وداد مريم
05-01-2018, 02:53 PM
بعيداً عن مرآتها
والدته كانت مزاجية جداً، لا لم تكن مزاجية، بل أقرب للنرجسية، كانت أحياناً ترفعه للسماء، ثم ما تلبث إلا أن تهوي به إلى أسحق بقعة على الأرض. كانت أحياناً تنتقده على أفضل إنجازاته، وتعاقبه حتى وإن إحسن، وكانت بعد عقابها تدلله كثيراً، وتحضنه وتغمره مديحاً، ثم تتبع مديحها بالشتم والصراخ.
كتفه كانت تؤلمه دائماً، حتى وإن لم تضربه أمه، كانت تؤلمه حتى حينما تكون أمه بأشد حالاتها دلالاً له وتعزيزاً. الشد، الشد في كتفيه استعداداً للهرب أو الهجوم في أي حالة اعتداء، الشد هو ما آلمه، أحياناً أكثر من الضرب. المثير لقلقه هو أنه لم يدرك أبداً النمط الذي يحكم مزاجها، لم يكن هناك وقت معين تستشرّ فيه أو تهدأ، لم يكن هناك سلوك معين يثير نوبات غضبها. إن أسعدتها "صباح الخير" منه اليوم، قد تثير حنقها غداً. إن كانت لطيفة نهاية الأسبوع هذه، قد تتحول وحشاً نهاية الأسبوع القادم. لم يكن ليستطيع أن يثق في هدوئها، فليس هناك أي طريقة للضمان أن هدوءها سيستمر للحظة القادمة.
...
كل يوم يتغيّر وجهها، ورغم كل ما قيل وكتب عنها، إلا أنه لا سبيل لتوقع الوجه الذي ستراه منها غداً. لا أتحدث عن والدته، أتحدث عن الحياة، حياتك، حياتي، الحياة؛ كل ما تواجه يومياً، كل ما يحدث لك، كل ما يحيط بك. تعتقد أنك فهمت النمط وأتقنت اللعبة، فتفاجئك بصدمة لا تشبه حتى فكرتك عن الصدمات، لا تشبه أي نمط لأي صدمة واجهتها أو سمعت عنها. ثم تتبدل الظروف إلى الأفضل، لا "الأفضل" الذي حلمت به، بل نوع آخر تماماً لم يكن له أي مكان في مخيلتك.
لذا أتفهم بسهولة ذلك القلق الذي يظهر كسواد تحت عينيك، أشعر بذلك الوجع في كتفيك حتى عندما تعاملك الحياة بلطف شديد. لأنك لا تفهمها! لا تعرف ما الذي تريده منك، لا تعرف السبيل لرضاها، فرغم أنك تتحدى كل الظروف للقيام بأفضل ما عندك، تصفعك وتنهال عليك بالشتائم حتى تشعر وكأن ليس لك أي قيمة. أنت لا تعرف كيف تحلّل تصرفاتها وتتوقع ردات فعلها، ليس عندك الأدوات للتوقع. وإن وجدت طريقة، ستتبدل كل المعالم والإشارات التوضيحية وتعود لضياع آخر مختلفاً عن كل ضياع واجهته من قبل.
هل أخبرك سراً؟ لن تحترف قوانينها، ولن تعرف إن كان ما تظنه خيراً هو خير حقاً أم هو شرّ، ولن تعرف إن كان ما تظنه شراً هو خير. إن إظهرت لك وجهها الحسن لا يعني أنك أحسنت، وإن اسودّ عليك وجهها لا يعني أنك أسأت. لذا توقف عن سؤال: "ماذا سيحدث بعد؟"، واسأل نفسك: "ماذا سأُحدث اليوم وماذا سأُحدِث غداً؟". توقف عن استجداء الأجوبة من الحياة. مرآة الحياة مشوهة إن لم تستخدم عدسات إيضاح تفسر لك بعض مما ترى.
أرجوك توقف عن البحث عن وجهك ووجهتك في ما تعكسه. لا يعني هذا أن تترك الأحداث الخارجية تمرّ دون أن تتعلم منها وتحللها، ولا يعني ألا تحاول تغيير ما يمكنك تغييره، ولكن دون أن تنسى أنك تفعله تقرّباً لله وبالاستعانة به. أنت، هكذا، لا تقس أفعالك بنتائجها، بل تقسها بمدى صُلحها بغض النظر عن النتيجة. وهكذا، لا تقس رضاك بالنتائج بمدى فرحك أو حزنك بحدوثها، بل ببساطة تقس رضاك بالنتئج بأنه ما اختاره الله لك رغم كل جهودك، وهذا يكفي لأن تبقى راضياً.
" مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"
أليس الأولى بك أن ترى هذا العالم بعدسة بها بعض الثبات في عالم لا يكفّ عن تغيير أقنعته؟ أليس الأولى بك أن تبدل فرحك وحزنك رضا؟ أنا لا أعرف كل الأجوبة، لا أعرف حتى كل الأسئلة، لكنني أعرف أن من الغباء التخيل أن الأسد سيتعامل معي بإنسانية لأني نباتيّة أدافع عن حقوق الحيوان! وأعرف أن اختياراتي أجدر بالتعريف بي من ما تكرمني أو تبخل عليّ به الحياة، وأعرف، وأؤمن أن الله مع الصابرين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ.)
رغد الطيان
والدته كانت مزاجية جداً، لا لم تكن مزاجية، بل أقرب للنرجسية، كانت أحياناً ترفعه للسماء، ثم ما تلبث إلا أن تهوي به إلى أسحق بقعة على الأرض. كانت أحياناً تنتقده على أفضل إنجازاته، وتعاقبه حتى وإن إحسن، وكانت بعد عقابها تدلله كثيراً، وتحضنه وتغمره مديحاً، ثم تتبع مديحها بالشتم والصراخ.
كتفه كانت تؤلمه دائماً، حتى وإن لم تضربه أمه، كانت تؤلمه حتى حينما تكون أمه بأشد حالاتها دلالاً له وتعزيزاً. الشد، الشد في كتفيه استعداداً للهرب أو الهجوم في أي حالة اعتداء، الشد هو ما آلمه، أحياناً أكثر من الضرب. المثير لقلقه هو أنه لم يدرك أبداً النمط الذي يحكم مزاجها، لم يكن هناك وقت معين تستشرّ فيه أو تهدأ، لم يكن هناك سلوك معين يثير نوبات غضبها. إن أسعدتها "صباح الخير" منه اليوم، قد تثير حنقها غداً. إن كانت لطيفة نهاية الأسبوع هذه، قد تتحول وحشاً نهاية الأسبوع القادم. لم يكن ليستطيع أن يثق في هدوئها، فليس هناك أي طريقة للضمان أن هدوءها سيستمر للحظة القادمة.
...
كل يوم يتغيّر وجهها، ورغم كل ما قيل وكتب عنها، إلا أنه لا سبيل لتوقع الوجه الذي ستراه منها غداً. لا أتحدث عن والدته، أتحدث عن الحياة، حياتك، حياتي، الحياة؛ كل ما تواجه يومياً، كل ما يحدث لك، كل ما يحيط بك. تعتقد أنك فهمت النمط وأتقنت اللعبة، فتفاجئك بصدمة لا تشبه حتى فكرتك عن الصدمات، لا تشبه أي نمط لأي صدمة واجهتها أو سمعت عنها. ثم تتبدل الظروف إلى الأفضل، لا "الأفضل" الذي حلمت به، بل نوع آخر تماماً لم يكن له أي مكان في مخيلتك.
لذا أتفهم بسهولة ذلك القلق الذي يظهر كسواد تحت عينيك، أشعر بذلك الوجع في كتفيك حتى عندما تعاملك الحياة بلطف شديد. لأنك لا تفهمها! لا تعرف ما الذي تريده منك، لا تعرف السبيل لرضاها، فرغم أنك تتحدى كل الظروف للقيام بأفضل ما عندك، تصفعك وتنهال عليك بالشتائم حتى تشعر وكأن ليس لك أي قيمة. أنت لا تعرف كيف تحلّل تصرفاتها وتتوقع ردات فعلها، ليس عندك الأدوات للتوقع. وإن وجدت طريقة، ستتبدل كل المعالم والإشارات التوضيحية وتعود لضياع آخر مختلفاً عن كل ضياع واجهته من قبل.
هل أخبرك سراً؟ لن تحترف قوانينها، ولن تعرف إن كان ما تظنه خيراً هو خير حقاً أم هو شرّ، ولن تعرف إن كان ما تظنه شراً هو خير. إن إظهرت لك وجهها الحسن لا يعني أنك أحسنت، وإن اسودّ عليك وجهها لا يعني أنك أسأت. لذا توقف عن سؤال: "ماذا سيحدث بعد؟"، واسأل نفسك: "ماذا سأُحدث اليوم وماذا سأُحدِث غداً؟". توقف عن استجداء الأجوبة من الحياة. مرآة الحياة مشوهة إن لم تستخدم عدسات إيضاح تفسر لك بعض مما ترى.
أرجوك توقف عن البحث عن وجهك ووجهتك في ما تعكسه. لا يعني هذا أن تترك الأحداث الخارجية تمرّ دون أن تتعلم منها وتحللها، ولا يعني ألا تحاول تغيير ما يمكنك تغييره، ولكن دون أن تنسى أنك تفعله تقرّباً لله وبالاستعانة به. أنت، هكذا، لا تقس أفعالك بنتائجها، بل تقسها بمدى صُلحها بغض النظر عن النتيجة. وهكذا، لا تقس رضاك بالنتائج بمدى فرحك أو حزنك بحدوثها، بل ببساطة تقس رضاك بالنتئج بأنه ما اختاره الله لك رغم كل جهودك، وهذا يكفي لأن تبقى راضياً.
" مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"
أليس الأولى بك أن ترى هذا العالم بعدسة بها بعض الثبات في عالم لا يكفّ عن تغيير أقنعته؟ أليس الأولى بك أن تبدل فرحك وحزنك رضا؟ أنا لا أعرف كل الأجوبة، لا أعرف حتى كل الأسئلة، لكنني أعرف أن من الغباء التخيل أن الأسد سيتعامل معي بإنسانية لأني نباتيّة أدافع عن حقوق الحيوان! وأعرف أن اختياراتي أجدر بالتعريف بي من ما تكرمني أو تبخل عليّ به الحياة، وأعرف، وأؤمن أن الله مع الصابرين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ.)
رغد الطيان