الشيخ درويش عبود المغربى
02-10-2012, 06:16 AM
فقه الزمـان عند القطب الشعراني ..
سيدي عبد الوهاب الشعراني ، أبو المواهب المتوفى 973هـ
أظنّ أنّ هذا الرجل العظيم ، لم يعط حقّه من الاهتمام في ميدان التصوف ، بله بقية الميادين ، و أنا على يقين أنّ هذه الشخصية لو كتب لها أن تعيش في بلاد الغرب ، لكانت بِحقّ إحدى مرجعيات الأنثبولوجيا أو على الأقل إحدى العلوم الإنسانية الأخرى .
إنّ الاستعداد العلمي لسيدي عبد الوهاب الذي لم يحُل بين إدراكه لجزئيات مسائل الحيض على المذاهب الأربعة و بين اختصاره لفتوحات الشيخ الأكبر بل و تعقيبه عليها ، ليُنبئ فعلا أنّ وراء الرجل عناية تربي ذلك الاستعداد .
إنّ المدهش حقا ليس هو حجم الشعراني "المعرفي" ، و لا حتى حجمه "الصوفي" ، و إن كانا مدهشين بحقّ ، إنّما المدهش و الملفت معا –لمن استقرأ كتابات الشيخ و ما كُتب عنه- هو حجمه "الإنساني" ! نعم
إنّنا و نحن نقرأ عهود الشيخ الصغرى منها و الكبرى ، ندرك حقّ الإدراك معنى الهمّ المحمدي الذي يجب أن يتحمّله كل متصدّر لمشيخة الطريق ، و بدرجة أقل ، السالكون لهذه الطريق ، إنّه يلاحظ بعيني الباطن و الظاهر نقاط مثار الغضب و العتب الإلهي لينبّه الناس على اجتنابها ، و إذا حقّت كلمة البلاء يسارع لتحمّلها ، و هو يستنـزل في جنح الليل و الناس نيام لطف المولى عز و جل لهذه الأمة ، ثم في صباح اليوم التالي يؤدب مريديه و يربيهم ، ثم في ضحى اليوم يقضي حوائج اليتامى و الأرامل ، و في ظهره يأمر و ينهى السلاطين و أصحاب الشرط ، ثم في عصره يتفقد عياله و كذا دواب البيت و حشراته ، و في مغربه يفطر على جرع ماء و قرص خبز لأنّه و ببساطة كان صائما طوال اليوم ، و بعد عشائه ينـزع إلى استكمال تآليفه ثم يهرع إلى بقية أوراده ، و هكذا ... إنّه النموذج المثالي لحمل الهم النبوي ، "و ما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين"
يدرك جيّدا سيدي عبد الوهاب الشعراني أنّ مسيرته هاته هي امتداد لمسيرة أشياخه ورّاث الحبيب المصطفى الرحمة المهداة صلى الله عليه و سلم ، لذلك فهو لم ير تناقضا في التوليف بين حقيقة الهم المحمدي و بين حقيقة الواقع المعاش ، فخط يمينه العهد 19 من العهود الصغرى تحت عنوان : " أُخذ علينا العهود أن ندور مع أهل هذا الزمان كما يدورون : و لا نجمد على حال واحد ، فإنّ الأمور قد انعكست كما هو مشاهد حتّى صار النّاس يقولون لا تعمل خيرا قط ، فينقلب عليك في هذا الزّمان شرا و صاروا يكتبون على الحيطان : خيرا ما تعمل شرا ما تلقى ، و صاروا يكتبون عليها اتّق شرّ من تحسن إليه . فالعارف من عرف زمانه .
و قد رأيت الشيخ عصفور المجذوب و كان من أرباب البصائر ، كلّما يرى أحدا يملي في حوض البهائم يقول له : يا أعمى القلب ، هذا زمان ما يستحق أحد أن يعمل مع أهله خيرا ، فكان غالب النّاس يسخر منه ، و كان الفقراء يعتبرون بكلامه لأنّه على لسان حال الزمان .
و تأمّل يا أخي لما كان أهل هذا الزمان لا يستحقون فعل الخيرات معهم ، كيف قامت دونهم الموانع في وصولهم إلى أرزاقهم ، و كيف استولت الظَّلَمَة على الأوقاف و عطّلت الرّزق المرصدة على شعائر الدين ، و أسبلت البهائم و غيرها ، و أخذت الأمور كلّها في الطيّ بعد النشر.
و أهل الموانع كما هو مشاهد أنّ من أحسنت إليه طول عمرك لا يحتمل منك الآن كلمة واقفة ، بل يصير يمزّق عرضك في آفاق الأرض ، و لا يتذكّر لك قطّ جميلا ، و لا حسنة ، فإذا عرضوا عليك شخصا لتحسن إليه لا تجد في نفسك داعية لما قاسيت من الأوّل .
فالعاقل من قبض على إيمانه في هذا الزمان فإنّه أساسه الذي يبني عليه ما شاء من الخيرات ، و من التفت إلى شيء سواه ، يقع في كفة لنقصان ، و لأن يأتي العبد ربّه فقيرا من جميع العلوم و الأقوال و الأفعال ، و معه الإيمان فقط ، أحبّ إلى ربّه من أن يأتيه بعلوم الأولين و الآخرين و في إيمانه ثلمة و نقص فاعلم ذلك ".
انتهى كلام القطب الشعراني ، و هو كلام في قمة الدّقة و منتهى التوجيه للمريد و لغير المريد ، فعلا ، إنّ انعدام الإيمان أو بعبارة أرأف قلّة الإيمان بين أوساط المجتمع و تجلياتها السلبية عليه لا يجب علينا –لا عقلا و لا نقلا -تحمّل تبعتها ، فليس حتما عليّ كوني متدينا أو مريدا .. أن أنطلق بين الأرجاء مغمض العينين و في جعبتي حديث أو حديثان عن فعل الخير ، ثم أفيض كالغيث الهامع بالـمَبرّات و المسرّات و جزيل الخيرات ، حتى إذا لاقيت السدود و الصدود و أقبح الردود ، أقول أيش فائدة التدّين و أين أحاديث فعل الخيرات !
عندنا مثل سائد يقول : "ما أُدخِل يدي في غار الثعبان ، و ما أقول أدركني يا سيدي عيسى" ، بمعنى أنّه يجب علي أن أحتفظ بإيماني و حسن نيتي بعيدا عن مواطن الرّيب ، و ما أكثرها اليوم ! ، حتى لا أتورط فيما أنا بغنىً عنه .
إنّ كلام القطب الشعراني ليكتب بماء العيون ، و إنّه لينبغي على كلّ مريد أن يضعه نصب عينيه ، إذا أراد أن يخالط الناس و يجالسهم ، حتى لا يقع ضحية لسوء تقديره ..
فعلا إنّ الشعراني ... فقيه الزمان
سيدي عبد الوهاب الشعراني ، أبو المواهب المتوفى 973هـ
أظنّ أنّ هذا الرجل العظيم ، لم يعط حقّه من الاهتمام في ميدان التصوف ، بله بقية الميادين ، و أنا على يقين أنّ هذه الشخصية لو كتب لها أن تعيش في بلاد الغرب ، لكانت بِحقّ إحدى مرجعيات الأنثبولوجيا أو على الأقل إحدى العلوم الإنسانية الأخرى .
إنّ الاستعداد العلمي لسيدي عبد الوهاب الذي لم يحُل بين إدراكه لجزئيات مسائل الحيض على المذاهب الأربعة و بين اختصاره لفتوحات الشيخ الأكبر بل و تعقيبه عليها ، ليُنبئ فعلا أنّ وراء الرجل عناية تربي ذلك الاستعداد .
إنّ المدهش حقا ليس هو حجم الشعراني "المعرفي" ، و لا حتى حجمه "الصوفي" ، و إن كانا مدهشين بحقّ ، إنّما المدهش و الملفت معا –لمن استقرأ كتابات الشيخ و ما كُتب عنه- هو حجمه "الإنساني" ! نعم
إنّنا و نحن نقرأ عهود الشيخ الصغرى منها و الكبرى ، ندرك حقّ الإدراك معنى الهمّ المحمدي الذي يجب أن يتحمّله كل متصدّر لمشيخة الطريق ، و بدرجة أقل ، السالكون لهذه الطريق ، إنّه يلاحظ بعيني الباطن و الظاهر نقاط مثار الغضب و العتب الإلهي لينبّه الناس على اجتنابها ، و إذا حقّت كلمة البلاء يسارع لتحمّلها ، و هو يستنـزل في جنح الليل و الناس نيام لطف المولى عز و جل لهذه الأمة ، ثم في صباح اليوم التالي يؤدب مريديه و يربيهم ، ثم في ضحى اليوم يقضي حوائج اليتامى و الأرامل ، و في ظهره يأمر و ينهى السلاطين و أصحاب الشرط ، ثم في عصره يتفقد عياله و كذا دواب البيت و حشراته ، و في مغربه يفطر على جرع ماء و قرص خبز لأنّه و ببساطة كان صائما طوال اليوم ، و بعد عشائه ينـزع إلى استكمال تآليفه ثم يهرع إلى بقية أوراده ، و هكذا ... إنّه النموذج المثالي لحمل الهم النبوي ، "و ما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين"
يدرك جيّدا سيدي عبد الوهاب الشعراني أنّ مسيرته هاته هي امتداد لمسيرة أشياخه ورّاث الحبيب المصطفى الرحمة المهداة صلى الله عليه و سلم ، لذلك فهو لم ير تناقضا في التوليف بين حقيقة الهم المحمدي و بين حقيقة الواقع المعاش ، فخط يمينه العهد 19 من العهود الصغرى تحت عنوان : " أُخذ علينا العهود أن ندور مع أهل هذا الزمان كما يدورون : و لا نجمد على حال واحد ، فإنّ الأمور قد انعكست كما هو مشاهد حتّى صار النّاس يقولون لا تعمل خيرا قط ، فينقلب عليك في هذا الزّمان شرا و صاروا يكتبون على الحيطان : خيرا ما تعمل شرا ما تلقى ، و صاروا يكتبون عليها اتّق شرّ من تحسن إليه . فالعارف من عرف زمانه .
و قد رأيت الشيخ عصفور المجذوب و كان من أرباب البصائر ، كلّما يرى أحدا يملي في حوض البهائم يقول له : يا أعمى القلب ، هذا زمان ما يستحق أحد أن يعمل مع أهله خيرا ، فكان غالب النّاس يسخر منه ، و كان الفقراء يعتبرون بكلامه لأنّه على لسان حال الزمان .
و تأمّل يا أخي لما كان أهل هذا الزمان لا يستحقون فعل الخيرات معهم ، كيف قامت دونهم الموانع في وصولهم إلى أرزاقهم ، و كيف استولت الظَّلَمَة على الأوقاف و عطّلت الرّزق المرصدة على شعائر الدين ، و أسبلت البهائم و غيرها ، و أخذت الأمور كلّها في الطيّ بعد النشر.
و أهل الموانع كما هو مشاهد أنّ من أحسنت إليه طول عمرك لا يحتمل منك الآن كلمة واقفة ، بل يصير يمزّق عرضك في آفاق الأرض ، و لا يتذكّر لك قطّ جميلا ، و لا حسنة ، فإذا عرضوا عليك شخصا لتحسن إليه لا تجد في نفسك داعية لما قاسيت من الأوّل .
فالعاقل من قبض على إيمانه في هذا الزمان فإنّه أساسه الذي يبني عليه ما شاء من الخيرات ، و من التفت إلى شيء سواه ، يقع في كفة لنقصان ، و لأن يأتي العبد ربّه فقيرا من جميع العلوم و الأقوال و الأفعال ، و معه الإيمان فقط ، أحبّ إلى ربّه من أن يأتيه بعلوم الأولين و الآخرين و في إيمانه ثلمة و نقص فاعلم ذلك ".
انتهى كلام القطب الشعراني ، و هو كلام في قمة الدّقة و منتهى التوجيه للمريد و لغير المريد ، فعلا ، إنّ انعدام الإيمان أو بعبارة أرأف قلّة الإيمان بين أوساط المجتمع و تجلياتها السلبية عليه لا يجب علينا –لا عقلا و لا نقلا -تحمّل تبعتها ، فليس حتما عليّ كوني متدينا أو مريدا .. أن أنطلق بين الأرجاء مغمض العينين و في جعبتي حديث أو حديثان عن فعل الخير ، ثم أفيض كالغيث الهامع بالـمَبرّات و المسرّات و جزيل الخيرات ، حتى إذا لاقيت السدود و الصدود و أقبح الردود ، أقول أيش فائدة التدّين و أين أحاديث فعل الخيرات !
عندنا مثل سائد يقول : "ما أُدخِل يدي في غار الثعبان ، و ما أقول أدركني يا سيدي عيسى" ، بمعنى أنّه يجب علي أن أحتفظ بإيماني و حسن نيتي بعيدا عن مواطن الرّيب ، و ما أكثرها اليوم ! ، حتى لا أتورط فيما أنا بغنىً عنه .
إنّ كلام القطب الشعراني ليكتب بماء العيون ، و إنّه لينبغي على كلّ مريد أن يضعه نصب عينيه ، إذا أراد أن يخالط الناس و يجالسهم ، حتى لا يقع ضحية لسوء تقديره ..
فعلا إنّ الشعراني ... فقيه الزمان