المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة التربية



سامر سويلم
05-02-2017, 01:15 AM
قصة التربية

إن التربية يتصورها الناس بعكس حقيقتها، فيظنون أنها الإكثار من تحصيل العلوم والمهارات والأخلاق؛ بينما هي التجرد من ذلك كله. نعني من أثره. لهذا السبب تجد أن أغلب المنتسبين إلى طريق التربية لا يبلغون الغاية منها.

ولنأخذ الإنسان في أطوار حياته حتى نتبين ما ذكرناه. فأول طور هو حالة الثبوت العلمي، وهو عدم؛ ثم بعده مرحلة الجَنّ في بطن أمه؛ ثم الطفولة؛ ثم الشباب؛ ثم الكهولة؛ ثم الشيخوخة؛ ثم الموت. وأحسن أحوال العبد في هذه الأطوار هو كونه في العلم ثم كونه جنينا ثم كونه طفلا رضيعا؛ لأنه في هذه الأطوار باقٍ على طهارته وفطرته. أما الأطوار التي بعدها، والتي يبدأ فيها بالتعلّم وتلقّي المهارات، فإنها مرحلة التدنس بالمعاصي والغفلات. وأخطر أطوار حياة الإنسان هي ما بعد التكليف، لأنه يكون مجازىً عن كل أعماله الظاهرة والباطنة. وهذا يجلب عليه البلاء الشديد إلا أن يعافيَ الله.

مع التربية الفاسدة، تتقوى النفس عند العبد، فيصير مثبتا لها في وهمه، حتى لقد تحتل عنده مرتبة الوجوب وهو لا يدري؛ فتنعكس عنده الحقائق، ويكفر أو يقارب الكفر. لهذا السر، تجد أن من أسس التربية الكافرة إثبات النفس؛ وهو ما يسمونه "الثقة بالنفس". وهو عندهم من علامات الصحة النفسية؛ بينما هو في الحقيقة علامة على الارتكاس. وتجد عقلاء الكافرين، يبحثون عن سبل إثبات النفس من حيث الأدلة والبراهين، حتى يطمئنوا إلى عدم سلبهم مرتبة وجودهم. وذلك كما فعل "ديكارت" وأمثاله. وانظر إلى النتيجة في مقولة ديكارت رغم أنها متهافتة: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، تجدها الوجود لا غيره. كل هذا معاكس لما ينبغي أن تكون عليه التربية السليمة، التي أسسها الوحي الإلهي. والمصيبة، أنك تجد اليوم المسلمين يقلدون الكافرين في تربيتهم، ويتخذونهم قدوة لهم. فصار حالهم كالرَّمِد الذي يتمسك في سيره بالأعمى.

أما التربية السليمة التي أشرنا إليها في البداية، فهي التي تخلِّص العبد من الظلمات التي غطت عين قلبه عبر السنين، وتخلصه من أثر التقليد لآبائه ومجتمعه؛ ليعود بعدها إلى حال نقاء فطرته. فيكون السير في هذه التربية عكس التربية الأولى؛ لذلك كنا نسمي نحن هذا الصنف من التربية إعادة التربية. وكل الآيات التي ورد فيها لفظ الرجوع والعودة والأوبة من القرآن الكريم، فإلى هذا المعنى تشير.

وكما انتهت الحياة الطبيعية بالموت الطبيعي، فإن حياة الروح تبتدئ به. والمقصود بالموت الطبيعي في التربية الثانية، هو الخروج عن حكم الطبع بالمجاهدات حتى يصير في حكم الميت في هذه المرتبة فحسب؛ لأن الموت أنواع، هذا أولها فحسب. ثم بعد ذلك، يعود المرء إن كان بلغ سن الشيخوخة إلى الكهولة؛ فيتخلص من كل ما اكتسبه في شيخوخته. ثم بعد ذلك يتخلص من كل ما اكتسبه في الكهولة حتى يعود إلى حكم الشباب. ثم يتجرد من حكم الشباب حتى يعود فتى؛ ثم يزداد تجردا حتى يبلغ الرضاع. والرضاع عندنا هو الطور الذي يصير العبد فيه مستمدا من شيخه الذي يربيه. وهذا أول طور من أطوار الولاية. ثم إذا ازداد خلوصه، يصير في حكم الجنين. وهذه المرتبة لا ينالها إلا من فني في شيخه وبقي حقيقة من حقائق الشيخ، وهو لا تدبير له في نفسه ولا اختيار. وهو الطور الثاني من أطوار الولاية. ثم إذا شاء الله له الفوز الأعظم أعاده إلى العدم الذي منه جاء حكما، فارتاح الراحة الأبدية. وهذه هي الولاية الكبرى. وفي هذه المرحلة يُقال بفناء النفس عند السالك، فلا يبقى له منها إلا العلم؛ لأن العلم كان الأصل الأول الذي عرفته. وبعد الدخول في الثبوت العلمي، يدخل العارف مرحلة التحقق، فيصير متقلبا في الشؤون الإلهية ليزداد علما بربه. والرحلتان المعبر عنهما بالتربيتين هما المقصودتان في قول الله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)}[التين: 4-6]. فالأجر غير الممنون هو أحسن التقويم نفسه؛ لكن باعتبارين مختلفين: الأول صدور، والثاني رجوع.

وهذه التربية السلوكية (بالمعنى الصوفي لا النفسي) يكتسب معها العبد علما حقيقا، كلما تجرد من أوهامه وظنونه التي اكتسبها من التربية الأولى. لكن العلم في بدايتها ووسطها يكون علما بنفسه، أما في النهاية فيكون علمه بربه. أما العلم اللدني فلا يناله حتى يعود إلى حكم العدم.

وقد جاءت الإشارة في القرآن إلى هذه التربية التي يعود فيها العبد أدراجه، في قول الله تعالى:{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}[الكهف: 64]. والتثنية في الكلام هي لكون السالك لا بد له من شيخ يصحبه في طريق الرجوع، حتى لا تصيبه آفات الطريق. وذلك لأن طريق الرجوع مجهول، بخلاف طريق الصدور الذي هو معلوم لدى العموم. نعني من حيث ظاهره لا من حيث حقيقته.

وانظر الآن إلى أهم ما يميّز تربيتنا عن تربية الكفر؛ فنحن غايتنا العودة إلى العدم، وهم غايتهم الوصول إلى الوجود. ونحن وسيلتنا العودة بالتجرد، وهم وسيلتهم التقدم والتكثّر. فهما طريقان متعاكسان لا يلتقيان. وبعد هذا، انظر إلى موضع الأمة اليوم، لتعلم من أين أُتِيَتْ.

ولتعلم في النهاية أن المراحل العمرية المذكورة آنفا، ليست مقصودة لذاتها، وإنما عنَيْنا بها المستويات المختلفة للإدراك عند الناس. لهذا يكون الشيخ من حيث السن مقابلا لمن كان ساميَ الإدراك وإن كان في عمر الشباب. ولو تتبعت أهل الله، لوجدت كبارهم تظهر عليهم علامات الحكمة من بدء تمييزهم. فيكون ذلك هو ما يدفعهم إلى سلوك طريق الغرباء العائدين إلى ربهم. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

بلال
05-02-2017, 08:37 PM
شكرا على موضوعك القيم اخى سامر ونتمنى المزيد من اتحافاتك

ابو مصعب
07-02-2017, 07:28 PM
بارك الله فيكم استاذ سامر ونفع به

قمر الزمان
08-02-2017, 09:17 PM
شكرا وجزاكم الله كل خير

صقر البرارى
09-02-2017, 09:57 PM
شكرا على الموضوع القيم والمفيد اخى الكريم سامر

شمس الاصيل
11-02-2017, 12:35 AM
شكرا جزيلا استاذ سويلم على الطرح القيم

الفرغل ابو الرجال
17-02-2017, 11:23 PM
مشكوووووور والله يعطيك الف عافيه

نور الهدى
18-02-2017, 12:15 PM
شكرا على الموضوع والافادات القيمة

tafouket
19-02-2017, 12:30 PM
شكرا على الموضوع والافادة جزاكم الله كل خير

جنة
20-02-2017, 07:07 AM
شكرا على الطرح والافادة القيمة بارك الله فيكم