه في القصر الملكي، ومن هنا لما وصل الشيخ قطب الدين بختيار كعكي قابله السلطان وكان يحترمه ويوقره ولكن الشيخ لم يرغب في إيجاد العلاقات مع البلاط، ففضل أن يسكن بعيدًا عن القصر الملكي وما كان يزوره في المناسبات وفي غير المناسبات. وقد كان السلطان إيلتتمش يعلم تجنب الشيخ المقابلة والزيارة ومع ذلك كان دائمًا يزوره في جماعت خانة باعتقاد كامل. وقد زاد التعلق وقويت العلاقات الروحانية إلى أنه سماه المنارة التي تم بناؤها في عهده باسم “قطب مينار”. وقد استشاره أيضًا حول حفر وإنشاء حوض شمسي[38].

وقد أدت هذه العلاقات الحميمة الروحانية إلى إشعال نار الحقد والضغينة في قلوب علماء السوء الذين بذلوا كل المجهودات في الإساءة وتعكير صفو العلاقات الحميمة بين السلطان والشيخ. وسعوا إلى إبعاد الشيخ من دهلي. وقد قرر شيخه معين الدين الچشتي اصطحابه معه في إحدى زياراته بسبب هذه الظروف إلى أجمير. ولما عرف الناس عن مغادرة الشيخ قطب الدين، حـزنوا حـزنًا شديدًا وخرجوا في الطريق معه وركب السلطان بنفسه ولحق بالشيخ واسترضاه، وطلب منه العودة إلى دهلي ولكنه لم يستجب، إلا أن الشيخ معين الدين الچشتي لما رأى هذا المنظر العجيب تراجع في قراره وطلب من الشيخ قطب الدين أن يمكث في دهلي ويعمل وسعه في تنشيط الحياة الروحية وعملية الإصلاح والإرشاد.[39] وكان السلطان يكرمه غاية الإكرام، وقام الشيخ مرات عديدة بإلقاء كلمة الوعظ والنصح في حلقاته العلمية التي كان السلطان يتردد عليها في كل أسبوع مرتين، بعد ما رفض الشيخ حضوره إلى القصر السلطاني.[40] وقاله مرة: أيها السلطان! عليك أن تتعامل مع الفقراء والمساكين بالحسنى، وتراعي حقوق الله وحقوق العباد، ومن يراعي حقوق الله وحقوق العباد ويحفظ مصالحهم، ويوفر للرعية كل غالٍ وثمين لراحة بالهم يحفظه الله من كل سوء، ويجعله أعداؤه صديقًا لهم”.[41]

ومع أن السلطان كان دائمًا ما يسعى إلى زيارة الشيخ لقصره وبلاطه ولكن الشيخ ما كان يحب أن يـزوره. وقد حدث مرة أن الشيخ معين الدين الچشتي وهو صديق حميم له، جاء من أجمير. وكان سبب زيارته أن أبناءه بدأوا عملية الزراعة في بعض الأراضي المهجورة، وطلب منه مسئول الأراضي الفرمان، وأجبر الأبناء أباهم على الذهاب إلى دهلي والحصول على الفرمان الملكي. وقد التمس الشيخ قطب الدين من الشيخ معين الدين أن يمكث في بيته وهو الذي سيذهب إلى السلطان للحصول على الفرمان. ولما علم السلطان بوصول الشيخ في قصره تعجب جدًا لأنه أصر على ذلك مرارًا وتكرارًا ولكنه لم يستجب. وكتب هذه الواقعة بعض الشيوخ في كتبهم فقالوا:” حالما سمع السلطان عن وصول الشيخ نـزل من العرش وجرى إليه حافي القدمين، وقابله في الصحن الثاني، وأمر الخدام بفرش الزلية. وقد حدث أنه حضر إلى بيت الشيخ بعض المرات ولكن الشيخ لم يفتح بابه عليه ولم يستضفه عنده واليوم حضر هو بنفسه. وقد سأله السلطان عن سبب زيارته المفاجئة؟”[42] وعلى كلٍ فقد أمر السلطان بإعداد الفرمان في ساعته وأعطاه إياه.

وقد تُوفي الشيخ قطب الدين في 14 من ربيع الأول عام 633هـ/ الموافق 1235م، ولما حان الوقت لصلاة الجنازة، أعلن الشيخ الخواجة أبو سعيد قائلًا:” لقد وصى الشيخ المرحوم أن الشخص الذي سيصلي علي لا بد أن يكون صالحًا وعفيفًا، ولم تفت منه التكبيرة الأولى من أداء سنن صلاة العصر والصلوات الخمس “.[43]وقد كان السلطان أيضًا موجودًا في الجنازة وانتظر لبعض الوقت أن يتقدم أي أحد بهذه المواصفات ويصلي صلاة الجنازة، ولما لم يتقدم أحد فخرج هو من الصف وقال: ما كنت أحب أن أظاهر بصلواتي ولكن اضطررت إلى ذلك لأن من الضروري أن تنفذ وصية الشيخ. وتقدم وصلى عليه ورفع جنازته على عاتقه مع الآخرين إلى القبر.[44]

ويعد الشيخ بابا فريد گنج شكر من أكبر خليفة الشيخ قطب الدين بختيار الكعكي، وعاش في عهد السلطان غياث الدين بلبن،[45] الذي كان يعتقد في الشيخ ويحترمه ويوقره[46]. وتفيد المصادر أنه لما طمع في التاج وكرسي السلطنة في بداية أمره، فحضر في خدمة الشيخ، محملا بالأموال والفرمانات لوقف أربع قرى على جماعت خانة. وقابله بلبن وقدم له الهدايا والأموال والأوراق لوقف أراضي أربع قرى. وقد تبسم الشيخ وقال له تتـرك المال حيث سنوزعها على الفقراء والمساكين والدراويش ولكن خذ فرمان الوقف معك لأنا لسنا بحاجة إليها وقد يكون هناك من يحتاج إليها أكثر منا.[47]

وليس لدينا معلومات كافية حول ما إذا كان السلطان استمر في تقوية علاقاته وعقيدته فيه بعد الجلوس على كرسي الحكم، ولكن الأمر المحتوم هو أن الشيخ حافظ على تقاليد الطريقة الچشتية ولم يقوِ علاقته معه. وحافظ على الوقار الديني أمام القوة الدنيوية. وحدث مرة أنه أصر أحد مريديه على كتابة التـزكية له عند السلطان بلبن، فكتب الشيخ العبارة التالية فقط:”رفعت قضيته إلى الله ثم إليك، فإن أعطيته شيئًا فالمعطي هو الله وأنت المشكور، وإن لم تعطه شيئًا فالمانع هو الله وأنت المعذور”[48]

علاقة الشيخ نظام الدين أولياء مع السلاطين:

ولقد عاصر الشيخ نظام الدين الأولياء كلاً من السلطان جلال الدين الخلجي وعلاء الدين الخلجي والسلطان غياث الدين تغلق. وكان الشيخ بدأ أعماله الروحانية منذ عهد السلطان جلال الدين الخلجي الذي كان دائمًا يرغب في زيارة الشيخ ولكنه لم يجد ضالته المنشودة[49]. وكان الشيخ يعيش حياة صعبة في ذلك الوقت مع مريديه وتلاميذه في جماعت خانة أنشأها في دهلي لتفعيل وتجديد الفكر الچشتي الروحاني. ولم تكن تأتي الفتوح إلى جماعت خانة وقد حدث أنه مر موسم كامل لبعض الفواكه وهو لم يذق منها شيئًا.[50]

وكان الشيخ ومريدوه وتلاميذه يصومون صومًا متتابعًا وكانوا يجدون قوت اليوم بصعوبة بالغة. ولما علم السلطان فيروز الخلجي أرسل بعض الهدايا مع رسالة سائلًا فيها قبول وقف القرية وريعها على جماعت خانة وأهلها من الشيوخ والتلامذة والمريدين. فرفض الشيخ عرضه ورد في الرسالة الموجهة إلى السلطان قائلًا:”لسنا بحاجة إلى مالك وثروتك وربنا سبحانه وتعالى هو نعم المولى ونعم الوكيل”.[51] وتفيد المصادر أنه السلطان كان يعتقد في الشيخ وزاد اعتقاده به وكان قد حاول مرارًا وتكرارًا مقابلته ولكن دون جدوى حيث كان الشيخ يرفض التماسه للمقابلة مما دفعه إلى رسم الخطة وهي المقابلة المفاجئة وكان قد أخبر وزيره أمير خسرو عما كان ينوي وكان أمير خسرو من مريدي الشيخ نظام الدين أولياء ومن هنا لم ير مناسبًا ألا يخبر شيخه عن نية السلطان إياه وبالتالي أخبر الشيخ عن ذلك فتوجه الشيخ إلى أجودهن اجتنابًا لتلك المقابلة المفاجئة. ولما علم السلطان بذلك وبخ الأمير خسرو وقال له:”لقد أفشيت سري وحرمتني من سعادة المقابلة مع الشيخ” فرد الشيخ أمير خسرو قائلًا:”غضبك يجعلني أخشى على حياتي، أما غضب شيخي فيجعلني أخشى على ديني. ووالله لديني عندي أقيم من حياتي”. وقد أعجب السلطان بهذا الرد الوافي.[52]

وقد جعل السلطان قطب الدين مبارك الخلجي قضية امتناع الشيخ نظام الدين أولياء عن الزيارة والتردد على البلاط السلطاني قضية عـزته وكرامته وهيبته الخاصة ولكن مع ذلك لم ينجح في إذعان الشيخ لتحقيق هذا الهدف والإجبار عليه على أن يحضر البلاط مثل العلماء والشيوخ الباقين.[53] وهذا يدل على هيبة الشيخ وشهرته وتأثيره القوي في المجتمع الهندي. وتجدر الإشارة هنا إلى النقطة المهمة المتعلقة بالسلاطين أنفسهم ألا وهي أنهم شخصيًا يعتقدون في الصوفية عمومًا والشيوخ خصوصًا وكانوا يتمنون تقديم أي خدمة صغيرة كانت أم كبيرة، ولو استثنينا كلاً من السلطان قطب الدين الخلجي والسلطان محمد بن تغلق فنجد أن جل السلاطين كانوا يحترزون من التدخل في شئون جماعت خان وشئون الشيوخ الخاصة والعامة مع توفير الجو المناسب والحر للعيش بطريقتهم الخاصة فحسب؛ بل كانوا يبادرون إلى تقديم أي خدمة للشيوخ وجماعت خانة. ومن هنا نستطيع أن نقول إنه كان لسلوكيات السلاطين سبب كبير فيما حصل الصوفية عليه من الاحترام والتوقير والشهرة والعـزة لدى العامة والخاصة. وسيرًا على نهج السلاطين رغب كثير من الأمراء والأغنياء في إيجاد العلاقات وتوطيدها من خلال التعبير عن الاحترام والتوقير حيال الشيوخ ولكن لا توجد مصادر تؤكد على أن أحدًا من رواد الشيوخ الچشتية سمح لهم أن يدخلوا في زمرة المريدين، ولكن قد تغير هذا الوضع في عهد الشيخ نظام الدين أولياء الذي لم يقم بإيجاد العلاقات، ولو من بعيد ، فحسب؛ بل وسمح للأمراء والأثرياء بالدخول في زمرة مريدي الچشتية مع توطيد العلاقات الخاصة بهم. فكانت هذه التغيرات في أصول الصوفية الچشتية نقطة محورية والتي كانت تحمل النتائج المهمة المستقبلية في تاريخ الصوفية الچشتية، وكانت لهذه التغيرات عواقب وخيمة وتأثيرات كبيرة في النشاطات الإصلاحية والفكرية للطريقة الچشتية.

وقد كان عهد الشيخ نظام الدين أولياء هو بداية عصر جديد لتطوير العلاقات بين الإدارة وجماعت خانه من خلال التفاهم والتعاون وكان أمرًا جديدًا في تاريخ الطريقة الچشتية في عهد السلطان علاء الدين الخلجي (695-715هـ/1296-1316م)[54]. حيث إن الطريقة الچشتية التي كانت تؤمن بظاهرة نفسية فردية، تحولت في عهد الشيخ نظام الدين إلى ظاهرة اجتماعية، فأصبح الصوفي الچشتي الذي كان يعتكف في عـزلة عن الناس، تستغرقه رياضاته ومجاهداته، وتستوعبه مشاهداته ومكاشفاته، وكان يحتويه العمل على تصفية نفسه وتجريدها من علائق الجسم، قد تحول هذا الصوفي إلى رجل شديد الحرص على الاجتماع بمريديه وأتباعه، والاتصال بسائر الناس-فقراء كانوا أو أغنياء، ورعايا أو حكامًا، يتفاعل مع البيئة التي يعيش فيها، يتأثر بها حينًا ويؤثر فيها أحيانًا.

ومع أن المواد غير كافية حول دراسة العلاقات بين السلطان علاء الدين الخلجي والشيخ نظام الدين أولياء عند وصول الأول إلى سدة الحكم، ولكن تفيد كثير من المصادر بقيام الشيخ بمساعدة السلطان المعنوية في بعض المهمات العسكرية. فحدث مرة أنه لم يأت أي خبر عن الفتح لمنطقة “وارنگل” في جنوب الهند، فرجع السلطان إلى الشيخ للدعاء.[55] وهذا يدل على أنه يعتقد في الشيخ اعتقادًا بالغًا. وتفيد المصادر أيضًا بعدم قيام أي واحد منهما بالتدخل بشئونهم الخاصة. وإن كان قد احترز السلطان من التدخل في شئون الشيخ الدينية والاجتماعية والفكرية فكان الشيخ أيضًا لا يرغب في الشئون السياسية إطلاقًا.[56] وقد تأكد السلطان من سلوك الشيخ وتعامله على أنه ليس لديه أي رغبة في التدخل في الشئون السياسية إسلامية كانت أم غير إسلامية، وفي الواقع أنه لم يتكلم الشيخ حول بعض السياسات التي اختارها السلطان لتوطيد أركان الدولة، بينما اعتبر بعض المؤرخين والعلماء تلك السياسات مبنية على الظلم والافتراء والبربرية.[57] ولكن لا نجد أي انتقاد من جانب الشيخ في أقواله وأحاديثه حول ذلك. ومن خلال البحث والدراسة عن الحقائق والشواهد نستطيع أن نقول إن هاتين الشخصيتين المتعاصرتين كانتا باعثًا مهمًا في تقوية كل منهما في دائرتهما؛ بحيث كان السلطان قد اتخذ سياسات صارمة للقضاء على الثورات والفتن والفوضى بغية توسيع نطاق السيادة القوية ونجحت سياسته إلى حد بعيد في كساد سوق المنكرات من الخمر والميسر والفسق والفجور بجميع أنواعها والأعمال الإجرامية مما أدى إلى توفير المناخ للطرق الصوفية ومنها الطريقة الچشتية بالدرجة الأولى بتوسيع النشاطات الفكرية والإصلاحية وترويج ونشر أعمال التـزكية والسلوك.[58] فكان النجاح للحركات الصوفية إذن بسبب الدولة القوية سياسيًا واقتصاديًا. ومن المعلوم والواضح أن انتشار الأفكار الصوفية المتعلقة بترك الدنيا وما فيها وازدياد عدد كبير من الناس بقبول مثل هذه الأفكار السلبية لم تكن باعثًا للقلق لدى الدولة وذلك لأنهم بطبيعة الحال ما كانوا يهتمون بالأوضاع السياسية الراهنة ومتطلباتها، وبالتالي كانت عملية كبح جماح النفس وترك الدنيا وما فيها والاجتناب الكلي من المادية والعزلة السياسية لدى الجماهير باعثًا قويًا ومؤكدًا على وجود الطمأنينة عند الدولة وبالتالي كان من اللازم أن الدولة تحاول في الحصول على التعاطف والنصرة والتعاون والتوفيق مما كان باستطاعته أن يوفر مناخًا رائعًا وصورة جميلة عن ميول الأسرة الحاكمة الدينية.

ويعبر بعض المؤرخين عن إعجاب شديد عن تحمل السلطان علاء الدين الخلجي، الذي كان يعرف عنه الغيرة الزائدة والعـزم القوي، شهرة الشيخ نظام الدين أولياء وتوسيع نطاق سيادته الروحية[59]. ربما لم يفهم المؤرخ المعاصر ذلك لأن المصادر الأخرى تؤكد على أن السلطان كان واقعيًا جدًا بجانب ميوله الشديد حيال الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية ولكن كانت لديه رؤية كاملة حول العوامل المؤثرة على السياسة آنذاك. ومن هنا من الصعب أن نتوقع من مثل هذا السلطان أن يسمح لنفسه ولفكره الديني أن يتغلب على بصيرته السياسية ومتطلبات السياسية في عهده. ومن هنا نستطيع أن نقول أن تعامله وتصرفاته مع الطريقة الچشتية كان نتاجًا من الخطة التي رسمها لتحقيق الأهداف السياسية بعيدة المدى. ولتقوية كلامي يجدر بي أن أذكر بعض مواقف السلطان للتوكيد على ذلك. وللتعبير والإعلان عن موقف الدولة حيال الطريقة الچشتية خطا السلطان خطوة ملموسة لما أرسل أبناءه ومنهم ولي عهده خضرخان وشادي خان إلى خدمة الشيخ مع إصدار التعليمات بإدخالهم إلى زمرة مريدي الشيخ.[60] ونستطيع أن نقول من خلال هذه المبادرة السلطانية بإدخال أبنائه في زمرة الشيخ، أن الهدف كان من ذلك وضع جماعت خانه تحت إشراف ورعاية الدولة بصورة غير مباشرة. وقد استغل السلطان هذه العلاقة بين الچشتية والدولة استغلالا كبيرًا لتحقيق الأهداف السياسية. وقد أدت كل هذه المبادرات والرواج والشهرة للطريقة الچشتية ورخاء جماعت خانة ورونقها وعقيدة الطبقة العليا من الأمراء والملوك والأثرياء في الشيخ نظام الدين أولياء والعلاقة الوطيدة مع بعضهم البعض إلى تردد مئات المريدين وألوف الأتباع على جماعت خانة التي بدأت تتدفق عليها خزائن الأغنياء والأثرياء والأمراء[61]، وسعى إليها عطف السلطان والأمراء مما توفر لكل من السلطان والشيخ سلطان كبير وشعبية كبيرة على الرغم من أن السلطان ودولته كانت بعيدة كل البعد عن العدالة الاجتماعية والحرية وبها من الانحراف في التعاليم الإسلامية وعدم التعلق بها، وعدم أداء الواجبات الدينية، واتخاذ الإجراءات الصارمة غير الشرعية للمجرمين وغيرها من الأمور واتخاذ السياسات غير الشرعية. ومع كل هذا النقص الشديد في حياة السلطان العامة والخاصة كان له ودولته تأثير إيجابي كبير في العوام بسبب علاقته الجيدة مع الشيخ؛ حيث إنه أصبح وليًا بعد مماته بعد جيل واحد فقط لدى الشعب وكان الناس يترددون إلى قبره بغية تحقيق المطالب ويربطون الخيوط حول قبـره، وكان الناس يذكرونه في مجلس الشيخ نصير الدين چراغ الدهلوي مؤكدًا على أن حوائج الناس تقضى به.[62]

وقد أدى دخول عدد كبير من الأمراء والأثرياء في زمرة الشيخ إلى امتداد سلطان جماعت خانه وانبساط عزها من غير أي سلاح، وبدأ يرفرف علمها في كل مكان دون جهد ملموس، وقد عاونت الدولة وسياساتها الإيجابية وإدارتها المرتبطة بها على ثباتها ورسوخ قدمها وشيوع تعاليمها وأهميتها وشهرتها بين الناس. ومن العجيب أن الشيخ كان يرفض قبول الفتوح في صورة العقار والأراضي والقرى ولكنه بدأ يقبل الأموال المتدفقة دون أي تحفظ من جانب هؤلاء الأمراء والأثرياء وحتى من جانب السلطان نفسه مع أنه كان قد رفض جلال الدين الخلجي قبل ذلك.[63]

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشيخ نفسه كان يعيش عيشًا تقشفيًا ولكن الجماعة خانة تتطلب الاهتمام الكبير ماديًا لإدارتها ونشاطاتها المتنوعة بما فيها تنظيم المطابخ العمومية لتوفير الطعام والشراب للمريدين والفقراء والمساكين والمحتاجين الزائرين. وتفيد بعض المصادر أن المطابخ العمومية كانت تتكلف ألفي تنكه يوميًا بجانب الهدايا والتحف التي كانت تهدى للـزائرين والمسافرين بصور يومية.[64] ومن هنا كانت هذه المؤسسة بحاجة إلى الوسائل المادية القوية لتوفير الأموال بالاستمرار لسد الاحتياجات اليومية، علمًا أنه كان هناك قاعدة في جماعت خانة بعدم ادخار الأموال والمواد الغذائية حيث إنها كانت توزع الأموال والمواد الغذائية المتبقية في يوم الجمعة على الفقراء والمساكين[65]، ومن هنا كانت جماعت خانة بحاجة شديدة وبصورة يومية لتوفير الأموال والمواد الغذائية لتغطية الاحتياجات اليومية[66]. فكان من الصعب أن توفر كل هذه الأموال دون مساعدة الدولة وتعاونها ومن خلال قيام الأمراء والأثرياء بتوفير الأموال الكثيرة[67].

ومن العجيب أن السلطان كان يعبر عن عقيدته البالغة في الشيخ نظام الدين ولكنه لم يتم اللقاء بين الشخصيتين، ويظهر من المصادر الصوفية أن السلطان رغب في المقابلة مرة ولكن الشيخ لم يوافق على ذلك[68]. ولكن هناك بعض الشواهد التي تعطي صورة أخرى لهذه القضية، فهناك بعض المؤرخين المعاصرين للسلطان يعبرون عن غضبهم الشديد ويوبخون السلطان وقلبه القاسي على عدم التوجه إلى المقابلة مع الشيخ وهو يسكن في جواره مع أن هناك مئات من الناس يأتون من كل فج عميق من الهند لزيارته مع تحمل الجهد والمشقة[69]. وكتب بعض المؤرخين قائلًا إنه قد كلم أحد الوزراء السلطان علاء الدين مرة، وقال له طالما تعتقدون في الشيخ وتحترمونه احترامًا بالغًا فما المانع أن تقابله وتجلس معه فرد السلطان قائلًا”يا أيها الوزير! نحن لاهون ومنغمسون في لذات وشهوات الدنيا ونلهث وراءها. وأنا أستحي بسبب ذلك أن أحضر في مجلس الشخصية الدينية والمقدسة. وعليك أن تأخذ أبنائي خضر خان وشادي خان وتجعلهما مريدين للشيخ. وتعطي مائتي ألف روبية لجماعت خانة للصرف على احتياجاتها”[70]. هل كان ذلك اعتذارًا أم اعترافًا بذنبه حقًا؟ من الصعب تحديده. ولكن توضح هذه العبارة أن السلطان هو الذي قرر ألا يقابل الشيخ وليس الأخير كما تفيد المصادر الصوفية.

ومن العجيب أن المؤرخ برني المعاصر الذي يعتبر السلطان علاء الدين الخلجي من الظالمين والجاهلين وغير المتدينين، لما يشاهد الفتوحات الكبرى، والرخاء والرفاهية والخير والسعادة والانتعاش الاجتماعي والأمن والأمان، فيعبر عن كل ذلك بمنتهى الاستغراب والتعجب، فيجد تباينًا كبيرًا بين هذا وذاك. فيعلل ذلك قائلًا إنه قد تمت كل هذه النجاحات والفتوحات والأعمال الحضارية بسبب فيوض بركات الشيخ نظام الدين الذي كان سببًا في رخاء البلد ورفاهيته وبركته رغم وجود ظلم وطغيان السلطان علاء الدين، أما ما يتعلق بالحياة الدينية المنتشرة في المجتمع فكان ذلك أيضًا بسبب بركة الشيخ الذي كان من جملة الأسباب، وقد اتكأ على طريق النصح والإرشاد والهداية، وانشغل هو نفسه ومريدوه بهداية الناس ورشدهم.[71] ولكنه لما يذكر المؤرخ نفسه عهد ابن السلطان علاء الدين فيعبر عن حزنه الشديد وأسفه البالغ عما حدث لدى وفاة السلطان حيث غرق أهل دهلي في الفسق والفجور والعصيان بسبب انشغال ابنه السلطان قطب الدين الذي لم ينشغل خلال فترة حكمه وهي أربع سنوات وأربعة أشهر إلا باللهو وشرب الخمر والجنس والمرح وعطاء الهبات الكثيرة لأمرائه وأعوانه.[72] ولسنا هنا بحاجة إلى الذكر أن الشيخ كان حيًا وجالسًا على منصب الإرشاد والنصح وكان فيضه جاريًا وساريًا. فنسي المؤرخ برني كل ذلك ولم يذكر مرة الأسباب التي أدت إلى كل هذه الاضمحلال الديني والخلقي. وكل هذه التفاصيل والدراسة العميقة توضح الحقائق الأصلية وهي أن البيئة المتدينة وتقوية الإيمان في قلوب العامة والخاصة التي نجدها في عهد السلطان علاء الدين كانت بسبب اتخاذ السياسات والإجراءات الناجحة والعقوبات الصارمة التي قضت على سوق المنكرات من الخمر والميسر والفسق والفجور بجميع أنواعها، ولكن حالما خفقت هذه الضغوط الشاملة واضطربت الأحوال السياسية عاد جـزء كبير من السكان إلى سيرتهم الأولى من الفسق والفجور وساعدت على ذلك إهمال الإدارة الجديدة التي كانت تشارك في هذه الأعمال المشينة. ومن العجيب أن المؤرخ برني يسمي الفتوحات والنجاحات الباهرة في عصر السلطان علاء الدين استدراجًا[73]، بينما تظهر صورة السلطان في ملفوظات الشيخ نصير الدين چراغ الدهلوي كولي كامل يعلم الكشف والإلهام.[74]

وقد مهدت العلاقات الطيبة مع الحكومة لجماعت خانه أرضية واسعة للحصول على الرعاية والحماية الشاملة من جانب الحكومة مما أدى إلى القضاء على خصوم الطريقة الچشتية وحل النـزاع القائم بين الصوفية والعلماء والفقهاء حول بعض المسائل الفقهية والشرعية.[75] وقد وفر ذلك الجو الملائم فرصًا كبيرة للطريقة الچشتية لتوسيع نطاق تأثير الطريقة وأفكارها في المجتمع. وتؤكد بعض المصادر الچشتية على ذلك وتعترف بما قدمت لها الحكومة الرعاية الكاملة والشاملة لتنشيط أعمال الصوفية في نطاق واسع.[76]

ومن أهم المظاهر للعلاقات بين السلطان والشيخ نظام الدين وجماعت خانه، أن المصادر الصوفية الچشتية دائمًا تثني على السلطان وأعماله ثناءً عطرًا، ولا نجد في هذه الأعمال مما تشير إلى أي انتقاد على سيرته وسياساته، إنما هي تقدم لنا صورة رائعة للسلطان وسياساته حيال الدولة والمجتمع وجعلته وليًا مرشدًا للأجيال القادمة آنذاك.[77] بينما ينتقد بعض المؤرخين في السلطان وفي سيرته الخاصة بما يتعلق بالعبادات وأعماله السياسية والإدارية انتقادًا لاذعًا، ولكن لا نجد مثل هذه الانتقادات في المصادر الچشتية. وكان الشيخ نظام الدين أولياء يحظى بالتقدير والإكرام لدى الأمراء وكبار الأعيان في الدولة وكبر شأنه لديهم وكانوا يحبونه حبًا جمًا وكان له تأثير كبير بسبب هذه الشعبية الواسعة، ومع كل هذه المواصفات لا نجد في المصادر الچشتية مما يفيدنا بمبادرة الشيخ نظام الدين إلى نصح السلطان وترشيده وإصلاح أحواله الخاصة أو المحاولة في وقوع التأثير في سياساته. ويبدو أنه لم يكن في برامجه أن يقوم بإصلاح الطبقة العليا من الأمراء والأعيان والسلطان، فما كان يرغب في ذلك ولا كان يعتبره ضروريًا. ولدى الاطلاع بالإمعان على كتب الملفوظات والرسائل الچشتية نجد أنه كان يثق في سياسات السلطان.

تفيد بعض المصادر المعاصرة أنه قدم عالم مصري وهو شمس الدين بن الحريري عام 708هـ/ 1308م في عهد السلطان علاء الدين الخلجي[78]، وجاء معه بأربع مائة كتاب في الحديث النبوي، ولدى وصوله إلى ملتان سمع أن السلطان غير مواظب على الصلوات ولا يحضر صلاة الجمعة، فقرر ألا يذهب إلى دهلي، ولكن كتب رسالتين إحداهما شرح في أصول الحديث، وثانيهما في النصح والإرشاد موجهة إلى السلطان. ورجع من ملتان إلى حيث أتى.[79] من المدهش جدًا أن الشيخ نظام الدين لم يشعر بالضرورة لتوجيه السلطان إلى هذه الأمور المهمة، كأنه وجد غضاضة في توجيهه وترشيده ونصحه.

وبعد اغتيال قطب الدين مبارك خلجي وهو ابن السلطان علاء الدين تولى زمام الحكم خسرو خان المنتمي إلى قبيلة البرادو الهندوسية المنبوذة وقضى على الأسرة الخلجية برمتها. وقام بإحياء الثقافة الهندوسية في البلاط الملكي وفي دهلي نفسها على حسب المصادر المعاصرة.[80] ومن العجيب أن نرى أن بعض تلاميذ ومريدي الشيخ نظام الدين، أخصهم المؤرخ ضياء الدين برني، والشيخ أمير خسرو، ينتقدون انتقادًا لاذعًا خسروخان وإدارته ويتهمونه بمحاولة القضاء على الإسلام وشعائره[81]، وفي الوقت نفسه نرى أن بعض مريدي الشيخ وصلوا إلى المناصب العليا في إدارة خسروخان الجديدة[82]. وأعجب من ذلك أنه تؤكد المصادر المعاصرة كلها أن الشيخ قد قبل الهدية المرسلة من جانب خسروخان والتي كانت عبارة عن ـخمس مائة ألف تنكه[83]. ومن المعلوم أن المشايخ الچشتية كانوا يحترزون قبل ذلك بقبول التحف والهدايا في الأحوال العامة فكيف كان للشيخ أن يقبل مثل هذه الهدية القيمة في تلك الظروف السياسية الصعبة؟ أيا كان السبب، ولكن قبول هذه الهدية كان بمثابة تأييد الشيخ لحكومة خسروخان وإعطاء موافقته على الحكومة والذي كان بطبيعة الحال باعثًا قويًا لخسروخان لتقوية دعائم حكمه. وفي الوقت نفسه كان باعثًا أيضًا لمريدي الشيخ الذين كانوا يتمتعون بالمناصب العليا في حكومة خسروخان. هل كان ذلك بسبب قيام الأخير بالقضاء على قطب الدين الذي دخل مع الشيخ في صراع طويل وحاول تقليل شأن الشيخ بكل غالٍ وثمين وصار له عدوًا لدودًا.[84] وكان من المتوقع أن تتخذ الصوفية الچشتية الإجراءات الحازمة والاحتياط اللازم فيما يتعلق بإيجاد العلاقات مع الحكومة الجديدة ولكن لم يحدث ذلك، فهل جعلت تلك الصراعات الشيخ نظام الدين محتاطًا وحذرًا في التعامل مع الحكومة؟ ومن هنا اجتنب الشيخ الدخول إلى أي مشكلة سياسية أخرى مثلًا! هذا ممكن جدًا لأنه كان له رؤية شخصية أن الدخول في صراع مع الحكومة سيؤدي إلى وقوع تأثير سلبي للغاية في نشاطات الطريقة الچشتية وترويجها وشعبيتها. وتجدر الإشارة إلى أن نقطة مهمة ألا وهي أن الطريقة الچشتية ومشايخها لم يكن لديهم تجربة العداوة من جانب الحكومة قبل حكومة قطب الدين الخلجي، ومن هنا قد شعر الشيخ بمرارة تلك العداوة بشدة. لأنه كان الشيوخ الچشتية يحظون بالتقدير والاحترام الشديد من جانب الحكومات السابقة وقد تعودوا على ذلك وكانوا يتوقعون ذلك الاحترام والتقدير من كافة السلاطين. ونجد الصراعات نفسها والتي حدثت في عصر سلاطين تغلق والتي سنجملها في الصفحات التالية.

علاقة الصوفية الچشتية مع أسرة التغلق الحاكمة:


[85] لقد أدى كل ما ذكرت أعلاه من عدم وجود الأهلية لدى الطريقة الچشتية بمجابهة التيارات المعادية والمعاكسة ومجابهة الأوضاع الراهنة؛ ذلك كله بسبب عدم تدخل الإدارة في شئونهم الخاصة ورعايتها الشاملة والكاملة مع التقدير والاحترام والتوقير. وقد أدى كل ذلك إلى خلق التناقض الشديد في رؤيتهم الفكرية. فمن الناحية النظرية كانوا يرفضون تمامًا إيجاد العلاقات مع الإدارة والاختلاط مع السلاطين. فكانوا يعتبرون ذلك مضرًا للغاية بالسالك أن يقوم بذلك، ولكن قد تغير الوضع تمامًا فمن الناحية العملية قد أدت الأسباب العديدة ومن أهمها إدارة جماعت خانة وتوفير الوسائل المادية والمعنوية لها أن يعتمدوا على الإدارة لتحقيق هذه البغية. فقد كان الشيوخ الچستية لا يسمحون بحضور السلطان إلى جماعت خانه مع الاجتناب الشامل للاختلاط بالبلاط السلطاني وحاشيته وكانوا يبالغون فيها من الناحية؛ وفي الوقت نفسه كانت جماعت خانه تستقبل عددًا كبيرًا من الأمراء والأثرياء وأفراد قصر السلطان والذين كانوا دائمًا على تواصل وترابط بالشيوخ الچشتية[86]. ولما كانت الرعاية السياسية سارية وباقية كان ذلك التناقض أيضًا باقيًا ومستمرًا، ولكن لما تغيرت الأوضاع السياسية وبدأت تستبعد الرعاية السياسية بدأت تظهر المسائل الجديدة، وفي نهاية المطاف لدى انتهاء هذا الوضع حينما جاءت الحكومات غير الموالية للطريقة الچشتية ظهرت هذه التناقضات في عهد كل من السلطان غياث الدين تغلق (ت724هـ/1325) وابنه محمد بن تغلق (ت752هـ/1351م)[87]، الذي كان يضرب به المثل في داخل الهند وخارجها في الكرم والشجاعة والتواضع، وفي إقامة العدل والإنصاف[88]، وتؤكد المصادر على أن شعائر الدين عنده محفوظة، وكان شديدًا في أمر الصلاة والعقوبة على تركها، وكان يلتزم التزامًا تامًا بأداء الصلاة والصوم وقيام النوافل والمستحبات والاشتغال بالأوراد[89]، وكان يسعى سعيًا جادًا في اجتناب المناهي والمسكرات وسائر ما يؤدي إلى المعصية.[90] وكذلك أمر برفع الضرائب غير الشرعية، مؤكدًا على أخذ ما شرع في الشريعة الإسلامية من الزكاة، والعشر، وكان يجلس بنفسه للنظر في المظالم يوم الاثنين والخميس، كما عين الكوادر الخاصة لإدارة ديوان المظالم.[91] وقد كانت هذه أول محاولة جادة في تاريخ الهند الإسلامي لإقامة الشرع عبر القنوات الشرعية. وكما أسلفت أن مبادئ الطريقة الچشتية تصطدم مع نظريات السلطان السياسية مما أدى إلى وجود صراع طويل بني الطرفين خلال فترة حكمه الطويل[92].

ومن أهم الشيوخ الچشتية الذين عاصروه كانوا من تلامذة الشيخ نظام الدين أولياء، ومنهم الشيخ نصير الدين چراغ الدهلوي، والشيخ فخر الدين زرادي، والشيخ قطب الدين منور وغيرهم. ولم يكونوا راضين بالقيام بخدمة لا ترضي ضمائرهم أو تمس كرامتهم أو تنال من سمعتهم على حسب فهمهم، فلم يقبلوا ما سألهم السلطان بإسهامهم في شئون الدولة وإدارتها المتعددة. وعاشوا طول حياتهم منشغلين في الدفاع عن قضاياهم وعدم التعاون مع الحكومة مما أدى إلى التباعد عن النشاطات الدينية والإصلاحية. والذين قبلوا عرض السلطان من الشيوخ الجدد من الچشتية فانقطعوا عن نشاطات الخانقاه الدينية والإصلاحية وضاعت مؤهلاتهم الدينية بسبب الانشغال في شئون الدولة التي لم تستفد منهم كما كان ينبغي بسبب عدم وجود المؤهلات الإدارية فيهم[93]. وتفيد المصادر بانخراط عدد كبير من الأشخاص يمتون إلى الشيخ فريد گنج شكر في الإدارة والسياسة. ومنهم خواجه كريم الدين سمرقندي، والسيد قطب الدين كرماني، السيد كمال الدين، والشيخ مظهر الدين، والشيخ معـز الدين والشيخ علم الدين وغيرهم[94]. و قد أدت كل هذه الصراعات والتغيرات الجذرية في الطريقة الچشتية إلى القضاء عليها وانتهاء دورها الأول.

لقد وضع بعض المؤرخين المتأخرين علاقات السلطان المتدهورة مع الشيوخ الچشتية، مؤكدًا على أنهم لم يكونوا راضين بالقيام بخدمة شخصية لا ترضي ضمائرهم أو تمس كرامتهم أو تنال من سمعتهم على حسب فهمهم، حيث كان السلطان يطلب منهم أن يخدموه في القصر مثل الخدام والجواري[95]، وهو الأمر الذي أدى إلى قيام صراع طويل بين السلطان والشيوخ، ولترويج هذه الإشاعات اعتمد هؤلاء المؤرخون على ما كتبه الرحالة المغربي ابن بطوطة حول الوظائف الإدارية، فهم لم يفهموا العبارة التالية التي تقول:”فلما ولي السلطان محمد بن تغلق أراد أن يخدم الشيخ في بعض خدمته، فإن عادته أن يخدم الفقهاء والمشايخ والصالحون محتجًا أن الصدر الأول (أي الخلفاء الراشدين) رضي الله عنهم لم يكونوا يستعملون إلا أهل العلم والصلاح”.[96] وتفيد هذه العبارة أنه أراد السلطان أن يوظف الشيوخ على بعض الوظائف الإدارية، مثلما كان يقوم الخلفاء الراشدون باستخدام أهل العلم والصلاح، وبسبب عدم فهم هذه العبارة ترجمها المؤرخون بالخدمة الشخصية في القصر الملكي، وفي الواقع عدم تعاون الشيوخ مع السلطان في الشئون السياسية والإدارية ثم قيام بعضهم بالتمرد ضد الدولة كان سببًا حقيقيًا في قتل بعض العلماء والشيوخ.[97] وكل هذه الصراعات أدت إلى تفكيك نظام الطريقة الچشتية.

علاقة السلطان فيروزشاه تغلق (ت 789هـ1388م) مع الصوفية الچشتية: يعد السلطان فيروز شاه تغلق الذي جلس على كرسي السلطنة بعد وفاة ابن عمه محمد بن تغلق، من السلاطين الذين تركوا أثرًا بالغًا في نفوس المعاصرين من العلماء والمشايخ والعامة والخاصة في المجتمع الهندي. وقد بالغت المصادر المعاصرة في مدحه وثنائه، وجعل بعض المؤرخين كثير الذكر لمآثره الدينية والسياسية.[98] وأعطى المؤرخ برني له مكانة عالية جدًا بين سلاطين دهلي كلهم وكتب أنه لا يوجد في تاريخ سلطنة دهلي سلطان متدين وعفيف وعادل أكثر من السلطان فيروز شاه تغلق الذي بذل مجهودات مضنية في تطبيق الشريعة الإسلامية خلال فترة حكمه.[99]

وقد ذكرت آنفًا حول الصراع الطويل الذي استمر في عهد السلطان محمد بن تغلق مع الشيوخ الچشتية والذي أدى إلى تفكيك نظام جماعت خانه. ولما جلس فيروز شاه تغلق على كرسي الحكم،كان الوضع السياسي يمر بمرحلة صعبة للغاية بسبب وفاة السلطان محمد بن تغلق بعيدًا عن العاصمة وكان الجيش معه في السند مما أدى إلى وقوع الاضطرابات الأمنية في ربوع الهند، وكان السلطان فيروز شاه أيضًا معه في تلك الأعمال العسكرية، ومن هنا قامت بعض العناصر بالمؤامرة ضده في العاصمة.[100] ومن هنا كان فيروز شاه بحاجة شديدة إلى الشرعية من العلماء والشيوخ والأمراء للوصول إلى سدة الحكم[101]. ومن ثم حاول بكل طرق أن يحصل على ثقتهم في تحقيق هذه الأهداف السياسية. وقبل الوصول إلى العاصمة دهلي ذهب إلى الشيخ نصير الدين چراغ الدهلوي الذي كان أيضًا يرى السبيل في تحقيق ضالته المنشودة ألا وهي إحياء جماعت خانه تحت رعاية الإدارة الجديدة. وعند المقابلة مع الشيخ وضح بغيته فأخذ منه الشيخ الميثاق قائلًا:”هل تتعامل مع الشعب بالعدل والإنصاف أم أنا الذي أقوم فأدعو الله لهم أن يبعث فيهم من يتولى أمورهم من خيارهم ويكون أكثر أمانة وديانة وكفاءة”.[102] فوعد فيروز شاه ودعا الشيخ له بالخير. ومن هنا فما جاء في بعض المصادر التي تفيد أنه أي السلطان فيروز شاه ما كان يرغب في السلطة والحكم وكان يريد السفر إلى الحرمين الشريفين، ولكنه أصر كل من مخدوم زاده عباسي، وشيخ الشيوخ مصري، وشيخ نصير الدين چراغ دهلوي على القبول بالجلوس على سدة الحكم كلام مردود.[103]

وبعد الجلوس على كرسي الحكم بذل السلطان مجهودًا كبيرًا في تحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما قام بإحياء نظام جماعت خانه من خلال جمع شمل المشايخ الچشتية. وتفيد المصادر بأنه منح للأسر الصوفية لكل من الشيخ فريد الدين مسعود گنج شكر، والشيخ بهاء الدين زكريا، والشيخ ركن الدين أبو الفتح والشيخ نظام الدين أولياء والشيخ جمال الدين وغيرهم القرى والضياع والوظائف الإدارية وأغدق أموالًا كثيرًا على إحياء النشاطات الدينية والثقافية في الخانقاوات وجماعت خانه حتى استأنفت هذه المنشآت الواقعة في ضواحي المدن والقرى بتوفير السكن والطعام والنفقات للصوفية والزهاد والنساك والمسافرين.[104] ولكن يبدو واضحًا مما كتبه بعض المؤرخين أنه لم تعد تقدم هذه الجماعت خانات الخدمات الدينية والروحانية مثلما كانت تقوم بذلك من قبل دون التبعية للحكومة كما لم تستطع إعادة ذلك المجد والكرامة والهيبة والقدرة لأنها صارت تدار تحت رعاية وإشراف الإدارة الحكومية وبالتالي أصبحت تسهم في توفير المطعم والمسكن للزوار والمسافرين وتوزيع الصدقات للزهاد والنساك والفقراء والمساكين ولم تعد تلعب الأدوار الدينية والروحانية وإصلاح المجتمع من خلال النشاطات الإصلاحية والروحانية.[105]

وكان السلطان شخصيًا يعتقد في الفقراء والمساكين والشيوخ، وقد ذكر ذلك بالتفصيل في سيرته الذاتية فيقول:”والحمد لله لقد نشأت وفي قلبي العزم لتأليف قلوب الفقراء والمساكين ورعايتهم الشاملة. حتى أني أزور شخصيًا كل فقير وسالك أعرف عنه وأستعين بدعائه لتحقيق غايتي ألا وهي أن من الصفات التي يجب أن يتحلى بها الحاكم الصالح ومنها تردده على أبواب الفقراء والمساكين”.[106] تذكر المصادر المعاصرة بالتفصيل علاقته وعقيدته في المشايخ والفقراء والمساكين والمجاذيب. وكان يحضر إلى مساكنهم وكان ينعم عليهم من خلال توفير السكن والملبس والطعام في كثير من الأحيان.[107]

علاقته مع الشيخ نصير الدين چراغ دهلوي المتوفى عام 756هـ/1356م:


يعد الشيخ من أكبر تلامذة شيخ المشايخ نظام الدين أولياء. وبعد وفاة الأخير بذل المجهودات المضنية في الحفاظ على نظام جماعت خانه ونشاطاتها الدينية والروحية والإصلاحية. ومع أن بعض المصادر تفيد بوجود صلة قوية بينه وبين السلطان فيروز شاه إلا أن بعض الباحثين ينكرون ذلك ويعتبرونه غير صحيح[108]، علمًا أن معظم المصادر المعاصرة تؤكد على أن الشيخ لعب دورًا كبيرًا في جلوسه على كرسي الحكم لدى وجوده في تهته كما أسلفت ذلك. وتؤكد معظم المصادر الصوفية أن السلطان بذل كل المجهودات لإحياء الحياة الصوفية وأغدق عليها أموالًا طائلة لتحسين أحوال جماعت خانه. فكيف كان للشيخ ألا يحب أن يتواصل مع السلطان ويلعب دورًا في تقويمه وترشيده وإصلاحه؟[109] هذا، وتفيد بعض المصادر المعاصرة أن السلطان كان يزور الشيخ من حين لآخر. فأين الاستغناء والتغاضي عن التواصل وعدم الاهتمام بإيجاد العلاقات مع الشيوخ الچشتية؟[110]

وفي الواقع وعلى حسب الوقائع التاريخية حول العلاقات بين الطرفين يبدو أن الشيخ ما كان راضيًا من الإدارة الجديدة حول توفير الإمدادات اللازمة للفقراء والمساكين والمحتاجين الذين كانوا يعيشون على كنف جماعت خانه وخانقاوات الطرق الأخرى مثل الطريقة السهروردية. فيشكو من الغلاء المعيشي وعدم قيام الإدارة بتوفير الاحتياجات اللازمة للفقراء والمساكين. ويعبر عن ذلك في كثير من ملفوظاته قائلًا:”ما كان ينام أحد من الفقراء في عهد السلطان علاء الدين الخلجي دون لحاف بل كان بعضهم يملك عددًا من البطانيات والألحفة، كما كان الرخاء والمعيشة الطيبة والرخيصة آنذاك حيث كان الناس تقيم الحفلات والمناسبات بتنكة واحدة…[111]

تابع

ابو حاتم
06-01-2017, 05:22 PM
شكرا على الموضوع والافادة القيمة بارك الله فيكم

مصطفى شوقى
08-01-2017, 12:03 PM
بارك الله فيك

ضاحى العربى
09-01-2017, 02:13 PM
شكرا على الموضوع والمعلومات المفيدة

خالد الغمرى
10-01-2017, 09:58 PM
شكرا وجزاكم الله كل خير

ابراهيم الدالى
12-01-2017, 10:45 PM
شكرا على المعلومات والافادات القيمة

ادهم
13-01-2017, 07:39 AM
شكرا على الموضوع والافادة جزاكم الله كل خير

الفرغل ابو الرجال
14-01-2017, 10:05 PM
شكرا على الموضوع والافادات القيمة
بارك الله فيكم وجعلها فى ميزان حسناتكم

ابو على
15-01-2017, 10:56 PM
شكرا على الموضوع والافادة والمعلومات القيمة

بلال
16-01-2017, 10:06 PM
شكرا على الطرح والافادة والمعلومات القيمة جزاكم الله كل خير

شمس الاصيل
18-01-2017, 12:06 AM
شكرا جزيلا لكم على ماتضعونه من مواضيع قيمة ومتنوعة

ايمن صديق
24-01-2017, 11:07 AM
مشكوووووور والله يعطيك الف عافيه

الجاسم
27-01-2017, 04:40 AM
شكرا على الموضوع الذوقى الجميل بارك الله فيكم