المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الهوة الروحية



بلال
08-02-2017, 07:36 PM
الهوة الروحية




بقلم بشرى كنوز


تدور عجلة الأيام بسرعة، تنقضي يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، ويمر عام كامل علينا وساعة الزمن لا تتوقف دقاتها ولا تصمت، وطموحنا وأهدافنا أسرع، نجد حولنا أشخاصًا يعيشون حياتهم بهدف أو من دون هدف، معظم الناس يعيشون الماضي أو المستقبل، يعيشون أحداث الماضي سواءً أكان في أحزانها أو أفراحها، أو وهم وتخيل ما يمكن أن يحدث في المستقبل بكل ما فيه من حزن أو بهجة، وهم بذلك ينكرون دون أن يشعروا نعمة لحظة «الآن». مما جعلهم ينسون أن يعيشوا يومهم بأبسط تفاصيله، ويستمتعوا باللحظة فقط، ويستشعروا كل معانيها. لذا صارت تلك الهوة التي تبتلعهم من الدّاخل تزداد اتساعًا يومًا بعد يوم، ليجدوا أنفسهم متخبِّطين في فضاءٍ لا متناهٍ من العدم. هو الشّعور الذي يهوي بقلوبنا حين نغفل عن تلك الخطوة في الظّلام، حتى أدمنا لعبة الركض والتوهان. نتوه في كل شيء، نصرخ من الحياة، نشكي ونتذمر، نعاتب ونلوم الآخرين، نأكل كثيرًا وننام أكثر، بينما في الواقع نحن من جعلنا الحياة على ما هي عليه، خلق الله الحياة من أجلنا ولم يخلقنا من أجل الحياة. نحن للأسف ما زلنا نغرق في فوضى الأفكار والأفعال والأحكام. إذًا أين نحن من تلك السكينة والهدوء حيال العواصف الروحية والاجتماعية المختلفة، وذلك السلام الداخلي والتماسك الروحي الوديع؟

قد يقول بعضنا كيف نحقق السلام الداخلي في عالم تسوده الفوضى والدمار؟ والحروب الأهلية والطائفية والعرقية، كيف نعيش في عالم محاط بالجرائم والآلام والأحزان والمعاناة؟ كيف نعيش بطهر في عالم يملؤه القذارة؟ كيف نصل لحالة من التوازن النفسي مع أنفسنا وغيرنا أمام حب النفس المذموم، والأثرة، والأنانية، والخبث، والبغض، والحسد، والعنف؟

على رغم كل تلك الأشياء المتناغمة والمتناقضة هكذا هي الحياة، لا توجد سعادة دائمة، ولا حزن مستمر، كلها فواصل لمراحل جديدة، ستكون بين هذه وتلك.

فلا نبقى مكتوفي الأيدي نراقب فقط. حتى تنقضي حياتنا دون أن نفعل شيئًا، صحيح أن التأمل هو حجر الأساس لتطوير البصيرة، ولفهم من نكون حقيقة، وما يجري بداخلنا عقلًا، وجسمًا، وقلبًا. وبالتالي امتلاك القدرة على البقاء، متفتحين، وملاحظين، وموضوعيين، بما يجري من حولنا، وما يجري في داخلنا، وداخل الآخرين، من أجل تحسين نوعية حياتنا، لا لكي نضيع في متاهات هذه الأفكار والتناقضات بكل جوانبها وأطرافها. ربما حان الوقت لتحمل المسؤولية الكاملة عن أنفسنا، وفتح صفحة جديدة ناصعة البياض مع ذواتنا، نعم نحن. أن تتعلم وتتدرب على حب الذات في كل يوم، تضمها بيديك لتهدئ من روعك، وتسكن بلابل نفسك، وتذهب وساوس صدرك، وتتعلم قيمة التسامح وحب نفسك والآخرين، فتحظى بالسلام والسعادة، عندما نتوقف عن إلقاء اللوم على الآخرين أو الأشياء، عندما نصاب بأذى فاللوم لا يعيد إلينا السعادة التي نرجوها، ولا حتى النيل ممن آذانا، والتسامح فقط هو الطريق إلى تحقيق ما نصبو إليه. ولذلك فإن علينا أن نكون الأشخاص الذين ينفسون عن الغضب، والأذى والمرارة والألم في كل من الصراعات الداخلية والخارجية، ونتوقف عن القسوة على أنفسنا والآخرين.

الحياة ليست سيرًا يحفي القدمين ويُنْحل الساقين، ليست ركضًا دائمًا كوحوش الغابة، ولا تطفّلًا كالذبابة، إذ لا بد أن يكون هناك (وقت مستقطع) للراحة والسكينة والهدوء والجمال والسلام. إنّها القناعة في غير تبتّل، والطلب في غير لهث، في وسط ساعات العمل المرهقة على الإنسان، أن يوجد لنفسه بعض الوقت ليستريح ويستمتع باللحظات الأجمل في الحياة، حتى آخر قطرة منها، تمامًا كمثل السابح الذي يستسلم لماء النهر حتى يرفع جسده بأناة وخفة، ويعطي نفسه الفرصة لتذوق ما يتدفق من الماء نحوه في ذلك الحين. وليس هو الذي يشغل باله ونفسه بما قد يكون في هذه الناحية أو تلك الناحية، بل حسبه أن يعيش متعة ما حوله ومعه في كل لحظة قائمة بذاتها، بعيدًا عن هموم العمل، وبعيدًا عن التفكير في أحوال الناس، وظروف التحديات المحيطة بنا.

يقول رالف إيمرسون: دائمًا ما نقف على أعتاب الحياة متأهبين لنعيشها، ولكننا ننسى كيف نعيشها كما يجب!

روعة الحياة تكون حين نعرف كيف نستمتع بوقت الهدوء والراحة حتى نستعيد طاقاتنا، ونهيئ أنفسنا للعودة للعمل مجددًا بروح جديدة، وهي أكثر إقبالًا ونشاطًا وشوقًا دون أن نقع في فخ الضغوط. أن هناك ‎‏فرقًا بين أن تعيش في الحياة، وبين أن تكون موجودًا بها، من يعيش حياته يستمتع بكل لحظة فيها ويقبل نفسه كما هي، ‏لا تهدر حياتك بالسخط والمقارنات‏ ‏في كل مكان، عش عالمك الخاص، اكتب ما تحب، كن ما تريد، لا تفرض نفسك على ذائقة أحد، إعجاب الآخرين بك لا يساوي شيئًا إن لم تعجب بنفسك، وإذا أردت أن تتذوق طعم الحياة فتنفس الأمل، وعش بالتفاؤل، واعشق التحدي، وانتهز الفرص، وكن واثق الخطى، مؤمنًا متوكلًا على الله، صادقًا. وعلينا أن نترفع عن إصدار الأحكام السلبية التي نصدرها على أنفسنا وعلى العالم والآخرين، ماذا نضيف من إصدارنا للأحكام بحدة؟ لعل صدقنا مع أنفسنا ومدى معرفتنا للواجب والمسؤولية والعمل بهما -تجاه أنفسنا والآخرين- هو ما يحتاجه العالم.

إن الهوة أصبحت كبيرة وعميقة جدًّا؛ لأننا نشاهد فقط السلبيات ومواطن القصور وضعف العالم والبشر من حولنا، نكون الجلاد والقاضي على الآخرين، وننسى أو نتجاهل دورنا الحقيقي على الأرض، وهو بث السلام والمحبة والعطاء والتسامح، ونحاول من جديد أن نبحث في داخلنا وأعماقنا، ونستشعر تلك المحبة الصادقة والنور المختبئ في الأعماق، لا نحقد، لا نغضب، لا نكره، نعمل ونسعى ونتحمل مسؤولية اختياراتنا، نحن للأسف بعضنا متمسك أن أخطاءه تافهة، وأخطاء الآخر عظيمة ولا تغتفر، هذا الوهم هو مصدر لكل الشرور والآلام، لو كل منا وقف أمام المرآة وتخلى عن نرجسيته وحاسب نفسه بقسوة، محاولين بذلك لفت الانتباه للتركيز أكثر على ذواتنا وداوخلنا، وما نمتلكه من جواهر وقدرات عظيمة لا تقدر بثمن، والتي أضعنا بعضًا منها في الماديات، وتجاهلنا الجوانب الروحية والذاتية. من هنا يبدأ العالم بالتغيير، من هنا يبدأ الأفراد بالتحرك بإيجابية، والخروج من حالة الضعف والاستسلام والانهزام والصراع الداخلي، ومحاولة بث روح الأمل والإصرار والعزيمة في تجاوز العديد من أمور حياتنا التي تعتبر أحيانًا عائقًا لنا، من هنا نفتح نافذة صادقة مع أنفسنا أولًا، وكما قال غاندي في أحد الكتب: «كن أنت التغيير الذي تنشده في هذا العالم»؛ فإذا كنا نحلم بغد أفضل فلنلقي نظرة صادقة ومتفائلة على أنفسنا، لنحدد عيوبنا وأخطاءها ونبدأ في إصلاحها ونحدد نواقصنا لتعديلها ننصح الآخرين ونرشدهم للطريق الأفضل من خلال صلح أنفسنا أولاً، لنسير بطريقين يلتقيان في نهاية سعيدة نطمح لها.

ما أكثر النصائح ثمينة والمواعظ والكلمات المعبرة، لكنها ماذا أضافت إن لم تأت من صاحبها الحقيقي الذي يدرك معنى هذا الوجود، والمعنى من تواجده فكيف تنفع وتسمع وتؤثر في الآخرين وفينا، ولا شك أن أنفع الناس في أمره ونهيه وأحسنهم في دعوته: من كان ممتثلًا بما يأمر به، مجتنبًا ما ينهى عنه كما هي حال المرسلين، قال شعيب عليه السلام: «وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ». الحكماء والعظماء الذين شهد لهم التاريخ لا يقولون عن أنفسهم حكماء، يتركون آثارهم وإنجازاتهم للأجيال القادمة، مهما كانت طبيعة التحولات والمصاعب؛ بل إن المبادئ والقيم التي يتركونها، هي جزء أصيل من آليات مواجهة أي مصاعب أو أزمات مرحلية كانت أم مستقبلية. كما يتجاوزن ذلك أحيانًا ليقدموا نموذجًا يقتدى به في مواقف الحياة العديدة كيف؟ يكون في معرفة حقيقة أنفسهم؛ بل ومعرفة بعض صفاتها، ولا يتسنى للإنسان أن يدرك حقيقة النفس إلا بسعيه لإصلاحها، وإزالة الحجب عنها وتهذيبها وتزكيتها وترويضها، يوازنون بين ما عليهم ولهم، يعرفون محاسنهم وعيوبهم، ويحاول أن يطورها، لا يصدرون أحكامًا عامةً على الآخرين؛ بل يحاولون التحسن والتطور بالتيقظ والوعي، الصبر على البحث، والدقة الكاملة، والتأنّي في إصدار الحكم، والاجتهاد والحثِّ على العمل والبناء، وترك الخمول والكسل، بعيدين عن نطاق الجنون، لكنهم كانوا صادقين مع أنفسهم ومع من قرأ لهم بعد ذلك، هؤلاء غيروا التاريخ، ولعبوا أدوارًا مهمة لرفعة بلادهم وأمتهم وعالمهم. مجدهم وعزهم، كان التغلب على الصعوبات، والانفعال الشديد والتعقل قبل إصدار الأحكام وردود الأفعال، فكانوا رموزًا بحق وحقيقة في لحظة من أهم اللحظات التاريخية والمصيرية، ويبقى أن تعرف الأجيال الطالعة مَنْ هم هؤلاء، والوقوف على ما كانوا عليه من الإصلاح، والسير على منوالهم، وسلوك دربهم، واقتفاء آثارهم في علاج أوضاعنا الحالية المزرية، وذلك بتوظيف واستعمال نصائحهم الحكيمة، وتوجيهاتهم القيمة في مسيرتنا الإصلاحية العملية التطبيقية.

لا نضيع وقتنا في القيام بأشياء تعيقنا عن الاستفادة من كامل طاقاتنا، ‏ كالتحسر على الماضي، والقلق من المستقبل، إنما علينا أن نعيش حاضرنا بقوة، علينا الجلوس مع أنفسنا لحظة صدق معها نستمع لها، ربما تكون هذه الرسائل الداخلية التي نخاطب بها أنفسنا متعلقة بالأفكار والمعتقدات والمشاعر والسلوكيات التي ننتهجها في حياتنا. هذه الأخيرة المليئة بالأشياء والمواقف والأشخاص والمعضلات والمشكلات، فمن الجميل أن نجلس مع ذاتنا، فذلك سيعيد لنفس صفائها وسكونها وطمأنينتها، ولنجعل معابرنا إلى الله دائمًا مفتوحة، حتى نسعد وننعم من حيث لا نعلم، لنشفى من أمراضنا من أحزاننا من همومنا من أوجاعنا من متاعب الدنيا وتقلباتها، لذا أحبوا أنفسكم محبة روحية تربطها بالله وتبنيها وتنمي مواهبها ووزناتها وقدراتها. علينا أن نصادق أنفسنا، ونقوم أخطاءها، وننمي وزناتنا، ونتاجر ونربح بها لمجد الله، ولبنيان ملكوت الله داخلنا، ونهدئ من روعنا فلا وقت نضيعه في لطم الخدود، فلم الخوف؟

ربما حان الوقت لتجديد الوجدان، وإصلاح القلوب، وصيانة الروح، وأن يحدد الإنسان هدفه، والهدف الحقيقي أن يرضى الله عن الإنسان، الغاية الحقيقية التي لا يستحق غيرها أن يعيش الإنسان لها هي رضوان الله تعالى، وحسن مثوبته، يعيش في الدنيا بقلب أهل الآخرة، يمشي على الأرض ويرنو إلى السماء، يتعامل مع الخلق ولكنه لا ينسى الخالق، هذه هي الغاية الأساسية، لكن «فقدان التوازن» والميل كل الميل إلى الجانب المادي، أو الجسدي، أو أهواء النفس، وما ابتليت به قلوب البشر من الكراهية والغضب والانتقام وردود الفعل السريعة، جعلت منه إنسانًا غريبًا ومشتتًا، يغطي هذا الضعف بهذه الأشكال والأطر والمظاهر.

لقد أصبحنا نغرق في أوحال الماديات، وتسابق الناس على المظاهر والبهرجة والانشغال والركض وراء مصالحهم المعيشية، ذاهبين ضمن عباب أسود لا ينتهي من البحث وراء ماديات الحياة، ولكننا لم نجد الوقت الكافي للركض الروحي، وتطهير روحنا الداخلية من (سلبيات الحياة) من خلال ما نقوم به بأعمالنا والعطاء. لم يعد للمشاعر العاطفية (الحنان – الود – المودة – الرحمة – الحلم… إلخ)، القدر المطلوب الذي يعمل على تماسك أواصرنا الأسرية والاجتماعية؛ مما جعل مشاعر أفراد اليوم جافة وقاسية لا تبالي بالآخرين، وهذا للأسف جعل هناك انفصالًا مع الذات، ثم انفصالًا مع العالم الخارجي، وهو ما جعل الإنسان يفتقد هويته الأصلية «من يكون»، وأصبح يبحث في الخارج ما يغطي هذا الضعف. وزادت الهوة بين الإنسان، ونفسه، وأصبح يعيش كالغريب تائهًا بين طرقات حياته.

شاهين
09-02-2017, 06:16 PM
شكرا على الطرح الطيب والافادة القيمة وجزاكم الله كل خير

حنين
10-02-2017, 03:11 PM
جزاك الله خيرا

شقيق
15-02-2017, 05:57 PM
شكرا على الطرح الطيب العطر بارك الله فيكم

بو حمد
19-02-2017, 02:02 AM
مشكوووووور والله يعطيك الف عافيه

اليمنى
23-02-2017, 04:19 AM
شكرا على الموضوع والافادات القيمة
بارك الله فيكم وجعلها فى ميزان حسناتكم