المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الباب الأول : المقدمة السادسة في أصناف المدركين للغيب من البشر (3 )



الشيخ درويش عبود المغربى
13-07-2008, 03:57 AM
أصناف النفوس البشرية و النفوس البشرية على ثلاثة أصناف

صنف عاجز بالطبع عن الوصول إلى الإدراك الروحاني فيقنع بالحركة إلى الجهة السفلى نحو المدارك الحسية و الخيالية و تركيب المعاني من الحافظة و الواهمة على قوانين محصورة و ترتيب خاص يستفيدون به العلو م التصورية و التصديقية التي للفكر في البدن. و كلها خيالي منحصر نطاقه إذ هو من جهة مبدئه ينتهي إلى الأوليات و لا يتجاوزها و إن فسد فسد ما بعدها و هذا هو في الأغلب نطاق الإدراك البشري الجسماني و إليه تنتهي مدارك العلماء و فيه ترسخ أقدامهم. و صنف متوجه بتلك الحركة الفكرية نحو العقل الروحاني و الإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية بما جعل فيه من الاستعداد لذلك فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأول البشري و يسرح في فضاء المشاهدات الباطنية و هي وجدان كلها لا نطاق لها من مبدئها و لا من منتهاها. و هذه مدارك العلماء الأولياء أهل العلوم اللدنية و المعارف الربانية و هي الحاصلة بعد الموت لأهل السعادة في البرزخ.

الوحي

و صنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة جسمانيتها و روحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى ليصير في لمحة من اللمحات ملكا بالفعل و يحصل له شهود الملإ الأعلى في أفقهم و سماع الكلام النفساني و الخطاب الإلهي في تلك اللمحة. و هؤلاء هم الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة و هي حالة الوحي فطره فطرهم الله عليها و جبلة صورهم فيها و نزههم عن موانع البدن و عوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشرية بما ركب في غرائزهم من العصمة و الاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة وركز في طبائعهم رغبة في العبادة تكشف بتلك الوجهة و تشيع نحوها. فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ متى شاؤوا بتلك الفطرة التي فطروا عليها لا باكتساب و لا صناعة. فلذا توجهوا و انسلخوا عن بشريتهم و تلقوا في ذلك الملإ الأعلى ما يتلقونه و عاجوا به على المدارك البشرية منزلا في قواها لحكمة التبليغ للعباد. فتارة يسمع أحدهم دويا كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه فلا ينقضي الدوي إلا و قد وعاه و فهمه و تارة يتمثل له الملك الذي يلقي إليه رجلا فيكلمه و يعي ما يقوله. و التلقي من الملك و الرجوع إلى المدارك البشرية و فهمه ما ألقي عليه كله كأنه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر لأنه ليس في زمان بل كلها تقع جميعا فيظهر كأنها سريعة و لذلك سميت وحيا لأن الوحي في اللغة الإسراع.

و اعلم أن الأولى و هي حالة الدوي هي رتبة الأنبياء غير المرسلين على ما حققوه. و الثانية و هي حالة تمثل الملك رجلا يخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين و لذلك كانت أكمل من الأولى. و هذا معنى الحديث الذي فسر فيه النبي صلى الله عليه و سلم الوحي لما سأله الحارث بن هشام و قال: " كيف يأتيك الوحي فقال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشده علي فيفصم عني و قد وعيت ما قال و أحيانا يتمثل لي الملك فيكلمني فأعي ما يقول". و إنما كانت الأولى أشد لأنها مبدأ الخروج في ذلك الاتصال من القوة إلى الفعل فيعسر بعض العسر. و لذلك لما عاج فيها على المدارك البشرية اختصت بالسمع و صعب ما سواه و عندما يتكرر الوحي و يكثر التلقي يسهل ذلك الاتصال فعندما يعرج إلى المدارك البشرية يأتي على جميعها و خصوصا الأوضح منها و هو إدراك البصر و في العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي و في الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة و هي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي. مثلت الحالة الأولى بالدوي الذي هو في المتعارف غير كلام و أخبر أن الفهم و الوعي يتبعه غب انقضائه فناسب عند تصوير انقضائه و انفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء و الانقطاع و مثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطب و يتكلم و الكلام يساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتجدد.

واعلم أن في حالة الوحي كلها صعوبة على الجملة و شدة قد أشار إليها القرآن قال تعالى: { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } و قالت عائشة كان مما يعاني من التنزيل شدة و قالت كان عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و أن جبينه ليتفصد عرقا. و لذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة و الغطيط ما هو معروف. و سبب ذلك أن الوحي كما قررنا مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية و تلقي كلام النفس فتحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها و انسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر. و هذا هو معنى الغط الذي عبر به في مبدأ الوحي في قوله " فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما إنا بقارئ و كذا ثانية و ثالثة " كما في الحديث. و قد يفضي الاعتياد بالتدريج فيه شيئا فشيئا إلى بعض السهولة بالقياس إلى ما قبله و لذلك كان تنزل نجوم القرآن و سوره و آياته حين كان بمكة أقصر منها و هو بالمدينة. و انظر إلى ما نقل في نزول سورة براءة في غزوة تبوك و أنها نزلت كلها أو أكثرها عليه و هو يسير على ناقته بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المفصل في وقت و ينزل الباقي في حين آخر. و كذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدين و هي ما هي في الطول بعد أن كانت الآية تنزل بمكة مثل آيات الرحمن و الذاريات و المدثر و الضحى و الفلق و أمثالها. و اعتبر من ذلك علامة تميز بها بين المكي و المدني من السور و الآيات و الله المرشد إلى الصواب. هذا محصل أمر النبوة.

الكهانة

و أما الكهانة فهي أيضا من خواص النفس الإنسانية. و ذلك أنه قد تقدم لنا في جميع ما مر أن للنفس الإنسانية استعدادا للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها. و أنه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك و تقرر أنه يحصل لهم من غير اكتساب و لا استعانة بشيء من المدارك و لا من التصورات و لا من الأفعال البدنية كلاما أو حركة و لا بأمر من الأمور إنما هو انسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة في لحظة أقرب من لمح البصر. و إذا كان كذلك و كان ذلك الاستعداد موجودا في الطبيعة البشرية فيعطى التقسيم العقلي و إن هنا صنفا آخر من البشر ناقصا عن رتبة الصنف الأول نقصان الضد عن ضده الكامل لأن عدم الاستعانة في ذلك الإدراك ضد الاستعانة فيه و شتان ما بينهما. فإذا أعطي تقسيم الوجود إلى هنا صنفا آخر من البشر مفطورا على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالإرادة عندما يبعثها النزوع لذلك و هي ناقصة عنه بالجبلة عندما يعوقها العجز عن ذلك تشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة و عظام الحيوانات و سجع الكلام و ما سنح من طير أو حيوان فيستديم ذلك الإحساس أو التخيل مستعينا به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده و يكون كالمشيع له. و هذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة.

و لكون هذه النفوس مفطورة على النقص و القصور عن الكمال كان إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات. و لذلك تكون المخيلة فيهم في غاية القوة لأنها آلة الجزئيات فتنفذ فيها نفوذا تاما في نوم أو يقظة و تكون عندها حاضرة عتيدة تحضرها المخيلة و تكون لها كالمرآة تنظر فيها دائما. و لا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن وحيه من وحي الشيطان. و أرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع و الموازنة ليشتغل به عن الحواس و يقوى بعض الشيء على ذلك الاتصال الناقص فيهجس في قلبه عن تلك الحركة و الذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذفه على لسانه فربما صدق و وافق الحق و بما كذب لأنه يتمم نقصه بأمر أجنبي عن ذاته المدركة و مباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق و الكذب جميعا و لا يكون موثوقا به. و ربما يفزع إلى الظنون و التخمينات حرصا على الظفر بالإدراك بزعمه و تمويها على السائلين و أصحاب هذا السجع هم المخصوصون باسم الكهان لأنهم أرفع سائر أصنافهم و قد قال صلى الله عليه و سلم في مثله " هذا من سجع الكهان " فجعل السجع مختصا بهم بمقتضى الإضافة و قد قال لابن صياد حين سأله كاشفا عن حاله بالأخبار كيف يأتيك هذا الأمر قال يأتيني صادقا و كاذبا فقال خلط عليك الأمر يعنى أن النبؤة خاصتها الصدق فلا يعتريها الكذب بحال لأنها اتصال من ذات النبي بالملإ الأعلى من غير مشيع و لا استعانة بأجنبي. و الكهانة لما احتاج صاحبها بسبب عجزه إلى الاستعانة بالتصورات الأجنبية كانت داخلة في إدراكه و التبست بالإدراك الذي توجه إليه فصار مختلطا بها و طرقه الكذب من هذه الجهة فامتنع أن تكون نبوة. و إنما قلنا إن أرفع مراتب الكهانة حالة السجع لأن معنى السجع أخفه من سائر المغيبات من المرئيات و المسموعات و تدل خفة المعنى على قرب ذلك الاتصال و الإدراك و البعد فيه عن العجز بعض الشيء.

و قد زعم بعض الناس أن هذه الكهانة قد انقطعت منذ زمن النبوة بما وقع من شأن رجم الشياطين بالشهب بين يدي البعثة و أن ذلك كان لمنعهم من خبر السماء كما وقع في القرآن و الكهان إنما يتعرفون أخبار السماء من الشياطين فبطلت الكهانة من يومئذ. و لا يقوم من ذلك دليل لأن علوم الكهان كما تكون من الشياطين تكون من نفوسهم أيضا كما قررناه و أيضا فالآية إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء و هو ما يتعلق بخبر البعثة و لم يمنعوا مما سوى ذلك. و أيضا فإنما كان ذلك الانقطاع بين يدي النبوة فقط و لعلها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه و هذا هو الظاهر لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبوة كما تخمد الكواكب و السرج عند وجود الشمس لأن النبوة هي النور الأعظم الذي يخفى معه كل نور و يذهب.

و قد زعم بعض الحكماء أنها إنما توجد بين يدي النبوة ثم تنقطع و هكذا مع كل نبوة وقعت لأن وجود النبوة لا بد له من وضع فلكي يقتضيه. و في تمام ذلك الوضع تمام تلك النبوة التي تدل عليها و نقص ذلك الوضع عن التمام يقتضي وجود طبيعة من ذلك النوع الذي يقتضيه ناقصة و هو معنى الكاهن على ما قررناه. فقبل أن يتم ذلك الوضع الكامل يقع الوضع الناقص و يقتضي وجود الكاهن إما واحدا أو متعددا. فإذا تم ذلك الوضع تم وجود النبي بكماله و انقضت الأوضاع الدالة على مثل تلك الطبيعة فلا يوجد منها شيء بعد. و هذا بناء على أن بعض الوضع الفلكي يقتضي بعض أثره و هو غير مسلم فلعل الوضع إنما يقتضي ذلك الأثر بهيئته الخالصة و لو نقص بعض أجزائها فلا يقتضي شيئا لا أنه يقتضي ذلك الأثر ناقصا كما قالوه. ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي و دلالة معجزته لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة كما لكل إنسان من أمر النوم و معقولية تلك النسبة موجودة للكاهن بأشد مما للنائم و لا يصدهم عن ذلك و يوقعهم في التكذيب إلا وسواس المطامع في أنها نبوة لهم فيقعون في العناد كما وقع لأمية بن أبي الصلت فإنه كان يطمع أن يتنبأ و كذا وقع لابن صياد و لمسيلمة و غيرهم. فإذا غلب الإيمان و انقطعت تلك الأماني آمنوا أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي و سواد بن قارب و كان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار الشاهدة بحسن الإيمان.

مشهور
15-07-2008, 01:58 AM
مشكور وبارك الله فيك وعليك

نبيل مصطفى
15-07-2008, 02:00 AM
مشكور يا مولانا على مجهودك فى ابراز هذة العلوم القيمة لنا

احمد عمر
15-07-2008, 02:01 AM
اطال الله بقاؤك ورزقك الفردوس الاعلى انه على كل شئ قدير

حنين
09-06-2016, 06:38 PM
بارك الله فيك شيخنا الجليل على الطرح القيم وجزاك الله عنا كل خير ورمضان كريم

احمد عزيز
10-06-2016, 05:20 PM
بارك الله فيك شيخنا الجليل على المقالة القيمة ورمضان كريم

بو حمد
11-06-2016, 08:07 AM
جزاك الله كل خير شيخنا الجليل ورمضان كريم

حليمة المطلبى
12-06-2016, 09:55 PM
بارك الله فيك شيخنا الجليل على الطرح الطيب وجزاكم الله كل خير ورمضان كريم

زخارى
14-06-2016, 05:33 AM
شكرا على المقالة القيمة شيخنا الكريم وكل عام وانتم بخير

ونيس المسيرى
15-06-2016, 11:34 PM
بارك الله فيك شيخنا الكريم على الموضوع والمعلومات ووالافادة القيمة جلها الله فى ميزان حسناتكم ورمضان كريم

محمد المازن
29-06-2016, 04:38 PM
جزاك الله كل خير شيخنا الجليل على الموضوع القيم

شذى الورود
30-06-2016, 02:50 PM
شكرا على الموضوع والافادة شيخنا الجليل جزاكم الله كل خير

شقيق
06-07-2016, 06:14 AM
شكرا على الطرح والافادات القيمة بارك الله فيكم