المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كتاب غنية المريد



علي العذاري
16-01-2012, 10:08 AM
كتاب غنية المريد

بسم الله الرحمن الرحيم



وصلى الله على سيدنا و مولانا محمد و على آله و صحبه و سلم

iهذا الكتاب المبارك للعلامة سيدي عبد الرحمان باش تارزي الذي يتمثل في شرح نظم مسائل كلمة التوحيد
وهو فريد من نوعه فنتمنى أن يفيد الجميع





قال عبد الرحمان و هو المذنب يرجو رضاء من اليه المهرب
الحمد لله الذي أورثنا كتابه و حصنه أدخلنا
ثم الصلاة و السلام أبدا على النبي الهاشمي أحمدا
و آ له و صحبه الكرام ما ذكر الله على الدوام
و بعد ان سألت يا أواه عن علم لا الاه الا الله
فهاك مفصلا جاء على مثال خمس و أربعين سؤلا
معناها شرط أدب اعرابها تلاوة ما فضلها تكرارها
أقسام مد حرفه ما حده و هل يجوز تركه ما قصده
و هل يجوز ابدال الهمز بيا تلاوة ذكرا كمد الا بيا
و هل فيهما تسكين الهاء من اله و هل تأويل خبر في ذكر الله
و هل من غير نية عنه يثاب وما هو التأويل يا أولي الألباب
و ما هو الأفضل للذاكر من هيللة أو مفرد له زكن
و هل حروفه مفسرا تكون و هل آخره محركا يكون
و ما هو التحريك من اشكال و كم له من أحرف يا تال
و هل يجوز مد همز قبل لام وهل يجوز حذف ها وي بعد لام
و ما هو الأفضل في الاكثار ذكر صلا تعلم أو قاري
هل اكتساب مع لزوم الواجبات و ما هو الترتيب في الأفضليات
و هل ما بعد مغرب و فجر سن احياؤه و أي فيهما حسن
و ما هو الأفضل سرا أو علن و هل في مسجد جماعة علن
أذكر أم فكر وعد أفضل و هل بقدره الثواب يحصل
و هل ملائكة سرا تكتب و أي حال فيه قطعا يندب
ما أفضل ذكر أم جهاد و ما توحيد واحد يفيد
و ما اذكر ربك اذا نسيت حمدلة هيللة فضلت
ما أفضل تسبيحكم تحميدكم و ما معناه اذكروني أذكركم
فهذه خمس مع أربعين مسئلة قد وردت يقين
في عام غوع نظمتها سنة شر حي رجاء نفع أمة البشير
و الحمد لله على التمام ثم صلاته على التهامي
و آله و صحبه الأخيار ما حنت الاطيار للأوكار


ـــــ( كتاب غنية المريد )ـــ




ـــ( في شرح نظم مسائل كلمتي التوحيد )ـــ



تأليف العالم العامل الناسك الكامل ذو الفيوض الربانية ناشر
الطريقة الرحمانية الشيخ سيدي عبد الرحمان بن أحمد بن حموده
ابن مامش المعروف بباش تارزي الجزائري منشأ
القسنطيني دارا صاحب التآليف المفيدة و الرسائل
المجيدة ناظم الرحمانية المشروحة بقلم ابنه الشيخ
مصطفى توفي في حدود عام 1221 و دفن
بقسنطينة وهو تلميذ سيدي محمد بن
عبد الرحمان الشهير دفين الجزائر
طيب الله ثراهما و أسكنهما
فسيح جنانه
آمين


( حقوق الطبع محفوظة لآل باش تارزي القسنطيني )


ــــــــــــــ



طبع بالمطبعة الرسمية العربية بتونس

سنة 1322 ــ 1904









بسم الله الرحمن الرحيم


و صلى الله على سيدنا و مولانا محمد
و على آله و صحبه و سلم


الحمد لله و كفى و سلام على عباده الذين اصطفى وبعد , فلما رأيت كثرت الاخوان منشغلين بذكرلا اله الا الله , ولم يتعرضوا لمعرفة معناها و لا لكيفية النطق بها , و كذلك اسم الجلالة , وهو الله تعالى , و كثر الاعتراض عليهم ، و نسبة الجهل اليهم , فطلب مني بعض أفاضلهم أن ألخص لهم كلام في ذلك , ليكون لهم عدة عند كل شدة , و ان كنت لست اهلا لذلك المقام , فعلى الله اعتمادي في البدء و الختام . فاوقع الله تعالى بيدي سؤالا ورد في سنة ست و سبعين و تسعمائة فيما يتعلق بالاسمين المذكورين , أعني لا اله الا الله و الله تعالى , من بعض فضلاء الوقت المذكور لبعض الأكابر من العلماء العاملين الجامعين بين الشريعة و الحقيقة , فنظمته على سبيل الأختصار ليكون سهلا للحفظ و الاحتضار , واقتصرت على ما اجاب به الامام الفاضل العالم العلامة الحبر الفهامة , المحقق المدقق , الجامع بين العلمين و المتوسط بين الطريقين , سيدي محمد زين الدين المغربي الشاذلي , سبط العارف بالله تعالى , علي بن خليل المرصفي الشافعي الأشعري , برد الله ثراه وجعل بحبوحة جنته مأواه , مع زيادة تناسب المقام و ما يفتح الله به عند المرام و على الله الاتكال و اليه المرجع في الحال والمآل , وسميته " غنيت المريد " في شرح نظم كلمتي التوحيد , و هذا أوان الشروع في المراد بعون الرؤوف الجواد.
ولما كان أحق كلام يرسم في الصحائف , وأول مقال تكرره الألسنة و تقرره المعارف , ذكر واجب الوجود و مفيض الفضل والجود , فليكن أول كل ذي خطر وشأن , و طراز كتب العلم في كل أوان "بسم الله الرحمان الرحيم" لما فيها من أبلغ الثناء , وكيف لا وهي مفتاح أشرف الكتب السماوية , ومصباح بصائر أهل المعارف الربانية , لاشتمالها على علوم الأولين و الآخرين , لجمعها معاني الفاتحة الجامعة لمعاني القرآن العظيم , الجامع لمعاني الكتب الالاهية أجمعين . فالابتداء بها مكمل محقق , و عدمه منقص بخبر الصادق المصدق . قال عليه السلام : " كل أمر ذي بال لا يبتدء فيه ببسم الله الرحمان الرحيم فهو أقطع " , رواه ابن حبان وغيره . و أخرج الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس مرفوعا , أنه " أول شيء كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ , بسم الله الرحمان الرحيم ". وأخرج الطبراني عن ابن عمر مرفوعا , "ان أول ما ألقي علي من الوحي بسم الله الرحمان الرحيم ". ومن ثم كان المصطفى صلى الله عليه و سلم يصدر بها كتبه الى الآفاق , كما في الصحيحين و غيرهما .
و سئل صلى الله عليه وسلم عن "بسم الله الرحمان الرحيم " , فقال : " هو اسم من أسماء الله تعالى , وما بينه وبين اسمه الأكبر الا كما بين سواد العين وبياضها من القرب " , رواه الحاكم في مستدركه .
و في تفسير ابن مردويه , عن جابر بن عبد الله , أنه لما نزلت البسملة , هرب الغيم الى المشرق وسكنت الرياح وهاج البحر وأصغت البهائم بآذانها , ورجمت الشياطين و حلف الله تعالى بعزته و جلاله أن لا يسمى اسمه تعالى على شيء الا بارك فيه . و في تفسير الامام المجتهد محمد ابن جرير عن أبي سعيد الخدري , أنه صلى الله عليه وسلم قال أن عيسى ابن مريم أسلمته أمه الى الكتاب لتعلمه , فقال له المعلم اكتب "بسم الله الرحمان الرحيم ", فقال له عيسى عليه السلام : " وما بسم الله الرحمان الرحيم " , فقال له المعلم : " لا أدري " , فقال عيسى عليه السلام : " الباء بهاء الله تعالى و السين سنائه و الميم مملكته , و الله تعالى الاه الآلهة و الرحمان رحمان الدنيا و الآخرة و الرحيم رحيم الآخرة " , (غريب) . قال ابن كثير , و قد يكون صحيحا مرفوعا أو من الاسرائليات, وفيه أيضا بسند فيه انقطاع عن ابن عباس , الله تعالى ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين , والرحمان فعلان من الرحمة , و الرحيم الرفيق بمن أحب ان يرحمه , و البعيد الشديد على من أحب ان يضاعف عليه العذاب . وروى ابن أبي حاتم عن جابرابن زيد أن "الله تعالى" هو الاسم الأعظم . وروى البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى "هل تعلم له سميا " , قال لا أحد تسمى بالله قط , و نقل ابن جرير عن الحسن , الرحمان اسم ممنوع أي لا يمكن أن يتسمى به . و أما قولهم " لا زلت رحمان " فأجيب عليه .
وروى ابن حاتم عن الحسن , الرحيم اسم لا يستطيع الناس أن يتحلوه , تسمى به تبارك و تعالى .
و عن ابن مسعود , من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر, فليقرأ "بسم الله الرحمان الرحيم " , أي يواظب قرائتها , فيجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة , من كل واحد منهم , فانهم يقولونها في كل أفعالهم , فيها قوتهم وبها استطاعوا , و ذلك موافق لعدد حروفها الرسمية , واعلم أن الاتيان بالبسملة حمد تام كامل و وذكر مرفوع شامل , لاشتمالها على اسم الله الأعظم الجامع لجميع الأسماء الحسنى . فانه دال على الذات المقدسة المتصفة بالألوهية , التي من اتصف بها وجب له الكمال الحقيقي المطلق , موصوفا بالاسم "الرحمان " المختص به تعالى . فانه ذو الرحمة الحقيقية التي وسعت كل شيء بما لها من الاحاطة و الشمول , ولذلك سبقت رحمته غضبه . و"بالرحيم " , الدال على تخصيصها بالذين يتقون و يؤتون الزكاة , والذين هم بآياته و رسله يؤمنون , حتى كان ورودهم على دار الجحيم عبورا الى دار النعيم اظهارا لكمال تحققهم بنور الايمان بالآيات المكتوبة في قلوبهم , باتباع الرسول النبي الأمي , و ذلك هو أثر الرحيمية الذي يظهر في الآخرة , حيث تقول النار جزني يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي . و يدل على أن رحمة الاختصاص المكتوبة للمؤمنين هي الرحمة الواسعة , قوله تعالى :"ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ",أي أثبتها أو أوجبها ,فهو سبحانه و تعالى , رحمان الدنيا و الآخرة ورحيمهما , كما ورد في رواية . فانه تعالى خص المؤمن في الدنيا بالاسلام والايمان , و في الآخرة بالفضل والامتنان , أو قل رحيمهما, كما ورد في رواية , لتوقف تحقق الاختصاص بالرحمة في الدنيا على ما يكون في عاقبة الأمر فيها , أي الآخرة , وبما تقرر, استبان وجه تقديم الرحمان على الرحيم , فانه اسم للذات الالاهية من حيث اتصافها بصفات الرحمة التي وسعت كل شيء , وهي من أخص أوصافه تعالى , فلا يصح اتصاف غيره بها , ولذلك أجري مجرى العلم كالأسم الأعظم . قال تعالى :"قل ادعوا الله او ادعواالرحمان ", فامتنع اطلاقه على غيره , لماأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها . هذا , وان الأمور النفسانية اذا وصف الحق بشيء منها , حمل على غايته التي هي فعل دون بدايته التي هي انفعال , وغاية الرحمة افاضة النعمة , فيحصل عليها في جانبه تقدس دون الشفقة والحنان والرأفة التي هي مبدأها و قيد المنعم في تفسير الرحمان بالحقيقي , لوجوبها له تعالى من ذاته أو اقتداره على كل نعمة دون غيره , ولذلك لم يتسم به لفظا عربيا معرفا غيره .فاندفع النقض بمجيبه في كتاب سليمان عليه السلام الى بلقيس, لأن التعريف هناك واقع على المعنى , لا من حيث هذه اللفظة العربية , كما ذكره بعض المحققين من أهل الله , وذلك أن التسمية في ذلك المحل , أي في سورة النمل , جائت على جهة الترجمة على ما في ذلك الكتاب , لأنه لم يكن عربيا , كيف و التسمية بهذه الألفاظ على هذا الترتيب خص الله تعالى بها النبي الأمي و أمته , وكذا اندفع به التعقب بما جاء مضافا كرحمان اليمامة وهو تعنت كفري جاهلي , و حق العلم و ما كان أعرف التقديم , و أما الرحيم فمعناه المختص برحمته من تولاه , المجمولة فيه بتقدير العزيز العليم , و بالرحيمية المختصة بالمؤمن أرسلت الرسل و تنزلت الكتب و شرعت الشرائع و بينت الآيات لقوم يعقلون و تليت البينات لقوم يسمعون , وتميزت الحقائق لقوم يبصرون و وضعت العلامات لعلهم يهتدون , و نصبت الموازين لعلهم يرجعون و طبع على قلوب الذين لا يعلمون , صم بكم عمي فهم لا يبصرون . قال ابن برجان , ولما كانت هذه الكلمة ,يعني "بسم الله ", معناها العلو وهو يعم السبحات , وكانت سبحاته لا تحصى ولا تتناهى , قرنها باسمه العظيم الدال على جميع الأسماء ثم أمرنا أن نتبرك بها في جميع أمورنا , ونلوذ بعصمتها عند الجميع في جميع أعمالنا , وفي اختصاصها بالأسماء الثلاثة , ايماء الى أن المستحق الذي يلجأ اليه و يستعان في جميع الأمور به و يعول عليه , فانه واجب الوجود المعبود الحقيقي , مولي النعم كلها جليلها و حقيرها , دنيويها وأخرويها , فيتوجه بشراشره أي بكليته اليه, و يعتمد في جميع أموره عليه .
تنبيهات أربعة و فيهن فوائد . التنبيه الأول فيما يتعلق بجملة البسملة : الفائدة الاولى : لأي شيء يبتدأ ببسم الله الرحمان الرحيم , فيه ثلاثة أقوال : قيل تبركا و تيمنا بذكر اسم الله عز وجل و صفاته وقيل اقتداء بالقرآن العظيم , وضعا في المصحف لا نزولا , وقيل اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يبتدأ به في رسائله الى الآفاق و الأحاديث المتقدمة . الفائدة الثانية في كيفية نزوله : فاعلم أنه تنزل متفرقا لا مجتمعا لأنه عليه السلام كان يكتب اول الاسلام باسمك اللهم حتى نزل قوله تعالى "بسم الله مجراها ومرساها" فصار يكتب "بسم الله " , حتى نزل قوله تعالى "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان "فصار يكتب "بسم الله الرحمان " , حتى نزل قوله تعالى "انه من سليمان وانه بسم الله الرحمان الرحيم ", فكملت البسملة . الفائدة الثالثة في مواضعها : فاعلم أن مواضعها مبادئ الأفعال و مبادئ الأقوال , لقوله عليه السلام :"من قال في مبدا أفعاله وأقواله بسم الله الرحمان الرحيم دخل الجنة " .
الفائدة الرابعة في المواضع التي لا يزاد الرحمان الرحيم فيها , فهي سبعة و قد نظم ذلك بعض الناس فقال :
فبسمل دون الرحمان في الأكل و الشرب ذكاة وضوء والجماع أخا الفضل
ركوب سفينة مطايا ونحوها وفي غير ذا المعدود زده بلا فصل
وانما لا يزاد الرحمان الرحيم عند هذه الأفعال , للمنافرة بين البسملة المشتملة على صفة الرحمة وبين هذه الأفعال المقتضية لصفة التعذيب , ولا تجتمع الرحمة مع النقمة و العذاب . و قد ورد أحاديث في كيفية البدا بهذه الأشياء المذكورة كالأكل والشرب والجماع و غيره فلا نطيل بها .
الفائدة الخامسة في فائدة الاتيان بها , وذلك ليكتب ذاكرها من أهل التقوى , لقوله تعالى "وألزمهم كلمة التقوى ", الآية , أو لتفر عنه الشياطين لقوله تعالى "واذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ", اذ من المفسرين من قال بالآيتين في "بسم الله الرحمان الرحيم " . الفائدة السادسة في فضائلها و هي أكثر من أن تحصى , منها ما قال عليه السلام :"من قال بسم الله الرحمان الرحيم دخل الجنة ", و قال عليه السلام :" من رفع قرطاسا فيه بسم الله الرحمان الرحيم تعظيما له كتب عند الله من المقربين ". وقال عليه السلام : " ما من كتاب يوضع في الأرض وفيه بسم الله الرحمان الرحيم الا وبعث الله من يرفعه , فاذا رفعه حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر و كتب عند الله من المقربين و خفف الله تعالى عن والديه العذاب , ومنها ما قال عليه السلام : " ان المؤمن اذا أراد أن يدخل النار قال بسم الله الرحمان الرحيم تباعدت النار منه مقدار سبعين ألف سنة ", ومنهاما قال عليه السلام : " لا يرد دعاء أوله بسم الله الرحمان الرحيم ". وروي , وأقسم رب العزة جل جلاله أن لا يذكر اسمه على شيء , الا وبورك فيه ولا على عليل الا وشفي ,( مختصر) . الفائدة السابعة في حكم النطق بها : فيه قولان , السر أوالجهر و لكل دليل . فدليل الاسرار قوله تعالى : " ادعوا ربكم تضرعا و خيفة ", الآية , و قوله عليه السلام " خير الذكر الخفي " . و دليل الجهر قوله تعالى : "فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا " , الآية .و قوله عليه السلام " يقول الله تعالى :"من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملا ذكرته في ملا غيره " , الحديث . و ذكر الملا لا يكون الا عن جهر, وأيضا في الجهر سبعة أشياء محمودة لم تكن في السر , و هي تنبيه الغافل وتعليم الجاهل وتذكير للذاهل و اكثار للعمل و ايقاظ للفوائد وابعاد للنعاس و زيادة للنشاط . الفائدة الثامنة في اعرابها , أي "بسم الله الرحمان الرحيم " باسم جار ومجرور متعلق بمحذوف , واختلف فيه هل اسم أو فعل مقدم أو مؤخر , خاص أو عام , أقوال . قال البيضاوي يضمر كل فاعل ما جعلت التسمية مبدأ له , بناء على أنه خاص الخ , و الله مخفوض بالاضافة , و الرحمان بالتبعية أو البدلية أو عطف البيان , أقوال . و الرحيم نعت باتفاق , واختلف فيه هل نعت لله تعالى , فهو نعت بعد نعت أو للرحمان على القول بعمليته وفيها سبعة وجوه , خمسة جائزة واثنان ممنوعان . فالممنوعان الاتباع بعد القطع , و هو خفض الرحيم مع رفع الرحمان ونصبه , والخمسة الباقية جائزة .
التنبيه الثاني , فيما يتعلق باسم الجلالة و هو الله تعالى . الفائدة الأولى في معناه : فمعنى الله تعالى ,الظاهر بالربوبية بالدلائل , المحتجب عن جهة التكييف عن الأوهام , و هو المعبود بحق , و قيل المتصف بصفة الكمال المنزه عن صفة النقصان , و قيل اسم لموجود واجب الوجود , موصوف بالصفات منزه عن النقائص و الآفات لا شريك له في المخلوقات . الفائدة الثانية : هل هو جامد أو مشتق . قولان , فمذهب جمهور النحات أنه مشتق , و مذهب جمهور الفقهاء أنه غير مشتق , بل هو اسم علم ليس فيه معنى صفة أصلا كسائر الأعلام الجوامد . الفائدة الثالثة : هل هو منقول أو مرتجل , قولان . ذهب جمهور النحات الى أنه منقول من الجنس الى الاختصاص , و ذهب جمهور الفقهاء الى أنه غير منقول من شيء , و أنه اسم علم مرتجل لم يسبقه اسم آخر ينقل منه , و هو قول أهل التأويل و أهل المعرفة بأسرار التنزيل . الفائدة الرابعة : من أي شيء اشتق . على القول بالاشتقاق فيه أقوال . قيل من أله يله , اذا عبد تألها , أي استحق العبادة و منه سمت العرب الأصنام آلهة, لزعمهم أنها مستحقة للعبادة , و قيل من الألهية وهي القدرة على الاختراع و التصرف في كل شيء على التمام والكمال , وقيل من ولهت اليه اذا افتقرت اليه و فزعت اليه في الشدائد , و قيل من الوله الذي هو الطرب و هو خفة تصيب الانسان من شدة الفرح , و هذه صفة ترجع الى الخلق من الفرح بشأن الخالق و عظم قدرته و سعة رحمته . و منه الواله وهو الشديد الشوق , و قيل من أله اذا تحير , و هذا أيضا يرجع الى الخلق , و قيل من لاه يلوه اذا احتجب , و قيل من لاه اذا علا و ارتفع , و قيل من أله بالمكان اذا أقام به على حالة واحدة لا تتبدل. الفائدة الخامسة : من أي شيء نقل على القول بأنه منقول . فاعلم أنه نقل من الجنس الى الاختصاص و هو من الاه , الواقع على كل معبود بحق أو باطل , لقوله تعالى : " اجعل لنا الاه كما لهم آلهة " , ثم أدخلت عليه الألف والام فصار اسما خاصا بالباري جل وعلى , و الصحيح خلافه , أي غير منقول .
الفائدة السادسة : في أصله . فيه أربعة أقوال : قيل اله وقيل ولاه , وقيل لوه و قيل ليه . أما على القولين الأخيرين تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله , قلب ألفا فصار لاه , ثم أدخلت عليه الألف و اللام فصار اللاه , فأدخلت اللام في اللام فصار الله تعالى , ففيه على هذا خمسة تصاريف فلا نطيل بها . وأما على القولين الأولين وهو الاه و ولاه فان الواو تقلب همزة كما تقلب في وشاح و وسادة , ثم أدخلت الألف واللام ثم حذفت الهمزة تخفيف على غير قياس أو على قياس النقل ثم تدغم ثم تفخم .
ففيه ستة تصاريف على القول الأول , وخمسة على الثاني . الفائدة الثامنة : في معنى الألف واللام فيه . ففيه أربعة أقوال : التعريف و التعظيم والتعويض و العهد . أما التعويض , فمن الهمزة والواو بعد نقله الى الهمزة المحذوفين في لاه و ولاه المتقدم ذكرهما . و اما العهد , أي الالاه الذي عهدت منه الألوهية , و لا يجوز أن تكون للجنس و يلزم الكفر و فليتنبه . (التنبيه الثالث ) فيما يتعلق بالرحمان :
الفائدة الأولى في معناه , فاختلف في معنى الرحمان و الرحيم , قيل مترادفان و قيل لا , و اختلف على هذا القول في معناهما , قيل ترك العقوبة لمن يستحقها , و قيل معناهما ذو الرحمة , نظيرهما ندمان و نديم , و سلمان و سليم , واختلفوا في معنى الرحمة , قيل هي ارادة الانعام و الاحسان , وقيل نفس الانعام والاحسان , و تظهر ثمرة الخلاف في القائل في الدعاء " اللهم اجعلنا في مستقر رحمتك " , فعلى الأولى لا يجوز , لأن ارادة الله تعالى صفة قائمة بذاته قديمة أزلية , فلا تحلها الحوادث و لا العوارض , و على الثاني يجوز , فان نفس الانعام و الاحسان الجنة . و على القول بأنهما غير مترادفين بل متباينان , فاختلفوا فيهما على ثلاثة أقوال : قيل الرحمان في الدنيا و الآخرة , و الرحيم في الآخرة فقط . و قيل الرحمان لجميع خلقه و الرحيم لعباده المؤمنين خاصة , فالرحمان على هذين القولين أعم . و قيل الرحمان لأهل السماء و الرحيم لأهل الأرض , فلا عموم و لا خصوص على هذا القول . فرحمته لأهل السماء بأن رزقهم الطاعات و جنبهم الآفات و قطع عنهم الطعام و اللذات , و رحمته لأهل الأرض بأن أرسل اليهم الرسل و أنزل عليهم الكتب .
الفائدة الثانية في وزنه , فوزنه فعلان كندمان و سكران من أوزان المبالغة , فان زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى . الفائدة الثالثة , هل هو صفة أو علم قولان , و صحح قوم كونه صفة . الفائدة الرابعة , هل هو عربي أو عجمي قولان , و الصحيح أنه عربي . الفائدة الخامسة , في معنى الألف واللام فيه قولان , قيل للتعريف و قيل للعهد , معناه الرحمان الذي عهدت منه الرحمة . الفائدة السادسة , هل هو منصرف أو غير منصرف قولان , و الصحيح أنه غير منصرف للعلمية و زيادة الألف والنون . الفائدة السابعة , في تسمية غير الله به قولان , و الصحيح لا يجوز تسمية غير الله تعالى به و كذلك الرحيم معرفا على المشهور , و كذلك الرب معرفا أيضا , و أما مع التنكير , فالصحيح الجواز في الأخيرين و الخلاف في رحمان , و أما الله تعالى فلا تجوز التسمية به اجماعا .
و الحاصل , أسماء الله تعالى على ثلاثة أقسام : قسم لا يجوز التسمية به باتفاق , و هو الله تالى

علي العذاري
16-01-2012, 10:09 AM
.
و قسم مختلف فيه , و هو ثلاثة أسماء , الرحمان و الرحيم و الرب معرفين , و قسم يجوز معرفا باتفاق و هو ما عدى القسمين المذكورين . التنبيه الرابع فيما يتعلق بالرحيم .الفائدة الأولى في معناه و قد تقدم . الثانية , وزنه , فهو فعيل على طريق المبالغة كعليم و خبير . الثالثة في اشتقاقه , فهو من الرحمة كما تقدم . الرابعة , هل عربي أو عجمي فهو عربي باتفاق . الخامسة في معنى الألف و اللام فيه , ففيه قولان تعريفية أو عهدية , و معناه الرحمان الذي عهدت منه الرحمة . السادسة , هل يجوز التسمية به , فقد تقدم ذلك . السابعة في موارد فعيل في كلام العرب . الأول أن يكون أصلا في بابه لم ينقل عن بناء آخر كظريف وشريف . الثاني , بمعنى فاعل كعليم وقدير . الثالث بمعنى مفعول كقتيل وجريح . الرابع أن يكون بمعنى مفعل بكسر العين كأليم و وجيع . الخامس بمعنى مفعل بفتح العين كسيف حديد و باب وصيد أي محدد و موصد أي مطبق , يقال أوصدت الباب اذ أطبقته , و منه قوله تعالى " و كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " , أي بالموصد و الله أعلم . السادس بمعنى مفاعل , بكسر العين كجليس و نديم أي مجالس و منادم و أكيل و شريب و حسيب , و منه قوله تعلى " ان الله كان على كل شيء حسيبا", أي محاسبا . السابعة بمعنى مفعل بتشديد العين المكسورة كصميم و بشير أي مصمم ومبشر الى آخر صيغه الستة عشر المذكورة في محالها , فلا نطيل بها . و المراد بالرحيم هنا من هذه الموارد هو المعنى الثاني بمعنى فاعل , و الله أعلم . (تذييل ) اختلف أرباب المعاني في معاني الأحرف الثلاث التي هي الباء و السين و الميم و في الأسماء التي هي بعدها , التي هي الله و الرحمان والرحيم . قيل الباء بهاء الله تعالى , و السين سموه , و الميم مجده , و قيل بركته و سموه و هيبته . وقيل بره و سره و مغفرته , و قيل بهجة المغفرة و سرور المحبة و ملك الشهادة , و قيل بقاء رب العالمين و سلامه على المؤمنين و محبته لعباده المؤمنين . و قيل بره لأهل السعادة و سبق رحمته لأهل الجهالة و المقام المحمود لأهل الشفاعة . و أما الأسماء الثلاثة التي هي الله تعالى و الرحمان و الرحيم عند أرباب المعاني , قيل خالق البرايا و معطي العطايا و غامر الخطايا . قيل علام الغيوب و ساتر العيوب و غافر الذنوب و الله تعالى أعلم . (لطيفة ) انما كان حروفها تسعة عشر حرفا لأنها على عدد الزبانية التسعة عشر , لقوله تعالى " عليها تسعة عشر " , الآية . روي عن ابن مسعود أنه قال : "من أراد أن ينجيه الله تعالى من التسعة عشر الزبانية التي ذكرها الله تعالى في كتابه , فليقل بسم الله الرحمان الرحيم , لأنهم على عدد حروفها , فكل حرف منها جنة لملك من تلك الملائكة ". و انما كان عدد الملائكة تسعة عشر و لم يكن أكثر ولا أقل قولان . الأول لمقابلتها ساعات الليل والنهار الأربعة والعشرين ما عدى أوقات الصلوات الخمسة , تشريفا و تعظيما لها , فانه لا يكون فيها عذاب . و الثاني , انما كانت تسعة عشر لمقابلتها طبقات جهنم 18 و أبوابها 7 لقوله تعالى " لها سبعة أبواب ", الآية . الباب الأول للمعذبين من الموحدين و الستة الأبوب السفلى للكفار , في كل باب ثلاث طبقات , فتضرب في ستة بثمانية عشر , و التاسع عشر باب الموحدين الأعلا , فمجموع ذلك تسعة عشر على عدد خزنة جهنم . فان الله تعالى جعل على كل باب من أبواب الكفار ثلاثة من الزبانية , و جعل على باب الموحدين ملكا واحد . و انما الحكمة في جعل الله تعالى على أبواب الكفار ثلاثة من الزبانية و على باب الموحدين ملكا واحدا , قال ابن الخطيب : الكفار معذبون على ثلاثة أشياء , و هي ترك الايمان و ترك النطق باللسان و ترك العمل بالجوارح , و المؤمن لا يعذب الا على شيء واحد , و هو ترك العمل بالجوارح . و قيل الحكمة في جعل الله تعالى أبواب جهنم سبعة ليكون ذلك على عدد جوارح الانسان السبعة , و هي السمع والبصر و اللسان واليد و الرجل و البطن و الفرج . و انما جعل "بسم" من ثلاثة أحرف مقابلة للثلاثة الأسماء , و هم الله والرحمان و الرحيم . و الحكمة في كونها ثلاثة لأن يؤمن الله تعالى قائلها من المخاوف الثلاثة , الدنيا و الآخرة و البرزخ , و هو ما بين الدنيا و الآخرة . فاذا قال العبد "بسم الله الرحمان الرحيم " أمنه الله تعالى من المخاوف الثلاثة. و قيل لأن الخلق ثلاثة أصناف : الظالم لنفسه و المقتصد و السابق بالخيرات , كما جاء ذلك في الكتاب العزيز , ثم بعد ذلك قلت :

( قال عبد الرحمان و هو المذنب يرجو رضاء من اليه المهرب )

"قال" فعل ماضي , و هو ما وقع في زمن متقدم , و مقوله ما بعده و هو الحمد لله الخ . و انما قلت ذلك ولم نقل وقع موضع المستقبل , كما وقع الكثير ممن عبر بالماضي عن المستقبل , و ان كان جائزا في اللغة الفصحى , فاني لم أبتدىء أولا بهذا البيت الا بعد تمام النظم , بناء على عدم الظهور و الدعوى و استشعار النفس الى الهوى . ثم بعد ذلك , ألهم الله تعالى الى ذكر الاسم أولا لفوائد تحصل بذلك و الله أعلم . منها أن الواقف عليه لا يخلو من أن يكون معتقدا فيرغب في النظر فيه , فيستفيد, أو يكون منتقدا فيبحث على خلل فيصلحه أو ينبه عليه . و منها أن يكون عالما فيتذكر أو جاهلا فيتبصر وغير ذلك مما يطول ذكره , و أسأل الله تعالى الاخلاص في الأقوال و الأفعال و العصمة في السرائر و الأحوال , انه على ذلك قدير و هو نعم المولى و نعم النصير . و"عبد الرحمان " , هو اسم الناظم , و هو عبد الرحمان ابن أحمد ابن حموده ابن مامش الجزائري منشأ , القسنطيني دارا , الحنفي المالكي الشافعي الحنبلي مذهبا, الأشعري الماتريدي اعتقادا , الخلوتي النقشبندي طريقة . ( تنبيهان ) اللأول و الثاني , قال عليه السلام : " أحب الأسماء الى الله , عبد الله و عبد الرحمان , فينبغي لذلك شكرا زائدا على الدوام الى أن يصل الى الآجلة , فانه تعالى رحمان الدنيا و الآخرة و رحيمهما كما تقدم , و لاضافة هذا العاجز اليهما فضلا منه من غير استحقاق , و ينبغي أيضا التحقق بهذا الاسم لمن تسمى به , كما وصف الله تعالى عباد الرحمان في قوله تعلى " و عباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " , الى قوله " و اجعلنا للمتقين اماما " , الآيات , من الله تعالى بذلك علينا بجوده و فضله , انه سميع مجيب و لمن دعاه قريب . قوله , وهو المذنب , اسم فاعل من أذنب , الرباعي , و هو من يلتبس باثم , فيشمل الكباير و الصغاير , بحسب المقامات , لقوله عليه السلام " حسنات الأبرار سيآت المقربين " . وصف نفسه به اعترافا واعتذارا من العبد اللئيم السقيم بين يدي الكريم الحليم , طمعا في عدم المؤاخذة فضلا ومنة , اذ الكريم اذا اعترف له واعتذر , جاد و تفضل وترك المؤاخذة . قال الشاعر :" دية المذنب عندنا الاعتذار , الخ . و روى الترمذي و غيره حديث "من أتى أخاه متنصلا من ذنبه , فليقبل اعتذاره محقا كان أو مبطلا , فان لم يفعل لم يرد الحوض " , و في معناه أنشد فقال :
اقبل معاذر من يأتيك معتذرا ان بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره و قد أجلك من يعصيك مستترا
و في معنى ذلك قيل :
اذا اعتذر الصديق اليك يوما فجاوز عن مساويه الكثيره
فان الشافعي روى حديثا باسناد صحيح عن المغيره
عن المختار أن الله يمحو بعذر واحد ألفي كبيره
و روى ابن ماجة , " من اعتذر اخاه بمعذرة فلم يقبلها كان من الخطيئة , مثل صاحب المكس , اذ لا يأتي الا ذو قلب سليم , ومن لازم الاعتذار الذل و الانكسار و المسكنة و الاعتراف بالعجز و الاستغفار . و قبول العذر من شئن كرام الناس , و لا أحد أحب اليه العذر من الله تعالى , و من أجل ذلك بعث المبشرين و المنذرين . ووصف الذ نب أيضا يقتضي طلب المغفرة , لقوله عليه السلام : " لولا أنكم تذنبون لذهب الله بكم و خلق خلقا يذنبون فيغفر لهم ", أخرجه الترمذي و رواه مسلم من طريق أبي أيوب الأنصاري , و لفظه أن أبى أيوب قال , حين حضرته الوفاة , " كنت كتمت عنكم حديثا سمعته من رسول الله , صلى الله عليه و سلم , و سوف أحدثكموه و قد أحيط بنفسي , سمعته يقول "لو لا " الخ . (تنبيه ) الذنوب داء , و قال عليه السلام " ما أنزل الله تعالى من داء الا أنزل له دواء , رواه البخاري . فدواء الذنوب التوبة و هي لغة الرجوع . يقال تاب اذا رجع , و شرعا الرجوع الى الله تعالى عما هو مذموم شرعا الى ما هو محمود فيه , و شرطها الندم و الاقلاع في الحين , و العزم أن لا يعود , فان تعلقت بآدمي , اشترط رد المظالم الى أهلها , و هي واجبة على الفور . و قال السبكي , رحمه الله تعالى , و هي التوبة الندم (1) و تتحقق بالاقلاع و عزم ان لا يعود و تدارك ممكن التدارك , و تصح و لو بعد نقضها عن ذنب و لو صغيرا و مع الاصرار على آخر و لو كبيرا عند الجمهور . فائدة : الذنوب كبائر و صغائر , و باجتناب الكبائر يغفر الله تعالى الصغائر
بفضله و وعده الصادق , لقوله تعالى "ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " , الآية . و قال عليه السلام " باجتناب الكبائر تغفر الصغائر ". قال في " اللباب " , الكبائر سبعة متفق عليها , و عشر مختلف فيها . فالمتفق عليها , الشرك بالله و القنوط من رحمة الله و الأمن من مكر الله و قتل النفس التي حرم الله و اليمين الغموس والسرقة و عقوق الوالدين , و العشرة المختلف فيها , شهادة الزور و قذف المحصنات والسحر و الزنى واللواط و المشي بالنميمة و الفرار من الزحف و أكل مال اليتامى ظلما و الربى في الأموال و شرب الخمر . قال في "اللباب تفسير نوادر الكتاب " , فمن اجتنب هذه السبع عشرة كبيرة , و أقام الصلاة , غفر الله ما عداها من الصغائر , بدليل الكتاب و السنة , فضلا من الله تعالى و نعمة , و الله غفور رحيم . و قد قسم العلماء هذه الكبائر السبع عشرة على الأعضاء السبع الآتي ذكرها . ثلاثة في اللسان : اليمين الغموس و قذف المحصنات و شهادة الزور.
و ثلاثة في اليد : قتل النفس و السرقة و السحر . و ثلاثة في القلب : الشرك بالله و الأمن من مكر الله و القنوط من رحمة الله . و ثلاثة في البطن : شرب الخمر و أكل الربا و أكل أموال اليتامى ظلما . و اثنان في الفرج : الزنى و اللواط . و اثنان في الرجل : المشي بالنميمة و الفرار من الزحف . و واحد في سائر الجسد : و هو عقوق الوالدين . (تنبيه ) ان الذنوب ليست منحصرة فيما يتبادر اليه فهم العامة من قبائح الاعمال المتقدم ذكرها و غيره , بل من الذنوب ما هو صادر عن الأجنة و مداركها أكثر و أكبر . فصغير ذنوب البواطن أكبر من صغير ذنوب الظواهر , وكبيرها أكبر من كبيرها , بل ربما يوازي بعض صغائر البواطن كبائر الظواهر , و قد تكون كبائر الأجنة كفرا أو شركا صريحا , أو ما يؤدي الى ذلك . و كم للأجنة من ذنوب يصر عليه من يعد في جملة العابدين , كرؤية العمل و الادلال به على الله تعالى . ولقد سئلت سيدتنا عائشة رضي الله تعالى عنها , فقيل لها : " متى يكون الرجل مسيئا ", قالت : " اذا ظن احتقار أنه محسن ". و من الذنوب ما هو أكبر من ذلك كالاعجاب بالعمل والفخر به و ازدراء من يظن أنه القصور عن عمله و الركون الى ما اعتاده مثلا من اجابة الدعاء , حتى يحمله ذلك على دعوى التصرف في الوجود بدعائه , أو بخاطره و نحو ذلك . و من أنواع الذنوب الباطنة الكبر و العجب و الرياء و السمعة و حب المال و الجاه و الحقد و الحسد و البغض لبعض من أحبه الله تعالى , والحب لبعض من أبغضه الله , و لقد غلب اصرارنا على ذنوب كثيرة كبيرة و هي في عيون عقولنا صغيرة , و ان ذلك من النفاق , نسئل الله تعالى التوبة و الفكاك منها بمنه و فضله . و قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه , قال :" ان المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه , و أن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه , فقال به كذا ". و قال ابن شهاب بيده فوق أنفه . و قد كان سيد المخلوقات من غفر الله تعالى ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر و عصمه من الزلات يقول " اللهم أنت ربي لاالاه الا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت , أعوذ بك من شر ما صنعت , أبوء لك بنعمتك علي و أبوء بذنبي فاغفر لي فانه لا يغفر الذنوب الا أنت ". و كان بعض مشائخي , رحمهم الله تعالى , يقول " أستغفر الله العظيم من كل قول وكل عمل و كل اعتقاد أمرني الله و رسوله به فتركته , أو
نهاني الله و رسوله عنه ففعلته " . وكان يكثر من هذا الاستغفار في عامة أوقاته , رحمه الله و نفعنا به , آمين . قوله يرجو , مضارع رجا . قال الجوهري , و الرجاء من الأمل , ممدود . يقال رجوت فلان , أرجوه رجوا و رجاء و رجاوة , و هو لغة ضد اليأس , و شرعا ضد الخوف . و قد يكون الرجاء بمعنى الخوف . قال الله تعالى : " ما لكم لا ترجون لله وقارا " , الآية , أي لا تخافون عظمة الله تعالى . و الرجى بالقصر ناحية البير و حافتاه , و كل ناحية رجى , و هو عند أهل الحق تعلق القلب بمحبوب ممكن الحصول , أو الثقة بالجود من الكريم الموجود , أو سرور الفؤاد بحسن الميعاد , و هو ثلاث مراتب . الأولى , رجاء الشفاعة مع حالة الاسراف و قلة العمل . فيرجو دخوله في شفاعة الشافعين من رسول الله صلى الله عليه و سلم و غيره من عباد الله الصالحين , لقوله تعالى "و لسوف يعطيك ربك فترضى " . و هو صلى الله عليه و سلم لا يرضى بأحد من أمته في النار . و قال الامام علي كرم الله تعالى وجهه : " هذه أرجى آية في القرآن " , فعامة المسلمين يرجون الشفاعة مع صحة الايمان بالله تعالى و رسوله و اليوم الآخر , و اقامة حدود الله تعالى , فان ذلك موجب استحقاق الشفاعة . الثانية , رجاء قبول الأعمال , قيجتهد في تخليصه من الشرك الخفي , كالرياء و السمعة والعجب وطلب الثواب و الدرجات و نحو ذلك , المشار اليه بقوله تعالى " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " . الثالثة , رجاء سعة الرحمة و المنة , لقوله تعالى " و رحمتي وسعت كل شيء " . و قال عليه السلام ما معناه , " ان الله خلق , يوم خلق السماوات و الأرض , مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماوات و الأرض , جعل منها رحمة في الأرض , فيها تعطف الوالدة على ولدها , و الوحوش و الطيور بعضها على بعض , و أخر تسعا و تسعين . فاذا كان يوم القيامة كملها بهذه الرحمة ". قوله رضا , الرضاء بالمد و بالقصر , و الرضوان بالضم و بالكسر بمعنى . الا أن الممدود مصدره عن الأخفش , و هو لغة ضد السخط , و عند أهل الشرع سرور القلب بمر القضاء . وفي الحديث , "غضب الله عقوبته و رضاه ثوابه" . ورد قول من قال غضب الله تعالى النار و رضاه الجنة , لأنهما مخلوقتان و صفة المولى جل جلاله غير مخلوقة , الا أن يقال أن النار تستوجب بغضب الله تعالى و الجنة تستوجب برضاه . فعقوبته نار و آفة و بلاء , أعاذنا الله تعالى من ذلك بمنه و فضله و ثوابه جنة و راحة و نعمة من الله تعالى علينا بذلك بفضله و جوده . قال تعالى " رضي الله عنهم ورضوا عنه " الآية . و نتيجة رضى الله تعالى , الرضى عنه في كل ما قضى وقدر . و هو في البدايات الرضى بالله ربا و بالاسلام دينا و بمحمد صلى الله عليه و سلم نبيا رسولا , وفي النهايات القيام بالحق في ذاته و صفاته , فلا يرضى الا برضى الله كما في سائر رسومه و صفاته . و عند أهل الحقيقة , الانطماس في نور تجلي الهوية و عدم الشعور بالاينية , كما في الشريعة سرور القلب بمر القضاء كما تقدم . (تنبيه) الرضى أحد مقامات الصالحين , يترقى اليه من مقام التفويض الذي هو أعلى مقام التسليم . و الباعث على الرضى حسن الضن بالله تعالى , و عليه مدار العبودية و أساسها . و لذلك كان من الأصول الموصلة الى الله تعالى , و لا يصح لذي طريقة تحقق فيها دونه , قاله الخروبي , انتهى و الله أعلم . قوله "من ", أي الذي ,"اليه المهرب", و هو الله تعالى , المفهوم من الحال كقوله تعالى "انا أنزلناه ", الآية . أو الرحمان المذكور في قوله , قال عبد الرحمان الخ , و لا مهرب الى غيره تعالى , اذ لا ملجأ منه الا اليه , لقوله تعالى " ففروا الى الله ", الآية . أي فروا الى الله تعالى من كل شيء شاغل للقلب عن مراقبته و جريان حكمه على خلقه . و لذا لما صبت أموال الغنائم بين يدي علي كرم الله تعالى وجهه, قال : " اليك يا دنيا فقد طلقتك ثلاثا " , أشار , رضي الله عنه , الى فرار العامة , و أما فرار الخاصة فهو بالقلوب , سواء كانت الشواغل أم لم تكن , و ذلك أن القلب اذا صلح لا يرضه شيء , و اذا فسد لا ينفعه شيء , قاله في اللباب , انتهى . قلت , و لهذا قال في الحكم , انما استوحش العباد و الزهاد من كل شيء لغيبتهم عن الله في كل شيء , فلو شهدوه في كل شيء لم يستوحشوا من شيء . و قال الواسطي , " فروا من رؤية النفوس الى رؤية الله تعالى , فيما ساء و أسر و نفع و ضر , لأن أحوال العبد أربعة لا خامس لها . طاعة ومعصية , و نعمة وبلية , و الفرار من الكل الى الله تعالى واجب في الجميع . فمن النعمة و الطاعة بالشكر و الاخلاص . قلت , و من المعصية و البلية بالتوبة و الصبر . قيل فروا من عملكم الى علم الله و من تدبيركم الى تدبيره , و قيل فروا من الكثرة الى الوحدة , و من الشفع الى الوتر , و من التفرقة الى الجمع , و الله يجتبي اليه من يشاء . و قيل ان الله تعالى واجب الهجرة على عباده من المذام الى المحامد , حسا و قلبا . فاذا فسد المحل و أهله فالهجرة حسية , و اذا لم يفسد , كانت قلبية , لقوله عليه السلام : " لا هجرة بعد الفتح و لكن جهاد و نية ", الحديث . فالهجرة هجرتان , كبرى و صغرى , كما ان الجهاد جهادان أصغر و أكبر . فالهجرة الصغرى هجرة الأجسام من الأوطان , لقوله تعالى "قل ان كان آبائكم و أبنائكم و اخوانكم ", الآية . و الهجرة الكبرى هجرة القلوب بترك السوى , لقوله عليه السلام :"نية المؤمن خير من عمله , و نية الفاسق شر من عمله ". و الجهاد الأصغر جهاد الأجسام مع الأجسام و الجهاد الأكبر جهاد القلوب مع النفوس, لقوله عليه السلام : " هبطتم من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر " , بعد رجوعه من غزوة كان فيها. قيل له وما الجهاد الأكبر يا رسول الله , قال :"جهاد النفس " , أو كما قال , انتهى . قال عفى الله عنه :

( الحمد لله الذي أورثنا كتابه و حصنه أدخلنا )

علي العذاري
16-01-2012, 10:10 AM
صدر النظم بعد البسملة الشريفة بالحمدلة الكريمة المنيفة سلوكاعلى جادة منهاج الأمة , و عملا بالكتاب و السنة , و غير خاف ان الاتيان بالتسمية على قصد الاتباع تبركا و تيمنا حمد تام و ذكر عام , لكن المقتصر عليها لا يسمى حامدا عرفا , فأتي به لذلك و امتثالا لقوله صلى الله عليه و سلم : "ان الله عز و جل يحب ان يحمد ", رواه الطبراني و غيره . و أخرج الديلمي عن الأسود بن سريع مرفوعا , ان الله عز وجل يحب الحمد , يحمد به ليثيب حامده , و جعل الحمد لنفسه ذكرا و لعبده ذخرا . و روى البيهقي و غيره , بسند رجاله , ثقات , لكن فيه انقطاع , عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال : " الحمد رأس الشكر , ما شكر الله عبد لا يحمده . و روى الطبراني في الأوسط , بسند فيه ضعف عن النواس بن سمعان , قال :"سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليهه وسلم الجدعا , فقال : "لان ردها الله علي لأشكرن ربي ", فردت , فقال : "الحمد لله ". فانتظروا هل يحدث صوما أو صلاة , فظنوا أنه نسي , فقالوا له ذلك فقال : " ألم أقل الحمد لله ". و روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس : " الحمد لله كلمة الشكر , فاذا قال العبد الحمد لله , قال الله تعلى شكرني عبدي . و في صحيح مسلم , عن أبي مالك الأشعري مرفوعا , "الحمد لله تملأ الميزان ". و روى أبو داوود و النسائي و غيرهما عن أبي هريرة مرفوعا , "كل أمر ذي بال لا يبتدأ فيه بحمد الله فهو أقطع ". وروي بالتعريف و بالضم و بالكسر , و معنى أقطع ناقص , على طريقة التشبيه البليغ , أي ناقص البركة , اما حسنا أو معنى , كنقصان الحيوان المقطوع أحد الأعضاء بالنسبة الى الكامل . و قد اختلف المتكلمون في تعريف الحمد على أقوال , و الذي اختاره التفزتاني هو الثناء بالكلام على قصد التعظيم , سواء تعلق بالنعمة أو بغيرها . و الشكر فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لكونه منعما , سواء كان نطقا باللسان أو عملا و خدمة بالأركان , أو محبة و اعتقاد بالجنان . فعلم من الحديثين أن كلا منهما أعم من الآخر من وجه , و أخص منه من وجه آخر . فالحمد أخص من الشكر موردا , فانه لا يقع الا باللسان و أعم متعلقا فانه يقع على السراء و الضراء . و الشكر أعم موردا لأنه يقع باللسان و بالأركان و بالجنان و أخص منه متعلقا , لأنه لا يقع الا على السراء , و هذا مذهب الجمهور . و ذهب سيبويه و ثعلب الى ترادفهما . و اعلم أن الحمد من المصادر التي سدت مسد الأفعال , و بيانه أن الأصل في قولنا "الحمد لله " , حمدت حمد الله , بجملة فعلية . و الجملة الفعلية تدل على التجدد و الانقطاع ان كانت ماضية , و على التجدد و الاستمرار ان كانت استقبالية , و المقام هنا يقتضي الثبوت و الاستقرار , و الموضوع لذلك الجملة الاسمية . فحول الاسناد فرار من هذا العارض , فحذفوا الفعل , فبقي حمد الله بنصب حمد , فاحتيج اذا الى تقدير عامل يعمل فيه , لأنه منصوب و النصب أثر , فلا بد له من مؤثر لاستحالة وجود أثر بلا مؤثر . فقدر له فعل ينصبه و المقدر في حكم المنطوق به , فتصير الجملة بذلك فعلية . فرفعوا حمدا و قالوا حمد لله , على أن حمد مبتدأ و لله خبره , فلزمهم الابتداء بالنكرة بغير مسوغ , فأدخلوا الألف واللام و قالوا الحمد لله , و استفيد من ذلك حصر المبتدا في الخبر , و معناه أن المحامد كلها لله عز وجل . و بيانه أن المحامد أربعة , حمدان قديمان و حمدان حادثان . فالقديمان وصفه و الحادثان فعله , لقوله تعالى " و الله خلقكم و ما تعملون ". فثناء العبد على مثله ,و ربه بخلقه تعالى , و ثناء الحق على ذاته الكريمة و صالح عباده بكلامه القديم المنزه عن التغيير بوصفه تعالى . و حكمه الوجوب في العمر مرة بقصد أداء الواجب , كالنطق بالشهادتين , و لو في حق المسلم الأصلي , و ما زاد على ذلك فمستحب . (فائدة) وقع الخلاف في أفضل المحامد , فقيل أفضل ما حمد الله تعالى به الحمد لله , بجميع محامده كلها , ما علمت منها و ما لم أعلم , على جميع نعمه كلها ما علمت منها وما لم أعلم , و زاد بعضهم , عدد خلقه كلهم ما علمت منهم وما لم أعلم . و قيل أفضلها , الحمد لله حمدا يوافي نعمه و يكافي مزيده , لما ورد أن الله تعالى لما أهبط آدم عليه السلام الى الأرض , قال "يا رب شغلتني بكسب يدي , فعلمني شيئا فيه مجامع الحمد والتسبيح ". فأوحى الله تعالى اليه ان قل ثلاث مرات عند الصباح و عند كل مساء , " الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه و يكافي مزيده , فقد جمعت لك جميع المحامد " . و قيل أفضل المحامد " اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ". و ثمرة الخلاف تظهر في بر من حلف ليثنين على الله تعالى بأفضل الثنائات , فالأولى أن يأتي بجميعها لتعارض الأحاديث فيها , و ان أتى بواحد منها , أو بلا اله الا الله بر , لقوله عليه السلام " أفضل ما قلته أنا و النبيون من قبلي لا اله الا الله ", و الله أعلم . و الخلاف أيضا في أفضلها , هل المطلق و به قال الشافعي رحمه الله تعالى , لصدقه على جميع المحامد كلها . و قال مالك رحمه الله تعالى المقيد أفضل من المطلق , كما يرى أيضا أن المقيد بالاثبات أفضل من المقيد بالنفي , مستدلا بكثرة وروده في القرآن , و لأنه يثاب عليه ثواب الواجب , لأن الغالب عليه وقوعه في مقابلة نعمة . و لذلك قيد الناظم الحمد هنا بقوله , عفى الله عنه , الذي أورثنا كتابه , اشارة الى قوله تعالى "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد و منهم سابق بالخيرات باذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها ", الآية . أورثنا , أي أدخلنا و أعطانا و منحنا وتفضل علينا بكتابه , الذي معناه " لا اله الا الله" , جيل عن جيل و أب عن أب من غير مشقة و لا تعب فضلا منه و منة و اصطفاء . كتابه , قال في مفتاح الجنة : واعلم , اسم الكتاب يطلق على كل ما أمر الله تعالى به أو نهى عنه أو أخبر به بالوحي . فمن الكتاب أخذت علوم الأولين والآخرين , وعبر على أشرافها في مراتب الدين و اليقين و علو التمكين , واتفق جميع العلماء أن ذكر الله تعالى أعلاها و أولاها , و أطهر للنفوس و أزكاها . ألا ترى الى ما قدمنا من معنى قوله تعالى " وأقم الصلاة ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر و لذكر الله أكبر ", انتهى كلامه. قلت , وأعلى الذكر " لااله الا الله ", كما سيأتي بيان ذلك . و لحديث " أفضل ما قلته أنا و النبيئون من قبلي لا اله الا الله ", و فيه براعة الاستهلال و هي كما قال الصفي الحلي , و هو أن يكون المطلع دالا على ما بنيت عليه القصيدة , كقول أبي تمام , " السيف أصدق انباء من الكتب ", لما كان بناؤه على ذكر الفتح و التحريض على الحرب , الخ. و هنا لما كان النظم محتويا على بعض ما يتعلق بمعنى " لا اله الا الله "و الجلالة , قال الحمد لله الذي أورثنا كتابه , مشيرا الى المعنى المتقدم ذكره , أي أورثنا " لا اله الا الله " التي هي معظم معنى الكتاب المذكور , بل كله . قال الغزالي , رحمه الله تعالى في كتابه جواهر القرآن و درره : سر القرآن و لبابه الأصفى و مقصده الأقصى , دعوة العباد الى الجبار الأعلى , رب الآخرة و الأولى , و خالق السماوات العلى و الأراضين السفلى و ما بينهما و ما تحت الثرى , الخ . و هذا معنى لااله الا الله , لقوله عليه السلام : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لااله الا الله " , الحديث . و لما كانت الآية المتقدم ذكرها منجية الى الذكر , قال المفسرون , الظالم لنفسه هو ذاكر الله تعالى على الغفلة , و المقصد تارة بتارة , و السابق بالخيرات باذن الله هو القائم بمعنى الذكر الموفق لشرطه . ثم شملتهم العناية بقوله تعالى "جنات عدن يدخلونها " . و قال في اللباب : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية , فقال : " سابقنا سابق و مقصدنا لاحق و ظالمنا مغفور له " . و لهذا الحديث قال في الحكم : لاتترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه , لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره , فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة الى ذكر مع وجود يقظة , و من ذكر مع وجود يقظة الى ذكر مع وجود حضور , و من ذكر مع وجود حضور الى ذكر مع غيبة عما سوى المذكور , و ما ذلك على الله بعزيز . (تنبيه) انما قدم الظالم لنفسه على السابق , مع أن السابق أفضل ذكر, في كنز اليواقيت ثمانية أقوال , و ذكر ابن العربي في القانون أربعة عشر قولا , منها : لئلا يقنط من رحمة الله تعالى , و منها لئلا يجتمع عليه همان , هم الجفا و هم التأخير . و منها أنه مسيء و الكريم الربا يحسن للمحسن و المسيء , و منها أنه منكس الرئس حياء من جرمه , فلما تنكس رأسه رفعه الله تعالى . فائدة : انما قال أورثنا دون غيره , نحو أعطينا , ففيه أقوال . منها : الميراث لا ينتزع بخلاف العطية , ومنها الميراث يكون بالهناء دون التعب و العناء بخلاف غيره , و منها الميراث يشترك فيه العاصي و المطيع , و الكتاب يشترك فيه الظالم و المقتصد و السابق , الخ . و من أراد استيعاب ذلك فعليه بالمطولات . قوله و حصنه أدخلنا , اشارة الى ما رواه ابن النجار سند يعمل به , عن علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم , يقول الله تعالى لااله الا الله حصني , فمن دخله أمن من عذابي " . و روى ابن النجار أيضا بسند يعمل به عن أنس بن مالك رضي الله عنه , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله عز و جل لا اله الا الله حصني من دخلها أمن من عذابي , و معنى دخولها التحقق بها و بموجبها من توحيد الله تعالى الواقع لعوام المؤمنين , المحصل لاعتقاد أن الله تعالى واحد لا شريك له و لخواصهم , كافر اذا لحق تعالى بالقصد والوجهة و الايثار على ما عداه , و الاعراض عند ملاحظة عظمة الذات عما سواه تعالى , لأن التوحيد ينقسم على ثلاثة أقسام .
تقليدي و نظري و ذوقي . فالتقليدي هو الظاهر الذي يعصم الدماء الا بحقها , واما النظري , " أفلا تنظرون الى الابل كيف خلقت " , الآية . و أما الذوقي فله مراتب سبعة . فالأولى منها تفيد حسن الابتداء بالباطن لنيل المذاق , و الله تعالى يحب ذاته بصفاته , و صفاته بأفعاله , و أفعاله بما اشتملت عليه طباع الانسان من الركون الى المألوفات , انتهى , من الساحلي باختصار . (تنبيه) انما كانت " لا اله الا الله " حصنه تعالى , فان معنى الحصن , كما في القاموس , كل موضع حصين لا يوصل الى جوفه , لأنها مشتملة على صفة الألوهية , و صفة الألوهية جامعة لكل كمال , مانعة لكل النقائص و الأرذال , و كمالاته تعالى لا نهاية لها و لا يوصل اليها , أي الى منتهاها . و قوله " أمن من عذابي " , قالوا الدنياوي و الأخراوي . أما الدنياوي , فهو عصمة الدماء و الأموال و غيره , و قيل كل كرب و كل محنة و آفة لعموم اللفظ , فان من دخلها , أي تحقق بها و امتزجت مع دمه و لحمه , كما أشار اليه السنوسي , فانه يرى لها من الأسرار و العجائب ما لا يدخل تحت حصر . منه ما يمنعه الله تعالى من كل عذاب دنياوي و غيره . قال عليه السلام " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله , فاذا قالوها عصموا مني دمائهم و أموالهم الا بحقها ", الحديث . فلا شك أن عصمة الدماء و الأموال أمان من عذاب دنياوي , و كذلك ما شوهد من الداخلين في حصن لا اله الا الله من البركات و العافيات و النجاة من المكاره , ما لا ينكره الا ضعيف يقين و الحمد لله رب العالمين . و من ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم , لا اله الا الله تدفع عن قائلها سبعة و سبعين بابا من البلاء , أدناها الهم , رواه الديلمي بسند يعمل به في الفضائل . وأما الأخراوي , فهو النجاة من النار و النكال , لما رواه أبو نعيم في الحلية بسند يعمل به , عن عمر رضي الله تعالى عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم , انني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقا الا حرم على النار , لا اله الا الله " . و مما أخرجه ابن حبان بسند صحيح عن عثمان عن عمر رضي الله تعالى عنهما , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم , اني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقا من قلبهه فيموت على ذلك , الا حرمه الله تعالى على النار " . و الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة لا تحصى . فتبين أن الدخول في حصنها أمن من عذاب الدارين بفضله تالى , جعلنا الله تعالى بمنه من الداخلين في حصنها بجوده , آمين . ثم قال عفا الله عنه , و لما كانت محبته صلى الله عليه و سلم حياة النفوس و نجاة من كل محنة و بؤس , كانت الصلاة التي هي علامتها زينة المحاضر و الطروس و مرقاة لمرضاة الملك القدوس , كمل ثنائه بعد البسملة و الحمدلة بالصلاة و السلام على خير البرية , فقال :

( ثم الصلاة و السلام أبدا على النبي الهاشمي أحمدا )

امتثالا لأمر الله و عملا بسنة رسول الله , قال تعالى : " ان الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما " . و قال عليه السلام : " من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب " , و قال عليه السلام : " كل كلام لا يبدأ فيه بالصلاة علي فهو أقطع ممحوق من كل بركة " . و للاجماع أيضا , قال القاضي عياض, رحمه الله تعالى , في الشفا : " وقع الاجماع على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الرسائل و بعد البسملة , و لم يكن هذا في الصدر الأول , و انما أحدث في زمن بني هاشم , فمضى عليه عمل الناس في أقطار الأرض في سائر الأعصار و الأمصار " , انتهى . و معنى الصلاة من الله تعالى رحمة , و من الملائكة استغفار , و من غيرهم دعاء على المشهور المأثور . و هل معنى الرحمة ارادة الاحسان أو نفس الاحسان . قولان قد تقدما , و قيل معناها الرحمة و زيادة الاكرام و الانعام . فمعناها على هذا , اللهم زده اكراما على اكرام و انعاما على انعام . و قال الحليمي في الشعب , معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه . فمعنى قولنا اللهم صل على سيدنا محمد , أعظم محمدا. و المراد تعظيمه في الدنيا باعلاء ذكره و اظهار دينه و ابقاء شريعته , و في الآخرة باجزال مثوبته عنده و تشفيعه في أمته , و ابداء فضيلته في المقام المحمود . و على هذا , فالمراد بقوله تعالى صلوا عليه , ادعوا ربكم في الصلاة عليه . و قيل الصلاة من الله على محمد , تشريف و زيادة تكرمة , و الصلاة من الله على غير محمد رحمة , و من الملائكة دعاء و استغفار , و من العباد عبادة , و حكمها أنها تجب كل ما ذكر صلى الله عليه و سلم , و به قال الطحاوي و جماعة من الحنفية , و الحليمي و جماعة من الشافعية . و قال به اللخمي من المالكية , و بن بطة من الحنابلة . و قال ابن العربي من المالكية , هذا هو الأحوط . و قيل تجب في كل مجلس مرة و لو تكرر ذكره فيه مرار , حكاه أبو عيسى الترمذي عن بعض أهل العلم . و قيل تجب في العمر مرة , كانت في الصلاة أو في غيرها ككلمة التوحيد , قاله أبو بكر الرازي من الحنفية . و قيل يجب الاكثار منها بغير تقييد بعدد , قاله أبو بكر ابن بكير من المالكية . و قيل تجب في الصلاة من غير تعيين عن أبي جعفر الباقر . و قيل في التشهد فقط , عن الشعبي و ابن رهاوية . و قيل في كل دعاء , و قيل غير ذلك . و قال ابن عطية في تفسيره : " الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم في كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها الا من لا خير فيه " , انتهى . و أما استحبابها , فقد ورد النص بمواطن منها يوم الجمعة و ليلتها , و يوم السبت و الأحد و الخميس , و عند زيارة قبره عليه السلام , و عند الصباح و المساء , و عند دخول كل مسجد و عند الخروج منه و في التشهد الأول عند الشافعية لذكر النبي فيه , و في الأخير عند المالكية فبل الدعاء , وفي خطبة الجمعة و غيرها من الخطب , و عقب اجابة المؤذن , و عند الاقامة و أول الدعاء و وسطه و آخره , و عقب دعاء القنوت عند الشافعية و الحنفية , و في صلاة الجنازة , و عند كل اجتماع و كل افتراق , و عند الوضوء و عند نسيان الشيء , و بعد العطاس على أحد قولين , و عند الوعض و نشر العلم و قراءة الحديث ابتداء وانتهاء , و عند كتابة السؤال و الفتيا . و لكل مصنف و مدرس و خطيب و خاطب و متزوج و مزوج , و في الرسائل و ما يكتب بعد البسملة , و منهم من يختم بها الكتب و بين سائر الأمور المهمة " . و أما كراهتها ففي سبعة مواضع و هي : الجماع و حاجة الانسان و شهرة البيع و العثرة و التعجب و الريح و العطاس , على خلالف في الثلاثة الأخيرة . و ألحق بعض العارفين الأماكن القذرة و أماكن النجاسة , انتهى , من الفاسي باختصار . قوله "والسلام" , عطف على الصلاة لكراهة افراد أحدهما عن الآخر , و هو لغة كما قال الجوهري , السلامة و الاستسلام , واسم من التسليم و اسم من أسماء الله تعالى , و بالكسر و الفتح أيضا . شجر الواحدة سلامة و سلامة بالكسر , و السلام البراءة من العيوب في قول أمية , انتهى . قال عبد الرؤوف ابن المناوي , و السلام كالسلامة , التعري من الآفات الظاهرة و الباطنة المنافية للكمال و و حقيقة ذلك و كماله لا يكون الا في الجنة , لأن فيها بقاء بلا فناء , و غنى بلا فقر , و عزا بلا ذل , و صحة بلا سقم . و قيل معناه الأمان , و حقيقته زيادة تأمين له و طيب تحية و اعظام . فمعنى اللهم سلم عليه , اللهم زده أمانا على أمان و طيب تحية على طيب تحية و اعظاما على اعظام . (تنبيه) هل زيادة الاكرام و الانعام في الصلاة , و زيادة التحية و الاعظام في السلام , متوقف على دعاء العباد له صلى الله عليه و سلم . و الحق أنه لا يتوقف عليه , و انما عظمه الله تعالى و أنعم عليه و زاده قبل وجود العباد , فضلا عن دعائهم له صلى الله عليه و سلم . فان قيل ما فائدة التخصيص بالدعاء بالصلاة و السلام عليه , صلى الله عليه و سلم , قلت ذلك تعبد الله تعالى لما يعود من نفعه عليهم من غفران ذنوبهم و رفع درجاتهم , لا نفعه صلى الله عليه و سلم , لأنه غني بربه عن خلقه , لكنه صلى الله عليه و سلم , يدخل السرور عليه بغفران ذنوب أمته و رحمتهم و الله أعلم . هل تجوز الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم , لقوله عليه السلام : " اللهم صل على آل أبي و أمي " , و قوله , صلى الله عليه و سلم , " و صل على أهل طاعتك أجمعين " . خلاف , و الصحيح , تجوز بالتبعية و تكره بالانفراد و الله أعلم . فائدة : الصلاة بالألف مبدلة عن واو لفظا و بالواو كتابة الا اذا أضيف أو ثني . يقال صلاتك أو صلاتان, و قال ابن درستويه لم يثبت بالواو في غير القرآن , و هي اسم من التصلية , أي الثناء الكامل , و كذا السلام من اسم التسليم كما تقدم عن الجوهري . و قيل مصدر ثلاثي أو مزيد , و الأول أصح . و المعنى جعله الله تعالى سالما عن كل مكروه , و حياه لما يليق به . و ذكر الحطاب في شرح المختصر عن بعض المتأخرين أنه حذر من اسعمال لفظ التصلية بدل الصلاة , و قال أنه موقع في الكفر و العياذ بالله , لأن التصلية معناها الاحراق , فليتنبه . ثم ذكر أن العرب لم تفه قط في الصلاة الفعلية و لا القولية بصلى تصلية , و انما يقولون صلى صلاة . قال الجوهري : الصلاة اسم يوضع موضع المصدر . يقال صليت صلاة , و لا تقل تصليت . قلت على هذا ما نقل عن النساءي و غيره , و ما نقله الشهاب عن ثعلب و ابن عبد ربه , أنهم قالوا تصلية ضعيف , و الله أعلم . قوله أبدا , أي دائما , قال الجوهري : و الأبد أيضا الدائم , و التأبيد التخليد , و قوله على النبي المراد به محمد صلى الله عليه و سلم . فالألف و اللام عهدية للوصف الآتي بعده , و هو بالهمز و دونه مأخوذ من النبا و هو خبر ذو فائدة عظيمة يحصل بها العلم , و لا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة . و النبوءة سفارة بين الله تعالى و بين ذوي العقول لازاحة عللهم في معاشهم و معادهم . (تنبيه) انما سمي النبي نبيئا , لكونه منبئا بما , أي بالأخبار و الغيوب عن الله تعالى التي تسكن اليه العقول الزكية الفاضلة , و الأخلاق الشريفة العالية المرضية , فيصح كونه فعيلا بمعنى فاعل أو بمعنى مفعل كذا ذكره بعض المحققين . و قال الحافظ أبو نعيم , سفارة العبد بين الله تعالى و بين ذوي الألباب من خليقته , و قيل النبوءة ازاحة علل ذوي الألباب فيما يقصرون عنه من مصالح الدارين , و لهذا يوصف دائما النبيء بالحجة و الهداية , ليزيح بها عللهم . فمعنى النبيء حينئذ ذو النبأ , أي الخبر , أي يكون مخبرا عن الله تعالى بما أوحى اليه , أو من النبوة بفتح فسكون , المكان المرتفع , و هو أن يخص بضرب من الرفعة , فيجعل سفيرا بين الله تعالى و بين خلقه . و من جعل النبوءة من الانباء بمعنى الاخبار , لم يفرق بين النبوءة و الرسالة . و معنى الرسول المرسل بالفتح , و ارساله أمره بالابلاغ و هو معنى النبأ الذي هو الاخبار بخلاف الأول و الله أعلم . فائدة : النبوءة التي هي السفارة لاتتم الا بخصائص أربعة يهبها الله تعالى له و هي : الفضيلة النوعية , و الفضيلة الاكرامية , و الامداد بالهداية , و التثبيت عند الزلة , و نفي خسائس أربعة و هي التي تعصم منها الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و هي الكفر و الكذب على الله تعالى و الفسق و الجهل بأحكام الله تعالى . و معنى الفضيلة النوعية أن الملوك لا ترسل مبلغا عنها الا بكمال العقل مجملا بجميع المناقب . و لهذا لم يوجد نبيء قط فيه عاهة في بدنه , كعمى و جذام و برص و نحو ذلك , و اختلاط في عقله أو دناءة في نسبه أو خسا في أصوله أو رداءة في خلقه , و اليه يرجع قوله سبحانه وتعالى " الله أعلم حيث يجعل رسالته ", انتهى و الله أعلم . و قوله الهاشمي , نسبة الى جده هاشم , لأن أباه صلى الله عليه و سلم , عبد الله , و أبا عبد الله عبد المطلب , و أبا عبد المطلب هاشم الى عدنان . و قد نظمت نسبه صلى الله عليه و سلم سابقا تسهيلا للحفظ و هو :
محمد بن عبد الله انتسب و جده يعرف عبد المطلب
يعزى لهاشم الى مناف الى قصي بن كلاب الكافي

علي العذاري
16-01-2012, 10:11 AM
الخ . و اسمه عمرو , و هو اسم منقول من العمر بالفتح الذي هوالعمر و بالضم البقاء , أو العمر الذي هو واحد عمر الانسان , و هو ما بينهما من اللحم أو من العمرة التي هي طرف الكم . يقال سجد على عمرته , أي كمه , ذكره السهيلي . و انما لقب هاشما , لأنه أول من هشم الثريد للحاج أيام الموسم , و لقومه في الحرب . و ذلك أنهم أصابهم قحط فرحل الى فلسطين فاشترى دقيقا فقدم به مكة , فكان يأمر بالخبز فيخبز , ثم يهشمه و يصب عليه المرق فيصير ثريدا في الجفان , و ذلك أهم لمجاعتهم و أسد لخلتهم و أستر لهم حتى لا يعلم أحدهم قدر ما يأكل صاحبه من الخبز . و كان جوادا سخيا لا تنقطع الأضياف من بيته , و هو من سن الرحلتين , رحلة الشتاء الى الحبشة و رحلة الصيف الى الشام . و له من الأولاد حنظلة و به كان يكنى , و عبد المطلب . و لا عقب له الا منه , و أسد والد فاطمة بنت أسد أم علي أمير المؤمنين كرم الله وجهه , و أبو حنفا , الثنفا و خلدة و رقية و حية , و كان أبيض جميلا في جبهته نور كالهلال لايمر بشيء الا سجد له , و لا يراه أحد الا أقبل نحوه و قبله , و كان يقال له البدر و قدح النضار . و سأله قيصر لما وفد الى الشام أن يزوجه ابنته لما رأى في الانجيل صفته , و أنه يولد له ولد يكون نبيء هذه الأمة . و مات بغزة و له عشرون أو خمس و عشرون سنة. و قوله أحمدا , و هو من أعظم أسمائه صلى الله عليه و سلم , كمحمد و أشهرها و أبلغها و اليهما ترجع جميع صفاته , لأن صيغة المبالغة تؤذن بالتضعيف و التكثير الى غير نهاية , و صيغة أفعل تنبيءعن الوصول الى غاية ليس وراءها غاية . قال أهل الحق و لم يتسمى به أحد من قبله صلى الله عليه و سلم , منذ خلقت الدنيا , و لا تسمى به أحد في حياته . و أول من تسمى به والد الخليل بن أحمد . قال ابن دحية , و هو علم من صفة له من فعل . و قال في الزاد , اختلف هل أفعل بمعنى فاعل أو مفعول . فقال قوم بمعنى فاعل أي حمد الله تعالى أكثر من غيره , فمعناه أحمد الحامدين لربه . و قال آخرون بمعنى مفعول , أي أحق الناس و أولاهم بالحمد , فيكون كمحمد في المعنى , لكن الفرق بينهما أن محمدا هو المحمود حمدا بعد حمد , فهو دال على كثرة الحامدين له , و ذا يستلزم كثرة الخصال التي يحمد عليها . و أحمد هو الذي يحمد أفضل مما يحمد غيره . فمحمد في الكثرة و الكمية , و أحمد في الصفة و الكيفية , و الاسمان واقعان على المفعول , قال و هذا هو المختار . و لو أريد باسم الفاعل لسمي الحماد , أي الكثير الحمد , فانه صلى الله عليهه وسلم كان أكثر الناس حمدا لربه . فلو كان اسمه أحمدا , باعتبار حمده لربه , كان الأولى له الحماد كما سميت به أمته صلى الله عليه و سلم . فائدة : انما سمي بمحمد و أحمد لما اشتمل عليه من سيماهما و هو الحمد فانه محمود عند الله تعالى و عند الملائكة و عند الأنبياء و عند أهل الأرض , و ان كفر به بعضهم فهو عناد , لقوله تعالى "يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ", الآية . قال السهيلي و غيره كان المصطفى , صلى الله عليه وسلم , أحمد قبل أن يكون محمدا كما وقع في الوجود , لأن تسميته أحمد وقعت في الكتب القديمة , و تسميته محمدا وقعت في القرآن , و ذلك لما حمده ربه قبل أن يحمده الناس , و قد خص بسورة الحمد و بلواء الحمد و بالمقام المحمود , و شرع له الحمد بعد الأكل و الشرب و الدعاء و القدوم من السفر , فجمعت له معاني الحمد و أنواعه . و لذلك قال موسى أو عيسى عليهما السلام " اللهم اجعلني من أمة محمد " . ذكر الواحدي أن النعمان السباعي , و كان من أحبار اليهود باليمن , لما سمع بذكر المصطفى صلى الله عليه و سلم قدم عليه و قال له : كان أبي يختم على سفر يقول لا تفتحه حتى تسمع نبيء يخرج من يثرب , فاذا سمعت به فافتحه , فاذا صفتك كما أراك و انك خير الأنبياء و أمتك خير الأمم , و اسمك أحمد . (تنبه ) قال بعض الأئمة من أهل التصوف أن لهذه الحقيقة المحمدية أسماء نورانية و صفات ربانية منها ما هو بمنزلة الفروع الجزئية , و ينشأ بعضها عن بعض , و يقال فيها من وجه أنها متناهية , و من وجه أنها غير متناهية . و ترجع من غير متناهيها بوجه الى تسعة و تسعين . و بوجه آخر أكثر , و أوسعها حيطة و أشملها جمعا اسمه محمد , و أسبقها حكما و أرفعها حضرة اسمه أحمد صلى الله عليه وسلم . فمحمد بمثابة اسم الله تعالى في اشتماله و جمعيته , و أحمد بمثابة اسم الرحمان في عمومه و سبقيته . و لما كانت الأسماء الحسنى تدخل بوجه ما حيطة اسمين سابقين و هما الواحد والأحد , من حيث أن الواحد أصل و منشأ لجميع الاعتبارات الغير المتناهية , فيدخل تحته جميع الأسماء السلبية , كان اسمه محمدا لاسمائه صلى الله عليه وسلم بمثابة الاسم الواحد , و أحمد بمثابة الاسم الأحد . و لما كانت بوجه آخر تدخل تحت حيطة اسمين عامين شاملين و هما الظاهر و الباطن , كان محمد الاسم الظاهر , و أحمد بمثابة اسمه الباطن . و لذلك كان اسما له من حيث ظهوره في عالم الأمر, و على هذا النمط الأول و الآخر . و اعلم أن لكل من هذين الاسمين , بحكم جمعيته , اشتمالا على الآخر مع رجوع سائر الأسماء اليه سلبية كانت أو ثبوتية . فأيهما دعوته به منهما فقد دعوته بجميع أسمائه . قال تعالى " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " . (تنبيه ) لم يصح في فضل التسمية به حديث , و أما خبر أنس مرفوعا : " يوقف عبدان بين يدي الله تعالى , فيؤمر بهما الى الجنة فيقولان ربنا بما استاهلناها و لم نعمل , فيقول اني آليت على نفسي لا يدخل النار من اسمه أحمد ولا محمد " , قال الذهبي حديث باطل موضوع . انتهى و الله أعلم . قال عفى الله عنه :

( و آله و صحبه الكرام ما ذكر الله على الدوام )

الآل بالألف مبدلة عن الهمزة المبدلة عن الهاء عند البصريين , و عن الواو عند الكوفيين , و الأول أصح لغة . و اضافة الآل الى الضمير قليلة أو غير جائزة . و المختار الأول و الأحسن الى محمد صلى الله عا\ليه وسلم , و لكن يسامح في النظم ما لا يسامح في غيره . و الآل يطلق بالاشتراك اللفظي على ثلاثة معاني : أحدها , الجند و الأتباع نحو آل فرعون , و الثاني النفس نحو آل موسى و آل هارون , يعني نفسهما , و الثالث بمعنى أهل البيت خاصة , نحو آل محمد صلى الله عليه و سلم . و انما وجب ذكر آله أيضا في الصلاة معه , لقوله صلى الله عليه و سلم : " اذا صليتم فعمموا " , و أراد بالتعميم على الآل , قاله شهاب الدين النقشبندي , و هو خاص بالأشراف و أولي الحظ و الشأن .
فلا يقال آل الاسكاف و الحائك , فيقال آل العباس . و لما تصور فرعون بصورة الأشراف , قيل آل فرعون . و قال في منهاج الضوء , آل النبي صلى الله عليه و سلم , هم المؤمنون , لأن آل الأنبياء متبعوهم . و قال الرجراجي في قرة الأبصار في الآل ثمانية أقوال : قيل أهله , و قيل أولاده , و قيل أهل بيته , و قيل قومه , و قيل أتباعه من أمته , كما يقال آل فرعون لأتباعه من قومه , و قيل أمته , و قيل نفسه , و قيل أولاد علي و العباس و جعفر و عقيل و حمزة , و هم الذين تحرم عليهم الصدقات , و هم أهل ورثته صلى الله عليه و سلم لولا المنع من ذلك , و هو قوله عليه الصلات و السلام " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " . قال بعض الفقهاء من فسر آله في باب الصلاة و الاحترام , صلى الله عليه وسلم , بغير هذا فقد أخطأ , انتهى . و صحح بعضهم جميع أمته , أي أمة الاجابة , و نسبه لمالك رضي الله عنه , و قال و عليه أكثر العلماء . قال الزهري وهو أقرب للصواب , و اختاره النووي , قال و ما آل فرعون الذين قال الله تعالى فيهم " و أغرقنا أل فرعون " الا أمته . قلت و هذا الخلاف انما هو في مدلول الآل لغة , ثم من أجل اجتهاد الأئمة في الشرعيات , رأى كل منهم ما رآه باجتهاده , و الا فآل النبي صلى الله عليه و سلم أهل بيته كما تقدم , من زوجاته و أولاده , و هم المرادون بقوله سبحانه تعالى " انما يريد الله ليذهب عنكم الرجز آل البيت و يطهركم تطهيرا " . قيل و منهم كل بني هاشم و المطلب . و شهر أكثر المفسرين انها نزلت في علي و فاطمة و الحسين رضي الله عنهم . و قيل نزلت في نسائه , و نسب لابن عباس و كان مولاه عكرمة ينادي به في السوق . و قيل في علي و فاطمة و الحسن و الحسين , كما في خبر مسلم , أنه أدخل ألائك الأربعة تحت الكساء و قرأ الآية و قال " اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصتي أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا " .
و في حديث حسن أنه صلى الله عليه و سلم اشتمل على العباس و بنيه بملائة و قال : " يا رب هذا عمي و صنو أبي , و هؤلاء أهل بيتي , فاسترهم من النار كستري اياهم بملائتي هذه " , فقالت اسكفة الباب و حوائط البيت ءامين ثلاثا. فعلم أن المراد بأهل البيت في الآية أهل بيت سكنه , و هن أمهات المؤمنين و أهل بيت نسبه و هم مؤمنوا بني هاشم و بني المطلب , و صح هذا عن زيد ابن أرقم و الله أعلم . فائدة : التطهير المذكور في الآية اشارة الى اقامة الدعوة الى الله تعالى و ادامة الأعمال الصالحة , و من ثم لما ذهبت عنهم الخلافة الظاهرة , لكونها صارت ملكا عضوضا , و لذا لم تتم للحسن رضي الله عنه , عوضوا عنها الخلافة الباطنة , حتى ذهب الى أن قطب الأولياء في كل زمان لا يكون الا منهم , بل هذا مسطور في كل كتب القوم , و صرح به أكابر الأولياء كالجيلي و ابن أدهم و محي الدين ابن العربي الحاتمي و غيرهم . و هذه هي الخلافة العظمى و ناهيك بها شرفا . فائدة : الآل اسم جمع لا واحد له من لفظه كرهط و قوم و ابل و غنم . قوله " و صحبه " , الصحب بالفتح جمع صاحب , كركب جمع لراكب . و قال الرجراجي , لصاحب عشرة جموع , صحب بالفتح و الضم و الكسر , و مصحب و أصحاب و صحاب بالفتح و الكسر , و صحابة و صحبان بالضم و الكسر , و معناه لغة الملازم و شرعا هو الجمع مع النبي صلى الله عليه و سلم , يقظة بعد النبوءة و قبل وفاته مؤمنا به و ان لم يرو عنه و لم يطل اجتماعه به و لم يجالسه أو لم يره لمانع , كعمى أو جاءه مؤمنا و لم يره النبي صلى الله عليه و سلم , أو كان صبيا أو وقعت له ردة لم يلق النبي صلى الله عليه و سلم بعدها ثم مات مؤمنا . و قال الرجراجي فيه ثمانية أقوال : قيل من ولد في زمانه صلى الله عليه و سلم , و قيل من ولد في زمانه و بلغ في زمانه , و قيل من رآه و لو مرة واحدة , و قيل من روى عنه ولو حديثا واحدا , و قيل من رآه و طالت صحبته معه , و قيل من رآه وروى عنه و طالت صحبته معه . قال ابن الحاجب في الأصول , مسألة الصحابي من رآه صلى اله عليه وسلم و ان لم يرو عنه و لم تطل صحبته معه , و قيل ان طالت صحبته , و قيل ان اجتمع . و قال سعيد ابن المسيب رضي الله عنه , كل من غزا معه غزوة أو غزوتين أو قعد معه سنة أو سنتين . و قال شهاب الدين القرافي , أصحابه عليه الصلاة و السلام هم الملازمون له المهتدون بهدايته حتى فاضت عليهم أنواره , و ظهرت عليهم بركاته و أسراره صلى الله عليهه وسلم . و هل هو جمع أو اسم جمع , قولان و الأول أصح كما تقدم . و قيل اسم جمع لا مفرد له من لفظه كنفر و قوم ورهط و ابل و غنم و غيره . فائدة : الأصل في ألفاظ جمعه لفظ الصحابة , لما فيه من المبالغة ولأجل هذا قال بعضهم و صاحب الرجل من بينه و بينه مخالطة و ملابسة , و ان قلت لم تختلف أحوالها و مراتبها على حسب ما هي عليه من ضعف و قوة , و فعله صحبته صحبة , فان حسنت و تضاعفت و اتصفت بالرعاية و الاعتناء و الكلاءة و الاحتياطات و التفقد و حسن الموالاة , قيل صحبته صحابة . فلفظ الصحابة مصدر يسمى به عند القصد للمبالغة في تحقيق معانيها . فأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم , لما فازوا بصحبته التي تمناها المتقدمون و حزن على فواتها المتأخرون , و ليس في مفاخر جبريل عليه السلام في السماء أعز و أفخر من صحبة محمد صلى الله عليه وسلم , و قاموا لها و بها و بحقها حق القيام , لقبوا بالصحابة , و صار علما في حقهم , فرقا بينهم و بين من سواهم ممن أحرم ثوابهم و حجب عن علاهم رضي الله عنهم . و قوله الكرام , وصف لهم رضي الله عنهم , و هو جمع لكريم . قال الجوهري , و الكرام بالضم مثل الكريم الصفوح , و كرم السحاب اذا جاء بالغيث الخ . و قال القرطبي , و هذا الاسم ممن تردد فيه كلام العرب و الأصوليين و الخلق واحد , كل بطرف منه و حوموا عليه فما أشفوا , وله معان . قيل الكريم الجواد الكثير الخير المحمود . يقال نخلة كريمة اذا طاب حملها أو كثر , و شاة كريمة أي غزيرة اللبن , و العرب الكرم عاما في بني آدم و غيرهم , فتقول لكل ذات شريفة , أو صدر منها منفعة و خير كريمة , كقولهم أرض كريمة و شجرة كريمة و فرس كريمة و نفس كريمة . و يسمون نفائس الأموال كرائم , و على هذا يخرج اخبار الله تعالى عن بلقيس " أني ألقي الي كتاب كريم " , و هو من أسمائه تعالى , نطق به الكتاب و جاءت به السنة . قال تعالى : " ما غرك بربك الكريم " , و جاء في الأسماء التسعة و التسعين الكريم . و هو متردد بين أن يكون من أسماء الذات وبين أن يكون من أسماء الأفعال . و الله جل و عز لم يزل كريما ولا يزال وصفه بأنه كريم هو بنفي النقائص عنه , و وصفه بجميع المحامد , و على هذا الوصف يكون من أسماء الذات . اذ ذاك راجع الى شرفه في ذاته و جلالة صفاته . اذا كان فعليا , كان معنى كرمه ما يصدر عنه من الأفضال و الانعام على خلقه . و ان أردت التفرة بين الاكرام و الكريم جعلت الاكرام الوصف الذاتي و الكريم الوصف الفعلي . قال ابن الحصار : " و اذا اعتبرت جميع ما ذكر في معنى الكريم , علمت أن الذي وجب لله تعالى من ذلك لا يحصى " . و قد حكى ابن العربي فيه عن المتكلمين و المتصوفين ستة عشر قولا . الأول , الذي يعطي لا لعوض . الثاني , الذي يعطي بغير سبب . الثالث , الذي لا يحتاج الى الوسيلة . كما يروى عن حاتم الجود أن رجلا لقيه يعتفيه , فقال من أنت , فقال الذي أحسنت اليه العام الماضي , فقال مرحبا بنم يشفع بنا الينا . الرابع , الذي لا يبالي لمن أعطى ولا الى من يحسن , كان محسنا أو كافرا , مقرا أو جاحدا . كما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم , باسناد منقطع عن عمرو بن ميمون عن بن عباس , قال : " لما بعث الله تعالى موسى عليه السلام , و كلمه و أنزل عليه التوراة, فقال اللهم ابك رب عظيم , لو شئت أن تطاع لأطعت و لو شئت أن لا تعصى ما عصيت , و أنت تحب أن تطاع و أنت في ذلك تعصى , فكيف هذا يا رب . فأوحى الله تعالى اليه أني لا أسأل عما أفعل و هم يسألون , فانتهى موسى " . و روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال , قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو أراد الله تعالى أن لا يعصى , ما خلق ابليس " , ذكره البيهقي , انتهى . و قيل أجمع العبارات في معنى الكريم ما قيل هو الذي اذا قدر عفا و اذا وعد وفى و اذا أعطى زاد على منتهى الرجا و لا يبالي كم أعطى و لا لمن أعطى , و اذا رفعت حاجة الى غيره لا يرضى , و اذا جفي عاتب و ما استقصى , و لا يضيع من لاذ به و التجأ , و يغنيه عن الوسائل و الشفعاء , انتهى . قلت و هذا و ان كان مستغربا في حق العياد , فهو في حق اله تعالى لا غرابة فيه , فان الكرم الحقيقي له تعالى و هو الاسم , و ان كان مجازا في حق غيره , فهو في حقه تعالى حقيقة . ألم تر الى قوله تعالى " ما غرك بربك الكريم " , فهو تلقين الحجة عند الحاجة و الشدة , فلا يكون الجواب حينئذ الا كرمك ان شاء الله تعالى . و ان كان ذلك كذلك ألم تسمع الى قول حاتم الجود : مرحبا بمن تشفع بنا الينا , كما تقدم و الله أعلم . قوله , ما , أي عدد ذكر الله . الذكر لغة نقيض النسيان , و صيت و ثناء و شرف , و كذلك الذكرى و الذكرة . و أما عند الصوفية فهو التخلص من الغفلة و النسيان بدوام حضور القلب مع الحق تعالى . و قيل تردد اسم المذكور بالقلب , سواء في ذلك ذكر الله أو صفة من صفاته أو حكما من أحكامه , أو فعلا من أفعاله , أو استدلالا على شيء من ذلك , أو دعاء أو ذكر رسوله أو انبيائه أو من انتسب اليه أو تقرب اليه بوجه من الوجوه أو بسبب من الأسباب أو فعل من الأفعال , بنحو قراءة أو ذكر أو شعر أو غناء أو محاضرة أو حكاية . فالمتكلم ذاكر و المدرس ذاكر و المفتي ذاكر و الواعض ذاكر و المتفكر في عظمة الله تعالى و جلاله ذاكر والمتفكر في جبروته و آياته في أرضه و سمواته ذاكر و المتمثل ما أمر الله به و المنتهي عما نهى عنه ذاكر . و الذكر قد يكون باللسان و قد يكون بالجنان و قد يكون بأعضاء الانسان , و قد يكون بالاعلان و الاجهار و الاسرار , و الجامع لذلك كله ذاكر كامل .
فذكر اللسان هو ذكر الحروف بلا حضور و هو الذكر الظاهر , و له فضل عظيم شهدت به الآيات و الآثار و الأخبار . فمنه المقيد بالمكان أوالزمان , و منه المطلق . فالمقيد كالذكر في الصلاة و عقبها و الحج و فبل النوم و بعد اليقظة و قبل الأكل و عند ركوب الدابة و السفينة و طرفي النهار و غير ذلك . والمطلق ما لا يتقيد بزمان و لا بمكان و لا وقت و لا حال , فمنه ما هو ثناء عل الله تعالى كما في واحد من هذه الكلمات و هو : سبحان الله و الحمد لله و لا الاه الا الله و الله أكبر و لا حول و لا قوة الا بالله العلي العظيم . و منه ما هو ذكر فيه دعاء مثل : ربنا لا تآخذنا ان نسينا أو أخطأنا , الآية , و مناجاة . و كذلك " اللهم صل على سيدنا محمد " , و هو أشد تأثيرا في قلب المبتدء من الذكر الذي لا يتضمن المناجاة , لأن المناجي يشعر قلبه قرب من يناجيه و هو مما يأثر في قلبه و يلبسه الخشية . و منه ماهو ذكر فيه رعاية أو طلب دنياوي أو أخروي . فالرعاية مثل قولك الله معي , البله ناظر الي , الله يراني , فان فيه الرعاية المصلحة للقلب , فانه ذكر يستعمل لتقوية الحضور مع الله تعالى و حفظ الأدب معه , و التحرز من الغفلة و الاعتصام من الشيطان الرجيم , و حضور القلب في العبادات , قاله ابن عطاء الله في مفتاح الفلاح . فائدة : ما من ذكر الا و له نتيجة تخصه . فأي ذكر اشتغلت به أعطاك ما في قوته . و الذكر هو الهمة و الاستعداد , هو الداعي الى الفتح , و لكن بما يناسب الذاكر من الأسماء السبعة الجامعة الحاكمة , باعتبار طي الأنفس السبعة بها أيضا . فينبغي للذاكر أن لا يتحقق باسم منها حتى يقف على علامة الاسم الذي قبله و يعلم ذلك باخبار الذاكر نصيحه بمنامه مع خاطره المكررين من مرتين فأكثر , سواء كانا محمودين أو مذمومين , بحيث لا يكتم عليه المذموم و لا يفرد المنام على الخاطر , كفقراء زمننا هذا لجهلهم بذلك , و لعدم مراعاتهم لسحائب الخواطر المترادفة على القلوب . و لقد أشرنا الى بعضها في الرحمانية , و سأتكلم عليها فيما يأتي ان شاء الله تعالى , ان دعت المناسبة الى ذلك و الله أعلم . و قوله على الدوام , على , معناها المصاحبة كقوله تعالى " و ان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " , أي مع ظلمهم . و الدوام معناه المواظبة و اللزوم و السكون , ومن الأخير " حديث لا يبولن أحدكم في الماء الدائم " , أي الساكن . و المعنى أحمد الله على ما أورثنا أبا عن أب من غير تكلف فضلا منه , و منة لا اله الا الله , و أدخلنا حصنها ليؤمننا من عذابه في الدنيا و في الآخرة , ثم أصلي و أسلم أبدا دائما ما دمت على النبي المنسوب لهاشم المسمى أحمد و على آله و صحبه الموصوفين بالكرم و الجود , عدد ما ذكر الله تعالى ذاكر على الدوام , أي اللزوم و المواظبة . و اختلف ابن عرفة و التلمساني , هل يحصل الثواب على عدد ما ذكره أو يحصل له ثواب صلاة واحدة . فقال ابن عرفة يحصل له أكثر من ثواب صلاة واحدة و أقل مما ذكر . و قال سعد ابن التلمساني يحصل له ثواب عدد ما ذكره , لأن فضل الله تعالى واسع و قدرة الله تعالى لا تعجز على شيء , و جاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عنده عظيم . قلت و قد صرح جميع أهل الحق و أهل الظاهر , و لعله أثر أ, حديث أو حديث قدسي , لو أن الله تعالى أعطى لواحد من خلقه ما يعطي لجميعهم ما نقص من ملكه الا كمقدار ما ينقص المخيط من البحر , أو كما قيل و الله أعلم . قال عفى الله عنه :

علي العذاري
16-01-2012, 10:17 AM
( و بعد أن سألت يا أواه عن علم لا اله الا الله )

بعد , ظرف زماني باعتبار النطق , و مكاني باعتبار الرقم . قال الجوهري : و بعد نقيض قبل , و هما اسمان يكونان ظرفين اذا أضيفا , و أصلهما الاضافة . فمتى حذفت المضاف اليه لعلم المخاطب بنيتهما على الظم ليعلم أنه مبني , انتهى . و تستعمل مقرونة بأما أو بالواو و لا يجوز الجمع بينهما , الا على جعل الواو استئنافية , و عند انفراد الواو تكون نائبة عن اما , فتكون في الحقيقة نائبة النائب و هو ما تضمنه اما , فيكون المعنى حينئذ أما بعد , مهمى يكن من شيء بعد البيملة و الحمدلة و ما معهما , فأقول لك كذا و كذا . فمهمى مبتدأ و الاسمية لازمة للمبتدا , و يكن شرط و الفاء لازمة له غالبا . فحين تضمنت أما بعد معنى الابتداء و الشرط , أي حلت محلها لحذفهما اختصارا لزمها الفاء غالبا , و لتضمن بعد معنى المضاف اليه . و لهذا بنيت فأما قائمت مقام شيئين , و بعد قام مقام الثالث و هو البسملة و الحمدلة و الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم لاقامة المضاف مقام المضاف اليه كثيرا في كلام العرب اختصارا كما تقدم . فهي حرف شرط و توكيد دائما و تفصيل غالبا , و يجب توسط جزء ما في خبرها بينها وبين الفاء , اما مبتدأ , نحو أما زيد , فمنطلق أو مفعول نحو فأما اليتيم فلا تقهر , و غير ذلك من ظرف أو حال لكراهة توالي لفظة أدات الشرط و الجزاء الموهم أن تلك الفاء عاطفة على مقدر , و الوقع ليس كذلك , بخلاف ما اذا كان جوابها قولا , و أقيمت حكايته مقامه , فلا خلاف في جواز حذفها كثيرا نحو قوله تعالى " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم " , أي فيقال لهم أكفرتم , و أما اذا لم يكن الجواب قولا, فلا تحذف الا ندورا , نحو قوله عليه السلام " أما بعد فما بال رجال .... " , الحديث , و الله أعلم . تنبيه , انما وجب بناء بعد عند حذف ما تضاف اليه ان كان معرفة , و نوي ثبوت معناه لشبهها حينئذ بحروف الافتقار و كانت على حركة ليدل على أصلها و هو الاعراب , و كانت ضمة جبرا لما فاتها من حذف المضاف اليه . و أما اذا ذكر المضاف اليه أو حذف و نوي ثبوت لفظه أو حذف و نو ثبوت معناه و كان نكرة أو حذف ولم ينو لفظه و لا معناه , فانها تعرب في تلك الأحوال الأربعة بالنصب على الظرفية أو الجر بمن خاصة . فائدة : العامل فيها . قال الدماميني انها منصوبة لفظا أو محلا , اما بفعل الشرط المحذوف الذي هو يكن , أو يوجد , و اما بلفظ اما , لنيابتها عن فعل الشرط . و الصحيح , كما قاله ابن جماعة , أنها جزء من الجواب , فتكون ممعمولة لما بعد الفاء . و حكم الاتيان ببعد في الخطب الاستحباب لانه صلى الله علي و سلم كان يأتي بها في الخطب و المكاتبات , و اختلف في من نطق بها أولا على أقوال سبعة : قيل يعرب ابن قحطان و قيل أيوب , و قيل يعقوب , و قيل سحبان , و قيل قس , و قيل كعب , و أقربها أنه داوود عليه السلام , و هي فصل الخطاب الذي أوتيه و قيل غيره . و جمع بين الأقوال بأن كل واحد أول باعتبار قومه , قاله النفراوي رحمه الله تعالى . و قوله " ان سألت يا أواه عن علم " , قال في القاموس سأله كذا و عن كذا و بكذا , بمعنى سؤالا و سؤلا و مسألة و بغير همز ما يسأله الانسان , و هو معنى الطلب , و الأواه الموقن أو الدعاء أو الرحيم أو الرفيق أو الفقيه أو المؤمن بالحبشية (قاموس) . و قال ابن جزى الأواه كثير الدعاء , و قيل كثير الذكر , و قيل كثير التأوه من خوف الله تعالى , انتهى . و قيل التأوه وهو التفجع الذي يكثر حتى ينطق الانيان معه بأوه , و من هذا قول المثقب العبدي :


اذا ما قمت أرحلها بليل تأوه أهة الرجل الحزين


و يروى آهة . و روى بن المبارك في رقائقه بسند الى عبد الله بن شداد , قال : " قال رجل يا رسول الله ما الأواه , قال الأواه الخاشع الدعاء المتضرع " . قال سبحانه " ان ابراهيم لأواه حليمم " , انتهى . و قال في اللباب , الأواه هو الذي يسمع وجيف قلبه من خوف الله تعالى و الله أعلم . و المراد به في النظم صاحبنا و أخونا الولي الصالح الذاكر التقي نقيب حضرتنا سيدي محمد السياري , هو الذي سأل و طلب و حض و حرض على جمع رسالة فيما يتعلق ببعض علوم لا اله الا الله حين سمع و بلغه كثرة المعترضين ممن نسب الى العلم و غيره على بعض الاخوانن , بل على الكل , لتكون عدة , و الرجوع اليها عند كل شدة و الله الموفق للصواب و اليه المرجع و المئاب . و قوله , عن علم لا اله الا الله , أي عن بعض علم ما يتعلق بلا اله الا الله , و المراد به هنا الفصول الخمسة و الأربعون المتضمنة للسؤالات الخمسة و الأربعين أيضا , الآتي ذكرها ان شاء الله تعالى بعد , لقوله تعالى " غاعلم انه لا اله الا الله " . قال ابن جزي : و اسدل بعضهم بهذه الآية على النظر و العلم قبل العمل , لأنه قدم قوله فاعلم على قوله و استغفر , و لقوله عليه السلام " تعلموا العلم و علموه الناس " , رواه البيهقي . و لقوله عليه السلام أيضا " تعلموا اليقين " , رواه الدارقطني . و أخرج الديلمي في مسند الفردوس حديث " من تفقه في دين الله كفاه الله تعالى " . و كما وجب النطق بها أولا , وجب الالعلم بها أولا و اليقين ثانيا و التفقه ثالثا . و لا علم و لا يقين و لا فقه الا بلا اله الا الله , لأن من لم يعلم شيئا لا يتيقن به , ومن لا يتيقن به لا يتفقه فيه و الله أعلم . و لهذا حض صلى اللله عليه و سلم على العلم حتى قال لعلي رضي الله عنه , كما رواه غير واحد , " يا علي كن عالما أو متعلما أو مستمعا و لا تكن الرابع فتهلك , قال علي رضي الله عنه و من الرابع يا رسول الله , قال الذي لا يعلم و لا يتعلمم و لا يسأل العلماء عن أمر دينه و لا دنياه الا أنه هو الهالك , ثلاث مرات " , رواه الغزنوي في مقدمته . و من فضائل العلم ما روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه , قال : " تعلموا العلم فان تعلمه حسنة و و طلبه عبادة و مذاكرته تسبيح و البحث عنه جهاد و تعليمه من لا يعلمه صدقة و بذله لأهله قربة , لأن العلم منازل أهل الجنة و هو المؤنس في الوحشة و الصاحب في الغربة و المحدث في الخلوة و الدليل على السراء و المعين على الضراء و الزين عند الخلاء و السلاح على الأعداء و الهادي الى الرشاد و الظهير رعند الموتو القرين في القبر و الشفيع في القيامة و القائد الى الجنة , يرفع اللهه به أقواما فيجعلهم للخير قادة و في الدين أئمة , تقتفى آثارهم و يقتدى بأفعالهم , يلهمه الله تعالى السعداء و يحرمه الأشقياء " , نسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم و الفهم و يبلغنا منازل الأبرار و يحشرنا في زمرة الأخيار بحرمة لا اله الا الله و المستغفرين بالأسحار بفضله و كرمه , انه خير مأمول و أكرم مسئول . ثم قال عفا الله عنه :

( فهاكه مفصلا جاء على مثال خمس و أربعين سؤلا )

الفاء جواب شرط , متضمن اما النائب عنها , الواو في و بعد كما تقدم , و هاك بالكاف و بالهمزة المفتوحة مكان الكاف و ها بسكون الهمزة , مثل هع , بمعنى خذ , و الضمير على علم , الخ . و مفصلا حال من الضمير في هاكه مؤكدا بمصدر محذوف تقديره تفصيلا , أي مبينا فصلا فصلا على عدد ما يذكره بعده و هو اسم مفعول من المضعف . و التفصيل التبيين , و الفصل لغة الحاجز بين شيئين , و كل ملتقى عضمين في المفصل , و الحق من القول , و فطم المولود و القطع و غيره . و اصطلاحا اسم لطائفة من المسائل يشترك ما قبلها بما بعدها بخلاف الباب . و قوله جاء على مثال خمس و أربعين سؤلا , أي جاء تفصيل علم لا اله الا الله مبينا فصولا على عدد سؤالات خمس و أربعين سؤلا رفعت لبعض علماء أهل المغرب كما تقدم بيانه . و المثال المقدار و القصاص و صفة الشيء و الفراش و الجمع أمثلة , كذا في القاموس , أي جاءت الفصول على مقدار السءالات الخمسة و الأربعين . و قوله سؤلا , الألف بدل من الهاء لضرورة النص , فهو مصدر لسأل لأن سأل له خمسة مصادر . تقول سأل سؤالا و سؤلة بالسكون و مسألة و تساءلا و سؤلة بالتحريك . و قال العكبري, و رجل سؤلة أي كثير السؤال , و كذلك هذه الفصول , مما يجب كثرة السؤال عنها و الفحص و الاشتغال بها و البحث عنها لأنها سبب النجاة من النار و السلامة من غضب الجبار في هذه و تلك الدار , انتهى . و لما كانت السؤالات خمسة و أربعين سؤال , و كانت الفصول المتضمنة الجواب عليها كذلك , كانت هذه الرسالة مرتبة على خمسة و أربعين فصلا و مقدمة و خاتمة , ختم الله تعالى لنا و لقارئها و كاسبها و سامعها بحسن الخاتمة بمنه و جوده و كرمه و فضله , انه على ذلك قدير و بالاجابة جدير هو نعم المولى و نعم النصير , و لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم .
و لما آن الكلام عن المقصود , وجب ذكر المقدمة الموعود بها فيما تقدم . قال تعالى " فاعلم أنه لا اله الا الله " . قال الجوزي لا اله الا الله في كل لسان و من لا ينوي بها نفي ما يجب نفيهه و اثباتت ما يجب اثباته , أي يقول له قل أي شيء أكبر شهادة , قل الله . مثل لا اله الا الله مثل دار السلطان , منها ما يدرك و منها ما لا يدخله الا الخاصة و منها ما لا يصل اليه الا خاصة الخاصة . كل انسان يقول لا اله الا الله , و الأرواح أجناد مجندة و الأطوار متغايرة , منهم من افترسه نفي لا , و منمهم من نجا في سفينة الاثبات , و أسعد الخلق من فهم لا اله الا الله . و اعلم أن اكسير الزيادة و كمياء السعادة و قاعدة كل قدم و حال و مقام و أس أصول دعائم الاحسان و الايمان و الاسلام , هو معرفة التوحيد المجرد عن اضافة التقييد المحفوظ عن تصميم التقليد الموصوف بعلم الأسماء و الصفات , المطلق المنزه عن حدوث طروق الآفات , الجامع لذكر معاني الألوهية , المشتمل على جملة لطائف الأسرار المعنوية , و هو أصل المعارف الدينية و محل العوارف اليقينية , لأن شرف العلوم على قدر شرف المعلوم , و شرف العالم على قدر شرف علمه , و لا شيء أشرف من الحق تعلاى و طلبه , و لا أشرف في الدنيا من معرفة الله تعالى و قربه , و لا شيء أشرف في الجنة من النظر الى وجهه , و كل علم موقوف على معلومهه , و شرفه بشرفه , و معرفة الله تعالى هي الغية القصوى و اللباب الأقصى و من أخذ من العلوم و الحكم أشرفها و أرفعها , و من المعاني صفوها و ألطفها و أنفعها , و فهم حكم باطن أمرها و علم حكم علانيتها و سرها , فقد تجوهر باطن قلبه و تمهد ظاهر أدبه و تسمى في الحقيقة انسانا و شاهد الحق عيانا و صار الخير بالذات في الأوصاف و الصفات صبغة الله تعالى ايمانا و يقينا و تبيانا . و لما جعلها الله تعالى حياة الدارين و نجاتهما , و سبب وجودهما , لقوله تعالى " أو من كان ميتا فأحييناه " , و لقوله عليه السلام " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله " , الخ . و قوله عليه السلام " قال الله تعالى : لا اله الا الله حصني " , الخ . و في الحديث , قال الله تعالى : " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف , فخلقت الخلق لأعرف , فبي عرفوني " . وجب التخلق بها بعد التعلق , ليفيد التخلق , و المراد به هنا الامتزاج الذي أشار اليه أهل الحق كالشيخ السنوسي و غيره , لأن حقيقة التخلق بالاسم هو يقوم العبد به على نحو ما يليق به , و لا يتأتى ذلك في الهيللة و اسم الجلالة الا أن يراد بذلك نزوله الى القلب و سيرانه في الجوارح , و الله أعلم . و حقيقة التحقق بالأسماء معرفة معانيها بالنسبة الى الحق تعالى و بالنسبة الى العبد , و حد التعلق افتقار العبد اليها مطلقا من حيث دلالتها على الذات الأقدس , انتهى . و اذا وجب التعلق والتحقق لما ذكر كما ذكر بالطريق الجسماني , وجب ذلك بالطريق الروحاني , لأن الروح أشرف من الجسد أبدا , و أن الله تعالى أخذ العهد على الأرواح , كما قال ابن سبعين : " أخذ الله تعالى العهد من الأرواح ثم غيبهم في الغيب , فلما أوجد الجسمانية و ربطها مع الأرواح الروحانية , فقررهم على العهد القديم و ذكرهم عليه , ثم ردهم الى الغيب في الأصلاب , ثم أبرزهم في الذر , فذكرهم بالعهد كما أخبر به تعالى بقوله " و اذ أخذ ربك من بني آدم " , الآية . ثم ردهم الى الأصلاب حتى يبرزهم الى عالم الشهادة , و نسي بهم العهد , ثم أخرجهم من ظلمات غيوب الأصلاب , و حرضهم على العهد , فمن نسي عهد الله تعالى انتقم منه بناره , و من أوفى بالعهد كان من أهل الجنة . قال تعالى : " أوفوا بعهدي أوفي بعهدكم " , و قال تعالى " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم و جعلنا قلوبهم قاسية " . قال البجاءي نفعنا اله به , قف على أن من نقض العهد ملعون , و يثمره ذلك قساوة القلب , نعوذ بالله . ثم قال " و جزائهم في الآخرة عذاب أليم " . قلت , و لعل من هذا قولهم من أخذ الورد و ترك , كمن آمن وارتد و العياذ بالله . و كان الشيخ نفعنا الله تعالى به دائما يقولها . ثم قال و لا زال سبحانه و تعالى يذكر العبد العهد حتى يصل الى الجنة , و ذلك أن العبد اذا مات ذكره بسؤال الملكين , و تمامه في كتاب الفراوصني . ثم قال , و الله تعالى خلق الخلق فمنهم صحيح و منهم سقيم , و منهم يطب و منهم سقيم لا يطب . لأنه لما خلق الله تعالى الخلق في الايجاد الأول ثم ردهم الى الأصلاب , ثم نقلهم من الأصلاب الى الأرحام , ثم من اللأرحام الى عالم الشهادة , فمنهم من ثبت شهوده على معرفته لديه في أخذ العهد , فهو صحيح ليس به أذى , و منهم من وقعت الفترة في شهوده , فصار فرقا عن حقيقة المعرفة , فهو سقيم من ذاته , فلا بد من دواء ينفي عنه داءه . و منهم من لم يرجع الى دواء ينفي به داءه و منهم من ليس له دواء و منهم موافقون مراد الله تعالى بهم . فأما الذين لا يطلبون فهم أهل الشمال , و أما الذين لا يرجعون الى دواء ينفون به داءهم فهم فهم الغافلون عن سلوك المقامات ليوفوا بالعهد . و منهم من اشتغل بنفي العلل بأنواع الأدوية , و منهم من عمته العلل , و منهم من خصص ببعض دون بعض , و لكل داء و دواء , لقوله عليه السلام : " الذي أنزل الداء أنزل الدواء " , و كل ذلك تجده في كتاب الله تعالى و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم , كقوله تعالى " و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين " . و من علامة نسيان العهد ملاحظة الطاعة و نسيان الالذنوب , و طلب الجزاء و طلب الكرامات و محبة نعيم الجنة وو الحور الحسان , اذ لو علم أنه مسلوب ما طلب من ذلك شيئا , و ذلك أن الله تعالى خلق الخلق و خلق لهم الأرزاق و أضاف لهم الأموال و النفوس , لقوله تعالى " تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم " , لأن الله تعالى علم أن ما عند الانسان أعز عليه من نفسه و ماله , فسلب المؤمنينن في العهد الأول في أموالهم و أنفسهم ليكون هو محبوبهم و معروفهم و معبودهم , و المال ماله و العبيد عبيده , و لكن أراد أن يسلب أهل وداده عن غيرهم ثم سلبهم عن أنفسهم بقوله تعالى " ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم " , الآية . فأخذ عنهم العهد و الميثاق على ذلك , لقوله تعالى " و أوفوا بالعهد " , الآية . ثم ردهم الى الأصلاب حتى ردهم الى عالم الشهادة , فنسيت طائفة العهد و المواثيق , و ثبتت طائفة على البيع و دفعوا ما باعوا , و ظهرت سريرة ما اشتروا . فمنهم الموقنون الباقون على العهد و المواثيق , و هم أهل محبة الله تعالى . فالمحب لا يقول نفسي , و العارف لا يقول لي , فان كل عارف مسلوب الاختيار , أي عن اختياره و تدبيره و حقوقه . فهؤلاء هم الأصحاء الذين تقدم ذكرهم . فهم لا يحتاجون الى المعالجة من السلوك في المقامات , لأنه اذا أراد السلوك في المقامات , فيكون كالمستضيء بضياء السراج مع ضياء الشمس , فانه لا يظهر ضياء السراج الا مع ظلمة فترة العقل عن حقائق المعارف , و انما يسلك اذا أراد الله تعالى الاقتداء به , و يقتفي الناس أثره , فيكون سلوكه في حق المتبعين أثره , و ان لم يظهر عليه السلوك في المقامات , فهو بين الخلق غريب لا يوصف . فانهم لا يعرفون الا من ظهر في علاج المقاماتت و خفي عنهم أهل الحقائق . و لكن يظهر الله تعالى من أراد أن يظهره للخلق , أنتهى . اذا علمت ذلك , فاعلم أن العهد انما هو تذكير العهد القديم , و أصله بيعة الرضوان , قال تعالى :" لقد رضي الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة " , و كذلك حديث عبادة ابن الصامت , و هو " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا و لا تسرقوا " , الخ الحديث , و قوله تعالى " اذا جاءك المؤمنات يبايعنك " , الآية . و بايع صلى الله عليه و سلم نساءه و بناته , و بين سبحانه الذي وقعت المبايعة عليه بقوله تعالى " يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا و لا يسرقن و لا يزنين و لا يقتلن أولادهن و لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن و أرجلهن " , و الخاتمة , " و لا يعصينك في معروف " , فكان ذلك سنة أهل التصوف رضوان الله تعالى عنهم , لمن خصصه الله تعالى بتحريكه لسلوك طريق الأخرة بخطرة سماوية من الله تعالى و توفيق خاص الاهي . فانه أول ما ينتبه العبد للعبادة بهذه الخطرة الشريفة , و هي المعنية بقوله تعالى " أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه " . قال الغزالي و اليه أشار صاحب الشرع صلوات الله عليه و سلامه بقوله " ان النور اذا دخل القلب انفسح و انشرح , فقيل يا رسول الله , هل لذلك من علامة يعرف بها , فقال , لتجافي عن دار الغرور و الانابة الى دار الالخلود و الاستعداد للموت قبل نزول الفوت" , انتهى . و الطريق الروحاني انما يسلك بأخذ العهد و التلقين . فالعهد لغة , التزام شيء ليوفي به في المستقبل , حقا كان أو باطلا . و منه تعاهدت بنوا فلان على كذا . و شرعا التزام قربة دينية كما تقدم . و شرطه كمال الشيخ و انقياد المريد ووجود التسليك كما تقدم بمعناه , و أما التلقين لغة , التفهيم و شرعا ما فعله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في كلمة الشهادة و هو ما رواه الطبراني و غيرد و البزار من أن النبي صلى الله عليه و سلم لقن أصحابه كلمة لا اله الا الله جماعة و فرادى بعد أن سبق تكرارها منهم منذ أسلموا الى ذلك الوقت . فأما تلقينه صلى الله عليه و سلم جماعة , فقد قال شداد بن أوس رضي الله عنه : " كنا عند النبي صلى الله عليه و سلم , فقال : " هل فيكم غريب " , يعني من أهل الكتاب , قلنا : " لا يا رسول الله " , فأمر صلى الله عليه وسلم بغلق الباب و قال : " ارفعوا أيديكم و قولوا لا اله الا الله " , فرفعنا أيدينا و قلنا لا اله الا الله , ثم قال : " اللهم أنت بعثتني بهذه الكلمة و أمرتني بها و وعدتني عليها الجنة , انك لا تخلف الميعاد " , ثم قال : " ابشروا فان الله غفر لكم " . و أما تلقينه لأصحابه صلى الله عليه و سلم فرادى , فقد روي أن عليا بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه , قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم , فقلت , يا رسول الله دلني على أقرب الطرق الى الله تعالى و أسهلها علي عبادة , و أفضلها عند الله تعالى , فقال : " يا علي عليك بمداومة ذكر الله تعالى سرا و جهرا " , و في رواية " في الخلوة " , فقال علي : " كل الناس ذاكرون يا رسول الله , و انما أريد أن تخصني بشيء " , فقال النبي عليه الصلات و السلام : " مه يا علي , أفضل ما قلته أنا و النبيئون من قبلي لا اله الا الله , و لو أن السماوات السبع و الأرضين السبع في كفة و لا اله الا الله في كفة , لرجحت لا اله الا الله " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " يا علي لا تقوم الساعة و على وجه الأرض من يقول الله الله " , ثم قال علي رضي الله عنه : " كيف أذكر يا رسول الله " . قال صلى الله عليه و سلم : " غمض عينيك و اسمع مني ثلاث مرات , ثم قل أنت ثلاث مرات لا اله الله و أنا أسمع " , ثم رفع رسول الله صلى الله عليه و سلم رأيه و مد صوته و هو مغمض عينيه و قال لا اله الا الله ثلاث مرات و علي يسمع , ثم ان عليا رفع رأيه و مد صوته و هو مغمض عينيه و قال لا اله الا الله ثلاث مرات و النبي صلى الله عليه و سلم يسمع , و هذا أصل التلقين عن الصحابة , عن الحضرة النبوية , عن الحضرة الجبريلية , عن حضرة رب العزة جل جلاله و عم نواله , و الصحابة رضي الله عنهم التابعين , و التابعون عنهم تابعي التابعين , و هكذا تابعوهم الى المشائخ العارفين و التلاميذ المريدين . و لو لا خيفة التطويل المؤدي الى السآمة و الملل , لذكرت نسبنا الروحاني من الأستاذ العارف بالله قطب زمانه و فريد عصره و أوانه , شيخنا و وسيلتنا سيدي محمد ابن عبد الرحمان الأزهري الى الحضرة النبوية الى الحضرة الجبريلية الى حضرة رب العزة جل جلاله و عم فضله و جوده و نواله , كما أشرنا الى ذلك في الرحمانية . و لما كان النظم محتويا على معاني ما يخص الجلالة من حيث النطق و ما يتعلق به , ناسب أن نذكر في المقدمة المعاني التي تخصها من جهة تلقيها الروحاني كما ذكرنا تلقيها الجسماني , لقول عيسى عليه السلام : " ليس منا من لم يولد مرتين " . و قال عليه السلام : " لن يلج ملكوت السماوات من لم يولد مرتين " . فبالولادة الأولى له ارتباط بعالم الملك و بهذه الولادة يصير له ارتباط بالملكوت . قال تعالى : " و كذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين " . و صرف اليقين على الكمال يحصل في هذه الولادة , و بهذه الولادة يستحق ميراث الأنبياء . و من لم يصله ميراث الأنبياء ما ولد و ان كان على كمال من الفطنة و الذكاء , الخ . قاله السهروردي في العوارف , و تمامه فيه فانظره . و لهذا قال تعالى : " فاعلم أنه لا اله الا الله " , خاطب امام الحضرة بالعلم دون المعرفة لشرفيته عليها و لكونهه حجة دونها . قال الجنيد :" العلم أرفع و أكمل و أتم من المعرفة و لأنه يحصل به اظهار الربوبية دون غيره " . ثم قال في العوارف : " الملك ظاهر الكون و الملكوت باطنه , و العقل لسان الروح و البصيرة قلب الروح و اللسان ترجمان القلب , و من البصيرة التي هي قلب الروح تنبعث أشعة الهداية . و لهذا حرم الوقوف مع مجرد العقول الخالية عن نور الهداية المنبعث من قلب الروح المسمى بالبصيرة عند أهل الحق تعالى بالمعنى . و هو موهبة الله تعالى عند الأنبياء و أتباعهم . الصواب , و كما أن في الولادة الطبيعية ذرات الأولاد في أصلاب الآباء منتقلة من آدم عليه السلام الى أولاده على حسب ما قدر الله تعالى في الأزل , كذلك الولادة الروحانية . فمن الأنبياء عليهم الصلات و السلام من أتباعه كثيرة و منهم من أتباعه قليلة , و على ذلك المشائخ رضي الله عنهم , منهم من أتباعه كثيرة , الذين يأخذون عنه العلوم و الأحوال و يؤدونها غيرهم كما وصلت اليهم . و منهم من أتباعه قليلة و منهم من هو عقيم . و هذا النسل هو الذي رد الله به على الكفار حيث قالوا محمد أبتر لا نسل له . قال الله تعالى ردا عليهم : " ان شانئك هو الأبتر " . فكان صلى الله عليه و سلم نسله الروحاني و الجسماني باق الى أن تقوم الساعة , و بيان ذلك , قال عليه السلام : " لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم الى أن تقوم الساعة " , أو كما قال . هذا نسله الروحاني , و أما الجسماني , فقد اتفق أهل الحق على أن كل طائفة لا بد لها من قطب , و أجمعوا أن القطب لا يكون الا من نسله صلى الله عليه و سلم كما ذكره غير واحد و الله أعلم , انتهى . ابتداء ذكر المقصود , قال عفى الله عنه :

( معناها شرط أدب اعرابها تلاوة ما فضلها تكرارها )

علي العذاري
16-01-2012, 10:18 AM
اشتمل البيت على سبعة متضمنة جواب سبع سؤالات . الأول في معناها و الثاني في شرطها و الثالث في أدبها و الرابع في اعرابها و الخامس في تلاوتها و السادس في فضلها و السابع في تكرارها . السؤال الأول عن معناها , فالضمير في قوله معناها عائد على لا اله الا الله , المذكور بقوله و بعد أن سألأت يا أواه عن علم لا اله الا الله (الفصل الأول ) في معناها , فمعنى لا اله الا الله نفي الألوهية عن غيره سبحانه و تعالى , و اثباتها لله تعالى . و الألوهية صفة جامعة لسائر الكمالات , مانعة عن جميع النقائص و الآفات , ما علم منها و ما لم يعلم . و منها , أي مما يندرج في الألوهية ما يجب على كل المكلف معرفته مما يجب في حق مولانا جل و عز , و ما يستحيل عليه و ما يجوز , و كذلك في حق رسله عليهم الصلات و السلام , و هي الستة و الستون عقيدة التي تجب على كل مكلف معرفتها , و الا لم يسلم من خلل في ايمانه , بأقرب طريق و أسهلها ان شاء الله تعالى و لهذا قال بعضهم : " تعجبت من الشيخ , يعني به سيدي محمد السنوسي , حيث ذهب الى الاستنباط الغريب و ترك القريب مع القطع بعلمه به , و قد يجاب عنه بأن حصول التعب و استعمال التدقيق زيادة في الأجر , لقوله عليه السلام : " أفضل العبادة أحمزها و أجرك على قدر تعبك " . و اعلم أنه نقل الشيخ السنوسي , نفعنا الله تعالى به , عن علماء بجاية كفر من لم يعرف معناها , و عدم انقاذه من الخلود في النار . و معناه من لم يعلم منها الوحدانية و نفي الألوهية عن غير الله تعالى و اثباتها له , و ان كان يصوم و يفعل سائر أركان الاسلام الا أنه لا يعرف الرسول من المرسل كما هو معلوم في فتاواهم , تصريحا بهذا المعنى , حتى أنهم بالغوا و جعلوه كالمجوسي في جميع أحكامه , الا القتل . فلا نكاح له كما لا طلاق . فيعلم الدين و يتزوج من حرمها و غير ذلك من احكام المجوس . و المراد بمعناها , الوحدانية كما تقدم , لا اندراج العقائد المذكورة . لأن الشيخ صرح بأنه لم يسبق بهذا الاستنباط , و لهذا قال في الجوهر الخاص , معناها نفي الألوهية عن ما سوى الله تعالى و اثبات الوحدانية له تعالى , و نفي الشريك عنه لأنن الشريك في الشاهد عيب و هو نقصان في التصرف , فيكون عيبا في الغئب ضرورة . و كل ما كان عيبا لا يليق بالألوهية , بل يجب نفيه عنها قولا و اعتقادا . بل اتيانه للواجب بالذات محال و ما يلزم من فرض وجوده محال فلا يوجد . قال تعالى : " قل هو الله أحد " , و قال تعالى : " لا تتخذوا الاهين اثنين انما هو اله واحد " , و قال تعالى : " فاعلم أنه لا اله الا الله " , و قال تعالى : " لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا " , و قال صلى الله عليه و سلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله " , الحديث . و قال صلى الله عليه و سلم : " أفضل ما قلته أنا و قاله النبيئون من قبلي لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد و هو على كل شيء قدير " . ثم اعلم أن هذه الكلمة الشريفة احتوت على نفي و اثبات . فالمنفي بلا كل فرد من أفراد حقيقة الا الله غير الله تعالى , و المثبت من تلك الحقيقة فرد واحد و هو الله تعالى . و أتي بالا لقصر حقيقة الا الله عليه تعالى , بمعنى أنه لا يمكن أن توجد تلك الحقيقة لغيره تعالى عقلا و شرعا . و حقيقة الا الله , هو واجب الوجود , مستحق للعبادة . و لا شك أن هذا المعنى كلي , أي يقبل بحسب مجرد ادراك معناه أن يصدق على كثيرين , لكن البرهان دل على استحالة التعدد فيه , و أن معناه خاص بالله تعالى , و الاسم الذي بعد الاستثناء ليس هو بمعنى الا الله , فيكون كليا , بل هو جزءي علم على ذات مولانا جل و عز , لا يقبل التعدد ذهنا و لا خارجا , ولو كان الله تعالى بمعنى الا الله , لزم استثناء الشيء من نفسه و لزم أن لا يحصل توحيد من هذه الكلمة . و كذلك لو كان معنى الا الله جزئيا مثل الاسم المعظم , لزم أيضا استثناء الشيء من نفسه و لزم التناقض في الكلام باثبات الشيء و نفيه . و الحاصل أن المعاني المقدرة في هذه الكلمة عقلا باعتبار المستثنى منه و المستثنى أربعة . ثلاثة منها باطلة , و هي أن يكونا جزئيين أو كليين أو الأول جزئيا و الثاني كليا . و الرابع , و هو أن يكون الأول كليا و الثاني جزئيا , و ينقسم الى قسمين . أحدهما باطل , وهو أن يكون المراد بالأول مطلق المعبود , لما يلزم عليه من الكذب لكثرة المعبودات بالباطل . و الآخر صحيح , و هو أن يكون المراد بالا الله المعبود بحق . و الاسم علم للفرد الموجود منه , فالمعنى على هذا لا مستحق للعبودية موجود أو في الوجود الا الفرد الذي هو خالق العالم جل و علا . و ان شئت , قلت في معنى الا الله , هو المستثنى عن كل ما سواه , المفتقر اليه كل من عداه , و هو أظهر من المعنى الأول و أقرب منه , و هو أصل له . لا يستحق أن يعبد و يذل له كل شيء الا اذا كان مستغنيا عن كل ما سواه , مفتقرا اليه كل ما عداه , فظهر أن العبارة الثانية أحسن من الأولى , بها يتجلى اندراج كل العقائد المذكورة تحت هذه الكلمة , و يتسع بها صدر المؤمن لفيضان المعارف , و يكون على ساحل النجاة . و لهذا اختار بعضهم في عقائد الايمان تفسير الا الله , أنه المستثنى عن كل ما سواه المفتقر اليه كل من عداه . اما استغنائه عن كل ما سواه تعالى , فيوجب له الوجود و القدم و البقاء و المخالفة لجميع الحوادث من كل وجه , و قيمه تعالى بنفسه . و تنزيهه تعالى عن النقائص , يوجب له تعالى السمع و البصر و الكلام و لوازمهما , أي كونه تعالى سميعا بصيرا متكلما . فهي أحدى عشرة صفة من الواجبات , أخذت من الاستغناء الذي هو ظهور عدم احتياجه للخلق بعد كونهم . لا أنه الاستغناء الذي هو القيام بالنفس لصعوبة استلزام الشيء نفسه , و ما يحكى من الأجوبة من كون الاستغناء ثبوتيا و القيام بالنفس عدمي عدم ساقطا لا يلتفت اليه قائله أبو البركات الشيخ يحيى الشاوي في حاشيته على الصغرى . و أضدادها مثلها , فهي اثنان و عشرونن , لأنه كلما وجبت له تعالى صفة , الا استحال عليه ضدها . و قد علم , الواجب هو الذي لا يتصور في العقل عدمه , و المستحيل هو الذي لا يتصور في العقل وجوده , و الجائز ما يصح في العقل وجوده و عدمه . و يوجب له مما يجوز في حقه تعالى , أي اتصافه بالألوهية التي هي استغنائه عن كل ما سواه جواز الفعل , أي لا يجب عليه تعالى فعل شيء و لا تركه , و انتفاء الغرض فيه , و هو أي الغرض جلب المصلحة و دفع المضرة , و نفي التأثر بالقوة كالاحراق للنار , و الاشباع للطعام , و الري و الانبات للماء و غيره . و في كفر اعتقاد تأثير قوة أودعها الله تعالى في هذه الأشياء و نحوها حلاف , و لا خلاف في بدعته , قاله ابن دهاق . فاذا أثبت له تعالى جواز الفعل و انتفاء الغرض فيه , و انتفاء تأثير معه بقوته , انتفت أضدادها و هي وجوب الفعل و ثبوت الغرض و التأثير بالقوة , فهي ستة الى اثنين و عشرين المتقدمة . فهي ثمانية و عشرون صفة التي لا يكون الغني غنيا الا بها , ما بين واجب و مستحيل و جائز . و أما افتقار كل ما عداه اليه فهو يوجب له تعالى الوحدانية و صفات الفعل وما تتوقف عليه , و المجموع ثمانية و هي القدرة و الالارادة و العلم و الحياة و لوازمها , و هي كونه قادرا و مريدا و عالما و حيا . فهذه تسع و أضدادها مثلها , فالمجموع ثمانية عشر صفة . و من الجائز حدوث العالم بأسره , و نفي التأثير بالطبع , و مقابلها المجموع أربعة الى الثمانية عشر اثنان و عشرون صفة ما بين واجب و مستحيل و جائز الى الثمانية و العشرين المأخوذة من الاستغناء , فالمجموع خمسونن عقيدة . (تنبيه) الفرق بين التأثير بالطبع و التأثير بالقوة , فالثاني ما توقف على وجود شرط , و انتفاء مانع . و الأول لا يتوقف على ذلك , فان الطبع لا يتخلف عن المطبوع و لا على وجود شرط كالحطب بالنسبة الى النار , و لا على انتفاء مانع كوجود بلل بالحطب , بخلاف القوة , فانه يتوقف على وجود حطب في صحة العمل و انتفاء بلل و كلاهما باطلان . فالكفر بالأول و الخلاف بالثاني كما تقدم , و الذي عليه قاطبة أهل السنة و الجماعة , انما هو , يخلق الله تعالى عند المقارنة فقط لا بطبع ولا بقوة أودعها الله فيها , و هذا الذي يجب اعتقاده و الله أعلم . و ست عشرة عقيدة في محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم , المجموع ست و ستون عقيدة في قولنا لا اله الا الله فقط , و بيان ذلك أننا اذا قلنا لا اله الا الله , يستلزم تصديق رسالة سيدنا محمد رسول الله , و تصديق رسالته صلى الله عليه و سلم . و معنى قولنا محمد رسول الله , لأنه صلى الله عليه و سلم هو الذي جاء بها و علمنا اياها . و قد نقل العلامة البجائي عن سيدي يوسف العجمي في قوله بعد كلام , أنه اعترض على انفراد لا اله الا الله دون محمد رسول الله . اجاب أن محمدا رسول الله اقرار و الاقرار يكفي مرة واحدة في العمر , مع أن قول العبد لا اله الا الله , لقول الرسول , هو عين اثبات رسالة. و لهذا قال صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله " , و لم يقل محمد رسول الله , لتضمن هذه الشهادة بالرسالة , انتهى كلامه رحمه الله . فتبين به ما ذكرناه , و كان الأستاذ , رحمه الله تعالى , اذا سئل عن انفراد لا اله الا الله , يقول محمد رسول الله في جوفها . فاذا كان ذلك كذلك , فيأخذ من قولنا محمد رسول الله الايمان بسائر الأنبياء و الملائكة عليهم الصلات و السلام , و الكتب السماوية و اليوم الآخر , لأنه صلى الله عليه و سلم جاء بتصديق جميع ذلك , و انما قلنا ذلك باستلزام الصدق , الأمانة و التبليغ . لأن المبالغة في الصدق تورث التصديق , و المبالغة في التصديق تورث التحقيق , و الصدق في اللسان و التصديق في القلب و التحقيق في الجوارح , و هو معنى الصدق و الأمانة و التبليغ , و يأخذ منه أيضا وجوب صدق الرسل عليهم الصلات و السلام , و هو يستلزم وجوب الأمانة و هي تستلزم وجوب التبليغ منهم للخلق عليهم الصلات و السلام . و يأخذ منه أيضا , جواز الأعراض البشرية , فهذه ثمانية و أضدادها مثلها , فالمجموع ست عشرة عقيدة في قولنا محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم , وما بين واجب و مستحيل و جائز في حقهم , عليهم الصلات و السلام , فاذا جمعناها مع الخمسين , كان العدد الحصل مما يدخل في الكلمة المشرفة ستا و ستين عقيدة . و قد نظمها شيخنا العارف بالله تعالى , سيدي الطيب بن باباس , حين شرح الصغرى و جمع بين حاشية السكتاني , و شرح بن مزيان جمعا عجيبا مع زيادة , يعرف قدره من وقف عليه , فقال :

مفاد صدرها لدا كل فطن غناؤه عنا بلا عكس يبن
لذاك ها سبك جواز الصنع و نفي تأثير بغير الطبع
وغرض لذا المعاني الأربعه و وحدة و لازم للأربعه

فهذه خمسون عقيدة في لا اله الا الله , و قلت في محمد صلى الله عليه و سلم :

و عجز دال وجوب صدق جواز اعراض لهم بخلق

علي العذاري
16-01-2012, 10:19 AM
فهذه ستةعشر الى الخمسين , فهي ستة و ستون و هو عدد نقط اسم الله تعالى الذي هو الاسم الأعظم الجامع لجميع أسمائه تعالى , ما علم منها و ما لم يعلم . فاذا شفعته بمثله كان مائة و اثنين و ثلاثين و هو عدد اسم محمد صلى الله عليه و سلم و في هذين العددين أسرار و أنوار يعلمها أهلها , منحنا الله تعالى من ذلك بمنه و فضله . (تنبيه) ان كثيرا من العلماء تولعوا بهذا الاستنباط , فكل على قدر مشربه , فبعضهم , كالمقترح استنبط ذلك من الباقيات الصالحات , و فيه وضع الأسرار العقلية في الكلمات النبوية , و القاضي عياض استنبط من الكلمة المشرفة , لكن لا على هذا الوجه الغريب الذي ذكره الشيخ سيدي محمد السنوسي . و بعضهم استنبط من بسم الله , و بعضهم أخذ العقائد من مجموع الكلمتين , أعني لا اله الا الله محمد رسول الله , كالشمني في جزء لطيف , و لو لا خوف الاطالة التي تفضي الى السئامة لذكرت كيفية استنباط كل , و العبد الضعيف سلك مسلكا يظهر أنه أقرب من الجميع , بحيث لا يعجز عنه الضعيف و لا القوي , و خصوصا عند الموت ان شاء الله تعالى بمنه . و سائر الدواهيالعظام و هو استخراج جميع العقائد التي تجب على المكلف معرفتها من لا اله الا الله , كما تقدم , ثم فتح الله تعالى ما هو أقرب منها و هو من اسم الجلالة فقط , الذي هو الله . و بيان ذلك أن الاسم الأعظم فيه لامان و ألفان و هاء . فاللم الأولى , لام الاستغناء و الثانية لام الافتقار اليه , فيكون الغني المفتقر اليه , و هذا معنى الألوهية الجامع لسائر العقائد التي يجب معرفتها . و كيفية استخراج ذلك و استنطاقه أن اللام عددها ثلاثون , فاذا ضربتها في نفسها كان تسعمائة , ثم تضرب اللم في اثنين التي هي مرتبتها لأنها في المرتبة الثانية بالنسبة الى الألف , فالمجموع ستون و تسعمائة , و هو عدد اسمه تعالى غني . ثم تفضي الى اللام الثانية و هي في المرتبة الثالثة بالنسبة الى الألف , كما تقدم , فاعتبرت في محلها و تقدمها مرتبتين , أعني صفرين , كانت بثلاثمائة , ثم اضرب اللام في ثلاثة التي هي مرتبتها , لأنها في المرتبة الثالثة , بتسعين , فضمها الى الثلاثمائة , فالمجموع ثلاثمائة و تسعون و هي عدد فقير . و لذا قلنا الام الأولى لام الغنى و الثانية لام الافتقار كما تقدم . ثم تأخذ الهمزة و تسندها الى اللام و تأتي بألف المد بعد تبديله ياء لاضافته الى الهاء المكسورة للمناسبة , فيكون فقيرا اليه , فاذا كان معنى الله الغني الفقير اليه , و هو معنى الألوهية التي هي معنى لا اله الا الله , المتضمنة لمحمد رسول كما تقدم , كان قول القائل الله متضمنا رسالة رسول الله صلى الله عليه و سلم , للحديث السابق ذكره , و لجواب سيدي يوسف العجمي . و لذا قالوا أن كلمة الله تعالى تكفي عن لا اله الا الله لمن تأهل لها بعد الاسلام . و لما كان ذلك كذلك , كانت العقائد التي يجب على المكلف معرفتها في حق الله تعالى و في حق رسله عليهم الضلات و السلام ستاو ستين على عدد اسمه تعالى الله , و فيه اشارة الى أنه لا يعرف الله الا من عرف الست و الستين عقيدة , و هنا اشارات و أسرار لا تفي بها العبارة . فمن جد وجد , و ما ذلك على الله بعزيز , انه على كل شيء قدير . و في الحديث , قال الله تعالى : " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف , فبي عرفوني " . الباء لمحمد صلى الله عليه و سلم , لأنك اذا شفعت عدد اسم الله تعالى بمثله , كان عدد محمد ¸ صلى الله عليه و سلم . فاهم و اغتنم وادع بخير و الحمد لله رب العالمين . (رجع) قال في الجوهر الخاص تحقيق : انما دخل في هذه الكلمة النفي لتحقيق الاثبات , فان قولك لا صديق لي الا أنت , أشد تحقيقا من قولك أنت صديقي , فمعناه نفي ما يستحيل أن يكون الاها و هو كل الاه يفرض دونه , و اثبات ما يستحيل فقده , و هو الله سبحانه و تعالى . (لطيفة ) لماذا قدم النفي على الاثبات في كلمة التوحيد . قال بعض العارفين بالله تعالى , لأن النفي بلا يجري مجرى الطهارة , و الاثبات بالا يجري مجرى الصلات , و الطهارة مقدمة على الصلات , فوجب تقديم لا اله على الا الله . و أيضا من أراد أن يطلب السلطان في بيته , وجب عليه أن يقدم طهارة البيت . (بيان ) الناس في هذه الكلمة على طبقات : الأولى , و هو أدناها , من قالها لحفظ دمهه و ماله . قال صلى الله عليه وسلم " فاذا قالوها عصموا " , الخ , الحديث . و يدخل في هذا المنافق . الثانية : الذي ضم الى قولها الاعتقاد القلبي على سبيل التقليد الجازم , فتحصل لهم السعادة في العقبى . الثالثة : الذي ضمم معرفة الدلائل الى الاعتقاد بالقلب , و لكن لم تبلغ درجته الى الدلائل اليقينية , الا أنه لم يكن من أهل المشاهدة و المكاشفة و أصحاب التجلي . الرابعة : طائفة خصوا بالمكاشفات و المشاهدات , و خصوا بالتجليات , و ذلك أن مرتبة اللسان مرتبة واحدة , و أما مرتبة القلب متنوعة , منحنا الله تعالى و اياكم من فوائد هذه الكلمة ما تقصر عنه العبارة و لا تحصره الاشارة , آمين , انتهى و الله أعلم . (الفصل الثاني ) في شرطها , فشرطها جزم القلب بمعناها و هو توحيده تعالى , و جزم القلب بذلك من غير تردد و لا شك ولا هم , و هو اثبات القدم له وحده و نفي الحدوث عنه , كما قال الجنيد رضي الله عنه , كذا في الجوهر الخاص . قلت هذا شرط أداء , و أما شرط وجوبها , العقل و التمييز و سلامة حاسة النطق و بلوغ الدعوى , لتصريحهم بأن الصبي و المجنون أنها تجب عليهما تبعا . أما الصبي فباسلام أحد أبويه , و أما المجنون فيتبع وليه , و الخلاف فيمن لم تبلغه دعوة نبيء كما هو معلوم في محله . و كذا الأخرص الذي لم يحرك لسانه بها , و الله أعلم هل يكفيه العلم بها أم لا . و لهذا جرى الخلاف , هل النطق بها شرط في صحة الايمان الذي محله القلب , أو هو شطر أو ليس بشرط و لا شطر . أقوال ثلاثة : فعلى القول أنها شرط لا يصح الايمان الا بالنطق بها في حق القادر دون العاجز , لأن حقيقة الشرط هو ما يلزم من عدمه العدم , فيلزم من عدم النطق بها عدم صحة الايمان . و أما مع العجز فيكفيه التصديق بالقلب , و العجز يكون بمفاجئات الموت و نحوها , كالمكره , بدليل قوله تعالى " الا من أكره و قلبه مطمئن بالايمان " , أي قبل النطق بها , و هذا هو المشهور من الأقوال . و أما على القول بأنها شطر من الايمان فلا يصح الا بها مطلقا , أي في حق القادر و العاجز , لأن الايمان عنده مركب من جزئين , من النطق و التصديق و الماهية المركبة , اذا بطل جزئها بطل جميعها. و على القول بأنها ليست بشرط و لا بشطر , فيصح الايمان بدونها , أي بدون النطق بها مطلقا , أي في حق القادر و العاجز , و هذه الأقوال كلها في حق الكافر . و أما المؤمن بالأصالة , فتجب عليه مرة في عمره , فان ترك نية الوجوب فهو عاص و ايمانه صحيح , انتهى و الله أعلم . ثم يشترط في حقه , أي شرط كمال الاكثار من ذكرها و الوقوف على معناها لينتفع بها دنيا و أخرى . فائدة : قال في اللباب ناقلا عن ابن عطاء الله : " يحتاج قائل لا اله الا الله الى أربعة أشياء , تصديق و تعظيم و حلاوة و حرمة . فمن لا تصديق له فهو منافق و ان قالها , و من لا تعظيم له فهو مبتدع و ان قالها , و لم تجتمع هذه الخصال بكمالها الا في رسول الله صلى الله عليه و سلم و انتهى والله أعلم . الفصل الثالث المتظمن للسؤال الثالث في أدبها : الأدب في لغة الظرف و حسن التناول قاموسا و اصطلاحا , كما في العوارف , هو تهذيب الظاهر و الباطن لقوله عليه الصلات و السلام " أدبني ربي فأحسن تأديبي " . و اعلم أن بالأدب يفهم العلم , و بالعلم يصح العمل , و بالعمل تنال الحكمة . و قال النووي : " أدب الشريعة حلية الظاهر فلا يباح تعطيل الجوارح من التحلي بالأدب " . و قال ابن المبارك : " أدب الخدمة أعز من الخدمة " . و قيل الأدب رعاية كل مقام , و قيل هو رعاية الأعدل قولا و فعلا . و عن العارف ابن سلام : " ربما كنت بحذاء الكعبة أستلقي و أمد رجلي , فجائتني العارفة عائشة المكية , فقالت : " يا أبى عبيد انك من أهل العلم , اقبل مني كلمة , لا تجالسه الا بالأدب , و الا فيمحو اسمك من ديوان القرب " . و في العوارف عن بعضهم , " ما أساء أحد الأدب في الظاهر الا عوقب ظاهرا , و لا في البطن الا عوقب باطنا " . و عن السري السقطي : " مددت رجلي ليلة في المحراب , فنوديت ما هكذا تجالس الملوك , فظممتها ثم قلت , و عزتك لا مددت رجلي أبدا " . قال الجنيد : " فبقي ستين سنة ما مدها ليلا و لا نهارا " . و قال ابن المبارك : " من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن , و من تهاون بها , عوقب بحرمان الفرائض , و من تهاون بها عوقب بحرمان المعرفة , فاذا كان ذلك كذلك , فيجب على المريد الادب و خصوصا في أفضل العبادات التي هي الذكر , و في أفضل الاذكار الذي هو لا اله الا الله , لقوله عليه السلام " أفضل ما قلته أنا و النبيئون من قبلي " , الحديث . فأدبها كما في الجوهر الخاص و غيره عشرون أدبا . منها خمسة سابقة على الذكر , ومنها اثنا عشر في أثناء الذكر , و منها ثلاثة بعد الفراغ منه . قال في الخلاصة المرضية من الدرة المضية : " المراد بالذكر تحقيق الأنس بالله تعالى و الوحشة من الخلق " . فأما الخمسة السابقة على الذكر فأولها التوبة و حقيقتها ترك العبد ما لا يعنيه , قولا و فعلا و ارادة بعد الندم . الثاني , الطهارة الكاملة أي بالغسل و الوضوء . الثالث , السكوت و السكون مع شغل القلب " بالله الله " حتى ما يبقى خاطر مع الله , فينطق بلا اله الا الله , فيحصل له الصدق ان شاء الله تعالى . الرابع , أن يستمد بقلبه حين شروعه في الذكر بهمة شيخه , و لو نادى شيخه بلسانه في الاستغاثة عند الاحتياج جاز , و كيفية ذكرك , كما قال الشيخ جبريل الخرمابادي , قدس سره العزيز , أن يحضر صورة شيخه في قلبه عند ابتداء الذكر و يستمد منه , اذ قلب شيخه من قلب شيخه و هكذا الى الحضرة النبوية , و قلب النبي صلى الله عليه و سلم دائم التوجه الى الحضرة الالهية . فالذاكر اذا تصور صورة شيخه و استمد من ولايته , تفيض الأمداد من الحضرة الالهية على قلب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم , و منه الى قلوب المشائخ على الترتيب حتى تنتهي الى شيخه , و من قلب شيخه الى قلبه فيقوى على استعمال الذكر على الوجه الذي يحصل به الغرض و ان كان بيده سيف الله و هو الذكر , لقوله عليه السلام : " الذكر سيف الله " . و لكن ليس للسيف ضارب الا بقوة مستفادة من حضرة منشىء السيف , فاذا من شيخه , كما تقدم , جاءه المدد , لقوله تعالى " و ان استنصروكم في الدين فعليكم النصر " , انتهى كلامه بمعناه . الخامس , أن يرى استمداده من شيخه هو استمداده من النبي صلى الله عليه و سلم , لأنه نائبه , و لقوله عليه السلام : " الشيخ في قومه كالنبي في أمته " , رواه الفراوصني في كتاب المراءي , و ذكر السند له و قال فان من رأى النقص في شيخه لم ينتفع به , و من قال لشيخه بقلبه لم , لا يفلح أبدا , فكيف بلسانه , و قد تقدم . و قال الامام الجامع المحقق الشريشي في رائيته :

و لا تعترض يوما عليه فانه كفيل بتشتيت المريد على هجر


الى أن قال :

فذو العقل لا يرضى سواه و ان نأى عن الحق ناء اليل عن واضح الفجر


و هو معنى قولهم يجب اتباع أمره و ان ظهر خطأ . و أما الاثناعشر التي في حال الذكر , أولها : الجلوس على مكان طاهر متربعا , أو كجلوسه في حال الصلاة مستقبل القبلة ان كان وحده , و ان كانوا جماعة فيتحلقون حلقة . و فرق بعض المتأخرين بين المبتدء و المنتهي , فقال ان المبتدء يكون كجلوسه في الصلاة و المنتهي متربعا , كذا في الخلاصة المرضية و غيرها . و قال الفراوصني في الكتاب المذكور , هو أن يجلس جلسة هنية , و اختلف في كيفيتها . فالوفائية بالديار المصرية عاينتهم يجلسون على هيئة الجلوس للصلاة , و لا يحول أحدهم قدمه على الأخرى حتى يحول الشيخ و لو جلسوا هنالك الليل و النهار , فاذا حول حولوا الجلسة اليه و هم ورثوها عن سيدي عاي بن وفا , و اختار غيرهم الجلوس مستديرا , و اختار سيدي يوسفف العجمي الجلوس متربعا , و عليه العمل .
قالوا فانها أهنأ جلسة و لذلك تصنعها المرضعة لولدها , و اتفقوا كلهم على استقبال القبلة ان امكن في جلسته , لقوله عليه السلام : " خير الجلوس ما استقبل به القبلة " . و قالوا ان الجلوس الى القبلة ينور القلب , انتهى و الله أعلم . الثاني : أن يضع راحتيه على فخذيه , و زاد الفراوصني , و يغطيهما بثيابه , و لا بد من ذلك , و قد أوصاني بتغطيتهما شيخنا أبو عثمان , يعني به الصفراوي المدفون بكدية عاتي , نفعنا الله به , آمين , انتهى و الله أعلم . الثالث : تطييب مجالس الذكر بالرائحة الطيبة , لأن مجالس الذكر لا تخلو عن الملائكة و عن مؤمني الجن . و قال البجائي , هو أن يبخر المجلس بالروائح الطيبة للملائكة و الانس و الجن و ان كانت حضرة الرياحين فالجمع بين الحالين عجيب . قلت أفاد بقوله " للملائكة " الخ , أن تكون نية التبخير لله تعالى بادخال السرور على الأخ و عملا بالسنة . قال عليه الصلاة و السلام : " من أدخل على أخيه سرورا , خلق الله تعالى من ذلك السرور خلقا يستغفر له الى يوم القيامة " , رواه السيوطي في جامعه . و معلوم أن الملائكة و الانس و الجن جميعا يتلذذون بالروائح الطيبة . و في الاحياء , " من لذذ أخاه المؤمن بما يشتهي كتب الله له ألف ألف حسنة و محا عنه ألف ألف سيئة و رفع له ألف ألف درجة و أطعمه من ثلاث جنات , جنة الفردوس , و جنة عدن , و جنة الخلد , فانظر رحمك الله هذه الفوائد في نية التبخير , فلا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين في الذكر الكثير , انتهى و الله أعلم . الرابع : لبس اللباس الطيب حلا و رائحة , كذا في الخلاصة المرضية , و زاد في الجوهر الخاص و لو شرائط الكتان . و قال البجائي , و عليه أن يلبس اللباس الحسن كما يفعل في الأعياد و المواسم , اذ يستحب فيهما الطيب و الحسن من الثياب , و ينوي بذلك المناجاة و التجمل للملائكة و مؤمني الجن و الانس , و الله جميل يحب الجمال , و ان لبس مرقعة فاجمل , لأن هذا من أوقاتها المطلوبة لها . قلت , و ينبغي تطهير اللباس المعنوي و هو تطهير الباطن بأكل الحلال , لقوله تعالى " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم و ريشا و لباس التقوى " . و في السنن و هو سبحانه يحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر كما يحب أن يرى عليه الجمال الباطن بالتقوى , ذكره الفاكهاني في حرف التاء و قد أشار الى ذلك في مفتاح الفلاح , قال : " و من آدابه الملبس الحلال الطاهر المطيب بالرائحة الطيبة و طهارة الباطن بأكل الحلال " . قال : " و ان كان الذكر يذهب بالأجزاء الناشئة من الحرام , الا أنه اذا كان الباطن خاليا من الحرام و الشبهة , تكون فائدة الذكر بتنوير القلب أكثر و أبلغ . و اذا كان في الباطن حرام غسله منه و نظفه , فكانت فائدته في التنوير أضعف . ألا ترى الماء اذا غسلت به المتنجس أزال النجاسة , و لم تكن فيه مبالغة في التنظيف و لذلك يستحب غسله ثانيا و ثالثا , و اذا دخل المحل المغسول خاليا عن النجاسة زاد بهجة و نظافة من أول غسلة , و اذا نزل الذكر محلا , فان كان فيه ظلمة نوره و ان كان فيه نور زاده و كثره , انتهى . فتبين بهذا المراد بتطهير اللباس الحسي و المعنوي , الظاهري و الباطني , و الله أعلم . الخامس : اختيار مكان مظلم ان أمكن , و زاد البجاءي , وان كان , أي المكان المظلم بحيث لا ثقب فيه و لا طاق , بحيث اذا دخله صوت أداره فيه فصوت , كان أحسن . قلت , و فائدة اختيار المكان المظلم لاجتماع همه من التشتيت و انفراد فكره بذكره من التفريق , بدليل قول زين العابدين في رسالته , للذاكر اختيار بيت مظلم , أو يغمض عينيه عند الشروع في الذكر , فانه أجمع لحواسه الظاهرة و الباطنة , حيث جعل تغميض العينين قائما مقام الظلام الذي هو سبب في جمع الحواس الخ , و الله أعلم . السادس : تغميض العينين . فبتغميض عينيه , تنسد عليه طرق الحواس الظاهرة , و سد الطرق الظاهرة سبب لفتح حواس القلب , كذا في الخلاصة و غيرها . و قال البجاءي , و المراد بتغميضهما أن يجمع همه بذلك لئلا يرى ما يشوشه , و قد شرط ذلك أبو حامد الغزالي في الاحياء في كتاب السماع فيمن حضر السماع أنه من شأنه تغميض عينيه و اطراقه و تجنيبه كل ما يشوش عليه و على السامعين , حتى بقعقعة الثياب , ثم قلا , سمعت شيخنا أبا عثمان , يعني به سيدي سعيد الصفراوي , صاحب كدية عاتي , كما تقدم , يقول : " ينبغي للمريد أن يغمض عينيه حتى في الصلاة , الا في الركوع و السجود , فانهام يركعان و يسجدان . قال لئلا يرى ما يشوشه , و ان كان الفقهاء يقولون أنه مكروه , فانه شبه بالأعمى و لا يعبأ بذلك , فان المحافظة على الجمعية مع الله تعالى أولى و أحق من تتزيين الظواهر , لأن المصلي يناجي ربه , انتهى كلامه , نفعنا الله به و هو عجيب غريب , و قل من ينتبه اليه , و الله تعالى يهدينا الى ما فيه رضاه . السابع : أن يخيل خيال شيخه بين عينيه , و هذا عندهم آكد الآداب , كذا في الخلاصة و الجوهر الخاص و غيرهما . و زاد البجاءي , ليكون رفيقه في الطريق لما قيل الرفيق ثم الطريق , و لذا التلميذ الصادق يسمع لشيخه يذكر معه و لو كان بأرض بغداد أو بأرض الصين , و هو بأرض المغرب مثلا . أو كان الشيخ ميتا في قبره و هو عند الصادقين مجرب علمه من علمه و جهله من جهله , انتهى كلامه رحمه الله تعالى . و قال في مفتاح الفلاح , هذا ان كان تحت نظر شيخ , قلت فان لم يكن شيخ , ينبغي أن يخيل خيال النبي صلى الله عليه و سلم , لتعليلهم بأن شيخه رفيقه في الطريق و أن النبي صلى الله عليه و سلم هو رفيق الرفقاء , فليتنبه له و الله أعلم . الثامن : و هو استواء الصدق و العلانية , كذا في الخلاصة و الجوهر الخاص . قلت , و الصدق لغة ضد الكذب , و اصطلاحا مساواة القول لما في القلب , و لهذا ان الدوام عليه و المبالغة فيه ينتج التصديق و هو الاعتقاد القلبي و الدوام و المبالغة ينتج التحقيق , و هو عمل بالجوارح , لقوله عليه السلام " ان الصدق يهدي الى البر و البر يهدي الى الجنة " . قال بعض العارفين ان مقامات كمال المؤمنين منحصرة في الصدق . فائدة : قال الفاكهاني : " الصدق يشمل الصدق في القول و النية و الارادة و العزم , و صدق الوفا و الوعد , و صدق العمل . فالصدق تحقيق المقامات , و لهذا قيل من اتصف بهذه الأمور السنية , كان صديقا . قال البجاءي , الصدق موهبة من الله تعالى لمن يشاء من عبادهه , و اذا حصل الصدق و الاخلاص بلغ الصديقية . قال الله تعالى : " و الذين آمنوا بالله و رسوله أولائك هم الصديقون و الشهداء عند ربهم " . في أحد التفاسير أن الشهداء هاهنا جمع شهيد , فهم الأحياء عند ربهم يرزقون , لا جمع شاهد , فاذا بلغ المريد الصديقية بهما فيخبر شيخه جميع ما يخطر بقلبه من حسن أو قبيح , أو صديق له ملاطف يريد مثل ما يريد و يكون حافظا لأسراره , و لذا قيل ليس من شرط الشيخ أن يطلع على أسرار المريد و باطنه , و لكن من شرط المريد أن لا يكون خائنا , فانه ان لم يظهر لشيخه جميع ما يخطر بقلبه و باله , فهو خائن و الله لا يحب الخائنين , و قد تقدم . قال الساحلي و من الشرط لزوم الكتم فلا يطلع أحدا على شيء من أعماله و ما يرد عليه في نومه و يقظته , فان الكتم منن شيم الأحرار , و البوح يحجب عن موارد الأسرار ما عدا القدوة . فان الكتم على القدوة خيانة , و قل ما يفلح من يكتم عن قدوته , انتهى و الله أعلم . التاسع : الاخلاص , و هو تصفية العمل من كل شوب , اذ به و بالصدق يصل الذاكر الى درجة الصديقية كما تقدم قبله , كذا في الخلاصة و الجوهر الخاص . قلت , و لما سئل صلى الله عليه و سلم عن الاخلاص قال : " قل الله ثم استقم " , أشار الى أن الاستقامة في العمل مع ذكر الله تعالى هو الاخلاص . و في حديث أخرجه الرداد , " الاخلاص سر من سري استودعته قلب من أحببت من عبادي " . و ذكر الفكهاني عن الجنيد أنه سر بين الله و بين العبد لا يعلمه ملك فيكتبه و لا شيطان فيفسده و لا هوى فيميله . و قيل الاخلاص فقد رأية الاخلاص , و قيل متى أراد العامل على عمله عوضا منه في الدارين لم يكن مخلصا . قال سيدي أحمد بابا التنبكتي رحمه الله تعالى , و روينا عن الأستاذ أبي القاسمم القشيري رحمه الله تعالى , قال : " الاخلاص افراد الحق سبحانه و تعالى في الطاعة بالقصد و هو أن يريد بطاعته اتلقرب الى الله تعالى دون شيء آخر من تصنع لمخلوق أو اكتسابه محمدة عند الناس , أو محبة مدح من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرب الى الله تعالى . و قال السيد الجليل سهل ابن عبد الله التستري رضي الله عنه : " نظر الأكياس في تفسير الاخلاص فلم يجدوا غير هذا , أن تكون حركته و سكونه في سره و علانيته لله تعالى , لا يمازجه نفس و لا هوى و لا دنيا . قال الشيخ زروق في قواعده , اظهار الالعمل و اخفائه عند تحقق الاخلاص مستو , و قال أيضا , ناقلا عن الامام مالك رضي الله عنه , " اذا صح أصل القصد في العوارض لا تضر كمحبة لرجل يحب أن يرى في طريق المسجد لا في طريق السوق . و كما ورد في الحديث , " الرجل يحب جمال نعله و ثوبه " , الخ . و عن الفضيل , " العمل لأجل الناس شرك , و تركه لأجلهم رياء , و الاخلاص أن يعافيك الله منهما " . قال الشيخ زروق , ففي كلامه أن الرياء يقع بالشرك كالفعل , و تحقيق ذلك ما ذكره تاج الدين بن عطاء الله , نفعنا الله به , آمين , في مفتاح الفلاح , قال : " اعلم أن كل شيء يتصور أن يشوبه شيء , فاذا صفى عن شوبه يسمى خالصا , و سمي الفعل المصفى اخلاصا , فكل من أتى بفعل اختياري خالصا , فلا بد له في ذلك الفعل من غرض , فمتى كان الفعل واحدا يسمى ذلك الفعل اخلاصا . الا أن العادة جرت بتخصيص الاخلاص بتجريد قصد التقرب الى الله تعالى عن جميع الشوائب كما أن الالحاد هو الميل , و خصصه العرف بالميل عن الحق " . اذا علمت ذلك فنقول الباعث عن الفعل اما روحاني فقط , و هو الاخلاص , أو شيطاني فقط و هو الرياء , أو مركب منهما و المركب اما أن يتساوى فيه الطرفان , أو يكون الروحاني أقوى أو النفساني أقوى . القسم الأول أن يكون الباعث روحانيا فقط و لا يتصور الا من من محب في الله تعالى مستغرق الهم به , بحيث لم يبقى لحب الدنيا في قلبه مقر , فحين اذ تكسب جميع أفعاله و حركاته هذه الصفة . فلا يقضي حاجته و لا ينام و لا يحب النوم و لا يحب الأكل و الشرب مثلا , الا لكونه ازالة ضرورة أو تقوية على الطاعة . فمثل هذا لو أكل أو شرب أو قضى حاجته فهو خالص العمل في جميع حركاته و سكناته . القسم الثاني أن يكون الباعث نفسانيا و لا يتصور الا من محب للنفس مستغرق الهم بها بحيث لم يبق لحب الله تعالى في نفسه مقر فاكتسبت جميع أفعاله هذه الصفة , فلا يسلم له شيء من عباداته . و أما الأقسام الثلاثة الباقية , فالذي يستوي فيه الباعثان , قال الامام فخر الدين الرازي , الا ظهر أنهما يتعراضان و يتساقطان , فيصير العمل لا له و لا عليه , و الذي يكون فيه أحد الطرفين أغلب فيحبط منه ما يساوي الطرف الآخر , و تبقى الزيادة موجبة لأثرها اللائق , و هو المراد بقوله تعالى " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره " . و تمام التحقيق فيه أن الأعمال لها تأثيرات في القلوب , فان خلا المؤثر عن العارض خلا الأثر عن الضعف , و ان كان الأثر مقرونا بالعارض فان تساويا تساقطا , و ان كان أحدهما أغلب فلا بد أن يحصل في الزائد مقدار الناقص فيسقط بقدره و الزائد خاليا عن العارض فيؤثر لا محالة أثرا ما , و كما لا يضيع مثقال ذرة من الطعام و الشراب و الدواء عن أثر في الجسد , فكذلك لا يضيع مثقال ذرة من الخير و الشر عن أثر في التقريب من باب الله تعالى و التبعيد منه .

علي العذاري
16-01-2012, 10:19 AM
و اذا جاء ما يقربك شبرا مع ما يبعده , فقد عاد الى ما كان عليه , لا له و لا عليه , و ان كان أحد الفعلين مما يقربه شبرين و الفعل الثاني مما يبعده شبرا واحدا , حصل لا محالة شبر. و احتج من زعم أن المشوب لا ثواب عليه بوجهين : الأول ما روى أبو هريرة رضي الله عنه , أنه عليه الصلاة و السلام قال لمن أشرك في عمله , " خذ أجرك ممن عملت له " , و عنه صلى الله عليه و سلم , قال : " ان الله تعالى يقول أنا أغنى الشركاء عن الشرك , فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركت فيه نصيبي لشريكي " . و أجيب بأن لفظ الشريك محمول على تساوي الداعيين , و قد بينا عند التساوي , فيحبط كل منهما بالآخر . واعلم أن خاطر الشيطان قد يكون في صور العبادات و أنواع الخيرات و حب الكرامات , و هو لا يزال مع الانسان من كل طريق الا من باب الاخلاص , فكن مخلصا و لو كنت في الاخلاص ما ترى نفسك في مقام الاخلاص , انتهى و الله أعلم , و هو عجيب لمن تأمله و عمل به . العاشر : أن يختار من الذكر لفظة لا اله الا الله , مع التعظيم بقوة تامة جهرا , و تصعيد لا اله من فوق السرة من النفس التي بين الجنبين , و ايصال الا الله بالقلب اللحمي الكائن بين عظمتي الصدر و المعدة , مئلا رأسه الى الجانب الأيسر مع حضور القلب المعنوي فيه . قيل و يستحب للداكر أن يحصر النفس على القلب و يجعل هاء الاالله دائرة يطبقها على دائرة القلب , و يكون جانب الاثبات أكثر , قاله الحراني , كدا في الخلاصة و الجوهر الخاص و تحفة السالكين و غيرهم . قوله "العاشر " , أي الأدب العاشر من أدبات الذكر , اختيار لا اله الا الله على غيرها من سائر الأذكار لأفضليتها على غيرها , بقوله عليه السلام : " أفضل ما قلته أنا " ...الخ , كما تقدم , و لاتفاقهم أن لا أنفع للمريد منها , و قد اجتمع فيها ما افترق في غيرها . و للناس مذاهب في اختيار الذكر , و لهذا قال تاج الدين ابن عطاء الله رحمه الله تعالى في مفتاح الفلاح : " فمنهم من اختار لا اله الا الله محمد رسول الله في الابتداء و الانتهاء , و منهم من اختار لا اله الا الله في البتداء و في الانتهاء الاقتصار على الله , و هم الأكثرون , و منهم من اختار سبحان الله و بحمده , و منهم من اختار الله الله , و منهم من اختار هو هو , و احتج من قال بالأول بأن اليمان لا يصح ولا يقبل حتى تكون الشهادة بالرسالة متصلة بالشهادة بالوحدانية . قالوا فان قلت انما ذلك عند الدخول في الايمان , فاذا استقر ايمانه و ثبت , فيفرق بين الذكرين . فالواجب اذا لم يجز له التفريق في البداية , فأولى أن لا يجوز له في النهاية . ألا ترى أن الأذان الذي هو شعار الاسلام لا يصح الا بالتصال الذكر في جميعه على الدوام , فكما أن الأذان لا ينتقل عن حالته التي شرع عليها من الاتصال بين الذكرين , فكذلك لا ينتقل المؤمن الى الحالة التي لا يقبل الايمان فيها الا بعد اتيانه بالاصل , فلا سبيل الى التفريق بين الذكرين الى تمام كلامه , انتهى . قلت و لعل هذا فيمن لا يخيل صورة النبي صلى الله عليه وسلم المقيدة لذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم المستلزمة لثبوت رسالتهه عند قول الذاكر لا اله الا الله , و لهذا اشترط حضور خيال النبيء مع خيال شيخه من أفرد لا اله الا الله عن محمد رسول الله لحصول ما ذكر , و تحصيل الحاصل لا يخفى , و لجواب سيدي يوسف العجمي كما تقدم و لحديث " أمرت لأقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله " , كما تقدم . و كان الأستاذ رحمه الله تعالى و نفعنا به يقول : " يشفع بمحمد رسول الله صلى الله عليه و سلم في الانتهاء لا في الابتداء , و انما يقتصر المبتدء على لا اله الا الله فقط مع تخيل خيال شيخه والنبيء صلى الله عليه و سلم , تخفيفا على المبتدء , و ان محمد رسول الله في جوف لا اله الا الله , و يؤكد على حضور خياله صلى الله عليه و سلم للجميع , أي المبتدء و المنتهي . و يقول , نفعنا الله به , آمين , " لو غاب عني النبيء طرفة عين لم أعدد نفسي من المسلمين " , الخ , و سنزيد بيانا فيما يأتي ان شاء الله تعالى عند المناسبة . فتعين أن تخيل خيال صورته صلى الله عليه و سلم لذاكر لا اله الا الله , يقوم مقام الاقرار برسالته و هو معنى قولنا " محمد رسول الله " صلى الله عليه وسلم لاتفاق أهل الحق على أن الخيال أصل العالم كله , بل كل العوالم بأسرها . قال سيدي عبد الكريم الجيلي , في الانسان الكامل بعد كلام : " اعلم وفقك الله تعالى أن الخيال أصل الوجود و الذات الذي فيه كمال المعبود " ... الى آخر كلامه , من أراد تمامه فلينظره فيه , و الله أعلم . الحادي عشر : احظار معنى الذكر بقلبه مع كل مرة . فبظهور البشرية و الوسواس يقول بلسانه لا اله الا الله , و بقلبه لا معبود الا الله , و بخمودها و صفاء القلب و طلب شيء من المعارف و الشوق و الذوق و غير ذلك , يقول بلسانه لا اله الا الله و بقلبه لا مطلوب الا الله . و بفناء الخواطر كلها يقول بلسانه لا اله الا الله و بقلبه لا موجود الا الله لمشاهدته أنهه به ينطق , كدا في الخلاصة و الجوهر الخاص و غيرهما . قلت , لأن بمراعاة الآداب المذكورة يرجع عن العادات المظلمة للقلب , و يتنور قلبه بأنوارها . فبذلك النور يصح أن يقول لا مطلوب الا الله , فهو ترق لا نزول كما قيلل أنه نزول عن ترق . قال الساحلي : " و منفعة الذكر أبدا في تتبع معناه بالفكر ليقتبس الذاكر من ذكره أنوار المعرفة , و يحصل على المراد , و لا خير في ذكر مع قلب غافل ساهه , و لا مع تضييع شيء من رسوم الشرع , انتهى . تنبيه : قال في مفتاح الفلاح : " قال بعضهم , لا يصح تردد الذكر المرة بعد المرة الا بمعنى غير المعنى الأول . قال , و أدنى درجة الذكر أنه كل ما قال لا اله الا الله , لا يكون في قلبه شيء غير الله الا و نفاه من قلبه , و متى التفت اليه في ذكره فقد أنزله منزلة الا الله من نفسه . قال الله تعالى : " أرأيت من اتخذ الاهه هواهه " . و قال تعالى : " لا تجعل مع الله الها آخر " . و قال تعلى : " ألم أعهد اليكم يا بني آدم " ... , و في الحديث عن النبيء صلى الله عليه و سلم أنه قال : " تعس عبد الدينار , تعس عبد الدرهم " , و ان كان الينار و الدرهم لا يعبدان بركوع و لاسجود , و انما ذلك بالتفات القلب اليهما , فلا تصح منه لا اله الا الله , الا بنفي نفسه و قلبه ما سوى الله تعالى , و من ابتلي قلبه بصور المحسوسات , لو قال ألف مرة لا اله الا الله , قل ما يشعر قلبه بمعناه . و اذا ارتفع القلب عن غير الله تعالى , و لو قال مرة واحدة الله , يجد من اللذة ما لا يستطيع اللسان وصفه . قال الشيخ عبد الرحيم القناوي : " قلت مرة لا اله الا الله ثم لم تعد الي , و كان في تيه بني اسرائيل عبد أسود كلما قال لا اله الا الله ابيض من رأسه الى قدمه " . وتحقيق العبد بلا اله الا الله حالة من أحوال القلب لا يعبر عنها باللسان , و لا يقوم بها الجنان . و لا اله الا الله و ان كانت خالصة من التوجهات فهي مفتاح حقائق القلوب و ترقي السالكين الى عوالم الغيوب و من الناس من اختار موالاة الذكر , بحيث تكون الكلمتان كالكلمة الواحدة لا يقع بينهما تخلل خارجي و لا ذهني كي لا يأخذ الشيطان نصيبه , فانه في مثل هذا الموضع لبالمرصاد , لعلمه بضعف السالك على سلوك هذه الأودية لبعده عن عادته , لا سيما ان كان قريب عهد بالسلوك . و قالوا هذا أسرع فتحا للقلب وتقريبا من الرب . و قال بعضهم تطويل المدمن لا اله الا الله مستحب مندوب اليه , لأن الذاكر في زمن المد يستحضر في ذهنه جميع الأضداد و الأنداد , ثم ينفيها و يعقب ذلك بقولهه الا الله , فهو أقرب الى الاخلاص لأنه يكون الاقرار بالألوهية و هو و ان نفى بلا اله عينه فقد أثبت بالا كونه . و منهم من قال , ترك المد أولى لأنه ربما مات في زمن التلفظ بلا اله قبل أ، يصل الى الا الله . و منهم من قال ان قصد الانتقال من الكفر الى الايمان , فترك المد أولى ليسرع بالانتقال الى الايمان و ان كان مؤمنا كما تقدم , و سيأتي مزيد بيان ان شاء الله تعالى في محله و الله أعلم . الثاني عشر : نفي كل موجود من القلب سوى الله تعالى بلا اله الا الله , ليتمكن تأثير الا الله في القلب و يسري الى الأعضاء , لما قيل ينبغي للرجل اذا قال الله أن يهتز من فوق رأسه الى اصبع قدمه , و هذه الحالة يستدل بها على أنه سالك , فيرجى له التقدم الى أعلى منها ان شاء الله تعالى , كذا في الخلاصة و الجوهر الخاص و غيرهما , و زاد في تحفة السالكين , فان الحق تعالى غيور لا يحب أن يرى في قلب الذاكر له غيره , و لولا أن الشيخ له مدخل عظيم في تأديبه ما ساغ أن يخيل شيخه بين عينيه , و المراد من النفي المذكور ايصال تأثير الا الله الى القلب ليسري ذلك المعنى في سائر الجسد و أنشد :


أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا


انتهى باختصار . ثم قال بعد كلام , و اليحذر الذاكر من اللحن في لا اله الا الله , لأنها من القرآن . فيمد على اللام بقدر الحاجة و يحقق الهمزة المكسورة بعدها , و لا يمد عليها أصلا و يفتح الهاء من اله فتحة خفيفة و لا يفصل بين الهاء و بين الا الله . و اياك أن تتهاون في تحقيق همزة اله , فانك ان لم تحققها قلبت ياء , و كذا همزة الا و تسكن آخر لفظة الجلالة , و سيأتي مزيد تحقيق في كلام المص في النظم ان شاء الله تعالى . قال سيدي يوسف العجمي رحمه الله تعالى : " و ما ذكروه من هذه الآداب للذكر محله في الذاكر الصاحي المختار , و أما المسلوب الاختيار فهو مع ما يرد عليه من الأسرار . فقد يجري على لسانه الله الله , أو هوهو , أو لا لا , أو أه أه , أو عا عا , أو ه ه , أو صوت من غير حرف أو اختباط أو انصراع , أو بكاء و نحو ذلك . فأدبه عند ذلك التسليم للوارد يتصرف فيه كيف يشاء . فاذا انقضى الوارد , فأدبه السكوت من غير تفعل مع السكون ما استطاع متلقيا للوارد . و قد تتفق هذه الأنواع للصادق في مجلس واحد . و هذه الآداب تلزم الذاكر بلسانه , أما
الذاكر بقلبه فلا يلزمه ذلك . تنبيهات : الأول : هل الذكر منفردا أنفع أو جماعة . الجواب , الانفراد أنفع لأصحاب الخلوة و الجماععة أنفع لمن لا خلوة له . الثاني : هل الذكر جهرا أنفع أو سرا . الجواب , الجهر أنفع لمن غلبت عليه القسوة من أهل البداية , و السر أنفع لمن غلبت عليه الجمعية من أهل السلوك . الثالث : هل افراد لا اله الا الله أفضل أو بزيادة محمد رسول اللله صلى الله عليه وسلم . الجواب , افراد لا اله الا الله أفضل للسالكين حتى تحصل لهم الجمعية مع الله تعالى بقلوبهم , فاذا حصلت فذكر محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم معها أفضل . و بيان ذلك أن محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم اقرار يكفي في العمر مرة واحدة , و المقصود من تكرار التوحيد كثرة الجلاء للقلب , قاله ابن المنير في تحفة السالكين , و قد تقدم عن سيدي يوسف العجمي , انتهى و الله أعلم . و أما الثلاثة آداب التي بعد الفراغ من الذكر : الأول , اذا سكت يسكن و يخشع و يحضر مع قلبه مترقبا لوارد الذكر , فلعله يرد عليه وارد فيعمر وجوده في لحظة ما لا تعمره الرياضة و المجاهدة في ثلاثين سنة , قاله الشيخ أبو يعقوب يوسف العجمي , كذا في الخلاصة و الجوهر الخاص , و زاد في تحفة السالكين , و ذلك أنه اذا كان الوارد وارد زهد , فيجب عليه التمهل فيه حتى يتمكن فيه الزهد , و يصير يتنغص اذا فتح عليه بشيء من الدنيا , عكس ما كان عليه أولا . أو وارد تحمل أذى , فيجب عليه التمهل حتى يتمكن و يتحكم و يصير اذا قام عليه الوجود كله بالأذى لا تتحرك منه شعرة , كما لا يتحرك جبل من نفحة ناموسةة . و هكذا بخلاف ما اذا لم يترقب حصول شيء من ذلكك , فانه لا يحصل له بذلك المقام الذي أتى به الوارد . قال تعالى : " انما الصدقات للفقراء و المساكين " .. , فاذا لم يكن عند الذاكر اشتياق و افتقار و طلب شيء لا يعطاه . قال ابن عطاء الله في مفتاح الفلاح : " و آداب الذكر اللاحقة , اذا سكت باختياره يحضر مع قلبه متلقيا لوارد الذكر , و هي الغيبة الحاصلة عقب الذكر , و تسمى النومة أيضا , فاستفيد منه أنها تسمى بثلاثة أسماء , السكتة و الغيبة و النومة . فكما أن الله تعالى أجرىالعادة بارسال الرياح نشرا بين يدي رحمته المطرية , أجرى العادة بارسال رياح الذكر بين رحمته القلبية , الخ . فائدة : قال الغزالي : " و لهذه السكتة ثلاثة آداب : الأول , أن يستحصر العبد أن الله تعالى مطلع عليه و هو بين يديه . الثاني , أن يجمع حواسه بحيث لم يتحرك منه شعرة واحدة , كحال الهرة عند اصطياد الفأرة . الثالث , أن ينفي الخواطر كلها و يجري معنى الله الله على قلبه , و هذه الآداب لا تتم المراقبة للذاكر الا بها . الثاني من الثلاثة التي بعد الذكر , هو أن يزم نفسه مرارا , لأنه أسرع لتنوير البصيرة و كشف الحجب و قطع خواطر النفس و الشيطان , لأنه اذا زم نفسه و عطل حواسه صار يشبه الميت و الشيطان لا يقصد الميت , كذا في الخلاصة و الجوهر الخاص و غيرهما , و زاد في تحفة السالكين , أن يزم نفسه مرارا من ثلاثة أنفاس الى خمسة أو سبعة أو الى أكثر , بحسب قوة عزمه , و هذا كالمجمع عليه , بل على وجوبه , حتى يدور الوارد في جميع عوالمه فتتنور بصيرته , و تنقطع عنه خواطر النفس و الشيطان و تنكشف له الحجب , انتهى و الله أعلم. الأدب الثالث , من الثلاثة التي بعد الفراغ , منع شرب الماء لأن الذكر يورث حرقة و شوقا و هيجانا الى المذكور و هو المطلوب من الذكر , و شرب الماء بعد الذكر يطفأ ذلك , و قد نهي عنه من جهة الطب أيضا , فان فيه هز الأعضاء و اتعابها , فربما يورث الاستسقاء , فليحرص الذاكر على هذه الآداب الثلاثة , فان نتيجة الذكر انما تظهر بها و الله أعلم , كذا في الخلاصة و الجوهر الخاص . قلت هذه عشرون أدبا , و سماها الساحلي شروط , و زاد في السر المصون و بلغها الى خمسة و عشرين , و زاد عليها في الأسلوب الغريب في التعلق بالحبيب الى اثنين و ثلاثين . و قال أبو عبد الله البجاءي صاحب الكتابين المذكورين , و لولا خشية الاطالة لبلغتها الأربعين , و كلها ملتقطة من متفرق كلامهم , و أنا أذكر منها طرفا على سبيل الاختصار تتميما للفائدة ان شاء الله تعالى . فأقول مما زاد على العشرين الأول أن يكونوا كيف يعرف بعضهم بعضا في الصدق لأن الصاحب هو الذي يزيدك نصرا و أنت لا تشعر , و انما يصح ذلك ممن يريد مثل ما تريد , و الا فهو ضد لك فهو عليك لا لك . و اذا حضر المجلس غير صادق تنكر الوارد , بل لا يرد و ينكر المجلس منه . و من المجربات أنه اذا حضر معترض عليهم و لو بقلبه و لم يعلمه أحد من المريدين , فان قلوبهم لا تجتمع عليهم و هذا مجرب صحيح مختبر , انتهى باختصار . الثاني , غلق الباب , فان ذلك من تمام جمع الهمة , و عادة الفقراء قديما أذا ارادوا الذكر , غلقوا الباب و اذا حضر السماط فتحوه . قلت , و استنادهم في ذلك بحديث شداد بن أوس المتقدم ذكره , و هو قوله صلى الله عليه و سلم " هل فيكم غريب , قالوا لا " , فأمر بغلق الباب .... الحديث , و الله أعلم . الثالث , لا يخرج أحد منهم في حال الذكر و لا يدخل لوجهين : الأول , أن ذلك مما يشوش عليهم في تلقي الوارد , بل حتى الذكر و الوارد صيد عزيز . و الثاني , قالوا يخاف على فاعل ذلك أن يختطفه الحاضرون من الملائكة و الجن , لأنه يؤذيهم ذلك كما يأذي الذاكرين من الانس . قال البجاءي سمعت شيخنا أبا عثمان يقول : " من شغل مشغولا به مكر به " , يعني به الصفراوي صاحب كدية عاتي بقسنطينة الغرب . الرابع , اقطاع مادة التشويش جملة و لو من قعقعة ثوب لبسه أو يلبسه , أو شرب ماء , أو فتح أحد عينيه و ينظر , أو التزحزح من مكان الى مكان و الحركة البينة و لو في مجلسه , كالحركة باليد و العبث باللحية و التنحنح و السعال و التنخم , فان ذلك مشوش , فيجب تركه بحسب الامكان .
الخامس , أن يستمع بعضهم من بعض في الذكر , فان الشيخ فبغناته ينطقون , و ان لم يكنفبغنة أحدهم , بل أحسنهم صوتا , و يحتفظون على ذلك جدا حتى يكون صوتهم كأنه من لهاة واحدة ينطقون , فان ذلك له أثر في القلوب .
قال ابن عبد السلام : " تزيين الصوت من السنة " . قلت و لعل استناده ما رواه الحاكم في مستدركه من حديث البرا , قال : " قال صلى الله عليه و سلم , زينوا القرآن بأصواتكم فان الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا " , انتهى . و لا اله الا الله قرآن , و الله أعلم . السادس , أن يكونوا على قلب واحد في الصفاء فيما بينهم . قلت لا شك فيه وقد جرب , و باختلاف القلوب يحدث اختلاف الأصوات , و باختلافها ينعدم تساوي الكيفية , فيرتفع الوارد و يثقل مجلس الذكر والله أعلم . قال عليه الصلاة و السلام : " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم " , رواه البخاري . السابع , أن يعتقد كل واحد منهم أن كل واحد من أصحابه أحسن منه , فاذا توقف عليه الوارد , فربما توسل بمن في الجمع أو بجميعهم بقلبه , فيفتح عليه بوارد حسن . قلت , و قد أجمعوا أن من اعتقد أنه خير من جليسه , فقد لعنه الوجود كله , و من اعتقد أنه مثل جليسه , فقد وقف مدده , و من اعتقد أنه أدنى من جليسه أمده الوجود كله , انتهى و الله أعلم . الثامن , أن لا ينفصلوا الا على الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم . فقد ورد " ما اجتمع قوم في مجلس و لم يصلوا على النبيء صلى الله عليه و سلم , الا تفرقوا على أنتن من الجيفة " , انتهى و الله أعلم .
التاسع , أن يكون لباسه و قوته من الحلال . ففي الحلال صفاء القلب و نور عظيم , و ان تعذر فالقوت . قال عليه السلام : " لو كانت الدنيا دما عبيطا لكان قوت المؤمن منها حلالا " . و قال تعالى : " و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا " , و القوت ليس باسراف . قال سهل بن عبد الله في قوله تعالى " كلوا من طيبات ما رزقناكم
و لا تطغوا فيه " ...الآية . أي كلوا منها القوام و ما سد الرمق فانه الطيب من الرزق , و لا تطغوا فيه , أي لا تشبعوا فتكسلوا عن ذكر الله . العاشر , أن لا يكون الذاكر شبعان لأنه اذا شبع سكر عن ذكر الله تعالى . ألم تسمع قول سهل ابن عبد الله في تفسير الآية آنفا و منه و من أمثاله أخذنا هذا الشرط , و قالوا لا تأكلوا كثيرا فتشربوا كثيرا فترقدوا كثيرا فتخسروا كثيرا . و قالوا البطنة تذهب الفطنة . قال الساحلي رحمه الله تعالى : " و من الشروط خلو البطن من الطعام عند التوجه للذكر , لأن البطنة تذهب الفطنة , انتهى و الله أعلم . الحادي عشر التماس خلوة لايقاع الذكر . قال الساحلي : " فان الخلوات مفتاح تدبير المعاني , انتهى . قال البجاءي في الأسلوب الغريب : " سمعت شيخنا من أهل القرن الثامن , و هو شيخ الفقراء ببلدنا بجاية يقول , " نحن صيادة و شبكتنا الذكر " , يشير الى أن الذكر اذا لم يكن في خلوة , يحضره العوام و كثير من يجذبه الذكر فيرجع فقيرا , و هذا صحيح ان قصد هذا الوجه و لم يقصد الوارد , و الله أعلم . المراد به لا يعدل عن المكان الخالي لايقاعع الذكر عند امكانه الا اذا أراد الصيادة المذكورة , و هو عجيب في تصحيح النية , فجزاهم الله عنا خيرا كثيرا . قال ابن سبعين : " و مجالس الذكر رحمة للخلق , و هو ميدان منه يخرج كل شائق . قال عليه الصلاة و السلام : " اذا مررتم برياض الجنة فارتعوا " , " قالوا يا رسول الله و ما رياض الجنة " , قال " حلق الذكر " , أخرجه البيهقي عن أنس ابن مالك رضي الله عنه . الثاني عشر , اتخاذ السبحة . قال الساحلي : " يحصر بها عدد لزمه ليسلم بذلك من شغب حصور الآحاد و العشرات و المئات و الآلاف , و لأن ذلك من عادة السلف الصالح و أهل الأوراد , و لأن هذا الشرط لمجرد الذكر من حيث هو ذكر لا لذكر لا اله الا الله " . قلت , و قد قال الشيخ السنوسي في نصرة الفقير في الرد على أبي الحسن الصغير , " و أما السبحة فقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم أقر أصحابه على التسبيح في نواء التمر و كانوا يفعلون ذلك , و كان أبو هريرة رضي الله عنه , ربط في خيط خمسمائة عقدة و سبح فيها بين يديه صلى الله عليه و سلم , و أقره على ذلك , و استعملها العلماء العاملون و لم أر فيها تعارضا لأهل العلم و الحمد لله رب العالمين" , انتهى كلامه و هو عجيب لمن أنكرها كأبي الحسن المذكور, سامحه الله تعالى , و الله أعلم . الثالث عشر , أن يكون بني على تقوى من الله تعالى و رضوان , فافهم . قال تعالى : " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه " . قال ابن سبعين : " فان وجدت المجلس كما ذكر و الا جعلت مجلسك حيث ما كنت , و كن في الدنيا كأنك غريب " . قلت, قال سيدي أبو الحسن الشاذلي , نفعنا الله به , آمين : " أوصاني خليلي فقال لا تنقل قدميك الا حيث ترجو ثواب الله , و لا تجلس الا حيث تأمن غالباا من معصية الله و لا تصطفي لنفسك الا من تزداد به يقينا و قليل ما هم " . و قد حذر سيدي البكري نفعنا الله به آمين في الوصية الجلية للسالكين طريق السادة الخلوتية عن مجالس النسوان و المرد الشبان الذي تميل اليهم النفوس و معاشرتهم , و أوصى و أكد بالفرار من هاؤلاء و مجالسهم , أي مجالس الذكر الذين يجتمعون فيها مع من قل فيه التقوى , و قال بعد كلام , و كان الواسطي رضي الله تعالى عنه يقول : " اذا أراد الله تعالى هوان عبد ألقاه الى هاؤلاء الأنتان و الجيف , يريد به الشبان المرد الذين تميل اليهم النفس . فاليحذر المريد الصادق عن مجالسة المرد اللهم الا في حلقة الذكر أو الدرس بحضرة الشيخ مع غض البصر عنهم ما أمكن , و كذلك النساء و مواخاتهن و الاجتماع بهن , و أما حضور هلؤلاء للوعظ و التعليم و الذكر مع ذوي التقوى جائز , انتهى باختصار و الله أعلم . الرابع عشر , أن يكون الحاضرون محتضرين متمسكين تنطق خواطرهم بالعبودية موافقة لألسنتهم , كما تنطق بأوصاف الربوبية . قال ابن سبعين : " فانه ما جلس أحد مع قوم الا و أخذ من حالهم " . و تقدم نحوه للغزالي , أنه تسري حالة المجالس في مجالسهم و هو لا يشعر . و قد ورد أن مجلس الذكر ان كان فيه واحد مغفور له , غفر للجميع من أجله , انتهى و الله أعلم الخامس عشر , أن يكونوا مقهورين لأحكام الشيخ , فلا يتحرك أحد و لا يخرج و لا يدخل الا باذن الشيخ , و هذا هو السر في جميع ما تقدم و به يتم المجلس و الا كان جميع ما تقدم لا يتم و لا يكون مهابة للمجلس أصلا . قلت , و هذه خمسة عشر أدبا الى العشرين المتقدم ذكرها , فهي خمسة و ثلاثون أدبا . قال في الأسلوب الغريب في التعلق بالحبيب : " و ما وقفت قط على من بلغ آداب الدكر هذا العدد الذي فتح الله به علينا " , انتهى . قلت , غاية ما ذكر أصحاب السير و الأذكار عشرون أدبا , و بلغها في عنوان السر المصون الى خمسة و عشرين , و في الأسلوب الغريب الى اثنين و ثلاثين , و هذه من خصائص هذا الكتاب , و الله يلهمنا الى سبيل الصواب بمنه . قال في الأسلوب الغريب , " و في ملازمة هذه الآداب عمل بالأحاديث الأربعة " , يعني التي عليها مدار مذهب الصوفية . الأول , قوله صلى الله عليه وسلم : " انما الأعمال بالنيات و انما لكل امرىء ما نوى " . الحديث الثاني : " من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه " . الثالث : " أن تعبد الله كأنك تراه ..ز" الخ . الرابع : " ان لم تبكوا فتباكوا ..." الخ . و لا يستصعب أحد العمل بالأحاديث الأربعة , فان الله أقدر العبد على ذلك , و نبهنا صلى الله عليه و سلم بقوله : " موتوا قبل أن تموتوا " . قال بعض العارفين , يعني عن هذه الحياة الفانية و الأوصاف البشرية و اللذات الجثمانية و الارادات النفسانية , و تحيى بالفناء الكلي و تبقى بالبقاء السرمدي . و لما رأى ضعفنا , عليه السلام , قال : " اذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " . فاذا يحاكي الانسان الميت ما استطاع , و ظاهر صفة الميت أنه لا يرى و لا يتكلم و لا يتحرك , و لا يعجز أحد أن يغمض عينيه و يسكن قدر ثلاثة أنفاس , أو قدر استطاعته و قلبه في ذلك مع الله تعالى , فاذا فعل ذلك فقد مات , وأتى باستطاعته في ظاهره , فاذا فعل ذلك عند جلوسه للذكر قبل النطق به , فقد مات . فاذا أضاف الى موته و قطع صوته الله الله بالقلب دون اللسان , فقد شارك الخاص بالقدم . و ان جعل ذلك مرجعه في كل ما وجد فراغه , فقد صار من السالكين الخاصين . فعلى قدر أنسه بالله الله و استيحاشه من الخلق , يكون من خاص الخاص . و على قدر ثباته فيه يكون من الفائزين الذين لا خوف عليهم و لا يحزنون . و مع ذلك فلا يجوز أن يأمن مكر الله تعالى طرفة عين , و هذه الآداب انما تصعب مع الابتداء , أما مع المواضبة في النهاية فتسهل ان شاء الله تعالى , و هي لازمة ما دام الذاكر ضابطا نفسه , انتهى . و أما ان ورد الوارد , فالحكم أن يسلم نفسه لوارده يصنع فيه ما يشاء , فانهه ان سلبه الاختيار لا حرج عليه ما دام مسلوب الاختيار يستعمله كيف شاء . فانه على أنواع مختلفة كلها محمودة و صاحبها مشكور عليها , فانه أسرار و أذكار كلما يجري على لسانه كما تقدم و الله أعلم . انتهى منه باختصار .

علي العذاري
16-01-2012, 10:20 AM
الفصل الرابع المتضمن للسؤال الرابع عن اعرابها , و هو سؤال السائل المتقدم ذكره في النظم . قلت و قد غفل السائل عن بنائها , فان الكلمة المشرفة محتوية على بناء و اعراب . فان اله مبني مع لا على المشهور , و الا الله معرب بلا . خلاف , فليست منحصرة في الاعراب فقط و يمكن أن يجاب عليه . أما في النظم فظاهر لاحتمال تضمنه ذلك لضيق النظم , و أما في النثر , أي في سؤال السائل الذي كان النظم لأجله , فهو محتمل أن يكون على حذف معطوف , أي وما اعرابها و بنائها . قال الشيخ عيسى السكتاني , عند قول السنوسي في الفصول السبعة : " الفصل الثاني في اعرابها و لفظه المراد اعرابها و بنائها . أطلق الاعراب عليها تغليبا , و يحتمل أن يكون على حذف العاطف و المعطوف . و يحتمل أن يكون على ما اصطلح عليه من أن الكلام في الاسم من حيث ذاته تصريف , ومن حيث اجتماعه مع غيره اعراب , و ان كانت الكلمة مبنية فهو في مقابلة التصريف , و هذا أحسن , قاله الشيخ يحيى الشاوي رحمه الله تعالى . قوله في النظم اعرابها , أي ما اعراب لا اله الا الله . الجواب , قال في الجوهر الخاص : " لا نافية , و اله مبني معها على الفتح لتضمنه معنى من , اذ التقدير لا من اله , و لهذا كانت نصا في العموم , أي من , لأن من معاني من التنصيص على العموم , كما قاله ابن السبكي في جمع الجوامع , و معناه كما قال العراقي هي الداخلة على نكرة لا تختص بالنفي نحو ما جائني من رجل , فانه قبل دخولها محتمل نفي الوحدة . و لهذا يصح معه بل رجلان , فاذادخلت من تعينت لنفي الجنس . أما الداخلة على نكرة تختص بالنفي نحو ما جائني من أحد , فهي للتأكيد . قال كأنه نفي كل اله غيره عز و جل من مبتدا ما يقدر منها الى ما لا نهاية له . قال الشيخ عيسى السكتاني : " أقول , هذا التقدير يؤذن بأن معنى من التي لابتداء الغاية , ملحوظ في من هذه المقدرة , و ان كانت زائدة باعتبار عمل العامل فانظر هل ثم مساعد للمصنف " . و قال السنوسي : " و قيل بني الاسم معها للتركيب , كخمسة عشر " . و ذهب الزجاجي الى أن اسم لا معرب منصوب بها و حذف تنوينه تخفيفا , و اذا فرعنا على المشهور من البناء , فموضع الاسم نصب بلا العاملة عمل ان , و المجموع من لا اله في موضع رفع بالابتداء و الخبر المقدر بنحو موجود , أو مقصود , أو معبود , هو لهذا المبتدا , و لم تعمل فيه لا عند سيبويه , بل هو مرفوع بما كان مرفوعا به قبل , أعني بالمبتدا الذي هو لا و مدخولها . قلت , و لسيبويه في الاسم مذهبان , أحدهما لا عمل للا و هو المشهور من قوليه , و حجته بما يطول ذكره . و الثاني أنها تعمل في الاسم و لا عمل لها في الخبر كما سبق . و قال الأخفش : " لا هي العاملة فيه أي في الخبر المقدر , و عملها في الاسم كسيبويه . فتلخص في اسم لا الذي هو اله قولان , الاعراب والبناء . وعلى المشهور من البناء قولان , هل بني للتركيب أو لتضمنه معنى من كما تقدم . قلت و التركيب الذي يوجب البناء اما مزجي كسيبويه , و اما على نية العاطف كخمسة عشر , و هو الذي ذكره الشيخ السنوسي , و حجة ذلك في المطولات و ضعفا معا . و هو قولان أيضا , و ان عددت اسما و خبرا لها خرجت لك أربعة أقوال . قيل عاملة في الاسم و الخبر و اسمها معرب و هو للزجاج . و قيل في الاسم و الخبر و اسمها مبني و هو للأخفش . و قيل عاملة في الاسم دون الخبر و هو أحد قولي سيبويه . و قيل لا عمل لها في الاسم و لا في الخبر و هو قوله الآخر و و الاسم عليها مبني . و الا , اما حرف استثناء و اما بمعنى غير , الاسم المعظم بعده مرفوع , و هو الأكثر و لم يأت في القرآن غيره . و رفعه اما على الخبرية أو البدلية و هذا هو المشهور الجاري على السنة المعربين , و هو رأي ابن مالك . فانه لما تكلم على حذف خبر لا العاملة عمل ان , قال : " و أكثر ما يحذفونه الحجازيون مع الا , نحو لا اله الا الله , و هذا يتعين أن يكون رفعه على البدلية لا على الاخبرية . ثم الأقرب أن يكون البدل من الضمير المستتر في الخبر المقدر المتقدم ذكره , و يجوز أيضا نصبه على وجه . قيل مرجوح و هو على الاستثناء من الضمير في الخبر المقدر و العامل فيه النصب . خلاف فيه . قيل الا و قيل العامل فيما قبلها , الخ , ما ذكر من الأقوال الثمانية , و عندهم أن البدلية في باب النفي أرجح من النصب , للمشاكلة نحو ما قام أحد الا زيد بالرفع , الخ . واستشكل الاستثناء من وجوه مذكورة في المطولات , أو على أنه صفة اذا كان الا بمعنى غير , أي صفة للفظ اسم لا , اعرابا و بناء لأن حركة البناء الطارء يصح اتباعها لشبه ما قارنته بمعمول عامل اعراب كلا هنا و يا في النداء . ولا يصح الاتباع في الضمير في موجود , لأن الضمير لا ينعت . و قوله اذا كان الا بمعنى غير , يعني يعطي ما تيتحقه من الاعراب لما بعدها لأنها حرف لا تحتمل اعرابا و هي نعت على نحو البدل و العطف , الا في وجه الضمير في موجود , فانه لا يأتي هنا لأن الضمير لا ينعت كما تقدم قبله و وجه ضعفه معلوم في المطولات . قال في الجوهر الخاص , و قال بعض المعربين لها , أن رفع الا الله على البدل من اسم لا على المحل , لأن البدل اذا تعذر على اللفظ أبدل على الموضع و الخبر محذوف , لأن ما بعد الاستثناء يجب أن يكون ما قبله كلاما تاما , فلا بد من تقدير خبر أي لا اله موجود الا الله . قال , و ذكر في الكتاب أن أصل هذا التركيب الله اله , قدم الخبر لبطلان زعم المنكر فقيل اله الله , ثم أدخل حرف النفي في أولها و الا في وسطها للحصر , فصار لا اله الا الله , فحينئذ الله مبتدأ و اله خبره , و وفي المكمل لا اله خبر و الا الله مبتدأ , كقولك لا منطلق الا زيد . و قال الجاجي يجوزان , تنصب الا الله على الأصل في الاستثناء , ثم اعلم أن لفظة اله نكرة لأنه وضع لشيء لا بعينه , و أما لفظة الله فهو علم لأنه دال على شيء بعينه غير متناول غيره . و قال الكواشي في تفسير الله لا اله الا هو , أن محل الا هو بدل من محل لا اله الذي هو مبتدأ في محل رفع . و قال في قوله تعالى , " و هو الذي في السماء اله و في الأرض اله " , أي معبود , و قرىء " و هو الذي في السماء الله و في الأرض الله " , لأن معنى الله المعبود , انتهى كلامه و الله أعلم . تلخص من ك لامه في اعراب الا الله خمسة وجوه . ثلاثة في الرفع , و اثنان في النصب . أما الرفع فعلى الخبر و على البدل و على الابتداء . و أما النصب فعلى الاستثناء و على أنه صفة اسم لا كما تقدم , و الا بمعنى غير . و قد ذكر الشيخ السنوسي و غيره سبعة وجوه , خمسة في الرفع و واثنان في النصب . الخمسة المتقدمة و زاد وجهين في الرفع . أحدهما أن الا الله معطوف , و الا عاطفة و لا يضر عدم التشريك في المعنى , اذ هي في هذا كبل و لكن تتبع ما قبلها لفظا فحسب , و هذا مذهب الكوفيين . و ضعف كما ذلك في المطولات , و الآخر الله نائب فاعل اله , و اله بمعنى مألوه فهو كمضروب في نحو لا مضروبا الا عبده , فيكون نائب فاعل أغنى عن الخبر , و المسوغ النفي و ضعف بما يطول ذكره . و معنى مألوه معبود من اله اذا عبد , و قد نظم بعضهم أقوالا للرفع و النصب في بيتين فقال :
مبتدأ و خبر و بدل عطف و نعت ثابت لا يجهل
في الله رفعا و انتصابا جعلا ثنيا و نعتا هكذا قد حصلا
فائدة : قيل الكلمة المشرفة انشائية , و قيل خبرية , و الكل محتمل كما ذكره ابن عرفة و حكاه الرصاع في الآيات البينات له . فائدة : قال في السر المصون تنبيه كلمة لا اله الا الله , الاستثناء فيها لا يقال فيه متصلل أو منفصل . قلت , و عليه فالمنفي بها كل اله غيره تعالى , من مبدا ما يقدر منها الى ما لا نهاية له مما يقدر, أي ما تقدر ألوهيته , و يزعم مدعيها أنها حق , فيشمل اللأصنام و الشمس و الكواكب و ما لم نعلم مما ادعي , اذ الكل ألوهيته تقديرا حتى لو قدر المثل و النظير و هو نهاية و غاية ما ينفى . فلو كان الاستثناء متصلا لامتنع نفي أحد الطرفين . اما أن تقول المنفي بها جنس الاله , أي واجب الوجود لو قدر فيخرج عنك مطلق المعبود , و الكلمة نزلت في الرد على مطلق المعبود غير الله تعالى باجماع أهل التحقيق . أو منفصلا فيخرج المثل و النظير , فصح لا متصل و لا منفصل و الله أعلم . (تنبيه) ذكر في مفتاح الفلاح مباحث تتعلق بكلمة لا اله الا الله أردت ذكرها على سبيل الاختصار تتميما للفائدة . البحث الأول : قال النحات , اذا دخلت لا على نكرة تكون للنفي العام . فاذا قلت لا رجل في الدار نفيت القليل من الرجال و الكثير , و لهذا لا يصح أن تقول بعد ذلك بل رجل أو رجلان . البحث الثاني : قالت جماعة النحاة أن كلمة لا اله الا الله فيها حذف و اضمار و التقدير لا اله لنا , أو لا اله في الوجود الا الله , و فيه نظر لأنه لو كان التقدير هذا في لا اله لنا الا الله لم تكن لا اله الا الله مفيدة للتوحيد الحق , اذ يحتمل أن يقال هب أنه لا اله لنا الا الله , فلم قلتم أنه لا اله لجميع المحدثات و الممكنات الا الله تعالى , و الهكم اله واحد , و قال بعده لا اله الا هو الرحمان الرحيم و تمامه فيه . البحث الثالث : قولنا الله من لا اله الا الله ارتفع لأنه بدل من موضع لا مع اسمها , لأنك اذا قلت ما جائني رجل الا زيد , فقولك الا زيد مرفوع بالبدلية , لأن الابدال هو الاعراض عن الأول و الأخذ بالثاني , فصار التقدير ما جائني الا زيد , و هذا معقول لأنه يفيد نفي المجيء عن الكل الا عن زيد . و قولك جائني القوم الا زيد , البدلية فيه غير ممكنة لأن التقدير حينئذ جائني الا زيد , فيقتضي أنه جاء كل أحد الا زيدا و هذا محال . البحث الرابع : اتفق النحاة على أن محل الا في هذه الكلمة محل غير , فالتقدير لا اله غير الله . قال الشاعر :
و كل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك الا الفرقدان
المعنى , كل أخ مفارق الا الفرقدان , فانه لا يفارقه أخوه . قال تعالى : " لو كان فيهما آلهة الا الله " , التقدير , لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا , أو حملنا الا الله على الاستثناء لم يكن في لا اله الا الله توحيد محض , لأنه يصير التقدير لا اله , يستثنى منهم الله فنكون نفينا الآلهة و استثنينا منهم الله , بل عند من يقول بدليل الخطاب اثباتا لذلك , و هو كفر . فثبت أنه لو كانت كلمة الا محمولة على الاستثناء , لم يكن قولنا لا اله الا الله توحيدا محضا . و قد أجمعت العقلاء على أنه يفيد التوحيد المحض , فوجب حمل الا على معنى غير , حتى يكون معنى الكلام لا اله غير الله . البحث الخامس : قالت جماعة من الأصوليين , الاستثناء من النفي لا يكون اثباتا . و احتجوا بأن الاستثناء من قولك نفيت الشيء عن جهته , اذا صرفته عنها و اذا قلت لا عالم , ففيه الحكم بهذا العدم نفس هذا العدم . ثم اذا قلت عقبه الا زيد , فهذا الاستثناء يحتمل أن يكون الى الحكم , و عند زوال الحكم يبقى المستثنى مسكوتا عنه غير محكوم عليه , لا بالنفي و لا بالاثبات . فلا يلزم الثبوت . أما ان كان تأثير الاستثناء في صرف العدم و منعه , فيلزم تحقيق الثبوت , لأنه لما ارتفع العدم وجب حصول الوجود ضرورة . اذ لا واسطة بين النقيضين اذا ثبت ذلك , فعود الاستثناء بالحكم الى العدم الى من عوده الى نفس العدم , لأن الألفاظ و ضعت دالة على الأحكام الذهنية لا الموجودات الخارجية , فصرف ذلك الاستثناء الى الحكم بالعدم أواى من صرفه الى نفس ذلك العدم و تمامه فيه . البحث السادس : في بيان الاستثناء من النفي ليس باثبات , و قد جاء في الحديث و في العرف صور كثيرة في الاستثناء من النفي مع أنه لا يقتضي الثبوت , كقوله صلى الله عليه و سلم : " لا نكاح الا بولي " , و قوله صلى الله عليه و سلم : " لا صلاة الا بطهور " . و يقال في العرف " لا عز الا بالمال و لا مال الا بالرجال " . و المراد بالكل الاشتراط و ان ورد في صور أخرى , فالمراد بالاستثناء من النفي اثبات . فتقول لا بد أن يكون مجازا في أحد القسمين , فانظر تمامه فيه . البحث السابع : يجوز أن يقال لا رجل في الدار , و لا رجل الا في الدار . أما الأول , فانه يوجب نفي الرجال بالكلية , فان لا دخلت على النكرة فأفادت النفي العام . فلا يصح بعد ذلك أن تقول بل رجل أو رجلان . و انه نفي للماهية , و نفي الماهية يقتضي نفي جميع أفرادها . و أما قولنا لا رجل الا في الدار , يفيد ثبوت رجل واحد , فاذا قولنا لا رجل في الدار أقوى في الدلالة على عموم النفي من قولنا لا رجل في الدار , مع أن كل واحد منهما يفيد عموم النفي . و لما كان البناء على الفتح أقوى في الدلالة على العموم , اتفقوا عليه في قول لا اله الا الله . البحث الثامن : قيل تصور الاثبات مقدم على تصور النفي , لامكان تصور الثبات و ان لم يخطر معنى النفي و العدم على البال . و يمتنع تصور الاثبات لأن العدم غير معقول الا بالاضافة الى أمر معين . و اذا كان تصور الاثبات مقدما على تصور النفي , فلم جعل الذي هو الفرع مقدما , و أجيب عليه بأمور مذكورة في الأصل . البحث التاسع : لقائل أن يقول من عرف أن للعالم صانعا قادرا عالما موصوفا بصفات الألوهية الثابتة و السلبية , عرف الله تعلى معرفة تامة . فعدم الاله الثاني لا يزيده علما بحقيقة الاله و صفاته , لأن عدم الالهالثاني ليس عبارة عن وجود الاله الأول و لا صفة من صفاته , و العلم بذات الله تعالى و صفاته لا يكفي في تحقيق النجاة , بل ما لا يعلم عدم الاله الثاني , فلا يحصل العلم المعتبر في النجاة . فان قلت لم كانت معرفة ذات الله تعالى و صفاته غير كافية في تحقيق النجاة , و كان العلم بعدم الاله الثاني معتبرا في تحقيق النجاة . فالجواب مذكور في الأصل , و تلخيصه أن معرفة الذات و الصفات المتقدم ذكرها لا يلزم من معرفتها معرفة الوحدانية بخلاف معرفة عدم الشريك , والله أعلم . البحث العاشر : في قوله هذه الكلمة على أحوال أدناها التلفظ بها , فتحقن دم قائلها و تحرز ماله . قال عليه السلام : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله , فاذا قالوها عصموا مني دمائهم و أموالهم الا بحقها و حسابهم على الله " . و يشترك المخلصون و المنافقون , فكل من تعلق بهذه الكلمة نال من بركتها و أحرز حضا من فوائدها . فمن طلب بها الدنيا نال الأمن فيها و السلامة , ومن طلب الآخرة فقد جمع بينه و بين الحظين و حاز السعادة في الدارين , و ليس بينها و بين الاقرار باللسان سوى درجة واحدة . و الحال الثاني أن يضم القول الى الاعتقاد بالقلب على سبيل التقليد . فالمقلد ليس بعالم و لا عارف , بل اختلفوا أن يكون مسلما ام لا . و للاعتقاد بالقلب درجات بحسب قوة الاعتقاد و ضعفه , و كثرة الاعتقاد و قلته . و الحال الثالث أن يثبت اعتقاده بالبراهين القطعية , كأصحاب البراهين الى عوام الخلق . و اعلم أن علوم الكاشفات ليس لها نهاية لأنها عبارة عن سفر العقل في مقام الجلال و الجمال و العظمة و الكبرياء و القدس . تنبيه : من انكشف له أسرار لا اله الا الله , أقبل على الله تعالى و أخلص عبادته اليه و لم يلتفت الى أحد سواه . فلا يرجو و لا يخاف غيره سواه , و لا يرى الضر و لا النفع الا منه و ترك من سواه , و تبرأ من الشرك الباطن و الظاهر , انتهى و الله أعلم . قوله تلاوة , أي و ما تلاوتها . الفصل الخامس : المتضمن للسؤال الخامس في تلاوة الكلمة المشرفة . قال في القاموس , تلوته كدعوته و رميته , تلوا كسموا , تبعته و تركته ضد . و القرآن و الكلام تلوته تلاوة ككتابة قرأته , و عبر عنها , أي التلاوة , الشيخ السنوسي بالضبط فقال : " الفصل الأول في ضبط هذه الكلمة و هو لغة الحفظ بحزم , و اصطلاحا تصحيح لفظ يتعلق بأوائل الكلم و أواسطها , بخلاف الاعراب فانه يتعلق بأواخر الكلم " . قلت , و من هذا يرد على السائل تقديم غيرها عليها من المعنى و الشرط و الأدب و الاعراب لتوقف الكل على الضبط الذي عبر عنه بالتلاوة , و هو كما قال في الجوهر الخاص . قال النووي رحمه الله تعالى في الأذكار , الصحيح المختار استحباب مد الذاكر كلمة لا اله الا الله ليتدبر معنى الذكر , اذ المقصود منه ذلك مع حضور القلب , و تقدم الكلام عليه . و قال الأستاذ العارف بالله تعالى سهل بن عبد الله : " اذا قلت لا اله الا الله مد الكلمة و انظر الى قدم الحق , فأثبته و انف ما سواه " . و يأيد هذا ما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم , أنه قال : " من قال لا اله الا الله و مدها بالتعظيم , غفر الله له أربعة آلاف ذنب " , الحديث . و قال بعض الصوفية لا بأس أن لا يطيل الذاكر المد على حرف النفي جدا , خشية أن تدركه المنية في النفي دون الاثبات , و لهذا اختار بعضهم قصر الكلمة دون مدها لما ذكر . و ينبغي أن تحقق الهمزة من اله , لئلا تصير ياء , و كذا يفصح بالهمزة من الا و يشدد اللام بعدها , اذ كثيرا ما يلحن بعضهم فيرد الهمزة أيضا ياء و يخفف اللام . و أما لفظ الله فلا يخلو اما أن يقف عليها الذاكر أم لا . فان وقف عليها تعين السكون , و ان وصلها بشيء آخر , بأن يقول لا اله الا الله وحده لا شريك له , فله فيها وجهان : الرفع وهو الأرجح , و النصب و هو المرجوح , انتهى كلامه . قلت , و من قوله و ينبغي الخ , كلام الشيخ السنوسي في شرح عقيدته الصغرى في الفصل الأول من الفصول السبعة في ضبطها ليت شعري من الناقل عن الآخر , و الله أعلم .

علي العذاري
16-01-2012, 10:21 AM
قال السكتاني : " و قد رأيت في بعض المقيدات أن في مد لا ثلاثة أقوال : الأول المد لأنه المطلوب , لما روي كما تقدم . الثاني عدم المد لئلا يموت قبل الاستكمال . الثالث ان كافرا قصر و الا مد . قال , و يحتمل أن يكون مبنى هذا الخلاف على اشتراط النطق و عدمه في الايمان . قال و سكت عن تفخيم اللام من الجلالة و عن عدم مد ألفها جدا لسكون الوقف , انتهى " . و قال تاج الدين ابن عطاء الله في مفتاح الفلاح : " و من الناس من اختار موالاة الذكر بحيث تكون الكلمتان كالكلمة الواحدة , لا يقع بينهما تخلل خارجي و لا ذهني كي لا يأخذ الشيطان نصيبه , فانه في مثل هذا الموضع لبالمرصاد , لعلمه بضعف السالك على سلوك هذه الأودية , لبعده عن عادته لا سيما ان كان قريب عهد بالسلوك . وقالوا هذا أسرع فتحا للقلب و تقريبا من الرب , و قال بعضهم تطويل المدمن لا اله الا الله مستحب مندوب اليه لأن الذاكر في زمان المد يستحضر في ذهنه جميع الأضداد و الأنداد , ثم ينفيها و يعقب ذلك بقوله لا اله الا الله . فهو أقرب الى الاخلاص , لأنه يكون الاقرار بالألوهية , و هو و ان نفى بلا اله عينه , فقد أثبت بالا الله كونه . و منهم من قال , ان قصد الانتقال من الكفر الى الايمان , فترك المد أولى ليسرع الانتقال الى اليمان , و ان كان مؤمنا كما تقدم , انتهى كلامه رحمه الله تعالى . قوله ما فضلها , أي قال السائل المشار اليه في النظم و ما فضلها , الخ . الفصل السادس ,المتضمن للسؤال السادس في فضل الكلمة المشرفة . اعلم ان أفضل العبادة على الاطلاق ذكر الله تعالى , و أفضل الذكر لا اله الا الله , لقوله صلى الله عليه و سلم : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم ... " , الحديث , و لقوله عليه السلام : " أفضل ما قلته أنا و النبيئون من قبلي لا اله الا الله " . و لو لم يكن في بيان فضلها الا كونها علما على الايمان في الشرع , تعصم الدماء و الأموال الا بحقها , و كون ايمان الكافر موقوفا على النطق بها , لكان كافيا للعقل . كيف و قد ورد فيها آيات كثيرة و في فضلها أحاديث كثيرة أيضا تجل عن العبارة و تستقصي عن الاشارة , و من ذلك قوله تعالى : " يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا و بينكم " . قال أبو العالية هي لا اله الا الله . و منه قوله تعالى : " و لله المثل الأعلى " . قال قتادة رضي الله عنه : " هو لا اله الا الله " . و المثل الصفة , هكذا قال أهل التفسير . و نظيره قوله تعالى : " مثل الجنة التي وعد المتقون " , أي صفتها . و منه قوله تعالى : " فاعلم أنه لا اله الا الله " , أي اثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله تعالى , و به سميت كلمة الثبات , قاله زين الدين سبط المرصفي في الجوهر الخاص . قال و تسمى باقية . قال في المدارك هي لا اله الا الله . قال في مفتاح الفلاح : و قال كثير من المفسرين في قوله تعالى : " و جعلها كلمة باقية في عقبه " , أنها لا اله الا الله , و منه تسميتها بكلمة الحسنى , قال تعالى : " للذين أحسنوا الحسنى و زيادة " , أي الذين قالوا لا اله الا الله الحسنى , أي الجنة و الزيادة النظر الى وجه الله الكريم , لما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال : " اذا كان يوم القيامة يبعث المولى جلت قدرته ملكا الى أهل الجنة فيقول هل أنجزكم ربكم ما وعدكم , ثلاث مرات , قال فينظرون فما يفقدون شيءا , فيقول الملك بل لكم شيء لم تروه , ان الله تعالى يقول للذين أحسنوا الحسنى و زيادة , ألا ان الحسنى هي الجنة و الزيادة النظر الى وجهه الكريم " , انتهى . و منه تسميتها كلمة العدل , لقوله تعالى : " ان الله يأمر بالعدل و الاحسان " . قال ابن عباس : " العدل شهادة لا اله الا الله " . و منه الكلمة الطيبة , لقوله تعالى : " ضرب الله مثلا كلمة طيبة ..." , الآية , هي لا اله الا الله . و منه كلمة التقوى , لقوله تعالى : " و ألزمهم كلمة التقوى " , هي قول لا اله الا الله . و منه الكلمة العليا , قال تعالى : " و كلمة الله هي العليا " , هي قول لا اله الا الله . و منه كلمة العهد , لقوله تعالى : " لا يملكون الشفاعة الا من اتخذ عند الرحمان عهدا " . قال ابن عباس : " هي قول لا اله الا الله . و منه كلمة المقاليد , قال تعالى : " له مقاليد السماوات و الأرض " , قال ابن عباس هي لا اله الا الله . و منه كلمة السداد , لقوله تعالى : " اتقوا الله و قولوا قولا سديدا " , هو قول لا اله الا الله . و منه كلمة الحق , لقوله تعالى : " و لا يملكون الشفاعة الا من شهد بالحق " , هو قول لا اله الا الله . و منه كلمة الصدق , لقوله تعالى : " و الذي جاء بالصدق " , قال أهل التفسير هو قول لا اله الا الله . و كذلك كلمة الاخلاص , و كلمة العصمة , و كلمة النجاةو العروة الوثقى , و كلمة الايمان , و دعوة الحق . و أما الأحاديث الواردة فيها فغايتها لا تدرك و نهايتها لا تحصى , و لكن أذكر منها بعضا على سبيل التقريب و الاختصار . منها ما رواه مالك في موطاه , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " أفضل ما قلته أنا و النبيئون من قبلي لا اله الا الله وحده لا شريك له " . زاد الترمذي له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير , كما تقدم . و منها ما رواه الديلمي بسند يعمل به عن أنس ابن مالك رضي الله عنه , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " اذا قال العبد المسلم لا اله الا الله , خرقت السماوات حتى تقف بين يدي الله , فيقول اسكني , فتقول كيف أسكن و لم تغفر لقائلي , فيقول ما أجريتك على لسانه الا و قد غفرت له " . و منها ما رواه الشيخان عن عتبان ابن مالك رضي الله عنه , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله حرم على النار من فال لا اله الا الله يبتغي بذلك وجه الله " . و منها ما رواه الحكيم الترمذي عن زيد ابن أرقم , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله عز و جل عهد الي أن لا يأتيني أحد من أمتي بلا اله الا الله لا يخلط به شيئا , الا وجبت له الجنة , قالوا يا رسول الله و ما الذي يخلط بلا اله الا الله , قال حرصا على الدنيا و جمعا لها و منعا لها , يقولون قول الأنبياء و يعملون عمل الجبابرة " . و قال صلى الله عليه وسلم : " ما فال أحد لا اله الا الله , الا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي الى العرش ما اجتنبت الكبائر " . و قيل في قوله تعالى , " اليه يصعد الكلم الطيب " , هو لا اله الا الله , " و العمل الصالح يرفعه " , أي هذه الكلمة تصعد بنفسها دون غيرها من الأعمال الصالحة , فانما يصعد بها ملائكة الأعمال , فتفتح لهذه الكلمة أبواب السماء , فلا ينغلق دونها باب حتى تفضي الى العرش فيغفر لقائلها , لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه و سلم قال : " ان لله عمودا بين يدي العرش فاذا قال العبد لا اله الا الله , اهتز ذلك العمود , فيقول له الله تعالى اسكن , فيقول كيف أسكن و لم تغفر لقائلها , فيقول قد غفرت له , فيسكن " . وروي أن العبد اذا قال لا اله الا الله أتت على صحيفته فلا تمر على خطيئة الا محتها حتى تجد حسنة مثلها فتسكن الى جنبها . و روي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : " قلت يا رسول الله , أمن الحسنات لا اله الا الله , قال من أفضل الحسنات " . و روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : " من قال لا اله الا الله ثلاث مرات في يومه , كانت له كفارة لكل ذنب أصابه في ذلك اليوم " . و روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : " يهتز العرش لثلاث , لقول المؤمن لا اله الا الله , و لكلمة الكفر و للغريب اذا مات في أرض غريبة " . و روي عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم , " من قال لا اله الا الله خالصا من قلبه و مدها بالتعظيم , غفر الله له أربعة آلاف ذنب من الكبائر , فان لم تكن له هذه الذنوب , غفر الله له من ذنب أبويه و أهله و جيرانه " , من الجوهر الخاص . و في شرح الصغرى للشيخ , زاد خالصا من قلبه بعد لا اله الا الله و قال غفر الله له باسناد الفعل الى الفاعل لا الى المفعول في الفعلين معا , و الله أعلم . و روى الترمذي و النسائي أنه صلى الله عليه و سلم قال : " أفضل الذكر لا اله الا الله , و أفضل الدعاء الحمد لله " . و روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : " يؤتى برجل الى الميزان , و يؤتى بتسعة و تسعين سجلا كل سجل منها مد البصر و فيها خطاياه و ذنوبه فتوضع في كفة الميزان , ثم تخرج بطاقة مقدار النملة فيها شهادة أن لا اله الا الله محمد رسول الله فتوضع في الكفة الأخرى , فترجح بخطاياه و ذنوبه " . و روى الترمذي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه و سلم قال : " ان التسبيح نصف الايمان و الحمد لله يملأ الميزان و لا اله الا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص اليه " . و قال صلى الله عليه و سلم لأبي طالب : " يا عمي قل لا اله الا الله كلمة أحاج لك بها عند الله تعالى " . و قال صلى الله عليه و سلم : " أتاني آت من ربي فأخبرني أنه من مات يشهد أن لا اله الا الله و حده لا شريك له فله الجنة " , فقال أبو ذر: " و ان زنى و ان سرق " , فقال عليه السلام : " و ان زنى و ان سرق " . و قال صلى الله عليه وسلم : " من دخل القبر بلا اله الا الله خلصه الله من النار " . و قال صلى الله عليه و سلم : " أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا اله الا الله مخلصا من قلبه " . و قال صلى الله عليه و سلم : " من مات و هو يعلم أن لا اله الا الله دخل الجنة " . و قال صلى الله عليه و سلم : " لن يوافي عبد يوم القيامة يقول لا اله الا الله يبتغي بها وجه الله تعالى , الا حرمه الله تعالى على النار " . و قال صلى اللله عليه و سلم : " لا اله الا الله مفتاح الجنة " . و روي عن أنس رضي الله عنه , أن لا اله الا الله ثمن الجنة . و قال صلى الله عليه وسلم : " من لقن عند الموت لا اله الا الله دخل الجنة " . و قال صلى الله عليه و سلم : " لقنوا أمواتكم لا اله الا الله , فانها تهذم الذنوب هذما " , قالوا : " يا رسول الله فان قالها في حياته " , قال : " هي أهذم و أهذم " . و في الاحياء , و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لو جاء قائل لا اله الا الله صادقا بتراب الأرض ذنوبا غفر الله له ذلك " . و فيه أيضا , و قال صلى الله عليه و سلم : " ليس على أهل لا اله الا الله وحشة في قبورهم و لا في نشورهم , كأني أنظر اليهم عند الصيحة بنفضون رِؤوسهم من التراب و يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن , ان ربنا لغفور شكور " . و فيه أيضا , و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي هريرة رضي الله عنه : " يا أبى هريرة , ان كل حسنة توزن يوم القيامة الا شهادة أن لا اله الا الله , فانها لا توضع في ميزان لأنها لو وضعت في ميزان من قالها صادقا , و ضعت السماوات السبع و الأرضون السبع و ما فيهن , لكان لا اله الا الله أرجح من ذلك " . و قال صلى الله عليه و سلم : " لتدخلن الجنة كلكم الا من أبى و شرد عن الله تعالى شرود البعير عن أهله " , فقيل يا رسول الله من الذي يأبى , فقال : " من لم يقل لا اله الا الله , فأكثروا من ذكرها من قبل أن يحال بينكم و بينها , فانها كلمة التوحيد و هي كلمة الاخلاص و هي كلمة التقوى و هي الكلمة الطيبة و هي دعوة الحق و هي العروة الوثقى و هي ثمن الجنة " . و في الاحياء أيضا ما روي عن أبي ذر رضي الله عنه : " فلت يا رسول الله أوصني " , قال : " أوصيك بتقوى الله تعالى فاذا عملت سيئة فأتبعها بحسنت تمحها " , قلت : " يا رسول الله , أمن الحسنات لا اله الا الله " , قال : " من أفضل الحسنات ...." . و فيه عن كعب : " أوحى الله تعالى الى موسى في التوراة , لولا من يقول لا اله الا الله لسلطت جهنم على أهل الدنيا " . و في الاحياء أيضا , و ذكر أبو الفضل الجوهري قال : " اذا دخل أهل الجنة سمعوا أشجارها و أنهارها و جميع ما فيها يقول لا اله الا الله , فيقول بعضهم لبعض كلمة كنا نغفل عنها في الدنيا " . و ذكر عياض في المدارك عن يونس ابن عبد الأعلا أنه أصابه شيء فرأى في المنام قائلا يقول : " اسم الله العظيم الأعظم لا اله الا الله " , فقالها و مسح ما وجعه فأصبح معافى . و ذكر ابن الفاكهاني أن ملازمة ذكرها عند دخول المنزل ينفي الفقر . و روي أن من قالها سبعين ألف مرة كانت فدائه من النار . و ذكر أبو محمد عبد الله بن أسعد اليمني اليافعي الشافعي في كتاب الارشاد و التطريز , في فضل ذكر لا اله الا الله و تلاوة كتابه العزيز . عن الشيخ أبي زيد القرطبي , أنه قال : " سمعت في بعض الآثار من قال لا اله الا الله سبعين ألف مرة كانت فدائه من النار , فعملت على ذلك رجاء بركة الوعد أعمالا ادخرتها لنفسي , و عملت منها لأهلي و كان اذ ذاك يبيت معنا شاب كان يقال أنه يكاشف في بعض الأوقات بالجنة و النار , و كان في قلبي منه شيء , فاتفق أن استدعانا بعض الاخوان الى منزله , فنحن نتناول الطعام و الشراب و الشاب معنا اذ صاح صيحة منكرة واجتمع في نفسه و هو يقول يا عمي هذه أمي في النار و هو يصيح بصياح عظيم حتى لا يشك من سمعه أنه من أمر . فلما رأيت ما به قلت في نفسي اليوم أجرب صدقه , فألهمني الله تعالى الى السبعين ألفا و لم يطلع على ذلك أحد الا الله تعالى . فقلت في نفسي الأثر حق و الذين رووه لنا صادقون , اللهم ان السبعين ألفا فداء هذه المرأة أم الشاب . فما استتممت الخاطر في نفسي الا أن قال يا عمي ها هي أخرجت و الحمد لله , فحصلت لي فائدتان , ايماني بصدق الأثر و سلامتي من الشاب و علمي بصدقه ", من شرح الصغرى للشيخ . و قال في الجوهر الخاص , و من خصائصها أن ملازمة ذكرها تنفي الفقر و تجلب اليسر و تدفع العسر و تكشف الهم و تورث الأنس و الهيبة و تحيي القلب حياة لا موت بعدها , و تنقذ قائلها من النار و تجنح به الى الجنة , و لذلك اختار السادات الصوفية ملازمتها في كل الأحوال .فمنهم من اتخذها وردا في كل يوم و ليلة لا يفتر عنها , و بعضهم في اليوم و الليلة سبعين ألف مرة , و كان بعض المنتسبين من الصوفية يذكرها في اليوم و الليلة اثني عشر ألف مرة . و من خصائصها أنه يستشفى بها من كل الأمراض , انتهى . قلت , و رأيت في بعض التقاييد و لم يحضر لي الآن أن الولي العارف بالله تعالى القطب المشهور سيدي عبد القادر الجيلي , كان يستشفي بها من كل الأمراض القلبية و البدنية , حتى من شكى الفقر و الله أعلم . قوله تكرارها أي و هو قول السائل وما المقصود من تكرارها . الفصل السابع : في الجواب على السؤال السابع , و هو ما المقصود من تكرارها مع اعتقاد نفي المنفي , و اثبات المثبت , قال في الجوهر الخاص : اعلم أن جهة المقاصد كثيرة . فمن الذاكرين من يقصد تكرارها امتثال الأمر , لقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا " , اما مطلقا أو لكثرة الثواب و مضاعفته و حصول كثرة اليمن و البركة , اذ كل مرة من الدعاء عبادة مستقلة يحصل بها ان شاء الله تعالى ما قصده و نواه , فكان لكل امرء ما نوى . و منهم من يقصد بها المداومة على ذكر الحبيب محبة و رغبة . فقد ورد عنه صلى الله عليه و سلم : " ان أحب العمل الى الله أدومه " . و قال الامام النووي رحمه الله تعالى : " اختار أهل التربية و السلوك للمريدين ذكر لا اله الا الله و أمروهم بالمداومة عليها , و قالوا أنفع علاج في دفع الوسوسة و الاقبال على ذكر الله تعالى و الاكثار منه . و قال القشيري رحمه الله تعالى : " الذكر ركن قوي في طريق الحق مأمور به , بل هو العمدة في هذه الطريقة , فلا يصل أحد الى الله تعالى الا بدوام الذكر . و منهم من يقصد بها نقاء القلب و جلائه من صداء الغفلة , فان القلب يصدء كما يصدء الحديد . و في الحديث الشريف : " ان القلوب تصدء كما يصدء الحديد , و جلاؤها لا اله الا الله " . و منهم من يقصد بتكرارها دوام نشر الاجلال و التعظيم للمذكور , كما أشار اليه في حديث بعض العارفين , لا اله الا الله تعظيما لجلال الله تعالى و جماله و كبريائه و عظمته و اقتداره . و منهم من يتلذذ بتكرار الذكر لما يجد له من الحلاوة العظيمة التي لا يكاد يعبر عنها , و كل من وجد في عبادته هذه الحلاوة , فقد أوتي في الدنيا الجزاء العاجل , اذ العامل لله تعالى يعطى جزائين : جزاء معجل و هو ما ذكر , و جزاء مأجل في الآخرة و هو الثواب . و غايته في الدنيا مقام المشاهدة و في الآخرة النظر الى وجه الله تعالى , و هذا هو الفوز الذي لا فوز فوقه . و قال بعض العارفين , الأكمل الذي ترد به على القلوب المواهب الالاهية و الفتوحات الربانية التي يقصر عنها الوصف , ان يلازم على ذكر لا اله الا الله مع لزوم أدبها , و قد تقدمت . و قال الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب ثمرات الأعمال : " من حافظ على قول لا اله الا الله طاهرا و داوم على ذكرها , و جعل لسانه مستغرقا فيها , فتح الله تعالى على قلبه نورا ينكشف به عن سرها , و تستغرقه أنوارها , و يشغف قلبه بذكرها , و تصطلمه ثمراتها , فيشرف بباطنه عن عجائب الملكوت ما لا تستطيع العبارة أن تحد وصفها و تعتها , و تلك نتائجها و ثمراتها . ثم تنعكس أذكاره الظاهرة باطنة , و كل ما دام على الذكر غلب باطنه على ظاهره , فيقوى ذكر الباطن و يفتر الذكر في الظاهر الى أن يقوى سلطان القلب على حركة اللسان , فتبطل حركة اللسان بالذكر و ينفرد القلب بالذكر , و كلما قوي باطنه ضعف ظاهره حتى لا يستطيع الذاكر أن يتلفظ بالذكر ظاهرا الا في وقت غفلة القلب , أو فترة ترد عليه , اذ الذكر ظاهرا وظيفة الغائبين , و ذكر القلب وظيفة الحاضرين . فاذا أخذ الذاكر الحاضر في أفعال الغائبين , استحق قلبه الأدب , ثم تتجوهر ثمرة قلبه دائما باشراق شمس الروح على القلب , فيستغرق القلب في الأنوار الروحانية و يكاشف من اللطائف الربانية و برد على قلبه و باطنه من الواردات القلبية , و يهجم عليه من الأحوال السنية ما يسترقه عن الصفات البشرية , و يرقيه الى المقامات و المنازل الملكية , و يعود بالكرامات التبعية للنبوءة المحمدية . ثم تستغرق روحه في بحر التوحيد , و يستخرج بلطيفة الفكر في معنى الذكر أسرارا لطيفة و معاني شريفة , فيبتغي ذكر القلب لها أول درجة رقت بها الى درجة التقوى , و أول اب فتح له من جنة المأوى , ثم فتح له بذكر القلب بعد اتقان ذكر اللسان بها باب جنة الخلد التي مفتاحها حقيقة لا اله الا الله , التي تفتح للقلب باب التذكر في آيات محكم التنزيل , و ما نزل به الروح الأمين من الأحكام على خير الأنام محمد صلى الله عليه و سلم . قال بعضهم : " رأيت في الواقعة كلمة لا , فقيل الا تراها مفتحة الفم كي لا تبلغ ما دون الله تعالى " , أراد بالفم النفي , فان من تجلي الحق تعالى تحقق بمعناها , فلم يشهد سوى الحق تعالى وحده و ليس معه غيره . و قال السهروردي رحمه الله تعالى : " اذا استولت الكلمة على اللسان يتشربها القلب , فلو سكت اللسان لم يسكت القلب . ثم تتجوهر في القلب و يتجوهرها , يستقر نور اليقين حتى اذا ذهبت صورة الكلمة من اللسان و القلب لا يزول نورها , و هذا الذكر هو المشاهدة و المكاشفة و المعاينة . و هذا هو المقصد الأقصى , حتى أن الذاكر الصادق يغيب عن المحسوس بحيث اّذا دخل عليه داخل من الناس , لا يعلم به لغيبته في الذكر من كمال أنسه و حلاوة ذكره , حتى يلتحق في غيبته في الذكر بالنائم , و الله الموفق , انتهى كلامه . قلت , و المقصود الأهم تجديد الايمان و به تحصل الزيادة فيه أو تصقيله و تنويره على القولين , أعني على قول من يقول بأن الايمان يزيد بزيادة الأعمال و ينقص بنقصها , و هو قول غير الحنفية . و على قول من يقول لا يزيد و لا ينقص و لكن يتصقلل و يتنور بكثرة الطاعات و العكس , و هو للحنيفية , لحديث تجديد الايمان , و هو ما رواه الامام أحمد ابن حنبل و الطبراني بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه , أنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " جددوا ايمانكم " , قيل يا رسول الله كيف نجدد ايماننا , قال : " أكثروا من قول لا اله الا الله " . فعلى هذا المقصود بتكرارها العمل بالكتاب و بالسنة و الاجماع كما تقدم . و لهذا قال الامام تاج الدين في مفتاح الفلاح : " قيل اذا كان آخر الزمان , فليس لشيء من الطاعات فضل كفضل لا اله الا الله , لأن صلاتهم و صيامهم يشوبها الرياء و السمعة , و صدقاتهم يشوبها الحرام و لا اله الا الله ذكر المؤمن , لا يذكر الله الا من صميم قلبه " , انتهى , و هو عجيب و الله أعلم . ثم قال عفى الله تعالى عنه :


( أقسام مد حرفه ما حده و هل يجوز تركه ما قصده )

علي العذاري
16-01-2012, 10:22 AM
اشتمل البيت على خمسة فصول متضمنة لجواب خمس سؤالات و هي ما في الكلمة المشرفة من أقسام المد و ما من حروف المد فيها , و ما حد المد الذي فيها, و هل يجوز تركه أم لا , و ما يجب قصره فيما لا يجوز مده . فهذه خمسة من السبعة المتقدمة . فهي اثنى عشر فصلا . قوله أقسام مد , أي و ما في الكلمة المشرفة من أقسام المد . الفصل الثامن المتضمن لجواب السؤال الثامن في بيان أقسام المد , أي و ما في قول لا اله الا الله من أقسام المد . اعلم أن المد قسمه بعضهم الى ستة عشر قسما , و قسمه الشيخ خالد الأزهري في شرحه للجزرية الى أربعة عشر قسما . الأول , مد حجز كقوله تعالى : " آانذرتكم " , و سمي بذلك لدخول الألف بين الهمزتين حاجزة بينهما . الثاني , مد عدل كقوله تعالى : " و لا الضالين " , و سمي بذلك لأنه يعدل حركته و يسمى اللازم المشدد . الثالث , مد التمكين و يسمى المتصل أيضا , كقوله تعالى : " و السماء " , سمي به للتمكين من تحقيق الهمزة . الرابع , مد البسط , و يسمى المنفصل أيضا , كقوله تعالى : " بما أنزل اليك " , سمي به لأنه يبسط بين الكلمتين بساطا , أو لأنه يفصل بين الكلمتين . الخامس , مد الروم , كقوله تعالى : " هانتم " , سمي به لأنهم يرومون الهمزة و لا يحققونها , و انما يثبتونها و يشيرون اليها . السادس , مد الفرق , كقوله تعالى : " الله خير " , سمي به لأنه يفرق بين الاستفهام و الخبر . السابع , مد البنية , كقوله تعالى : " و زكرياء " , سمي به لأنه يبين بنية الممدود من المقصور . الثامن , مد البدل من الهمزة في نحو قوله تعالى : " آدم , و آمن , وايمان , و أوتوا العلم " , سمي به لأنه يبدل الهمزة الثانية من جنس حركة ما قبلها . التاسع , مد الأصل , نحو جاء و شاء , كان أصله جيء و شيء . العاشر , المد العرض المخفف , نحو نستعين , سمي به لعروض السكون في الوقف . الحادي عشر , المد الطبيعي كالألف من قال , و الواو من يقول , و الياء من العالمين , سمي بذلك لأن صاحب الطبيعة السليمة لا ينقص المد في ذلك عن مقدار حركتها . الثاني عشر , مد لازم مخفف , نحو ص , ق , يس . الثالث عشر , مد تعظيم , كالله , سمي به لأنه أوتي به لتعظيم الجلالة . الرابع عشر , مد مبالغة , كقوله تعالى : " أنه لا اله الا الله " , سمي بذلك للمبالغة في نفي الألوهية عما سوى الله تعالى . قلت و كلها ترجع الى قسمين , أصلي و فرعي . فالأصلي هو الذي لا تقوم ذات الحرف الا به , و يعرف بالمد الطبيعي , و لا يتوقف على سبب , نحو الذين آمنوا , و عفا , و هو كل ألف قبله فتحة , و لا يكون الا ساكنا . و كل واو ساكنة فبلها ضمة , و كل ياء ساكنة قبلها كسرة . قال بن الجزري :
فألف الجوف و أختاها وهي حروف مد الهواء تنتهي
و الفرعي خلاف ذلك , و له سببان , اما همزة و اما سكون . و المد للسكون قسمان , لازم و عارض . و المد للهمزة قسمان , واجب و جائز . فاللازم ما لزم حالة واحدة في المد عند جميع القراء , و سمي لازما للزوم سببه , و الوجب ما اجتمع القراء على مده , لكن اختلفوا في مقداره , و سيأتي بيانه , و سمي واجبا لأنه لا يجب قصره . و الجائز ما جاز مده و قصره عند جميع القراء , و العارض من قسم الجائز و حكمه مثله , و هو ما عارضه السكون للوقف , و سيأتي ان شاء الله تعالى . قال ابن الجزري :
و المد لازم و واجب أتى و جائز و هو قصر ثبتا
و المد اللازم الذي سببه السكون كما تقدم , ينقسم أيضا قسمين , الى كلي نحو الحاقة و الصاخة , و الى حرفي نحو ص و ق و ن . و المد الذي سببه الهمز ينقسم قسمين , لاحق له و سابق عليه . فالأول كآمن و ايمانا و أوتوا العلم و غيره . فلورش فيه المد و القصر و التوسط . و الثاني , و هو قسمان أيضا , الى متصل نحو جاء و سيءو ابءوا. سمي متصلا لاتصال الهمزة بحرفالمد في كلمة واحدة , و هو الوجب المتقدم ذكره , و سمي واجبا لوجوب مده عند القراء , و انما الخلاف في مقداره كما تقدم . و الى منفصل , و هو ما كان حرف المد في آخر كلمة و الهمزالذي هو سببه في أول كلمة أخرى , نحو أتى أمر الله , و هو من المد الجائز لاختلاف القراء فيه . فمنهم من لا يرى فيه الا المد و هو ورش و حمزة و عاصم و ابن عامر و الكسائي . و منهم من لا يرى فيه الا القصر , و هو ابن كثير و السوسي . و منهم من يرى الوجهين , و هو قالون و الدوري . فتلخص أن في الكلمة المشرفة من أقسام المد مد المبالغة , و هو مد لا كما تقدم , و باضافة اله صار مدا منفصلا . و قد عرف أن المد المنفصل من أقسام الجائز لاختلاف القراء فيه على ما تقدم . و في اله المد لأنه لحق سببه الذي هو الهمزة و هو من الجائز أيضا و الله أعلم , لأن الواجب خصصه ابن الجزري بقوله رحمه الله تعالى :
و واجب ان جاء قبل همزة متصلا ان جمعا بكلمة
كجاء مثلا يفهم منه الذي لا توجد فيه هذه القيود , فهو من المد الجائز , و لم أر من نبه عليه , و في حرف الاستثناء المد الطبيعي الأصلي المتقدم ذكره , و ترك النطق به لالتقاء الساكنين المتجانسين . و لذلك يظهر في الوقف و المد في الجلالة للتعظيم كما تقدم . و هو مد طبيعي أصلي , و اذا عرض له السكون للوقف صار المد لازما , أي حمل على الازم . قال الشيخ زكرياء : " و في المد للسكون المذكور ثلاثة أوجه , الطول حملا له على اللازم بجامع اللفظ , و التوسط لعروض السكون المنحط عن لزومه , و القصر بجواز التقاء الساكنين في الوقف . فاستغني عن المد , فتعين في الكلمة المشرفة أربعة أقسام , المد اثنان من الأصلي الطبيعي , و اثنان من الفرعي السببي " . و هذا معنى قوله أقسام مد , و الله أعلم . ثم قال حرفه , أي وما من حروف المد فيها . الفصل التاسع : في الجواب على السؤال التاسع , اعلم أن حروف المد ثلاثة يجمعها قولك (واي) , و تسمى حروف المد و اللين , لامتداد الصوت بها و لينه , أي سهولته . و أصل هذه الحروف الألف , لأنها لا تكون الا ساكنة و لا يكون ما قبلها الا مفتوحا . و أما الواو و الياء فلا يكونان حرفي مد الا بشرطين : أن يكونا ساكنين و أن يكون ما قبلهما حركة من جنسيهما , لأنهما لو تحركتا فلا تكونان حرفي مد , و ان كان ما قبلهما حركة غير مجانسة لهما , كذلك قال ابو العباس , و لا يمكن أن يدخل المد في هذه الحروف . و انما كان ذلك , لأن هذه الحروف أصوات و الحركات مأخوذة منها , بامتداد الصوت بها يتمكن و يسوغ فيها التطويل و التوسط و القصر , و لا يسوغ ذلك في شيء من الحروف سواهن . قال , و لذلك جاز وقوع الساكن المدغم بعدهن من أجل أن المد عوض عن الحركة و امتنع اجتماع الساكنينن اذا كانا حرفي سلامة . يعني به , و مع حرف العلة لا يمتنع اجتماع الساكنين . قال سيبويه : " و هذه الحروف الثلاثة أخفى الحروف لاتساع مخرجها " . قال : " و أخفاهن و أوسعهن مخرجا الألف , ثم الياء , ثم الواو " . قال ابن الجزري :
فألف الجوف و أختاها و هي حروف مد للهواء تنتهي
يعني أن هذه الحروف ليس لها مخرج محقق , و لا حيز تنتهي اليه كغيرها من حروف الهجاء , بل مخرجها الجوف أي داخل الفم , و تنتهي بانتهاء هوائه , أي هواء الفم و هو الصوت . قال الامام شمس الدين البقري : " الجوف هو الخلاء الداخل في الفم لا حيز له محقق " . و تسمى هذه الثلاثة جوفية , لخروجها من الجوف و لأن النفس ما دام موجودا كانت موجودة , و اذا انقطع النفس انقطع المخرج . قال الشيخ زكرياء : " و تميز بتصعد الألف و تسفل الياء و اعتراض الواو بين التصعد و التسفل , و نسبت الى الجوف لأنه آخر انقطاع مخرجها , و سميت حروف المد و اللين لأنها تخرج بامتداد و لين من غير كلفة على اللسان لاتساع مخرجها . فان المخرج اذا اتسع , انتشر الصوت و امتد و لان . و اذا ضاق انضغط فيه الصوت أي انحبس و صلب . و كل حرف مساو لمخرجه الا هي و لذلك قبلت الزيادة " , انتهى . حروف المد هي التي لا يتصور وجود الحروف الا بها . فاذا لو قلت مثلا ب ت ث و لم تشبع الحروف , كانوا حركات , فاذا أشبعت الحركات الثلاثة التي على الحروف , و هي الفتحة مثلا , أوالكسرة أو الضمة , تولدت من حروف المد الثلاثة لأنها تنشأ عنها اذا أشبعت و الله أعلم . فتعين أن في الكلمة المشرفة من حروف المد الألف و هو أصلها و أوسعها مخرجا كما تقدم . و هذا معنى قوله أقسام مد حرفه , أي ما حرف المد الذي في لا اله الا الله , ثم قال ما حده , أي السؤال العاشر و ما حد المد فيها . الفصل العاشر : في جواب على حد المد في الكلمة المشرفة , أي مقداره . اعلم أن الأصل في المد ما أخرجه سعيد ابن منصور في سننه , قال : " حدثنا شهاب بن خراش , حدثني مسعود بن يزيد الكندي , قال : كان ابن مسعود يقرىء رجلا , فقرأ الرجل " انما الصدقات للفقراء و المساكين " , مرسلة , فقال ابن مسعود ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم . فقال كيف أقرأها يا عبد الرحمان . قال اقرأنيها " انما الصدقات للفقراء و المساكين " , فمدها . هذا حديث جليل في الباب أخرجه الطبراني في الكبير . و المد عبارة عن زيادة مط في حرف المد على المد الطبيعي , و هو الذي لا يقوم ذات حرف المد دونه , و القصر ترك الزيادة و ابقاء المد الطبيعي على حاله . و حروف المد الألف مطلقا و الواو و الياء بشرطين كما تقدم . و سببه لفظي و معنوي . فاللفظي اما همز أو سكون . فالمد يكون بعد حرف المد و قبله . فالثاني نحو آدم و آمن و اله , و الأول ان كان معه في كلمة واحدة فهو المتصل , نحو أولئك , يشاء الله , السوءى , كما تقدم . و ان كان حرف المد آخر كلمة و المد أول كلمة أخرى , فهو المنفصل , نحو يا أيها , قالوا آمنا و لا اله . و وجه المد لأجل الهمزة ان كان حرف المد خفي و الهمز صعب , فزيد في الخفي ليتمكن من النطق بالصعب و السكون , و ان تقدم , لكن زيادة بيان ينفع وجودها و لا يضر سقوطها . اما لازم وهو الذي لا يتغير في حاليه , نحو الضالين و دابة و أ لم , أو عارض و هو الذي يعرض للوقف و نحوه , نحو العباد و الحساب و نستعين و يوقنون . حالة الوقف , و فيه هدى , و قال لهم , و يقولون ربنا . حالة الادغام و وجه المد للسكون التمكن من الجمع بين الساكنين , فكأنه أي المد قام مقام حركة. و قد أجمع القراء على مد نوعي المتصل و ذي الساكن اللازم , و ان اختلفوا في مقداره و اختلفوا في مد النوعين الأخيرين , و هما المنفصل و ذو الساكن العارض , و في قصرهما . فأما المتصل فاتفق الجمهور على مده , قولا واحدا مشبعا من غير افحاش . و ذهب آخرون الى تفاضله كتفاضل المنفصل . فالطول لحمزة و ورش , و دونها لعاصم , و دونها لابن عامر و الكسائي , و خلف دونها لأبي عمرو و الباقين , و ذهب بعضهم الى تفاوته . و أما المنفصل , و يقال له مد الفصل , لأنه يفصل بين الكلمتين , و مد البسط و مد الاعتبار لاعتبار الكلمتين من كلمة , و مد حرف بحرف أي مد كلمة لكلمة , و المد الجائز من أجل الخلاف في مده و قصره . فقد اختلفت العبارات في مقدار مده اختلافا لا يمكن ظبطه . و الحاصل أن له سبع مراتب : الأولى , القصر و هو حذف المد العرضي و ابقاء ذات حرف المد على ما فيها من غير زيادة , و هي في المنفصل خاصة لأبي جعفر و ابن كثير , و لأبي عمرو عند الجمهور . الثانية , فويق القصر قليلا و قدرت بألفين و بعضهم بألف و نصف , و هي لأبي عمرو في المتصل و المنفصل عند صاحب التيسير . الثالثة , فويقها قليلا و هي التوسط عند الجميع , و قدرت بثلاث ألفات , و قيل بأفين و نصف و بألفين على أن ما قبلها بألف و نصف , و هي لابن عامر و الكساءي في الضربين عند صاحب التيسير . الرابعة , فويقها قليلا و قدرت بأربع ألفات , و قيل بثلاث و نصف , و قيل بثلاث على الخلاف فيما قبلها , و هي لعاصم في الضربين عند صاحب التيسير . الخامسة , فويقها قليلا و قدرت بخمس ألفات و أربع و نصف , و بأربع على الخلاف , و هي فيهما لحمزة و ورش عنده . السادسة فويق ذلك , و قدرها الهذلي بخمس ألفات على تقدير الخامسة بأربع , و ذكر أنها لحمزة . السابعة , الافراط , قدرها الهذلي بست و ذكرها لورش . قال ابن الجزري : " و هذا الاختلاف في تقدير المراتب بالألفات لا تحقيق وراءه , بل هو لفظي , لأن المرتبة الدنيا و هي القصر اذا زيد عليها أدنى زيادة , صارت ثانية , ثم كذلك حتى تنتهي الى القصوى , فعلم من هذا أن الكلمة المشرفة كيفما نطق بها , جاز ما لم يخرج عن المراتب السبعة المذكورة . و أما المد العارضي فيجوز فيه لكل من القراء كل من الأوجه الثلاثة , المد و القصر و التوسط , و هي أوجه تخيير . فعلم أن الاسم الأعظم كيفما نطق به جاز ما لم يخرج به عما ذكر , أو يوصله كما تقدم . و أما السبب المعنوي , فهو قصد المبالغة في النفي , و هو سبب قوي مقصود عند العرب و ان كان أضعف من االلفظ عند القراء . و منه مد التعظيم في نحو لا اله الا الله , و لا اله الا هو , و لا اله الا أنت . و قد ورد عن أصحاب القصر في المنفصل لهذا المعنى , و يسمى مد المبالغة لأنه طلب للمبالغة في نفي الاهية ما سوى الله تعالى " . قال و هذا مذهب معروف عند العرب , لأنها تمد عند الدعاء و عند الاستغاثة و عند المبالغة في نفي شيء , يمدون ما لا أصل له بهذه العلة . قال ابن الجزري : " وقد ورد عن حمزة مد المبالغة في النفي في لا التي للتبرئة , نحو لا ريب فيه , لا شية فيها , لا مرد له , لا جرم , و قدره في ذلك وسط لا يبلغ الاشباع , لضعف سببه , نص ابن المقضاع " .
و قد يجتمع السببان اللفظي و المعنوي في نحو لا اله الا الله , و لا اكراه في الدين , و لا اثم عليه , فيمد لحمزة مدا مشبعا على أصله في المد لأجل الهمزة , و يلغي المعنوي اعمالا للأقوى و الغاء للأضعف . قاعدة : اذا تغير سبب المد جاز المد مراعاة للأصل , و القصر نظرا للفظ , سواء كان السبب همزا أو سكونا , و سواء تغير الهمز بين بين أو بابدال أو بحذف . و المد أولى فيما بقي لتغيره اثر نحو " هاؤلاء ان كنتم " في قراءة قالون و البزي , و القصر فيما ذهب اليه , نحو " ها " في قراءة أبي عمرو . قاعدة أخرى : متى اجتمع سببان قوي و ضعيف , عمل بالقوي و ألغي الضعيف اجماعا , و يتخرج عليها فروع , منها الفرع السابق في اجتماع اللفظي و المعنوي , و منها نحو جاءوا أباهم , و رأى ايديهم , اذا قرىء لورش لا يجوز فيه القصر ولا التوسط بل الاشباع عملا بأقوى السببين و هو المد لأجل الهمز بعده , فان وقف على جاءوا , و رأى , جازت الأوجه الثلاثة بسبب تقدم الهمزة على حرف المد و ذهاب سببية الهمزة بعده , انتهى , من " الاتقان في علوم القرآن " . هذا معنى قوله ما حده و الله أعلم . فتعين في الكلمة المشرفة و في اسم الجلالة الذي هو آخرها , اذا استعملا في الذكر , يجوز فيهما الثلاثة الأوجه , و كذلك اله على ما تقدم . فمن علم ذلك فلا يعترض على ذاكرها بوجه , و الله الموفق للصواب و اليه المرجع و المئاب . قوله و هل يجوز تركه , أي ترك المد في لا اله الا الله . الفصل الحادي عشر : في الجواب على السائل هل يجوز ترك المد في الكلمة المشرفة أم لا . اعلم أنه تقدم في الكلمة المشرفة ثلاثة أمداد و الرابع لا يظهر الا عند الوقف عليه و هو الا للتقاء الساكنين المتماثلين على ما تقدم , و بقي الثلاثة أمداد . الأول منفصل , و هو مد لا التبرئة و الخلاف فيه على سبعة مراتب كما تقدم . الأول من المراتب , ترك المد و الابقاء على القصر و هو ترك المد الزائد على الطبيعي على ما تقدم . و الثاني , مد اله , و هو من المد المتصل و هو الذي سببه مد بشرط , كون السبب و حرف المد في كلمة واحدة , الا أنه أي الهمز تقدم على حرف المد فهو من الجائز على ما تقدم من الخلاف فيه . قال في " الاتقان في علوم القرآن " : " و قد أجمع القراء على مد نوعي المتصل و ان اختلفوا في مقداره " , الخ . نعم نوعا المتصل هو ما تقدم , السبب فيه نحو آدم و آمن و اله , وما تأخر نحو جاء و شاء و سيء . فاتفق الجمهور على المد فيهما مشبعا من غير افحاش , و ذهب آخرون الى تفاضله فيها كتفاضل المنفصل , و كل ذلك تقدم في الفصل قبل هذا . و الثالث مد الجلالة , و هو لا يسقط بحال لأنه مد طبيعي و يعرض له الطول و التوسط و القصر لأجل السكون العارض للوقف كما تقدم تفصيل ذلك كله , و سيأتي الكلامليه ان شاء الله تعالى , لأن بعض العرب نطقت به في أشعارها من غير مد أصلا . و هل ينعقد به الذكر أم لا , يأتي ان شاء الله تعالى . فتعين جواز ترك المد في الكلمات الثلاث في لا اله الا الله , فتلخص أن الكلمة المشرفة كيفما استعملت جاز , و من هذا قيل مهما قل العلم كثر الاعتراض و العكس بالعكس و الله أعلم . قال في الجوهر الخاص , أن للعلماء في كلمة لا اله الا الله ثلاثة أقوال , أحدها استحباب المد لقوله صلى الله عليه و سلم : " من قال لا اله الا الله مادا بها صوته دخل الجنة " , و قوله : " يغفر الله للمؤذن مادا صوته " . و الثاني , استحباب القصر خوفا من فجأة الموت في النفي . و الثالث و ان كافرا استحب له القصر لألا يموت قبل اتمامها , و ان كان مسلما استحب له المد كالمؤذن . قوله ما قصره , أي ما يجب قصره فيما لا يجوز مده . الفصل الثاني عشر : في الجواب على قول السائل و ما جب قصره فيما لا يجوز مده من لا اله الا الله , اعلم أن الذي يجب قصره مما لا يجوز مده فيها , الهاء من اله , لأنه اذا مد عليها صار مثنى , و الألف من الا أيضا للتقاء الساكنين و فقد سبب المد , قاله في الجوهر الخاص . قلت , و لا خصوصية لهذين الحرفين , فان كل حرف مقصور على معناه , اذا زيد عليه المد خرج عن معناه . فان الهمزة من اله اذا مد عليها خرجت عن معناها , فيجب القصر عليها , و كذلك الهمزة من الا فاذا مد عليها خرجت عن معناها . و كذلك الهمزة المبتدأ بها اسم الجلالة اذا مدت صارت استفهاما , الا الهاء منه في الوصل , فانها لا تخرج عن المعنى في الحركات الثلاث , بل وفي السكون . ففي النصب تشير الى الشهود في الاصطلاح عند أهل الاشارات بالهاء التنبيهية , و في الرفع الى الهوية المطلقة , و في الخفض الى الذات المشرفة , و في السكون الى الفناء عن الفناء و الله أعلم , و هذا معنى قوله ما قصره . قال عفى الله تعالى عنه :

( و هل يجوز ابدال الهمزة بيا تلاوة ذكرا كمد الا بيا )

اشتمل البيت على ثلاث سؤالات على لا اله الا الله . الأول , هل يجوز ابدال الهمزة ياء من لا اله , و من الا الله بعد فتح الهاء عند تلاوة القرآن أم لا . الثاني , هل يجوز ذلك في الذكر أم لا . الثالث , هل يجوز مد همزة الا الله المكسورة أم لا . و يجاب عليها أيضا في ثلاثة فصول مع الاثني عشر فصلا السابقة , فهي خمسة عشر فصلا . قوله و هل يجوز ابدال الهمزة بيا تلاوة . الفصل الثالث عشر , في الجواب على قوله و هل يجوز ابدال الهمزة ياء من لا اله و من الا الله في تلاوة القرآن أم لا . اعلم أنه يجوز ذلك عند جميع القراء لأنها تصيرالكلمة لا يلاه يلله , و هذا خلاف ما أنزل الله تعالى في كتابه و كلامه الفصيح . تنبيه : انما سأل السائل عن جواز ابدال الهمزة ياء في الكلمة المشرفة لأنهما , أي الهمزة و الياء من حروف الابدال . قال ابن مالك :
حروف الابدال هدأت موطيا فأبدل الهمزة من واو ويا
فلجواز ابدال الهمزة بالياء و العكس سأل , لكن لما لم تتوفر شروط الابدال في لا اله الا الله التي اشار اليها بقوله :
و افتح ورد الهمزيا فيما أعل لا ما و في مثل هراوة جعل
الخ , قلنا لا يجوز ذلك عند جميع القراء كما تقدم . قلت , و ذكر الامام تاج الدين ابن عطاء الله رحمه الله تعالى في مفتاح الفلاح في اشتقاق اسم الجلالة , أن اله أصله ولاه بالواو , فأبدلت همزة , كما قالوا في وشاح أشاح مثلث الفاء . و الوله هو المحبة الشديدة , و كان يجب أن يقال مألوه كما يقال معبود الا أنهم نقلوه كما قالوا في مكتوب كتاب و محسوب حساب , انتهى كلامه . فحينئذ لا مرية في جواز ابدال الواو ياء للقواعد المقررة في قواعد التصريف . فعلى هذا ما يسمع من أكثر العوام كأهل البدو , خصوصا الجبليين منهم , و أكثر النساء من الحاضرة و البادية . ابدال الهمزة ياء من اله و عدم حسن النطق بها لا ينكر عليه أشد نكير اذا لم يكن أهلا للتعليم , و لا يحكم له بعدم الانتفاع بها و الثواب عليها , بل يثاب عليها و يكفيه قدرته على النطق بها كيف ما كان , يؤيد هذا حديث الامة التي سألها صلى الله عليه و سلم عن الرسالة , أشارت اليه و سألها عن الألوهية أشارت الى السماء , فقال صلى الله عليه و سلم : " اعتقها فانها مؤمنة " . فاكتفى منها صلى الله عليه وسلم بما وسعها من غير زيادة عليه و الله أعلم . فان قلت ان من لا يحسن النطق بها فلا يحسن الوقوف على معناها غالبا , و ما ذكرتم من الثواب و الانتفاع منوط بالمعنى . و قد ذكر في المعيار الامام أبو العباس الونشريسي جواب فقهاء بجاية , سيدي أحمد ابن عيسى و سيدي عبد الرحمان الوغليسي فيمن ينطق بالشهادتين يصلي و يصوم , و قد نشأ بين أظهر المسلمين و لم يقف لهما على معنى , و انما رأى الناس يقولون فقال , و رآهم يفعلون ففعل , فقال , أي علماء بجاية المذكورين , مثل هذا لا يضرب له في التوحيد بسهم , و لا يفوز منه بنصيب و لا ينسب الى الايمان و لا الى الاسلام , بل هو من جملة الهالكين و زمرة الكافرين , و حكمه حكم المجوسي في جميع أحكامه الا في القتل , فانه لا يقتل الا اذا امتنع من التعليم . هذا ملخصه باختصار و تمامه في الكتاب المذكور . قلت نعم و لابد من معرفة التوحيد فقط من الكلمة الكريمة مع التفرقة بين الرسالة و الألوهية , كما في حديث الأمة المذكورة سابقا و لو بالتقليد و الا فلا . و لا يشترط في حق هذا معرفة اندراج العقائد فيها و غيره , لأن معرفة ذلك فرعية و الله أعلم . و قد علمت الخلاف في ايمان المقلد , و لكن الذي عليه المعول صحيح معتبر كما هو معلوم في كتب الكلام . قال في بدا الأمالي :
و ايمان المقلد ذو اعتبار بأنواع الدلائل كالنصال

علي العذاري
16-01-2012, 10:23 AM
انتهى و الله أعلم . قوله ذاكرا , أي و هل يجوز ابدال الهمزة ياء من لا اله الا الله في الذكر أم لا . الفصل الرابع عشر , في الجواب على سؤال السائل هل يجوز ابدال الهمزة ياء من الكلمة الكريمة في الذكر أم لا . اعلم أنه تقدم لا يجوز ذلك في التلاوة و كذلك في الذكر لا يجوز , و لا فرق بين الذكر و التلاوة الا أن الذكر له حالتان , حالة اختيارية و حالة اصطلاحية . فالأولى لا يجوز له ذلك , و الثانية مسامح فيها بل بجميع ما يسمع منه ذكر صحيح مثاب عليه , بل سر من الأسرار , و قد تقدم طرف من ذلك في الأدابات . قال في السر المصون في قوله صلى الله عليه و سلم " اذكروا حتى يقولوا مجنون " , في الفائدة السابعة و الستين أن أنواع الواردات تختلف باختلاف الذكر و صدق الذاكرين , حتى أن منهم من يجن و منهم من يئن و منهم من يصيح و منهم من يصوت بلسان فصيح , و كل ذلك صحيح من قلب جريح . و منهم من يخرق و منهم من يمزق الخ . و قال في الحادية و السبعين أن الانسان اذا تعشق تحقق , و كلما زاد الفضل عليه دقق , لأن الفضل اذا كثرت مواهبه استطال فرفع نوره الحجاب و الحجال لسر سرى في التابع من المتبوع المختار صلوات الله عليه و سلامه في هذه الدار و في تلك الدار , لأنهم تحققوا بكنائن كنين الاحسان , حسنت ألسنتهم بالذكر و القرآن , فرقت مراقهم لجمال الحضرة الالهية و تشوفت أسرارهم و أرواحهم و نفوسهم الدائرة المحمدية , فزجوا في هول لجار العظمة , فتلاطمت عليهم لججها فصاحوا فتغربوا عن الجنس , فلما ظفروا بالمحبوب باحوا فلربما ناحوا فاستراحوا , و لهم في الحضرة زفير و شهيق بقدر ما أولي كل واحد من التصديق . فمن باك لا راحة له الا به و من مصفق لا يسكن جأشه الا له , و من راد للشيطان في تدبيره قائلا لا , لا , و من محسن ما أطلع عليه من الجمال يقول دهشا من حسن ما رأى آه آه , و من فان عن شهود الكل يقول متأسفا عن شهوده الأول آواه آواه لما فاته من ضياع الشهود في حضرة المعبود , و من ذاكر شكر النعم المسدلة يقول يا حبيبي يا محبوبي , و من عاجز عن الوصول يقول أف أف تف تف , يعني رداءة نفسه و خستها , و من قائل يا ويلتاه على ما فرطت في جنب الله , و هي كلها أنوار و أسرار , و قد يجتمع جميع ذلك للصادق في مجلس واحد , و يعمر قلبه في تلك الساعة بما لا يعمره بالمجاهدة في ثلاثين سنة . و حكم الذاكر مع الوارد أن يسلم نفسه لوارده ثم لا يأمن مكر الله تعالى طرفة عين . و الوارد حاكم و لا يحكم على وارداته الا من تغلغل في المعرفة فغرقت وارداته فيها و قليل ما هم كالجنيد الذي يتمثل بقوله تعالى " و ترى الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب " , يشير الى نفسه حيث قيل له لم لا تهتز كما يهتز غيرك , فقال " و ترى الجبال تحسبها جامدة " . و من مستريح يقول آح آح , و هو و ان كان قد قيل أن آح اسم الشيطان , لكن القوم عند هجوم الواردات لا يستقيم للشيطان حال لأن الحضرة لا يتطفل عليها من ليس منها , و لا نصيب للمحجوب منها فيها من البشر , فأحرى الشيطان , لأن لها حفظة ملائكة غلاظا شدادا يذودون عن الذاكرين أهل الحضرة الالهية جميع الشياطين , حتى أن القرين يكون حينئذ مهينا , ضربت عليهم الذلة و المسكنة لأن سلطان القهر تولى الحضرة فلا يدخل فيها غير أهلها , و الوارد من حضرة قهار , فهو حق و شانيه باطل و الباطل زهوق . قال تعالى : " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق " , و قال تعالى : " ان الباطل كان زهوقا " . فالحضرة هي الجنة حقا , لأنه لا صخب فيها و لا نصب , و لا معوق فيها و لا تعب . ألم تسمع قوله تعالى " و لمن خاف مقام ربه جنتان " , فهي هي الجنة الأولى التي للذاكرين أولي الحضرة الربانية . شيء لله يا أولياء الله عند طيبكم هذا , لا تنسوا محبكم الغريب و قد كسوتموه حلة التصويب و لا ملاذ له الا بالسيد الحبيب , الخ كلامه الى أن قال , الحذر الحذر عباد الله من اذاية أهل الله و ما ذكرناه حق الخ , انتهى كلامه و الله أعلم , و هو عجيب . فتعين منه أن الذاكر ينبغي أن لا يعترض عليه كيف ما كان لاتفاقهم من أعطي الذكر فقد أعطي منشور الولاية , و اذا ثبتت ولايته يخاف من الاعتراض عليه ولو بالقلب , لقوله عليه السلام : " من آذى وليا فقد حارب الله تعالى " , أو كما قال , و الله أعلم . فعلى هذا ان ابدال الهمزة ياء لا يجوز لا في التلاوة و لا في الذكر في الكلمة المشرفة حالة الاختيار , اللهم الا اذا اعترى الذاكر وارد اصطلام , فلا يضره ما ينطق به و يسمع منه , سواء أبدل الهمزة ياء أو غير ذلك لما تقدم و الله أعلم . قوله كمد الا بيا , أي و هل يجوز مد همزة الا الله المكسورة أم لا . الفصل الخامس عشر , في الجواب على قول السائل و هل يجوز مد همزة الا الله المكسورة أو لا . اعلم أنه لا يجوز ذلك اختيارا كما تقدم في الفصل قبله , لاختلال المعنى , فاذا مدت الهمزة تصير اي لا الله , فان اي حرف جواب مثل نعم , فتخرج الكلمة الكريمة على المعنى المقصود بها و هو الاستثناء الى معنى الجواب , و هذا خلاف ما أنزل الله تعالى , انتهى , من الجوهر الخاص بالمعنى و الله أعلم . قلت و انما يشترط هذا في الذكر باللسان و أما ذكر القلب فلا يشترط فيه جميع ما ذكر . و قال شيخ شيوخنا سيدي مصطفى البكري في ألفيته , رحمه الله و نفعنا به : " اعلم أن كلمة الاخلاص تذكر بالقلب مع الاخلاص " . قال الامام العارف بالله الشهير بالشطيبي في كتاب مفتاح الجنة المتوقف على الكتاب و السنة : " ذكر الله تعالى باللسان من غير تقصير و لا غفلة و لا توان " , الى أن قال : " فان دمت في هذه الرتبة على الذكر , انتقل ذكرك من اللسان الى القلب و سلب اللسان النطق فلا يتكلم البتة و لا يذكر شيئا بلسان المقال , و انما يصير الذكر يجري في قلبك و يمازج لحمك و دمك كامتزاج الماء بالنبات , و اذا صار الذكر قلبا يظن الذاكر أنه قريب من الحق عندما يرقى لمقام الهيبة , و يصير يسمع الأصوات في سره و جهره بالعبارات المختلفة , كلها ذاكرة معه , و ربما سمع ذلك بأصوات غير مفهومة و لا معهودة , و تراه لا يفرق بين ذكر نفسه و ذكر الأكوان . فليصبر في هذا المقام على ملازمة ذلك بتحفظه عن القواطع و الشواغل , انتهى باختصار و الله الموفق للصواب . قال عفى الله تعالى عنه :

(و هل فيهما تسكين الهاء من اله و هل تأويل خبر في ذكر الله )

اشتمل البيت على ثلاث سؤالات عن لا اله الا الله و عن ذكر اسم الله الأعظم . السؤال الأول هل يجوز تسكين الهاء من اله في حال التلاوة أم لا . السؤال الثاني , و هل يجوز ذلك في حال الذكر أم لا . السؤال الثالث , و هل قول الذاكر الله الله يحتاج الى تأويل خبر أم لا . و الجواب على ذلك في ثلاثة فصول , فهي مع الخمسة عشر , ثمانية عشر فصلا جوابا لثمانية عشر سؤالا . قوله و هل فيهما , أي في التلاوة و في الذكر , فالظمير عائد عليهما , تسكين الهاء من اله في التلاوة أولا . الفصل السادس عشر , في الجواب على قوله و هل يجوز تسكين الهاء من اله في لا اله الا الله في التلاوة , أو لا بد من تحريكها و ما هو الحذر منه في تسكينها . اعلم أنه قد تقدم أنها مبنية على حركة الفتح أو معربة على مذهب الزجاج , و حذف التنوين تخفيفا كما تقدم , و لا وجه للسكون حينئذ الا اذا كان للوقف و الوقف قبيح منهي عنه في مثل هذا , و ان كان جائزا لسبب عي أو انحصار نفس . قال ابن الجزري رحمه الله تعالى :
و ليس في القرآن من وقف وجب و لا حرام غير ما له سبب
يعني أنه لا يوجد في القرآن وقف واجب يأثم القارء بتركه . و لا وقف حرام يأثم بالوقف عليه , لأن الوصل و الوقف لا يدلان على معنى يختل بذهابهما الا أن يكون لذلك سبب يستدعي تحريمه , كأن تقصد الوقف على أني كفرت و لا اله و نحو ذلك من غير ضرورة , اذ لا يفعل ذلك مسلم . فان لم يقصد لم يحرم . فالأحسن أن يجتنب التالي الوقف على مثل ذلك للايهام , فتعين منه أنه يجوز تسكين الهاء من اله للسبب المذكور و هو العي أو انحصار نفس , و يكره لغيره و يحرم للقصد المذكور و الله أعلم , انتهى قوله . و هل فيهما تسكين الهاء من اله و قد تقدم أن الضمير من فيهما عائد على التلاوة و الذكر المذكورين في البيت قبله , و قد تقدم الجواب على التلاوة في الفصل قبله و أراد الآن أن يسأل هل يجوز ذلك في الذكر لأن باب الذكر أوسع من التلاوة أم لا , فقال السائا و هل يجوز ذلك في الذكر أم لا . الفصل السابع عشر , في الجواب على قوله هل يجوز تسكين الهاء من اله في الذكر أم لا , اعلم أنه لا يجوز ذلك اختيارا لأن الكلمة بنيت على حركة الفتح , و السكون لا يكون الا عن كلام تام فلا يجوز تسكينها اختيارا من التالي و الذاكر بغير سبب , كسكتة نفس أو اعياء و نحو ذلك كما تقدم , لأنه اذا تعمد الوقف عليها بالسكون فكأنه أتم الكلام فيلزم عليه نفي جميع الآلهة , و هو تعطيل , و نعوذ بالله من اعتقاده , فليحذر الذاكر من ذلك والله أعلم , كذا في الجوهر الخاص . قلت , و قد تقدم , أن للذكر حالتين , حالة اختيارية و خالة غير اختيارية , و في حالة غير الاختيار كل ما نطق به ذكر و لا يلزمه شيء مما ذكر , سواء سكن أو حرك , و تقدم ذلك كله . تنبيه : الفرق بين التلاوة و الذكر . فالتلاوة المقصود منها تصحيح الألفاظ و الحروف للمعنى , و الذكر المقصود منه تصحيح المعنى و احتضارها باللفظ . فالمقصود بالأول التعبد بالألفاظ و الحروف , و ان جمع ذلك بالمعنى تضاعف الأجر كما هو معلوم في محله , لما ثبت أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم لا يعلمون كثيرا من معنى القرآن العظيم , و كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : " علمت معنى كتاب الله من أوله الى آخره الا أربع آيات " . و لما يال أبو بكر عن الأب في قوله تعالى " و فاكهة و أبا " , قيل له " فاكهة عرفناه و أما الأب ... " , فقال : " ما كلفنا لمثل هذا " , أو كلاما يقرب منه , رضي الله عنه , و غير ذلك . قال السبكي رحمه الله تعالى في حد الكتاب , هو القرآن الخ , المتعبد بتلاوته ليدخل المنسوخ . و ثبت عن الامام أحمد بن حمبل رضي الله عنه , أنه رأى رب العزة كما يليق بجلاله في المنام فقال : " يا رب بما يتقرب اليك المتقربون " . فقال تعالى : " يا أحمد بكلامي " . فقال : " يا رب بفهم أو بغير فهم " . فقال تعالى : " يا أحمد بفهم أو بغير فهم " , أو كما قال . و أما المقصود من الثاني الذي هو الذكر , التعبد بالمعنى و احتضارها باللفظ , فان حقيقة الذكر هو التخلص من الغفلة و النسيان بدوام حضور القلب مع الله تعالى , و قيل تردد اسم المذكور بالقلب , و سواء في ذلك ذكر الله تعالى أو صفة من صفاته أو حكما من أحكامه أو فعلا من أفعاله , الى أن قال , أو شعرا أو غناء أو محاضرة الخ . فكله مع الحضور ذكر و قد تقدم طرف منه و الله أعلم , كذا في مفتاح الفلاح . فتعين من هذا أن المقصود بالذات في الذكر المعنى , فلا يضر تغير اللفظ مع صحتها بخلاف التلاوة و الله تعالى أعلم , انتهى باختصار . قوله و هل تأويل خبر في ذكر الله , أي السؤال الثامن عشر و هو قول الذاكر الله الله يحتاج الى تأويل خبر أم لا . الفصل الثامن عشر , في الجواب على قوله هل يحتاج ذاكر اسم الجلالة الله الله الى تأويل خبر أم لا . اعلم أنه قال في الجوهر الخاص , أما من حيث الأكمل فيحتاج الى تأويل خبر ليتم المعنى لا من حيث أنه يسمى ذكرا , فانه يسمى ذكرا بدون ذلك لأن صيغ الذكر و ضعت للتعبد بها و لو من غير تأويل خبر . لطيفة : قال الجويري قدس سره , كأن رجلا من أصحابنا يكثر ذكر الله الله , فوقع على رأسه جذع فشجه فكتب دمه على الأرض الله الله , انتهى و الله أعلم . قلت و هكذا كان يقول شيخنا الأزهري نفعنا الله به , آمين . و لا بد من تقدير خبر في الأسماء السبعة كما ذلك في لا اله الا الله بلا معبود أو لا مطلوب أو لا موجود الا الله على ما تقدم قريبا , كذلك في الأسماء الستة بعدها التي هي الله , هو , حق , حي , قيوم , قهار . فيقدر عند ذكر كل اسم من هذه خبر يناسب الذاكر و المذكور , و سيأتي بيان ذلك بعد ان شاء الله تعالى . و هذه الأسماء خاصة بالطريقة الخلوتية . فان الطرق غير الخلوتية مدارها على ثلاثة أسماء فقط و هي لا اله الا الله , الله , هو . و زاد أهل الطريقة الخلوتية أربعة أسماء عليها كما ذكرت أولا , و فائدتها و حكمتها خرق الحجب السبعين أو السبعين ألفا على الروايتين التي أشار اليهما بقوله صلى الله عليه و سلم " أن لله سبعين " , و في رواية " سبعين لف حجاب من نور و ظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه " . المراد من الحجب التي هي الظلمة , الذنوب و الخطايا , و المراد من الحجب التي هي النور التفاتات السالك للذات الأخروية الجنانية و الى الكرامات و التجليات و الوصال و غير ذلك من المقامات والأحوال , فكل ذلك حجاب , و من في قلبه شيء غير الله تعالى فهو به محجوب و لو كان حجابا نورانيا , فالحجب الظلمانية هي الذنوب كما تقدم , الحجب النورانية هي التفاتات القلب الى غيره تعلى , اللهم الا ان كان ذلك الغير طريقا اليه كالنبي صلى الله عليه وسلم . تنبيه : ان هذه الحجب منقسمة على سبعة نفوس باعتبار ترقيتها بعد كمال تنزلها و هي نفس واحدة , فغاية تنزلها الى مقام ظلمة الاغيار تسمى أمارة بالسوء , فاذا ترقت منه الى مقام الأنوار تسمى لوامة و هي أيضا محجوبة الأنوارعن الاسرار كما كانت في المقام الأول محجوبة بظلمات الأغيار عن الأنوار , فاذا ترقت منه الى المقام الثالث الذي هو مقام الأسرار , تسمى النفس فيه بالملهمة , فاذا ترقت منه الى المقام الرابع الذي هو مقام الكمال تسمى فيه بالمطمئنة , و هي أيضا محجوبة بالكمال عن الوصال . فاذا ترقت منه الى المقام الخامس الذي هو مقام الوصال تسمى فيه بالراضية , و هي أيضا محجوبة بالوصال عن التجليات , فاذا ترقت منه الى المقام السادس الذي هو مقام تجليات الأفعال , تسمى فيه بالمرضية و هي أيضا محجوبة بتجليات الافعال عن تجليات الأسماء و الصفات . فاذا ترقت الى المقام السابع الذي هو مقام تجليات الاسماء و الصفات , تسمى فيه النفس بالكاملة و هي أيضا محجوبة بالأسماء و الصفات عن الذات , و هنا انقطع السلوك و لم تنقطع التجليات , و كل حجاب اكتنف ما بعده , و هكذا الى آخر الحجب . فائدة : لا يفتق هذه الحجب السبعين أو السبعين ألفا الا الاسماء السبعة المذكورة . فكل عشرة آلاف حجاب يخرقها اسم من الاسماء السبعة . فحجب ظلمات الاغيار لا يخرقها الا " لا اله الا الله " , و حجب الانوار لا يخرقها الا اسم الجلالة و هو " الله " , و كذلك حجب الأسرار يخرقها " هو " , و كذلك حجب الكمال يخرقها " حق " , , و حجب الوصال يخرقها " حي " , و تجليات الأفعال " قيوم " , و تجليات الصفات و الأسماء " قهار " , و لهذه الفائدة العظيمة , زادت الطريقة الخلوتية بأربعة أسماء على جميع الطرق , و لو لا يعد ضيق المحل عن المناسبة لاستوفيت الكلام على ذلك , و لكن فاذا دعت المناسبة اليه أذكر طرفا منه ان شاء الله تعالى في غير هذا , انتهى و الله أعلم . قال عفا الله تعالى عنه

( و هل من غير نية عنه يثاب و ما هو التأويل يا أولي الألباب )

اشتمل البيت على سؤالين عن اسم الجلالة , و هو الله تعالى . السؤال الأول , هل يكون الله الله ذكرا يثاب عليه بغير نية و تأويل أم لا . السؤال الثاني , و ما هو التأويل ان جاز ذلك . فكان هذا البيت تمام العشرين سؤالا من الخمسة و الأربعين المتقدم ذكرها . قوله و هل من غير نية عليه يثاب . الفصل التاسع عشر , في الجواب على قوله هل يكون الله الله ذكرا يثاب عليه بغير نية و تأويل الخ , اعلم أنه ذكر ابن حجر العسقلاني في شرحه على البخاري في الكلام على حديث الأعمال بالنيات عن عبد السلام عن الامام الشافعي رحمهم الله تعالى , أن النية انما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها , و أما ما يتميز بنفسه فانه ينصرف بصورته الى غير ما وضع له , كالأذكار و الأدعية و التلاوة لأنها لا تتردد بين العادة والعبادة , و لا يخفى أن ذلك انما هو بالنظر الى أصل الوضع , أما ما يحدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا . و مع ذلك فلو قصد القرب الى الله تعالى لكان أكثر ثوابا و من ثم قال الامام رحمه الله تعالى , فحركة اللسان بالدكر مع الغفلة عنه يحصل به الثواب لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة بل هو خير من السكوت المجرد عن التفكر , و انما هو غير نافع بالنسبة لعمل القلب . و سأل بعض المريدين , فقال انا نذكر الله تعالى بألسنتنا و لا نجد في قلوبنا حلاوة , فقيل له احمد الله تعالى على أذ زين جارحة من جوارحكم بطاعته . ففيه أنه أمره بالحمد على دوام الذكر و لو مع العفلة في القلب , و ليس معها نية و لا تأويل . و قال ابن عربي قدس سره : " ما قصدوا بذكرهم الله الله أو هو هو الا من حيث علموا أن المسمى بهذا الاسم و بهذا الضمير من لا تقيده الأكوان و من له الوجود العام التام . و باحضار المعنى في نفس الذاكر عند ذكر الاسم تحصل الفائدة , فانه ذكر عري عن تأويل . فان من تقيد بشيء لم يفتح عليه الا بما تقيد به فقط , لأن هذا مطلبه من الله تعالى فقط . و قال بعض الصوفية ذكر لا اله الا الله على كل حال بقصد القرب يحصل بها الثواب , فيكون ذكر الله الله كذلك . ثم فال : " لكن الأكمل الذي ترد به على القلوب المواهب اللدنية , أن يعظم الذاكر ما عظم الله تعالى و أن يحسن أدبه مع ما شرف الله تعالى " . ففي ذلك اشارة الى ن الأكمل في الذكر يتوقف على التأويل و الله أعلم . تنبيه : قال الحراني في رسالته : " لا يجوز للذاكر في مذهب أهل الذكر و الخلوة أن يتفكر في معنى آية أو حديث أو غيرهما الا اذا ورد عليه معنى من المعاني في أثناء الذكر من التنبيهات الالهية و الواردات الخفية من التأنس بالأفكار البشرية , فيفهم و يشتغل بالذكر بل و يرجع الى اكر , انتهى , من الجوهر الخاص . قلت , فتعين أن ذكر الجلالة لا يفتقر الى نية و لا الى تأويل و هو من الأشياء الموضوعة للعبادة دون العادة , و لكن النية و التأويل من شرط الكمال و زيادة الثواب لعموم ورود السنة بحديث " انما الأعمال بالنيات " , الخ , و منها أشياء لا تفتقر اليها . قال ابن نجيم في الأشباه و النظائر , رحمه الله تعالى , بعد كلام : " ثم التقرب الى الله تعالى يكون بالفرض و النفل و الواجب , فشرعت النية لتميزها عن بعضها , فتفرع على ذلك أن ما لا يكون عادة و لا يلتبس بغيره لا تشترط فيه كالايمان بالله تعالى و المعرفة و الخوف و الرجاء و النية و قراءة القرآن و الأذكار , لأنها متميزة لا تلتبس بغيرها " . و قال ابن وهبان : " ان ما لا يكون الا عبادة لا يحتاج الى النية " . و ذكر أيضا أن النية لا تحتاج الى نية . و نقل العيني في شرح البخاري الاجماع على أن التلاوة و الأذكار و الأذان لا تحتاج الى نية , انتهى و الله أعلم . قاعدة : قال الطيبي : " قال بعض أهل الحقيقة , العل سعي الاركان الى الله تعالى , و النية سعي القلب اليه تعالى , و القلب ملك و الأركان جنوده و يحارب الملك الا بالجنود و لا الجنود الا بالملك . و قال بعضهم : " النية جمع الهمة ليقيد العمل للمعمول له و أن لا يسبح في السر ذكر غيره " . و قال بعضهم : " نية العوام في طلب الأغراض مع نسيان الفضل , و نية الجهال التحصن عن سر القضاء و نزول البلاء , و نية أهل النفاق التزين عند الله و عند الناس , و نية العلماء اقامة الطاعة لحرمة ناصبها لا لحرمتها , و نية أهل التصوف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من الطاعات " . تتمة : قال في الاحياء : " النية انما مبدؤها من الايمان , فالمؤمنون يبدؤهم من ايمانهم ذكر الطاعة فتنهض قلوبهم الى الله تعالى من مسقر النفس , فان قلوبهم مع نفوسهم , و ذلك النهوض هو النية . و أهل اليقين جاوزوا هذه المنزلة و صارت قلوبهم مع الله تعالى مزايلة لنفوسهم بالكلية , ففرغوا من النية اذ هي النهوض , فنهوض القلب من معدن الشهوات و العادات الى الله تعالى بأن يعمل طاعة هو نيته و الذي صار قلبه في الحضرة الأحدية مستغرقا , محال أن يقال نهض الى الله تعالى في كذا , بل هو ناهض بجملته مستغرق في جزيل عظمته , قد رفض ذلك الموطن الذي كان موطنه و ارتحل الى الله تعالى . فالمخاطب بالنية الذين يحتاجون أن يخلصوا ارادتهم من أهوائهم و يميزوا عبادتهم من عاداتهم " . خاتمة : في حقيقة النية , فهي في اللغة كما في القاموس , نوى الشيء ينويه نية , و يخفف قصده . و في الشرع كما في التلويح قصد الطاعة و التقرب الى الله تعالى في ايجاد الفعل . و لا يرد عليه النية في التروك , لأنه لا يتقرب بها الا اذا صار المتروك كفا و هو فعل المكلف به في النهي لا الترك , بمهنى العدم لأنه ليس داخلا تحت القدرة للعبد كما في التحرير , و عرفها القاضي البيضاوي بأنها شرعا الارادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء لوجه الله تعالى و امتثالا لحكمه . و لغة انبعاث القلب نحو ما يراه موفقا لغرض من جلب نفع أو دفع ض ر حالا أو مئالا , انتهى و الله أعلم . قوله , و ما هو التأويل يا ألي الألباب , أي بينوا لنا ان جاز التأويل , أي تقدير خبر في قول الذاكر الله الله , ما يكون ذلك التأويل . الفصل العشرون , في الجواب على قول السائل ما هو التأويل في ذكر الله الله ان كان و لا بد منه , اعلم أنه قال الامام المحقق زين الدين محمد سبط المرصفي في كتابه الجوهر الخاص , أن التأويل يكون بحسب اللائق به تعالى , نحو الله حق أو الله مطلوب أو موجود أو الله مقصود . و فال الصوفية كالغزالي و غيره فيه تفصيل . فان كان القائل الله من أهل العموم فايعين بها المعبود بحق أو الغني عن كل ما سواه المفتقر اليه كل ما عداه على الخلاف في لا اله الا الله , و ان كان من أهل السلوك فليعين بها المطلوب مثلا أو المعبود أو المشهود أو الموجود كما تقدم ذلك في لا اله الا الله . قلت , و قد كنت أقدر الخبر حين الذكر باسم الجلالة كما ذكر و تارة المحبوب , فأخبرت الأستاذ رحمه الله تالى و نفعنا به آمين , فنهاني و قال لا تزد عن قولك دائم الوجود , يعني اذا قلت بلسانك " الله " , تقول بقلبك دائم الوجود و هكذا , و هددني بقوله و الا أنت أخبر , رحمه الله تعالى و نفعنا به , و قد وجدت و الحمد لله بعض هذا التأويل و السر كله في اتباع أمر المشايخ نفعنا الله تعالى بهم . و من هذا كان يجب على كل من دخل تحت نظر شيخ و أخ نصيح خمية أمور : اتباع أمره و ان ظهر خلافه . الثاني : اجتناب نهيه و ان كان فيه حتفه . الثالث : حفظ حرمته غائبا أو حاضرا حيا أو ميتا . الرابع : القيام بحقوقه حسب الامكان بلا تقصير . الخامس : عزل عقله و علمه و رآسته الى ما يوافق ذلك من شيخه . قاله الشيخ زروق نفعنا الله تعالى به في الوصية . و قال قبله أصول المعاملة خمسة : طلب العلم للقيام بالأمر و صحبة المشائخ و الاخوان للتبصر , و ترك الرخص و التأويلات للتحفظ و ضبط الأوقات بالأوراد للحضور , و اتهام النفس في كل شيء للخروج من الهوى و السلامة من العطب و الغلط الخ . قلت المعاملة هي القيام بحقوق الربوبية بالعبودية . و لأهل الطرق معاملات و لكن صولها هذه , فمن بنى على غير أساس فلا يتم له بناء , و من أحكم الأصل انتفع بالفرع , و من لا فلا . و لهذه الأصول آفات مذكورة في الاصل فلا نطيل بها و الله أعلم . و قوله يا الي الألباب تتميم للنظم معناه يا اصحاب العقول , المراد به العلماء المخاطبون بالسؤال القادرون على الجواب . لأن الألباب جمع لب بالضم و الخالص من كا شيء , و من النخل و و الجوز و اللوز و نحوها قلبها , و العقل . و يجمع على ألباب و ألب وألبب ألخ . كذا في القاموس و لما كان الباعث لألي الألباب من أهل الايمان على تقويهم لله تعالى شهود الجلال و الجمال على سبيل الهيبة و الحياء منه تعالى بحفظ القلب من الهفوات و الخطرات , خاطبهم بقوله تعالى " فاتقوا الله يا ألي الألباب " , بخلاف أهل مقام الاسلام , فهم مخاطبون بقوله تعالى " قاتقوا الله ما استطعتم " , لأن لهم أعمال الجوارح , فتقويهم حفظ الجوارح من المخالفات اتقاء سخط باريء المخلوقات فالواجب عليهم حفظ الجوارح كما الواجب على ألي الألباب حفظ القلوب , لأنهم أرباب قلوب و قد عرفت تقويهم و الله أعلم . قال عفا الله عنه آمين :

علي العذاري
16-01-2012, 10:23 AM
( و ما هو الأفضل للذاكر من هيللة أو مفرد له زكن )

اشتمل البيت على سؤال واحد وهو , ما الافضل للذاكر الاكثار من لا اله الا الله , أو من الله الله , و الهيللة مصدر مركب كالبسملة و الحسبلة و الحوقلة . قال الجوهري هلل الرجل أي قال لا اله الا الله , و يقال قد أكثرت من الهيللة , أي من قول لا اله الا الله , انتهى كلامه . و قوله أو مفرد , المفرد هو اسم الله تعالى الفرد , و هو الاسم الأعظم الذي اذا دعي به أجاب , و اذا سئل به أعطى . و قال صلى الله ليه وسلم : " سبق المفردون " , قالوا و ما المفردون يا رسول الله , قال : " الذاكرون الله تعالى كثيرا " . هذه رواية مسلم , و رواية الترمذي : " م المستهترون بذكر الله تعالى " . و قيل الموحدون الذين لا يذكرون الا الله تعالى , انتهى من مفتاح الفلاح باختصار . و معنى زكن علم . الفصل الحادي و العشرون , في الجواب على قوله و ما هو الأفضل للذاكر الاكثار من لا اله الا الله أو من الله الله . اعلم أنه اختار امام الطائفة أبو القاسم الجنيد و جماعة رحمهم الله تعالى , للمبتدء الاكثار من لا اله الا الله , و المتوسط الله الله , و هو ذكر ينفي الحظوظ و يبقي الحقوق , و يسرع ذهاب الأغيار بالأنوار . و اختار للمنتهي هو هو , و صنف في ذلك كتاب التجريد . و اختار الامام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب الميزان الاكثار من ذكر الله الله , و ذكر أنه تلقن عن بعض مشائخه الله الله , و قال نها متضمنة لكلمة الشهادة و كان بو الحسن الشاذلي قدس سره يقدمها في التلقين على لا اله الا الله , و قال في رسالة القصد , يقول المريد الله الله , و كما تلقنها لقنها و عمل بها و اختارها هو و جمع من الصوفية لا يحصون و قالوا هي معظم أركانهم من الذكر في التوجه لسلامة قلوبهم مما ينفي , حتى قالوا هي أنفع للمريد و أجمع لخاطره و أصفى بشهوده لناظره , لأنها اثبات محض و مدلولها الذات المقدسة التي الألوهية صفة من صفاتها . قال بو العباس المرسي لبعض أصحابه : " ليكن ذكرك الله , فان هذا الاسم سلطان الأسماء و له بساط و ثمرة , فبساطه العلم و ثمرته النور , ليس مقصودا لنفسه و انما يقع به الكشف و العيان و الله أعلم . فينبغي له الاكثار من ذكرها و ختيارها على غيرها لتضمنها جميع ما في لا اله الا الله من العقائد و العلم و الأدب و الحقوق و ما يفي بها و غير ذلك , فانه يأتي في الله و في هو ما لا يأتي في غيرهما من الأذكار اذا أمعنت النظر و دققت فيهما . و اختيار الأستاذ أبي الحسن رجحه طائفة , و ان كان ابن تيميه من علماء الحنابلة غلطهم في ذلك , فقال : " هذا من الغلط الذي دخل بسببه فساد كبير على السالكين حتى آل بعضهم الى الحلول و الاتحاد " . قلت , و ليس في عقائدهم شيء من الحلول و الاتحاد المنكر , و انما يريدون بالاتحاد الفناء الذي هو محو النفس و اثبات الأمر كله له تعالى و ترك الارادة و الاختيار معه و الجواز على مواقع أقداره من غير اعتراض و ترك نسبة شيء الى غيره . و فوق هذا الفناء فناء آخر و هو أن السالك اذا انتهى سلوكه الى الله وفي الله , يستغرق في بحر التوحيد و العرفان , بحيث يضمحل العبد فيغيب عن كل ما سواه و لا يرى في الوجود الا الله , و هذا يسمونه الفناء في التوحيد , و حينئذ فربما يصدر عنه عبارات تشعر بالحلول أو الاتحاد لقصور العبارة عن بيان تلك الحالة و بعد الكشف عنها بالمثال . و فوق هذا درجات ثلاث في الفناء , و هو لخواص الأولياء و أئمة المقربين , و هو الفناء عن ارادة السوى سالكا سبيل الجمع على ما يحبه و يرضاه , فيأتي بمراد محبوبه منه عن مراده هو من محبوبه , أعني المراد الديني الأمدي , لا المراد الكوني القدري . قلت , معناه و الله أعلم هو البقاء الذي يعقب الفناء , و هو ان يفنى عن ما له و يبقى بما لله تعالى , فتكون حركاته في موافقة الحق دون مخالفته , فكان فانيا عن المخالفات , باقيا في الموافقات , فصار المراد واحدا . فمن ثم علم أن الصوفية يطلقون الاتحاد في اصطلاحهم و يريدون به معنى ما تقرر , و لا مانع من الاصطلاح و لا مشاحة فيه شرعا , و لو كان ممنوعا لم يجز لأحد أن يتلفظ به , و كم استعمل المحدثون و الفقهاء و النحويون لفظه , كقول المحدثين " اتحاد مخرج الحديث " , و كقول الفقهاء اذا " اتحد نوع الماشية " , و " اتحاد القابض و المقبض " , و كقول النحاة " اتحاد العامل لفظا و معنى " , و " أنت بيني و بين فلان اتحاد " . فحين ما وقع الاتحاد في كلام الصوفية فانما يريدون به معنى الفناء كما قررته لك , و ما قاله ابن تيمية من أن أفضل الكلام بعد القرآن سبحان الله و الحمد لله و الله أكبر , و هو بالكلام التام لا بالاسم المفرد و لا بالضمير و ان خلاف ذلك غلط , حتى آل بعضهم بسببه للحلول و الاتحاد مدفوعا بأخبار الكمل . قلت , بل بالكتاب و السنة و اجماع الأئمة الا نادرا من الفقهاء لا يعتد به . و لاعتناء أئمة الصوفية بالذكر المفرد و هو الله الله , أو الضمير و هو هو , و ترجيحهم لها على النفي و الاثبات , حتى أن منهم من استحي من ذكر النفي و الاثبات لو لا ما أذن الله تعالى لهم به في التلاوة , خوفا من أن يقبض الذاكر لها في وحشة النفي , اذ ليس لهم مشهود سواه تعالى حتى ينفوه , و من كان هذا حاله فلا بد من أن يستحيي من لا اله حيث نظر الى نفسه قبل نظره الى خالقه , و هو أشد الحياء , قاله ابن عربي رحمه الله تعالى . قال فكانت من ثم أرفع شعب الايمان كما أنها أرفع شعب الحياء من الله تعالى , و ما قصدوا بذكرهم الله أو هو الا نفس دلالته على العين . فانهم علموا أن المسمى بهما لا تقيده الأكوان و من له الوجود التام , و باحتضار هذا المعنى و نحوه بنفس الذاكر عند ذكر الاسم , تحصل الفائدة . فانه ذكر غير مقيد بلا اله الا الله , و ما يعطي المقيد من الفتح الا ما تعطيه هذه الدلالة , و لا يفتح عليه الا بما تقيد به , و لا يمكن أن يجتني صاحب بستان الا ثمرة ما غرس لا كل الثمرات , اذ ليست في مغارس بستانه , و قد تقدم دلالة قوله تعالى " أذكروني أذكركم " على ذلك , و تقدم أن الذكر ما أتى قط مقيدا بشيء , كقوله تعالى : " قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " . و كقوله : " اذكروا الله " , و لم يقل بكذا و كذا , " و لذكر الله أكبر" , " و اذكروا الله في أيام معدودات " , " واذكروا اسم الله عليها " . و في الحديث : " لا تقوم الساعة و على وجه الأرض من يقول الله الله " , و لم يقل في الكل بكذا و لم يقيده تعالى بأمر زائد على هذا اللفظ . و قال ابن عربي أيضا : " هذا الذكر ذكر الخاصة من عباده الذين عمر الله تعالى بأنفاسهم العالم , و ما قصدوا الا استحضار ما يستحقه المسمى , و كم من يقول الله من غير استحضار لما ذكر , فلا يعتبر دون استحضار المعنى المذكور . و كان أبو العباس العربي الأندلسي التزم ذكر الله الله , و التزم آخرون الهاء منها لدلالتها على الهوية , و تقدم أن الغزالي رحمه الله تعالى نبه على أن لفظة هو تدل على الذات من حيث هو و لا حاجة في معرفته الى اعتبار حال غيره , فلفظ هو الذكر به يوصلك الى الحق سبحانه و تعالى , و يقطعك عما سواه , و سائر أسماء الصفات ليس كذلك . فمن ثم صح قول ابن العربي أنه أشرف و لأنه هو دال على الموصوف , و الموصوف أشرف من الصفة , و لهذا كان ذكر خاصة الخاصة . و قال تعالى : " قل هو الله أحد " , فلفظ هو عبارة عما يكون يجده النبي صلى الله عليه وسلم من اطلاع الحق سبحانه و تعالى على قلبه و نظره اليه من الحقيقة . ثم اعلم بأن هذا الاسم له هيبة عظيمة عند أرباب المكاشفات و له شرف عظيم و جلالة تامة و هو ينبىء عن كنه الحقيقة المبرأة عن جميع جهات الكثرة . فهو أشرف الألفاظ و أقرب العبادات الى الحقيقة و الله أعلم . قلت , و التحقيق ما قاله العارف بالله تعالى سيدي أحمد ابن أخت سيدي مدين , نفعنا الله به في رسالة الخلاصة , أن هذا أمر راجع الى الذاكر , فان وجد التأثير في قلبه بلا اله الا الله أكثر لزم ذلك , و ان وجد التأثير بلفظة الله أكثر لزمها . قلت , او بلفظة هو لزمها , و لا ينتقل من ذكر الى آخر الا بوارد حق ينقله اليه . لطيفة : ابتدأ سبحانه و تعالى اسمه الشريف الله بحرف الألف لما فيه من الدلالة عليه و الاشارة اليه , فان معاني الربوبية مندمجة و مندرجة في هذا الاسم مودعة فيه , و لذلك ابتدأ بظهوره لعباده يستدلون به عليه و يصلون به اليه . اذ لا سبيل لذاته تعالى , فدلهم بأسمائه و صفاته , فجعل حرف الألف أول اسمه تعالى , اذ هو أول حروف المعجم و أول ما خاطب الله تعالى به عباده بقوله تعالى " ألست بربكم قالوا بلى " , فأشار به الى أوليته و جعله ممتدا طويلا اشارة الى سرمديته و ديموميته , و جعله لا تجويف فيه اشارة الى صمديته , و جعله مفردا اشارة الى أحديته , و جعل الحروف تتصل به و لا يتصل هو بحرف اشارة الى افتقار خلقه اليه . فالطائف حول كعبة اسم الله تعالى أول ما يكشف له في طوافه عن سر الحرف " ليشهدوا منافع لهم و يذكروا اسم الله " , ثم يسعى بين صفا اللام الأول و اللام الثاني , فاذا تم سعيه و قطع مدرجة الألف و اللامين وقف على عرفات هاء اللاهوتية , فكأن قائلا يقول عند الوصول الى الهاء ها هو المطلوب الذي تعرفه القلوب و تنكشف به الغيوب . و في الهاء معنى لطيف و هو أن قولك هو , حرفان هاء و واو . فالهاء من آخر مخارج الحروف , و الواو من بين الشفتين و هو أول مخارج الحروف , اشارة الى أنه الأول و الآخر , و أنشد في المعنى :
و اسمع اذا غنت المثاني تقول يا هو لبيك ياهو
و ما قلت للقلب أين حبي الا قال الضمير ها هو
و قيــــــــله :
يا ساقي القوم من شذاه الكل لما سقيت تاهو
صاحوا و بالحب فيك باحوا و صرحوا بالهوى و فاهو
يا عاذلي خلني و شربي فلست تدري الشراب ماهو
قم فاجتلي صفوة المعاني من صفوة الكأس اذا جلاه
تنبيه : اعترض على الذاكر بلا اله الا الله دون محمد رسول الله , و أجيب بأن محمدا رسول الله اقرار يكفي مرة واحدة في العمر مع أن قول العبد لا اله الا الله لقول الرسول هو عين اثبات رسالته . و لهذا قال صلى اله عليه و سلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله " , و لم يقل محمد رسول الله , لتضمن هذه الشهادة الرسالة , انتهى من الجوهر الخاص , و قد تقدم طرف منه في الأدبات و أعيد لاختلاف النقلين و الله أعلم . فتبين أن ملخص الجواب على سؤال السائل فيما ينبغي الاكثار للذاكر منه لا اله الا الله , أو الله الله , ما تقدم ذكره أولا عن امام الطائفة أبي القاسم الجنيد رحمه الله تعالى ونفعنا به آمين . و قال شيخنا الأزهري نفعنا الله به : " أما المبتدأ فلا ينفعه الا الاكثار من لا اله الا الله الى أن تصفى عناصره الأربعة أو بعضها التي هي النار و التراب و الهواء و الماء . فحينئذ ينبغي أن ينقل الى الاسم المفرد , و هكذا علامة كل اسم من الأسماء السبعة التي يحصل بها الترقي و السلوك و خرق الحجب , كما تقدم بعض ذلك . و كيفية الوصول الى معرفة صفاء عناصر الذاكر هو من جهة اخباره لنصيحه بمنامه و خواطره المكررين من مرتين فأكثر . و علامة صفاء هذه الأربعة مرموزة في كتبهم لئلا يدعيها من ليس أهلا له , و قد أشرنا الى بعض من ذلك في الرحمانية ليتفطن بها اللبيب , و لو لا خوف الاطالة التي تفضي الى السآمة لذكرنا طرفا من ذلك كما وعدنا به , و ان وجدنا محل المناسبة نأتي به ان شاء الله تعالى بمنه و يمنه . ثم قال عفا الله تعالى عنه :

( و هل حروفه مفسرا تكون و هل آخره محركا يكون )

اشتمل البيت على سؤالين عن اسم الجلالة . السؤال الأول , و هل يشترط في الذاكر بالجلالة أن تكون مفسرة الأحرف كلها أم لا . السؤال الثاني , وهل آخر الجلالة يكون بالسكون أو بالتحريك , و بها تمام ثلاثة و عشرين سؤالا . قوله و هل يشترط في حروفه , أي اسم الجلالة , مفسرا تكون أي و هل يشترط في الذكر بالجلالة أن تكون مفسرة الأحرف كلها أم لا . الفصل الثاني و العشرون : في الجواب على ذلك قال العالم العلامة زين الدين أبو محمد سبط العارف بالله تعالى سيدي علي المرصفي في كتابه الجوهر الخاص : " نعم يشترط ذلك ما دام واعيا " . قال : " و قال شيخ مشائخنا العارف بالله تعالى سيدي يوسف العجمي رحمه الله تعالى في رسالته أدب الذكر , انما تلزم الذاكر ما دام واعيا في عقله , فللغيبة أحكام يدركها صاحبها , و أما اذا سلب الذاكر اختيار الذكر فلا حرج على الذاكر ما دام مسلوب الاختيار يستعمله كيف يشاء على أنواع مختلفة كلها محمودة و صاحبها مشكور عليها , فانها كلها أسرار , فربما جرى على لسانه الله الله , أو هو هو , أو لا لا , أو أه أه , أو ه ه , أو عياط بغير حرف أو صرع أو تخبط . فدأبه في ذلك الوقت أن يسلم نفسه لوارده يتصرف فيه كيف شاء . و كذا بعد سكون وارده , يكون في تسليمه بالسكوت و السكون ما استطاع , مرتقبا للوارد أيضا , و قد تتفق هذه الأنواع للصادق في مجلس واحد . فهذه الآداب تلزمه ما دام يحتاج الى ذكر اللسان , فاذا استغنى بذكر القلب و الاستغراق في المذكور فلا حاجة الى شيء منها , بل يكون مع ما هو فيه من غير اعتراض و لا التفات الى شيء مطلقا . فان لم تتخلص نفسه الى البشرية , فلا حاجة له الى ذكر الظاهر الا حين عود البشرية اليه , فانها تفنى حينا و تعود حينا الى أن يكمل الفناء ثم البقاء , ثم بعد كمالها يبقى حكم القلب مع حضرة الربوبية كحكم البشرية مع القلب , و بعد هذا أخذ العلم من صدور الرجال بالذوق و الله أعلم . قلت , و قد تقدم طرف منه في الادابات و أعيد للمناسبة الداعية اليه , فتعين منه أنه يجب على الذاكر ما دام واعيا تحقيق حروف الجلالة و خصوصا الهاء منه فان بسقوطها سقوط المعنى فيبقى اللا و ليس هو الاسم الموضوع لها , و أيضا و بسقوط حرف منها سقوط سر من أسرارها , فان كل حرف دال على أسرار لا تحصى , يعلمه أربابه منها , اللهم الا اذا كان مع الوله و الاصطلاح , فكل ما يسمع منه سر من الأسرار , اما من المكتومة و لذلك ينكرها كل سامع , أو من المشار اليها ينكرها بعض و يسلمها بعض , انتهى و الله أعلم . قوله و هل آخره محركا يكون , أي و هل يكون آخر اسم الجلالة في الذكر محركا أم لا بل ساكنا . الفصل الثالث و العشرون : في الجواب على قوله وما يكون آخر الجلالة في الذكر محركا أو مسكنا , قال في الجوهر الخاص , بالتحريك وصلا و بالسكون وقفا و الله أعلم , انتهى كلامه رحمه الله تعالى . قلت , و ذكر العارف بالله تعالى سيدي عبد الرحمان بن الصغير الأخضر في شرحه على الجوهر المكنون في صدف الثلاثة فنون في علم المعاني و البيان و البديع , قال : " (التنبيه التاسع ) ذاكر اسم الجلالة أو غيره من أسماء الله تعالى تارة يذكره مركبا مع العوامل , كأستغفر الله , و هذا لا اشكال فيه , و تارة يذكره مجردا عن التركيب
, و قياسه حينئذ أن يكون ساكن الآخر , لأن حق الأسماء العارية عن التركيب سكون اعجازها كأسماء الأعداد و أسماء الحروف المذكورة في فواتح بعض السور من كتاب الله عز و جل . و هذا الحكم عام لكل اسم قصد تسمية مسماه فقط , لأن جوهر اللفظ موضوع لجوهر المعنى , و حركة اللفظ دالة على أحوال المعنى .فاذا أريد افادة مجرد جوهر المعنى وجب اخلاء اللفظ عن الحركات غير أنهم اختلفوا في حكمها على ثلاثة أقوال ثالثها موقوفة لا مبنية و لا معربة , لأبي البقا و الامام الرازي و المتأخرين , وعلل البناء بالشبه الاهمالي و الاعراب بأن سكونها لو لم يكن وقفا بل كان بناء , لأجريت مجرى كيف و أين , و الوقف بفقد موجب الاعراب و علة البناء . غير أنها قابلة لأن تدخل عليها العوامل فتعرب , انتهى كلامه . قلت , و عليه ان كل لفظة منها عبادة مستقلة , فلا وصل و ان وصلت بمثلها , أي حركت للاكثار و الاستراحة في الذكر , فينبغي أن تكون حركة مجانسة لما بعدها و هو الفتح لفتح همزة الجلالة و ذلك علامة على عدم دخول الاعراب و البناء الدالين على أحوال المعنى , فالمراد استفادة جوهر معنى الحروف الدالة على مسماها من غير التفات الى الأحوال التي يقتضيها الاعراب و البناء من أنواع التجليات الصفاتية بحسب الأسماء في أطوار التعينات و الله أعلم . ثم قال عفا الله تعالى عنه :

( و ما هو التحريك من اشكال و كم له من أحرف يا تال )

اشتمل البيت على سؤالين . الأول , و ما هو التحريك ان جاز الوصل , هل الرفع و النصب و الخفض . السؤال الثاني , كم للجلالة من أحرف فيها , و بهما تمام الخمسة و العشرين سؤالا . قوله و ما هو التحريك من اشكال . الفصل الرابع و العشرون : الجواب على قوله ان جاز حركة اسم الجلالة في الذكر عند الوصل , ما هي الحركة , هل رفع أو نصب أو خفض . اعلم أنه قال في الجوهر الخاص , أما الخفض فلا وجه له هنا الا أن يكون الداكر مغلوبا غلى لسانه حيث تعلم فلم يمكنه التعلم , فهو لحن لكن لا يمنع من الذكر لذلك , اذ العبرة عند الله تعالى بالمقاصد و كذلك اذا كان مغلوبا عليه غائبا عن عقله. فقد حكي عن بعض العلماء أنه حضر مجلس ذكر مع بعض الصوفية فسمع ذاكرا في المجلس يذكر الله الله بكسر الهاء , فعلم الشيخ من العالم الانكار لذلك الذكر الملحون , فالتفت اليه و قال العبرة عنكم بالمقاصد أو بالوسائل فقال العالم , بالمقاصد , فقال الشيخ هو جوابك , فاستغفر في حقه من انكاره و بر حتى بالجواب , اذ المراد الأعظم و المقصود الأهم صدق المقاصد و الاخلاص فيها , و من هنا أنفاسهم فضلا عن ألفاظهم تعد عند الله تعالى ذكرا ان شاء الله تعالى , ليجزي الله الصادقين بصدقهم . و من ثم قال أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى : " بالمقصد الصحيح تصل الى الله تعالى " . و أما النصب فله وجه اذا أراد الذاكر أطلب الله , أو أقصد الله , أو نحو ذلك . و أما الرفع فوجهه ظاهر على الابتداء اذا وصلها بما بعدها , نحو الله لا اله الا هو , أو الله ربي أو مطلوبي أو مقصودي و نحوها . و يجوز رفعها على الخبر , نحو المطلوب الله أو المقصود الله و نحو ذلك و الله أعلم . قلت , و قد تقدم أن الأسماء المجردة عن التركيب قياسها سكون اعجازها كأسماء الأعداد و فواتح بعض السور , و هو لمن يقصد تسمية مسماها فقط . فان جوهر اللفظ موضوع لجوهر المعنى , و تقدم . و ان تحركت اعجازها تحركت بحركة من جنس ما بعدها ليكون ذلك دليلا على عدم دخولها الاعراب لأنه مشعر بارادة قصد أحوال المعنى لا جوهرها , فينافي المقصود . و لذلك نقول الله الله بالفتح لا بغيره للمعنى المذكور في حضرتنا عند التوسط بالاسم الثاني , فافهم ذلك , و لأن الالتفات الى أحوال المعنى علة في فقد الاخلاص المعني بقوله تعالى : " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا " . و بالحديث الوارد أن الله تعالى أوحى الى داوود " لو لم أخلق جنة و لا نارا , ألم أستحق العبادة لذاتي , قال بلى يا رب " , او كما قال , انتهى و الله أعلم . فاذا علمت ذلك علمت أن ما أمرنا الأستاذ رحمه الله تعالى بتقديره في ذكر الاسم المفرد كما تقدم , هو عين جوهر المعنى لاحالها المؤذن بالالتفات الحقيقي , لا عبارة عنه و لا اشارة اليه , اذ كل ما دخل فلك العبارة أو تحت ايماء الاشارة , فهو شيء . و كلما تعينت شيئيته مع الحق تعالى فهو مزيل للتوحيد من حيث ذلك الشيء , لأن رفض السوى فرض و رفضه يمحو الشرك و الشك , و اذا كان الخبر نفس المبتدا و هو هو , فلا خبر في الحقيقة و لا مبتدأ , و به يذهب اتلاسم و يبقى الرسم . فان قلت اذا كان المطلوب سكون اعجاز الأسماء في الذكر للمعنى المذكور , فلم لم يصرح به الامام العارف بالله تعالى زين الدين في الجوهر الخاص , و انما أحال الجواب على ثبوت الحركة نصبا و رفعا و التمس للخفض وجها , رحمه الله تعالى . قلت , انما قال ذلك مطابقة للسؤال . فان السؤال سأل ما هي الحركة , فأجاب بجواز الحركات المذكورات . فان قلت و قد قال عند قوله و هل آخره محركا يكون , أي في السؤال الذي قبله , و جوابه عنه بقوله بالتحريك وصلا و بالسكون وقفا , و هو مؤذن بالاعراب المشعر بالالتفات الى حال المعنى كما تقدم ولم يتعرض لما ذكرتم . قلت كان خطابه للمبتدا و جوابه على قدر السؤال و لا يسع المبتدأ الا ما ذكرلأنه لا يستطيع أولا أن يلتفت الى جوهر المعنى قبل أن يلتفت الى حالها , و لا يكون ذلك الا للمجذوب , و أما السالك في حال ابتدائه أولا يستدل بالأثر على المؤثر , فاذا توسط صار يستدل بالمؤثر على الأثر , و كلامنا هذا مع المتوسط . و أما أهل النهاية فلا تسأل عن أهل الفراذيس و ما عندهم من العلم النفيس , من الله تعالى علينا بذلك بفضله و جوده , آمين , انتهى و الله أعلم . قوله و كم له من أحرف يا تال , أي و كم للجلالة من حرف . و قوله يا تال , يا تتميم و هو من تلوت القرآن اذا قرأته , أي و كم من حرف في اسمه تعالى الله في اللفظ و النطق و في الكتابة و الرسم . الفصل الخامس و العشرون : في الجواب على قول السائل و كم من حرف في اسم الجلالة , اعلم أنه قال الامام زين الدين في الجوهر الخاص هي في الرسم أربعة أحرف , و هي الألف و لامان و هاء , و في اللفظ خمسة أحرف يزاد على هذه الأربعة ألف بعد اللام الثانية لفظا لا خطا , انتهى كلامه و الله أعلم . قلت , و اختلف العلملء رحمهم الله تعالى في سبب حذف هذه الألف خطا . فقيل تخفيفا لكثرة الاستعمال , و قيل حذفت كراهة اجتماع الحروف المتشابهة في الصورة عند الكتابة , كما كرهوا اجتماع الحروف المتشابهة في اللفظ عند القراء . و قيل لئلا يلتبس باللاهي اسم فاعل . و قيل لئلا يلتبس بخط اللات , قاله ابن عطية . و القول بأنها لغة استعملت لفظا لا خطا غريب , انتهى من الجوهر المكنون . قال سيدي عبد الكريم الجيلي في الانسان الكامل : " واعلم بأن هذا الاسم خماسي لأن الألف التي قبل الهاء ثابتة في اللفظ و لا يعتد بسقوطها في الخط لأن اللفظ حاكم على الخط . و اعلم بأن الألف الأولى عبارة عن الأحدية التي هلكت فيها الكثرة و لم يبقى لها وجود بوجه من الوجوه , و ذلك حقيقة قوله تعالى : " كل شيء هالك الا وجهه " , يعني وجه ذلك الشيء و هو أحدية الحق فيه . و لما كانت الأحدية أول تجليات الذات في نفسه لنفسه بنفسه , كان الالف في اول هذا الاسم و انفراده بحيث أن لا يتعلق به شيء من الحروف تنبيها على الاحدية التي ليس للأوصاف االحقية و لا للنعوت الخلقية فيها ظهور . فهي أحدية محضة , اندحض فيها الأسماء و الصفات و الأفعال و التأثيرات و المخلوقات و ألسنة اشارات بسائط هذه الحروف باندحاضها فيه , اذ بسائط هذه الحروف ألف و لام و فاء . فالألف من البسائط تدل على الذات الجامعة للبساط و المنبسط فيه , و اللام بقائمته تدل على صفاته القديمة و بتعريفه يدل على متعلقات الصفات وهي الأفعال القديمة المنسوبة اليه . و الفاء تدل على المفعولات بهيئته و تدل بنقطتها على وجود الحق في ذات الخلق , و تدل باستدارة رأسه و تجويفه على عدم التناهي الممكن مع قبوله للفيض الالهي , لأن الدائرة لا يعلم لها ابتداء و لا انتهاء , و تجويفه محل الاستدارة لقبوله , اذ المجوف لابد أن يقبل شيئا يملأه . و ثم نكتة وهي أن النقطة التي في رأس الفاء هي التي دائرة رأس الفاء , خصت بحملها , و هنا اشارة لطيفة الى الامانة التي حملها الانسان و هي , أعني الأمانة , كمال الألوهية , كما أن السماوات و الأرض و أهليهما من المخلوقات لم تستطع حمل هذه الأمانة , و كذلك جميع العوالم . ليس محلا للنقطة سوى رأسها المجوف الذي هو عبارة عن الانسان , و ذلك لأنه رئيس هذا العالم , و فيه قيل " أول ما خلق الله تعالى روح نبيك يا جابر " . و كذلك القلم من يد الكاتب , أول ما يصور راس الفاء . فحصل من هذا الكلام و ما قبله أن أحدية الحق تعالى يبطن فيها حكم كل شيء من حقائق أسمائه تعالى صفاته و أفعاله و مأثراته و مخلوقاته , و لا يبقى سوى صفة ذاته المعبر عنها بوجه بالأحدية . الحرف الثاني من هذا الاسم اللام الأولى , فهو عبارة عن الجلال , و لهذا كان الاسم ملاصقا للألف , لأن الجلال أعلى تجليات الذات , و هو أسبق اليها من الجمال . و قد ورد في الحديث النبوي على صاحبه أفضل الصلاة و السلام , " العظمة ازاري و الكبرياء رداءي " . و لا أقرب من ثوب الازار و الرداء الا الشخص . فثبت أن صفات الجلال أسبق اليه من صفات الجمال و لا يناقض هذا قوله " سبقت رحمتي غضبي " , فان الرحمة السابق انما هي بشرط العموم و العموم من الجلال , و اعلم أن الصفة الواحدية الحمالية اذا استوفت كمالها في الظهور أو قاربت سميت جلالية لقوة ظهور سلطان الجمال بمفهوم الرحمة من الجمال عمومها , و انتهائها هو الجلال . الحرف الثالث هو اللام الثاني , و هو عبارة عن الكمال المطلق الساري في مظاهر الحق سبحانه و تعالى و ميع أوصاف الكمال راجع الى و صفين , العلم و اللطف . كما أن الأوصاف الجلالية راجعة الى وصفين , العظمة و الاقتدار . و نهاية االوصفين الأولين راجع اليهما , فكأنهما وصف واحد . و من ثم قيل أن الجمال الظاهر للخلق انما هو جمال الجلال , و الجلال انما هو جلال الجمال , لتلازم كل منهما للآخر . فتجلياتهما في المثل كالفجر الذي هو مبادي ضياء الشمس الى نهاية طلوعها , فنسبة الجمال نسبة الفجر , و نسبة الجلال الاشراق . فهذا معنى جمال الجلال و جلال الجمال . و لما كان اللام اشارة الى هذين المظهرين , لكن باختلاف المراب , كانت بسائط لام ألف ميم , و جملة هذه الأعداد أحد و سبعون عددا , و تلك هي عدد الحجب التي أسدلها الحق تعالى دونه و بين خلقه . و قد قال النبي صلى اله ليه و سلم , " أن لله نيفا و سبعين حجابا من نور , و هو الجمال و الظلمة و هو الجلال , لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره " , يعني الواصل الى ذلك المقام , فلا يبقى له عين و لا أثر . و هي الحالة التي يسمونها الصوفية المحق و السحق . فكل عدد من أعداد هذا الحرف اشارة الى مرتبة من مراتب الحجب التي احتجب الله تعالى بها عن خلقه . و في كل جمرتبة من مراتب الحجب ألف حجاب من نوع تلك المرتبة , كالغرة مثلا فانه أول حجاب قيد الانسان فيالمرتبة الكونية و لكن له ألف وجه , و في كل وجه حجاب , و كذلك بواقي الحجب , لولا قصد الاختصار لشرحناه على أتم وجوهه و أكمله و اخصه و أفضله . الحرف الرابع من هذا الاسم هو الألف المسقوطة خطا الثابتة لفظا , و هي ألف الكمال الذي لا نهاية و غاية له , و الى عدم غايته الاشارة بسقوطه في الخط . لأن المسقوط لا يدرك له عين و لا أثر , و في ثبوته في اللفظ اسارة الى حقيقة وجود نفس الكمال في ذات الحق سبحانه و تعالى . فعلى هذا الكمال من أهل الله تعالى في أكمليته يترقى في الجمال , و الحق تعالى لا يزال في تجلياته , و كل تجل من تجلياته فان الثاني يجمع الأول , فعلى هذا تجلياته أيضا في الترقي . و لهذا قال المحققون أن العالم كله في ترقي في كل نفس , لأنه أثر تجليات الحق تعالى و هي في الترقي , فلزم من هذا أن يكون العالم في الترقي . و ان قلت بهذا الاعتبار أن الحق سبحانه و تعالى وارد بالترقي ظهوره لخلقه , جاز هذا الحديث في الجناب الالهي تعالى عن الزيادة و النقصان و جل أن يتصف بأوصاف الاكوان . الحرف الخامس من هذا الاسم هو الهاء , فهو اشارة الى هوية الحق تالى الذي هو عين الانسان . قال تعالى : يا محمد هو , أي الانسان , الله أحد . فهاء الاشارة راجعة الى فاعل قل و هو أنت , و الا فلا تجوز اعادة الضمير الى غير مذكور , و أقيم المخاطب هنا مقام الغائب التفاتا بيانيا اشارة الى أن المخاطب بهذا ليس نفس الحاضر وحده , بل الغائب و الحاضر في هذا على السواء . قال تعالى : " و لو ترى اذ وقفوا " , ليس المراد به محمد وحده بل كل راء . فاستدارة راس الهاء اشارة الى دوران رحى الوجود الحقي و الخلقي على الانسان . فهو في عالم المثال كالدائرة التي أشار الهاء اليها . فقل ما شئت , ان شئت قلت الدائرة حق و جوفها خلق , و ان شئت قلت الدائرة خلق و جوفها حق . فهو حق و هو خلق , و ان شئت قلت الأمر فيه الابهام . فالأمر في الانسان دوري بين أنه مخلوق و له العبودية و العجز و هو أنه على صورة الرحمان , فله الكمال العز . قال تعالى : " و هو الولي " , يعني أن الانسان الكامل الذي قال له " الا أن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون " , لأنه يستحيل الخوف و الحزن و أمثال ذلك على الله تعالى , لأن الله تعالى هو الولي الحميد , و هو يحي الموتى و هو على كل شيء قدير , أي الولي . فهو حق منصور في صورة خلقية , أو خلق متحقق بمعاني الهية . فعهلى كل حال هو الجامع لوصفي النقص و الكمال الساطع في أرض كونه بنور شمس المتعال , فهو السماء و الارض و هو الطول و هو العرض و في هذا المعنى قلت شعرا :
لي الملك في الدارين لم أر فيهما سواي فأرجو فضله أو فأخشاه
و لا قبل من قبلي فالحق شاوه ولا بعد من بعدي فالحق معناه
و قد حزت أنواع الكمال و انني جمال جلال الكل ما أنا الا هو
فمهمى ترى من معدن و نباته و حيوانه مع انسه و سجاياه
و اني لرب للأنام و سيد جميع الورى اسم و ذاتي مسماه
لي الملك و الملكوت جلت تحيتي لي الغيب و الجبروت مني مناه
و ها أنا فيما ذكرت جميعه عن الذات عبد ءايب الى مولاه
فقير حقير خاضع متذلل أسير ذنوب قيدته خطاياه
فيا أيها العرب الكرام و من هم لصبهم الولهان أفخر ملجاه
قصدتكم قصدي أنتم و جيرتي و أنتم مناءي في الذي أتمناه
عليكم سلام كل يوم و ليلة يزيد على مر الزمان محياه
انتهى مع اختصار جدا و الله أعلم . انما أطلت الكلام فيه تبركا و اتحافا للمعتني بشيء من كلام أهل الحقيقة في الاسم الاعظم لجامع لجميع الأسماء . تنبيه : يجب على من نظر في كلام أهل الحقيقة أن لا يبادر الى الانكار اذا لم يصل فهمه الى اشاراتهم و ايمائهم فيما لا تسعه العبارة من كلامهم رضي الله عنهم , فحسبه الوقوف مع التسليم الى أن يفتح الله تعالى عليه بمعرفته . و فائدة التسليم هنا و ترك الانكار , أن لا يحرم الوصول الى معرفة ذلك , فان من أنكر شيئا من أهل الحقيقة حرم الوصول اليه ما دام منكرا عليه و لا سبيل له لى غير ذلك , بل و يخشى عليه الحرمان للوصول مطلقا بالانكار أول و هلة , و لا طريق الى الايمان الا التسليم , و بهذا اتفق أهل الحق . فافهم ذلك و اعمل به و الله يتولى هدانا و هداك و هو الموفق للصواب و اليه المرجع و المئاب . ثم قال عفا الله تعالى عنه :

علي العذاري
16-01-2012, 10:24 AM
( و هل يجوز مد همز قبل لام و هل يجوز حذف ها و ي بعد لام )

اشتمل البيت على سؤالين عن اسم الجلالة الأول , هل يجوز مد الهمزة منه . السؤال الثاني , و هل يجوز حذف الالف الهاوي الذي بعد اللام الثانية و قبل الهاء أم لا و بهما يكون سبعة و عشرون سؤالا . قوله و هل يجوز مد همز قبل لام , أي الهمزة الأولى منه التي قبل لام التعريفية أو التعظيمية على قول , كما سيذكر ان شاء الله تعالى . الفصل السادس و العشرون : في الجواب على قوله , و هو يجوز مد الهمزة من اسم الله تعالى أم لا . اعلم أنه قال الامام زين الدين في الجوهر الخاص : " اذا مدت الهمزة منه لا يكون ذكرا , بل يكون استفهاما , كقوله تعالى " قل الله أذن لكم ام على الله تفترون " , و الله أعلم , انتهى كلامه . قلت اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في جواز الكلام على تركيب هذا الاسم المعظم و في معناه و عدمه . قيل ينبغي الامساك عنه اجلالا و تعظيما , أو لعدم الاذن فيه شرعا , و الصحيح الجواز , قاله غير واحد ثم اختلفوا في أصل وضعه , فقيل عجمي , و قيل عربي . و اختلف القائلون بأنه عجمي اللفظ , فقيل عبراني , و قيل سرياني , و الصحيح أنه عربي . و اختلف القائلون بأنه عربي هل هو علم أم لا , و الحق أنه علم و هو مذهب سيبويه و الخليل و أكثر الأصوليين و الفقهاء لوجوه مذكورة في المطولات . و احتج نفات العلمية أيضا بوجوه مذكورة في محالها , ثم اختلفوا أهل هو مرتجل أو منقول . الأصح أنه مرتجل و ليس منقول و لا مشتق . قال فيه زائدة لازمة لا للتعريف بل كذلك وضع , قاله السهيلي . و القول بأنه منقول اختلفوا فيه , فأما الكوفين فقالوا أصله الاه , فأدخلت الا عليه للتعظيم , ثم حذفت الهمزة الاصلية استثقالا لكثرة جريانها على الألسنة كما تقدم , فاجتمع لامان أدغمت أولاهما ثم غلضت اللام تعظيما . و أما البصريون فقالولا صله لاه فألحقوا به ال و أنشدوا :
و لاهك قد يغشى العشيرة نوره و نورك نور في الجديدين ساطع
أي ارتفاعك و سؤ ددك علو شأنك . و القول بأنه مشتق , قال فيه زائدة لازمة , و عليه في مادته ربعة اقوال . أحدها ن مادة لام و ياء وهاء من لاه يليه اذا ارتفع . الثاني , أن مادته لام و واو و هاء من لاه يلوه اذا احتجب , فألفه على الأول منقلبة عن ياء , و على الثاني منقلبة عن واو لتحركها و انفتاح ما قبلها . الثالث أن مادته همزة و لام و هاء من أله أي عبد . فالاه فعال بمعنى مفعول ككتاب بمعن مكتوب كما تقدم , و الألف التي قبل الهاء على هذا زائدة , و الهمزة التي بين اللامين أصلية أي التي بين لام التعريف و لام الاصل . وحذفت اعتباطا بالعين المهملة من الحذف الآخر للشيء من غير استحقاق عارض و الله أعلم . قال في المصباح , الاعتباط أن ينحر البعير و غيره من غير علة , كما في ناس أصله أناس . الرابع , أن مادته واو و لام و هاء من وله , ادا اضطرب , فالهمزة فيه على هذا مبدلة عن واو . و زعم بعضهم أن ال فيه من نفس الكلمة , و وصلت الهمزة لكثرة الاستعمال . و رد بأنه لو كان كذلك لنون , لأن وزنه حينئذ فعال كعلام و أواب , و لا مانع من تنوينه , انتهى و الله أعلم . تنبيه : و لما جاز الكلام في تركيبه و معناه , فلا مانع أن يجوز الكلام في حكم تركيبه مع حروف النداء ما عدى يا و الميم المشددة , و هي ستة . الهمزة و اي مقصورتين و مدودتين , و أيا و هيا . و قوله في الجوهر الخاص " اذا مدت الهمزة من الجلالة لا يكون ذكرا " , فيه نظر, لأنه اذا قصد به النداء كسائر الأعلام , فالصناعة النحوية لا تمنعه كسائر حروف النداء , و يكون ذكرا , فان العبرة بالمقاصد كما تقدم . الا أن يقال أنه لم يرد به السماع , اذ لم يأت اسم الجلالة في القرآن و لا في السنة منادى الا بيا أو الميم المشددة , اما يا . قال سيدي عبد الرحمان الثعالبي, نفعنا الله تعالى به في مفردات مقدماته في علم الاعراب : " هي حرف موضوع لنداء البعيد حقيقة أو حكما , و قد ينادى بها القريب توكيدا , وهي أكثر أحرف النداء استعمالا . و لهذا لا يقدر عند الحذف سواها , و لا ينادى اسم الله تعالى الا بها و ليس نصب المنادى بها و بأخواتها بل ادعوا محذوفا " , انتهى كلامه نقلا من كتب ابن هشام " كالمغني " و " التوضيح " و غيرهما , هكذا قال . قلت , و حكم اسم الجلالة معها ففيه أربعة أوجه . الأول , يا الله باثبات ألفين , أعني ألف النداء و لف الجلالة مقطوعة لأنها لما كانت لازمة أشبهت الأصلية . الثاني , يلله بحذفهما . الثالث , يا لله بحذف الف الجلالة فقط . الرابع , حذفها أي يا و تعوض عنها الميم المشددة زائدة في آخر الجلالة , فتقول اللهم , و هو الكثير و لم يذكر في القرآن سواه . و هل يجمع بينهما أي بين يا و الميم , و لا تجوز الا في ضرورة الشعر . قال ابن مالك رحمه الله تعالى :
و الأكثر اللهم بالتعويض و شذيا اللهم في قريض
يشير بذلك الى قول أبي خراش الهذلي
اني اذا ما حدث الما أقول ياللهم ياللهم
و هذا مما يحفظ و لا يقلس عليه . فائدة : يجوزحذف حرف النداء و هو يا خاصة , سواء كان المنادى مفردا أو جاريا مجراه أو مضافا نحو " يوسف أعرض عن هذا " , " سنفرغ لكم أيها الثقلان " , " أن أدوا الي عباد الله " , الا في ثمان مسائل . منها اسم الجلالة , فلا يجوز حذف يا الندء عنه الا اذا عوض عنها الميم المشددة كما تقدم , و تمامه في التوضيح و غيره . و ما ذكرت هذا و ان كان بعيد المناسبة الا لكثرة المعترضين على الذاكرين , ليكون تبصرة للمبتدا و تذكرة للمنتهي و حجة و محجة للمعتني . فائدة : ذكر الفقهاء أن مد الهمزة من الجلالة في تحريمة الصلاة لا تنعقد به , فالتحريمة , و هو قولنا الله أكبر , شرط أو ركن على الخلاف و الأصح شرط عند الحنيفية , و شرط صحتها أن لا تمد همزة الجلالة كما لا تمد همزة أكبر . و كذلك مد الباء منه , فيقول أكبار , مثلا . قالوا لا يصير شارعا , و ان قال في خلال الصلاة تفسد صلاته , قيل لأنه اسم من أسماء الشيطان , و قيل غير ذلك . قيل لا تفسد , و الأصح الأول , و أما اشباع حركة الهاء من الجلالة في التكبير خطأ من حيث اللغة , و لا تفسد به و كذلك تسكينها في التكبير أيضا , لأن محله الوصل , ليتنبه و الله أعلم . واختلف العلماء في جواز انعقاد الصلاة بالجلالة فقط , قال به أبو حنيفة رحمه الله تعالى , و بكل لفظ يدل على التعظيم , كالعظيم و الجليل و غيره . و قال الشافعي رحمه الله تعالى " تنعقد بالله أكبر " , و قال قال الامام مالك و أحمد رحمهما الله تعالى " تنعقد الا بقولنا الله أكبر " . فعلى هذا ينبغي زيادة تنبيه في التكبير في الصلاة التي هي خالص الذكر و لبه , كما قال تعالى : " أقم الصلاة لذكري " , انتهى و الله أعلم . قوله و هل يجوز حذف هاوي بعد لام , أي و هل بعد اللام الثانية من الجلالة و قبل الهاء ألف أم لا . هكذا في الأصل , كأنه يقول , و هل يجوز حذف ذلك الألف أم لا , بدليل جواب الامام العارف بالله تالى زين الدين سبط المرصفي رحمه الله تعالى , و سمى الألف هاوي , لأنه يخرج من هواء الفم و هو جوفه كما تقدم . الفصل السابع و العشرون : في الجواب على قوله و هل يجوز حذف الحرف الهاوي من الجلالة أم لا . اعلم أنه قال الامام العارف بالله تعالى زين الدين أبو محمد سبط علي بن خليل المرصفي , رحمه الله تعالى و نفعنا به : " قد تقدم أن بعد اللام الثانية ألف لفظية لا خطية , و حكمها أن حذفها في اللفظ لحن لا تنعقد به الصلاة و لا اليمين و لا يكون ذكرا بدونها , و لا يعتد في جواز حذفها بقول الشاعر :
ألا لا بارك الله في سهيل اذا بارك الله في الرجال
فان ذلك لضرورة الشعر و الله أعلم , انتهى كلامه . قال الامام العارف بالله تعالى , سيدي عبد الرحمان بن الصغير الأخضري في القدسية :
و من شروط الذكر ألا يسقطا بعض حروف الاسم أو يفرطا
في البعض من مناسك الشريعة عمدا فتلك بدعة شنيعة
و الرقص و الصراخ و الصفيق عمدا بذكر الله لا يليق
وانما المطلوب في الأذكار الذكر بالخشوع و الوقار
و غير ذا حركة نفسية الا مع الغلبة القوية
فواجب تنزيه ذكر الله على اللبيب الذاكر الأواه
من كل ما تفعله أهل البدع و يقتدي بفعل أرباب الورع
و قال رحمه الله تعالى في شرحه على الجوهر المكنون (تنبيه) : " لا يجوز حذف ألف الجلالة الذي قبل الهاء لفظا الا في ضرورة الشعر عند الوقف عليه , كقوله :
أقبل سيل بماء من مر الله دل على ذلك حرف الروى
و ينبني على هذه المسألة فروع منها : من قال في يمينه بله , هل تنعقد أم لا . فقيل لا تنعقد لأن لفظ بله اسم للطوبة , قيل تنعقد لأن اللفظ يحسب أصل اللغة جائز , و قد نوى فيه الحلف . و منها قوله عند الذبح أو الاحرام أو الشهادة هل يكفي أم لا . و منها هل يثاب ذاكر ذلك أم يعاقب , لأنه قيد اسم الله تعالى . قال : قلت في استدلالهم على جواز حذف ألف الجلالة للضرورة بوروده في بعض أشعار العرب , نظر لأنها مسئلة شرعية تعبدية لا تأخذ الا من دليل شرعي , فلا تأخذ من أشعار العرب , انتهى كلامه و الله أعلم . قلت , و حيث وجد الخلاف وجب الانصاف , فالعبرة للمقاصد لا لوسائل , و لا خفاء في أن اللفظ وسيلة للمعنى لا العكس , و أن الله تعالى تعبدنا بالمعاني كما قاله امام دار الهجرة مالك رضي الله عنه , و حيث صح القصد فلا التفات الى الضد , و من تأمل قوله صلى الله عليه وسلم : " أذكروا الله حتى يقولوا مجنون " , و نظر شرحه في كتاب السر المصون , فلم يبق له اعتراض على ذاكر حيث ما يكون , و من أمعن النظر في نصرة الفقير للعارف بالله تعالى الشيخ سيدي محمد السنوسي فلا يبقى له ازدراء بفقير . لقد أحسن العلامة بو سعيد رحمه الله تعالى حيث قال :
لكن سر الله في صدق الطلب كم رءي في أصحابه من العجب
اللهم الا اذا تغير القصد و نقص العهد , فيستوجب حينئذ البعد و يقام الحد و الى ذلك أشار العارف بالله تعالى الجامع بين الشريعة والحقيقة , سيدي عبد الرحمان بن الصغير الأخضري في رسالته القدسية كما تقدم فقال :
فقد رأينا فرقة ان ذكروا تبدعوا و ربما قد كفروا
و صنعوا في الذكر صنعا منكرا طبعا فجاهدهم جهادا أكبرا
خلوا من اسم الله حرف الهاء فألحدوا في أعظم الأسماء
لقد أتوا و الله شيئا ادا تخر منه الشامخات هدا
و الألف المحذوف قبل الهاء قد أسقطوه و هو ذو خفاء
و غرهم اسقاطه في الخط فكل من يتركه فمخطي
قد غيروا اسم الله جل و علا و زعموا نيل المراتب العلا
تغرهم مذاقة طبعية سببها حركة نفسية
فزعموا أن لهم أسرارا و أن في قلوبهم أنوارا
و زعموا أن لهم أحوالا و أنهم قد بلغوا الكمالا
و القوم لا يدرون ما الأحوال فكونها لمثلهم محال
حاشى بساط القدس و الكمال تقدمه حوافر الجهال
فقد ادعوا من الكمال منتهى يكل عن ادراكه ألوا النهى
و الجاهلون كالحمير الموكفة و العارفون سادة مشرفة
و هل يرى بساحل الأنوار من لج في بحر الظلام ساري
و قال بعض السادة المتبعة في رجز يهجوا به المبتدعة
و يذكرون الله بالتغيير و يشطحون الشطح كالحمير
و ينبحون النبح كالكلاب مذهبهم ليس على الصواب
قلت و شاع أمر الاشتباه في المتراسلين في اسم الله
و قد تقدم قبله في شروط الذكر
والرقص والصراخ والتصفيق عمدا بذكر الله لا يليق
الخ , انتهى ما قصدنا من كلامه , رضي الله عنه , و لو لا الاطالة التي تفضي الى السآمة لتتبعنا كلامه بالشرح , و ملخصه ما شرنا اليه أولا و هو ظاهر لمن كان له قلب يفهم به عن الرب , و كلام العارفين , أي و نهيهم تحذيرهم . و اعتراضهم ذو وجهين بين الاشارة و العبارة من اللوامة الى الأمارة و هم رضي الله عنهم تارة يوجهون الاشارة الى المطمئنة اللوامة العبارة الى الأمارة كهذا , و تارة بالعكس و لذلك يتوقف في كلامهم , رضي الله عنهم , و يقولون لا يفهم كلام الأخرس الا أمه . قال في الحكم , عبارتهم اما لفيضان وجد و لقصد هداية مريد . فالأول حال السالكين و الثاني حال أرباب المكنة و المتحققين . قال ايضا قبله تسبق انوار الحكماء أقوالهم , فحيث صار التنوير وصل التعبير . الحكماء هم العارفون بالله تعالى , واعلم أنه من لم يبلغ مقاما لا يستطيع أن يعبر عليه . و المقامات سبعة و من بلغ الى السابع له أن يعبر عن جميعها و له أن يعترض على ما دونها , لقوله عليه السلام : " حسنات الأبرار سيآت المقربين " , الخ . و من كان في الأول لا يفهم أيضا حال من هو في المقام الثاني . فاذا اعترض عليه فهو من جهله به , و اعتراضه لم يصادف محلا , و لهذا لما اعترض على سيدنا يوسف عليه السلام , " و ما أبرىء نفسي ان النفس لأمارة بالسوء الا ما رحم ربي " , الآية , و لما كانوا في الامارة لم يفهموا حله فلم يجدوا جوابا الا ما ذكر و ان كان الوجب عليه أن يقول لم أفعل , لأنهم لم يفهموا ذلك . و بيان ذلك على سبيل التقريب و الاختصار , أن غاية تنزل النفس الناطقة الى المقام الأول و هو مقام ظلمات الأغيار و تسمى فيه أمارة بالسوء , ثم تأخذ في الترقي بسبب الأذكار و الطاعات و التقرب الى الله تعالى بالرياضات بعد الايمان و اليقين و السلوك في زمرة المتقين . فلا تزال تترقى مقاما بعد مقام الى السابع الذي هو مقام تجليات الاسماء و الصفات , و تسمى هذه الأمارة بالكاملة فيه , و هذا الكامل من العارفين . فاذا كان ذلك , فمن كان في المقام الاول الذي هو مقام ظلمات الاغيار فلا يقدر أن يعبر عن المقام الثاني الذي هو مقام الأنوار , ولا يفهم كلام من هو فيه للمنافاة التي بين ظلمات الأغيار و بين الأنوار . و من كان في المقام الثاني الذي هو مقام الأنوار فلا يقدر أيضا أنيعبر عن المقام الثالث الذي هو مقام الأسرار , و لا يفهم كلام من هو فيه . و من كان في المقام الثالث الذي هو مقام الاسرار , فلا يستطيع أن يعبر عن المقام الرابع الذي هو مقام الكمال , و لا يفهم كلام من هو فيه أيضا . و من كان في المقام الرابع الذي هو مقام الكمال فلا يقدر أن يعبر عن المقام الخامس الذي هو مقام الوصال , و لا يفهم كلام من هو فيه أيضا . ومن كان في المقام الخامس الذي هو مقام الوصال , فلا يقدر أن يعبر عن المقام السادس الذي هو مقام تجليات الأفعال , و لا يفهم كلام من هو فيه أيضا . و من كان في المقام السادس الذي هو مقام تجليات الأفعال فلا يقدر أن يعبر عن المقام السابع الذي هو مقام تجليات الأسماء و الصفات , و لا يفهم أيضا كلام من هو فيه , و يعبر على كل مقام سلكه وما دونه لا ما فوقه , فافهم و الله أعلم , و بسببه وقع الانكار و الخلاف . و العارف لا يخرج عن مركز دائرة الانصاف و الانتصاف , و أسماء النفس في هذه المقامات قد تقدم , و هذا معنى قولهم " كل مقام له مقال " , فافهم و الله تعالى يتولى هدانا و هداك , و لا ينزل القياس على كل الناس , و انما سنح بنا الكلام حتى خرج عن المقام حماية للذاكرين و شفقة عن المنكرين . واعلم أن من بلغ الى المقام الثالث الذي تسمى النفس فيه ملهمة لم يبق له اعتراض على أحد , لأنه يشهد بأن الله تعالى آخذ بناصية كل دابة , فلم يبق له اعتراض على مخلوق أصلا , حتى اذا اعترض , انما يعترض في حال الفرق الذي هو بعد الجمع عملا بظاهر الشرع مع التسليم القلبي . و انما تقع كثرة الاعتراض من المقام الثاني الذي هو مقام الانوار , و تسمى النفس فيه لوامة . و اللوم انما هو على الأول و بقية شيء منه في المقام الثاني كما هو معلوم في صناعة السير و السلوك . و انما و قع اللوم و الانكار في المقام الثاني على الأول , لأنه علم الحق حقا و الباطل باطلا و لم يقدر على الانفصال منه , أي من الباطل و لذلك لام نفسه . و لأن الثاني مقام الأنوار , و بالأنوار ينكشف ما في ظلمة الاغيار , فيقع الاعتراض و اللوم و الانكار الى الثالث , و هذه فائدة الترقي . و هذا كله قطرة من بحر علم شيخنا الازهري نفعنا الله تعالى به , آمين . و لولا خيفة الاطالة و الخروج عن المناسبة لبينا كل مقام على لسان العلم , و لكن ان دعت المناسبة اليه أشرنا الى ما يحتمله المقام , و الله علم . فالملخص من هذا الكلام أن الانكار و اللوم و الاعتراض انما يتوجه الى أهل المقام الأول و بعض اهل المقام الثاني لأنه لا يستطيع أن يميز بين الحق و الباطل , فهو كما قيل :
يغبى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
و العارفون لا يعنون الا ما ذكر , و ان عمموا بقولهم فذلك للتأنس و عدم الايحاش و سلوك الأدب مع الحق و الناس . ألا ترى قوله تعالى , " و الوالدات يرضعن أولادهن " , الى قوله " و على المولود له رزقهن و كسوتهن " , الآية , ايناسا و رحمة بالأمهات سبحانه و تعالى و تعليما لنا . فقد اشار باللام لدالة على اختصاص الولاد بالوالد دون الوالدة رحمة بالم ي لا تحزن و تتألم بصريح الخطاب الوارد و لا شك أن الاشارة أغمض من و لأجل أن لا يفهمها كل
كان عليه السلام يقول : " ما بال أقوام " كذا و كذا , و يعني به واحدا . و هكذا سيرة العارفين , لا يعنون الا الأمارة , وهو معنى قولنا اذا تغير القصد و نقض العهد الخ . و كذلك قولنا لا ينزل القياس على كل الناس . و لذلك كان يجب قبل كل شيء بعد الايمان بالله و تعلم ما يجب تعلمه أولا , على كل مكلف أن يأخذ في السير و السلوك و يفحص عليه و على أهله حتى يجده , فان من جد وجد . و ينبغي له أن لا يقول لا وجود له و لا لأهله , فان الله تعالى لا يعجزه شيء , و لو يبعث له من رجال لغيب . و قد صرحت السنة بذلك بحديث " لا تزال طائفة من أمتي " ... الخ . و بالصدق و النية و الاخلاص تدرك مراتب الخواص و خواص الخواص و الله أعلم . ثم قال عفا الله تعالى عنه :

علي العذاري
16-01-2012, 10:25 AM
( و ما هو الافضل في الاكثار ذكر صلا تعلم أو قاري )

اشتمل البيت على سؤال واحد و هو ما هو الأفضل لطالب الآخرة , الاكثار من ذكر لا اله الا الله , أو من صلاة النافلة المطلقة , أو الاشتغال بالعلم الشرعي تعليمه و تعلمه , أو قراءة القرآن و تلاوته و به تمام ثمانية و عشرين سؤالا . و قوله صلا أي صلاة , فان الصلا وسط الظهر منا و من كل ذي أربعة أو ما عن يمين الذنب و يساره , و هما صلوان (قاموس) . قيل الصلاة مأخوذة من تحريكهما عليه , فهو اصل لها و جائز في النظم أن ترد الأشياء الى أصولها . الفصل الثامن و العشرون : في تالجواب على قوله و ما هو الأفضل لطالب الآخرة . هل الاكثار من ذكر لا اله الا الله , أو الاكثار من الصلاة النافلة المطلقة , أو الاكثار من قراءة القرآن و تلاوته , أو الاكثار من قراءة العلم الشرعي تعلما و تعليما . اعلم أنه قال الامام زين الدين في الجوهر الخاص أن جميع ما ذكر في هذا السؤال أعمال تتوقف على العلم , اذ هو رأس العمل . فمن ثم كان الأفضل للمكلف أن يتعلم من العلم ما لا يسعه جهله , و هذا القدر فرض عليه . و ما ذكر في السؤال نوافل و الفرض افضل من النافلة و لحديث الآتي ذكره , و قال صلى الله عليه و سلم : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " . ثم بعد العلم لا يخلو طالب الآخرة اما أن يريد العمل بأفضل العمال , فالأفضل من الأعمال بعد الايمان , كما قال امامنا الشافعي رحمه الله تعالى ,الصلاة فرضا و نفلا لحديث " ما تقرب الي عبدي بشيء أحب الي مما افترضته عليه مازال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه , فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به و يده التي يبطش بها و رجله التي يمشي بها , و ان سألني لأعطينه و ان استعاذني لأعيذنه , و ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن يكره الموت و أنا أكره مسائته " . و قال الامام أحمد رحمه الله تعالى : " لا شيء بعد فرائض الاعيان أفضل من العلم و الجهاد , و الأفضل الأذكار من القرآن , سيما اذا كان في الصلاة . و أما ان يريد سلوك طريق الصوفية فالأفضل له في مذهبهم الاكثار من الذكر بعد تعلمه ما لا يسعه جهله من العلم , فان الله تعالى أمر بذلك فقال : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا " , الآية . و قد ورد في كتاب الترمذي و ابن ماجة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه , قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : أفضل الذكر لا اله الا الله " , و قال الترمدي حديث حسن . و قد أجمع المشائخ المرشدون على أنه ما سلك المريد طريقا أصح و أوضح من الذكر , فينبغي للسلك أن لا يشتغل بشيء سواه ما عدى الفرائض و السنن , و ما للمحب شأن أشرف و أعلى من الاشتغال بذكر محبوبه على رجاء وصله و مشاهدة جماله , حتى قال الغزالي في الاحياء : " و يمنع الشيخ المريد من تكثير الأوراد الظاهرة بليقتصر على الفرائض و الرواتب و يكون ورده وردا واحدا و هو لب الأوراد و ثمرتها , أعني ملازمة القلب لذكر الله تعالى بعد الخاو عن ذكر الغير حتى يشتغل به لسانه و قلبه فيجلس مثلا و يقول الله الله , و لا يزال يواظب عليه حتى تسقط حركة اللسان و تكون الكلمة كأنها حادثة على اللسان من غير تحريك , ثم لا يزال يواظب عليها حتى يسقط الأثر عن اللسان و تبقى صورة اللفظ في القلب . ثم لا يزال كذلك حتى تنمحي من القلب حروف اللفظ و صورته , و تبقى حقيقة معناها لازمة للقلب حاضرة معه غالبة عليه قد فرغ القلب عن كل ما سواها , لأن القلب اذا اشتغل بشيء خلا عن غيره . فاذا اشتغل اللسان أولا بذكر الله تعالى فبالمواظبة عليه يسكن في القلب , فيلشتغل بذكر الله تعالى , فاذا اشتغل به كان هذا هو المقصود . فمن ثم لم يخل القلب لا محالة عن ذكر الله تعالى , و عند ذلك يلزمه أن يراقب وساوس القلب و الخواطر التي تتعلق بالدنيا , ما يتذكر فيمكا مضى في أحواله و احوال غيره
, فانه مهما اشتغل بشيء منه و لو في لحظة , خلا قلبه عن الذكر في تلك اللحظة و كان نقصانا , فليجتهد في دفع ذلك . ثم قال : (فائدة) لبعض المحققين و هي أن النصف الأول من كلمة التوحيد لتطييب الأسرار و تنزيهها , و النصف الثاني لتنوير القلب . و الأول فناء و الثاني بقاء , و الول انفصال عن ما سوى الحق و الثاني اتصال بالحق . و الأول اشارة الى قوله " ففروا الى الله جميعا " , و الثاني اشارة الى قوله تعالى " قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " . (منزع ) " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا " . يا نداء من الحبيب للحبيب , و أيها تنبيه من الحبيب للحبيب , و الذين اشارة من الحبيب للحبيب , و اذكروا الله أمر من الحبيب للحبيب . و الذكر الكثير باللسان أ، لا يذكر مع الله تعالى غيره . و الذكر الكثير من القلب أن لا يفتر على المشاهدة و لا يغفل عن الحضرة بحال , و قيل في المعنى :
الله يعلم أني لست أذكره و كيف أذكر شيئا لست أنساه
قلت و اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في العلم الذي يجب أولا في قوله صلى الله عليه و سلم : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " , الخ . قيل علم الحال و قيل علم الحلال و الحرام , و قيل علم التوحيد , و قيل علم السر , و قيل علم الخواطر , و قيل علم غير ذلك . قال الامام حجة الاسلام أبو حامد الغزالي في كتابه منهاج العابدين : " فاعلم أن العلوم التي في الجملة فرض طلبها ثلاثة : علم التوحيد , و علم السر , أعني به ما يتعلق بالقلب و مساعيه و علم الشريعة . و أما حد ما يجب من كل منها , فالذي يتعين فرضه من علم التوحيد ما تعرف به أصول الدين , و هو أن لك الاها عالما قادرا مريدا حيا متكلما سميعا بصيرا واحدا لا شريك له , متصفا بصفات الكمال , منزها عن دلالة الحدوث , منفردا بالقدم على كل محدث , و أن محمدا صلى الله عليه و سلم عبده و رسوله الصادق فيما جاء به عن الله تعالى و في ما ورد على لسانه من أمور الآخرة , ثم مسائل في شعائر السنة يجب معرفتها . و اياك أن تبتدع في دين الله تعالى ما لم يرد به كتاب و لا أثر , فتكون مع الله تعالى على أعظم خطر . و جميع أدلة التوحيد موجودة , أصلها في كتاب الله عز و جل , و قد ذكرها شيوخنا رحمهم الله تعالى في كتبهم التي صنفوها في أصول الديانات و على الجملة كل ما لا يؤمن الهلاك مع جهله من العلوم فطلبه فرض لا يسوغ تركه . و أما الذي يتعين فرضه من علم السر فمعرفة مواجبه و مناهيه حتى يحصل لك تعظيم الله تعالى و الاخلاص له في النية و سلامة العمل . مواجبه كالتوكل و التفويض و الرضا و الصبر و التوبة و غير ذلك . و مناهيه هي أضدادها كالسخط و الرياء و الامل و الكبر و العجب و غيرها . و أما ما يلزم من علم الشريعة , فكلما يتعين عليك فرض فعله وجب عليك تعلمه لتؤديه كالطهارة و الصلاة و الصيام , أما الحج و الجهاد و الزكاة ان تعين عليك وجب عليك عمله تؤديه و الا فلا . فهذا ما يلزم العبد تحصيله من العلم لا محالة , و يتعين فرضه بحيث لا بد له من ذلك " , انتهى و الله أعلم . ثم قال عفا الله تعالى نه :

( هل اكتساب مع لزوم الواجب و ما هو الترتيب في الأفضليات )

اشتمل البيت على سؤالين , الأول , هل الاكتساب و القيام على من يلزمه مؤنته مع القيام بالواجبات أفضل أم التوكل و ترك ذلك و الاشتغال بأحد الأمور المتقدم ذكرها قبله . الثاني , و ما هو الترتيب في الافضل من الاعمال , و ما يجب تقديمه على غيره منها لطالب الآخرة و بهذين السؤالين تمام ثلاثين سؤالا . قوله هل اكتساب افضل مع لزوم واجبات منها القيام على من تلزمه مؤنته , أم توكل واشتغال بالعبادة . الفصل التاسع و العشرون : في الجواب على قوله هل الاكتساب افضل أم التوكل الخ , اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى في كتابه الجوهر الخاص في أجوبة كلمة الاخلاص , الاكتساب لأجل ما ذكر واجب , لقوله صلى الله عليه و سلم : " كفى بالمرء اثما أن يضيع من يعول " , و في رواية " من يقوت " , مع أنه يحتاج الى العلم . كما قال العلماء , المتسبب يحتاج الى شيئين , علم و تقوى . فالعلم يعرف به الحرام و الحلال , و التقوى تصرفه عن ارتكاب الآثام و الضلال . و روي عن الامام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال : " الافضل من
الاسترزاق الكسب بالحرف و الصنائع و الزراعة و التجارة و نحو ذلك , دون السؤال . و عند بعض الصوفية الكسب بالسؤال أقوى في كسر النفس من الكسب . بما ذكر وحده تحصيل الكفاية التي تقوم به و بمن تلزمه نفقته أو الكفاف , فانه صلى الله عليه و سلم قال : " اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا " , و من ثم عد الكسب من الرخص في مذهبهم , و ان تعين في حق المبتلى بالعيال و الأولاد و من يجب القيام عليهم , لأن التجرد و التسبب ليسا رتبة واحدة عندهم , و لن يجعل الله تعالى من تفرغ لعبادته و شغل أوقاته كالمتداخل في الاسباب و لو كان فيها متقيا . اذ المتجرد و المتسبب و ان استويا في مقام المعرفة بالله تعالى , فالمتجرد أفضل و ما هو فيه أعلى و أكمل , اذ مثلهما كعبدين لمالك قال لأحدهما اعمل و كل من كسبك , و قال للآخر الزم أنت خدمتي و حضرتي و أنا أقوم لك بما تريد , فلا مزية أن هذا قدره عند المالك أجل و صنعه بتلك الغاية أدل , و ان لم يستويا في المعرفة . فالمريد المتجرد كالمسافر المتجرد ينهض في سيره الى قطع المسافات البعيدة , يمد السير دون المسافر المثقل , فلا يصح له ذلك . و المراد بالرخصة في مذهب الصوفية الرجوع عن حقيقة العلم الى ظاهره , و يعدون ذلك نقصا في حالهم و الانحطاط الى الظاهر عن درجة الحقيقة من سوء الادب عند بعضهم و الله اعلم . قلت , و قد قال العلامة الجلال السيوطي في اتمام الدراية : " و فضل قوم التوكل على الاكتساب بالاعراض عن أسبابه اعتمادا للقلب على الرب تعالى . و عكس قوم ففضلوا الاكتساب على تركه و فضل آخرون باختلاف الأحوال . فمن يكن في توكله لا يسخط عند ضيق الرزق عليه و لا يطلع الى سؤال أحد من الخلق , فالتوكل في حقه أفضل لما فيه من الصبر و المجاهدة للنفس . و من يكون في توكله بخلاف ما ذكر فالاكتساب في حقه أفضل حذرا من السخط و التطلع " , ثم قال : " و المختار عندي أنه لا ينافي التوكل , بل يكون مكتسبا متوكلا بأن يرضى بما قسم له و لا يتطلع الى أكثر منه . و قد قال عمر رضي الله تعالى عنه لقوم قعدوا و ادعوا التوكل , " بل أنتم المتواكلون , انما المتوكل الذي يلقي بذره في الأرض و يتوكل " , رواه البيهقي . و في رسالة الامام القشيري عن سهل ابن عبد الله رحمهما الله تعالى , التوكل حال النبي صلى الله عليه و سلم و الكسب سنته . فمن قوي على حاله فلا يتركن سنته . و يقرب من ذلك حديث " أدع ناقتي و أتوكل , فقال عليه السلام , اعقلها و توكل " . ولا ينافي التوكل أيضا ادخار قوت سنة , فقد كان صلى الله عليه وسلم يدخر قوت عياله سنة كما في الصحيحين , و هو سيد المتوكلين . و كل من الخلق أقامه الله تعالى على ما يريد سبحانه من الحالة التي هو عليها من كسب و ترك و علم و عمل وارتفاع و انخفاض و غير ذلك لانتظام الوجود , اذ لو ترك الناس كلهم الكسب لتعطلت المصالح و المعايش و تفاوتت المراتب في الدنيا و الآخرة , لا راد لقضائه بالدفع و لا معقب لحكمه بالنقض سبحانه و تعالى , انتهى و الله أعلم . قوله , و ما هو الترتيب في الأفضليات , أي و ما ترتيب الأفضلية في ما تقدم في قوله وما هو الأفضل في الاكثار , ذكر صلا تعلم أو قاري . يعني ما يجب تقديمه أولا من الأعمال , و ما يكون بعده على الترتيب الخ . الفصل الثلاثون : في الجواب على قوله أي السائل , وما ترتيب الأفضلية الخ , اعلم أنه قال الامام العارف بالله تعالى زين الدين في كتابه الجوهر الخاص في الجواب على هذا السؤال , يأخذ مما تقدم في الجواب قبل هذا , أن علم ما لا يسع المكلف جهله أفضل اذ هو الأصل و العمل فرع , و لا يصح فرع بدون أصل , يعضد ذلك ما أخرجه تقي الدين بن مخلد عن عبد الله بن عمرو بن العاص , أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بمجلسين أحدهما يدعون الله تعالى و يرغبون اليه , و الآخر يعلمون العلم و يتعلمونه , فقال صلى اله عليه و سلم : " كلا المجلسين على خير و أحدهما أفضل من الآخر " , يريد مجلس العلم و الله أعلم . و قد علم أيضا مما تقدم أن القرآن أفضل الأذكار , و ان كان المفضول قد يكون أفضل في بعض الاحوال باعتبار آخر و هذا متفق عليه , و لم ينازع في ذلك الا بعض المتأخرين , حيث جعل الذكر أفضل , اما مطلقا أو في بعض الخواص كما يقوله الغزالي رحمه الله تعالى , أو في حق المبتدء و هو أقرب . فان المفضول قد يكون أفضل في بعض الأزمان و الاشخاص كالقراءة في الركوع , فانها تكره تعظيما و تشريفا أن يقرأ القرآن في حالة الخضوع , و هو الذل . كما كره أن يقرأمع الجنابة و الله أعلم " , انتهى كلامه . فلت , لم يستوعب بهذا الجواب من السؤال المراد , لكن لا ينبغي لمثلنا عليه اعتراض كما قال سيدي قاسم بن غانم في معارضته للشيخ سيدي علي النوري في تحريم الدخان :
و لم أرض خلف الشيخ حبا و هيبة فما رؤية الزرقا كرؤية أرمد
الخ . و الغريب في ترتيب الأفضليات ما ذكره العلامة العارف بالله تعالى الجلال في خاتمة شرحه اتمام الدراية على النقاية في فن الت . قال رحمه الله تعالى : " العلم أس العمل , فلا يصح عمل بدونه . وهو أي العمل ثمرة العلم , فلا ينفع علم بلا عمل بل يضر . و قليل العمل مع العلم خير من كثيره مع الجهل . لأن من عمل بلا علم ففساده أكثر من صلاحه . فمن ثم كان العلم كما قال الامام الشافعي , رضي الله عنه , أفضل من صلاة النافلة لأنه فرض عين أو كفاية . و الفرض أفضل من النفل لحديث : " و ما تقرب الي عبدي بشيء أحب الي مما افترضته عليه " , الخ كما تقدم , رواه البخاري . و قال صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " . و قال عليه السلام : " لفقيه واحد أشد على الشيطان من لف عابد " , رواهما الترمذي و غيره . و قال عليه السلام : " فضل العلم أحب الي من فضل العبادة " , رواه الحاكم , و في لفظ عند الطبراني " قليل العلم خير من كثير العبادة " . و كفى بالمرء فقها اذا عبد الله و كفى بالمرء جهلا اذا أعجب برأيه . و كان صلى الله عليه و سلم يدعو : " اللهم اني أعوذ بك من علم لا ينفع " , رواه الحاكم و غيره . و قال عليه السلام كل علم وبال على صاحبه يوم القيامة الا من عمل به " , رواه الطبراني . و أفضل العلم أصول الدين , لتوقف أصل الايمان و كماله عليه . فالتفسير لتعلقه بكلام الله تعالى , أشرف الكلام , فالحديث لتعلقه بكلامه صلى الله عليه و سلم , فالأصول فالفقه , فالآلات من النحو و اللغة و المعاني و غيرها على حسبها , أي قدر الحاجة اليها , فالطب لأنه من فروض الكفاية . و الصلاة أفضل من الطواف و سائر العبادات على الأصح , لحديث " خير أعمالكم الصلاة " , رواه الحاكم و غيره . و الطواف أفضل من غيره من العبادات حتى من العمرة . روى الأزرقي أن أنس بن مالك قدم المدينة , فركب اليه عمر بن عبد العزيز , فسأله الطواف أفضل أم العمرة فقال : " الطواف و النفل بالبيت أفضل من خارجه , حتى من مسجد مكة و المدينة , لحديث الصحيحين : " ياأيها الناس صلوا في بيوتكم فان أفضل صلاة المرء في بيته الا المكتوبة " , و نفل الليل أفضل من نفل النهار , لحديث مسلم : " أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة اليل ثم وسطه " , أي الثلث الاوسط أفضل من طرفيه . فآخره أفضل من أوله و هو ما بعد الوسط . سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم , أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة , فقال : " جوف اليل " , رواه مسلم . و قال عليه السلام : " أحب الصلاة الى الله تعالى صلاة داوود , كان ينام نصف اليل و يقوم ثلثه و ينام سدسه " . و قال عليه السلام : "ينزل ربنا كل ليلة الى السماء الدنيا حين يبقى ثلث اليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له , من يسألني فأعطيه , من يستغفرني فاغفر له " , رواهما الشيخان . و القرآن أفضل من سائر الذكر , للحديث الآتي , و هما أي القرآن و الذكر أفضل من الدعاء , حيث لم يشرع لما روى الترمذي و حسنه عن أبي سعسد الخذري قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم , يقول الرب تبارك و تعالى , " من شغله القرآن و ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " , و فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه " . و في لفظ في مسند البزار , يقول الله تعالى : " من شغله قراءة القرآن عن دعاءي أعطيته أفضل ثواب الشاكرين " . و روى البيهقي حديث " قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة , و قراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من التسبيح و التكبير . أما الدعاء حيث شرع و كذا الذكر فهو فهو أفضل اتباعا , و حرف تدبر خير من حرفي غيره . قال تعالى : " كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته " . و قال تعالى : " ورتل القرآن ترتيلا " . و روى أبو عبيدة عن أبي حمزه , قال : " قلت لابن عباس اني سريع القراءة , فقال : لان أقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها و أرتلها , أحب الي من أن أقرأ القرآن أجمع هدرمة " . و روى أصحاب السنن الأربع حديث : " لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث " . و روى البخاري عن أنس , قال : " كانت قراءة النبي صلى لله عليه وسلم مدى " . و روى أبو داوود و الترمذي و النسائي عن أم سلمة أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم , قراءة مفسرة حرفا حرفا . و القراءة بالمصحف أفضل منها على ظهر قلب , لأن النظر فيه عبادة , حتى كره جماعة من السلف أن يمضي على الرجل يوم لا ينظر في مصحفه . و روى أبو عبيدة حديث فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرأ مظهرا , كفضل الفريضة على النافلة , و اسناده ضعيف . و روى " أعطوا أعينكم حظها من العبادة , قالوا وما هو , قال النظر في المصحف ".
و فيه بسند صحيح موقوف على ابن مسعود : " أديموا النظر في المصحف " . و الجهر افضل من السر حيث لا رياء , فان نفعه متعدد للسامعين . أما اذا خاف الرياء فالاسرار أفضل , و غليه يحمل حديث الترمدي : " الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة , و السر بالقرآن كالمسر بالصدقة " . و السكوت أفضل من التكلم و لو استوت مصلحتهما الا في حق . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل كلام ابن آدم عليه لا له الا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله تعالى " . و قال عليه السلام تكثروا الكلام بغير ذكر الله , فان الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب و ان أبعد الناس من الله القلب القاسي , و مخالطة الناس و تحمل أذاهم أفضل من اعتزالهم " . قال عليه الصلاة و السلام : " المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس و لا يصبر على أذاهم " , رواه الشيخان في الادب , و هو أفضل أي الاعتزال حيث خاف الفتنة في دينه بموافقتهم على ما هم عليه , يحمل عليه حديث عقبة : " واليسعك بيتك " , الخ . و روى ابن ابي الدنيا في كتاب العزلة , حيث " أن أعجب الناس الي رجل يؤمن بالله و رسولهو يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة و يفر بماله و يحفظ دينه و يعتزل الناس " . و روى البيهقي في الزهد من حديث أبي هريرة مرفوعا : " يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه , الا من هرب بدينه من شاهق الى شاهق و من حجر الى حجر . فاذا كان ذلك الزمان لم تنل المعيشة الا بسخط الله تعالى . فاذا كان ذلك كذلك كان هلاك الرجل على يد زوجته و ولده . فان لم يكن له زوجة و لا ولد كان هلاكه على يدي أبويه , فان لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي قرابته أو الجيران " , قالوا : " كيف ذلك يا رسول الله " , قال : " يعيرونه بضيق المعيشة فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها نفسه , و الكفاف أفضل من الفقر و الغنى " . قال عليه السلام : " أفلح من أسلم و رزق كفافا و قنعه الله بما رزقه " . و قال عليه السلام : " طوبى لمن هدي للاسلام و كان عيشه كفافا و قنع " . روى الاول مسلم و روى الثاني الترمذي . و قيل الفقر مع الصبر أفضل لما في الصحيحين : " يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمس مائة عام " . و قيل الغنى مع الشكر أفضل لحديث الصحيحين : " ذهب أصحاب الدثور بالأجور " , الخ , انتهى و الله أعلم . فهذه نبذة من ترتيب الأفضليات تومى الى قوله و ما هو الترتيب في الأفضليات . ثم قال عفا الله تعالى عنه:

( و هل ما بعد مغرب و فجر سن احياؤه و أي فيهما حسن )

اشتمل البيت على سؤالين . الاول , هل احياء ما بين المغرب و العشاء و ما بين الفجر و طلوع الشمس سنة أم لا . السؤال الثاني , ما هو الأفضل فيما بين المغرب و العشاء من الاشتغال بالصلاة أو بقراءة القرآن أو الذكر أو التسبيح أو غيرهما , و فيما بعد صلاة الصبح بالذكر أو بالقرآن أو مطالعة الكتب الشرعية أو تعلمها و تعليمها أو غير ذلك , مما فيه نفع في الدارين . و زاد هنا سؤالا ثالثا و هو , و هل تكره القراءة بعد العصر أم لا , و لكن ذكره استطرادا , و حديث لم يعقد له بابا في الأصل لم نعقد له فصلا في النظم تبعا له . و بتمام السؤالين المذكورين في النظم ما عدى الثالث , بلغت اثنان و ثلاثون سؤالا . قوله و هل ما بعد مغرب و فجر سن احياؤه , أي وهل ما بعد مغرب الى العشاء , وما بعد فجر الى طلوع الشمس سنة احياء هذين الوقتين أم لا . الفصل الحادي و الثلاثون : في الجواب على قوله و هل يسن احياء ما بين المغرب و العشاء و ما بين الفجر و الطلوع أم لا الخ . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى في كتابه الجوهر الخاص : " نعم انه سنة فيما ذكر لما ورد فيه من الأحاديث الآتي ذكرها ان شاء الله تعالى , انتهى كلامه و الله أعلم . قلت أما احياء ما بين المغرب و العشاء , فقد بالغ الصوفية رضي الله عنهم و أكدوا في المحافظة على تعمير هدا الوقت و حذروا و نهوا عن الكلام المباح فيه فضلا عن المكروه و خلاف الأول حتى قال بعضهم : " كلما تكلم العبد كلمة فيه الا خرج من قلبه نور و نزل مكانه ظلام , و هكذا حتى يمتلأ قلبه ظلاما و هو لا يشعر . فليحذر المريد الطالب طريق الآخرة من الكلام فيه و أن يعمره بما يأتي ان شاء الله تعالى في الفصل الثاني و الثلاثين , و لعله و الله أعلم ليحصل له الحضور في صلاة العتمة , لأنها خاتمة صلاة يومه , و الأمور تعتبر بخواتمها , و لأنه , أي الوقت المذكور احياؤه و تعميره وسيلة لها , و من ضيع الحضور في الوسائل لا يستطيعه في المقاصد , و من ذلك شرطوا الحضور في الوضوء ليستعان به على الحضور في الصلاة كما ذكرهفي العوارف . قلت , و اذا حصل له حضور و خشوع في صلاة , كان و الله أعلم كمن صلاها في جماعة , لما ورد في الأخبار أن العبد اذا قام الى الصلاة رفع الله تعالى الحجاب بينه و بينه و واجهه بوجهه الكريم , و قامت الملائكة من لدن منكبيه الى الهوى يصلون بصلاته و يؤمنون على دعائه . و أن المصلي لينشر عليه من البر من عنان السماء الى مفرق رأسه و يناديه منادي لو علم المصلي من يناجي ما التفت أو ما انفتل , الخ . هذا ما لم يسرق من صلاته , لقولهم : " أقبح السرقة سرقة المصلي من صلاته " , و هو أن يلتفت قلبه الى غير ما هو بصدده . و قد قال عليه الصلاة و السلام : " تفضل صلاة الجماعة صلاة الفذ بسبع و عشرين درجة " , و خصوصا اذا وافق ليلة القدر , فانها تنتقل على الصحيح في جميع ليالي السنة خلافا لمن حصرها في افراد النصف الاخير من رمضان , أو في العشر الأواسط , أو في العشر الأواخر منه أو في ليلة السابع و العشرين منه , أو ليلة النصف من شعبان أيضا . أقوال و الصحيح ما ذكرناه , قاله سيدي عبد الله بن أبي جمرة نفعنا الله تعالى به آمين . و قد قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه : " من شهد العشاء في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر , و ليلة القدر كما قال تعالى خير من ألف شهر , و مبلغها ثلاثون ألفا من الايام و ثلاثون ألفا من الليالي , و مجموعها ستون ألفا من الدهر , أوزعنا الله تعالى شكر نعمه و جعلنا من أهلها و أعاننا عليها بمنه آمين . و لهذا ينبغي للمريد الطالب طريق الآخرة أن لا يتقاصر عن نيتها كل ليلة , أو ينويها أي ينوي قيامها أول ليلة من السنة فيقول ان كانت الليلة ليلة قدر فأنا أقومها ايمانا و احتسابا , و ينوي أن يفعل ذلك في ليالي السنة , ثم يستصحب قيام ليالي تلك السنة كلها بناء على كفاية نية واحدة في العمل المتتابع كالصوم في رمضان و هو مذهب مالك رضي الله عنه لقوله عليه الصلاة و السلام : " من قام ليلة القدر ايمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " , رواه البخاري من حديث أبي هريرة . قوله ايمانا يعني لما جاء فيها من الثواب , و احتسابا يعني ثوابه عند الله تعالى . فخرج من قامها عادة أو مباهاة أو مستأجرا أو غيره , قاله الشيخ زروق . و اختلف في قيام ليلة القدر هل الليل كله أو بعضه , و اذا كان بعضه هل أوله و هو ما بعد صلاة العشاء كالتراويح , و تسمى قيام رمضان , أو آخره و هو ما بعد النوم و يسمى التهجد , الصحيح الاخير عندي . يصح الاول لما نقل الواحدي في قوله تعالى " و الذين يبيتون لربهم سجدا و قياما " . قال : " و ذكر الكلبي عن ابن عباس أنه قال : " من صلى ركعتين بعد العشاء فقد بات لله ساجدا و قائما " . و اختلف هل يجزي غير الصلاة من أنواع العبادات في قيام هذه الليلة من الدكر و التلاوة أو المراقبة أو غيرها . الظاهر أنه يجزي لكن ذكر العلامة الولي العارف بالله تعالى سيدي عبد الله ابن أبي جمرة , أن الصلاة هي المطلوبة في قيام هذه الليلة , و لا يجزي غيرها عنها من أفعال البر آخذا من قول سعيد بن المسيب : " من صلى العشاء في جماعة " , الخ , كما تقدم . واختلف أيضا في القدر المجزي منها , أي من الصلاة لتحصيل ثوابها المذكور في اللآية و الحديث على أقوال , و الصحيح نهايته قيام النبي صلى الله عليه وسلم بما ثبت عنه من الاحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعات على اختلاف الروايات , و أنه لم يزد عليها في رمضان و لا في غيره , بدليل أنه عليه الصلاة و السلام , لا يأخذ في حق نفسه المكرمة الا بالأعلى و الأرجح . و أقل ما يجزي فيها ركعتان , لقوله عليه الصلاة و السلام : " من قام بالآيتين من آخر سورة البقرة " , و في رواية , " من آخر سورة آل عمران , كفتاه " , أي أجزتاه عن قيام الليل . و اختلف فيمن صلى أقل من ركعتين هل يحصل له فضلها كله أم بعض . الصحيح أنه يصح له بعض لقول سعيد بن المسيب : " فقد أخذ بحظه منها " , كما تقدم , و هو على قول من يجوز التنفل بركعة , خلافا للحنفية . و أما احياء ما بين الفجر و طلوع الشمس فلا تخفى سنية احياء هذا الوقت على من له أدنى ممارسة بكتب الشريعة و رسائل أهل الصوفية , لما جاء في ذلك من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية و الصحف الابراهيمية , كما سيأتي بعده ان شاء الله تعالى في الفصل الرابع و الثلاثين منها ما ورد , و مما أنزل الله تعالى في صحف ابراهيم عليه السلام . و على العاقل أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربه . قال الشيخ زروق : " هي من السحر الى طلوع الشمس " . و ساعة يحاسب فيها نفسه , قال : " و هي من العصر الى الغروب " , الخ , فلا نطيل به . و قوله تعالى : " و اذكر اسم ربك بكرة و أصيلا " , الآية . قالوا , البكرة من طلوع الفجر الى حلول النافلة . و قال له الصلاة و السلام : " واستعينوا بالغدوة و الروحة و بشيء من الدلجة " , الخ . و كذلك قوله تعالى في الحديث القدسي : " اذكرني ساعة بعد العصر " , الخ . فالغدوة و ساعة بعد الصبح هو من الفجر الى الشمس و الله أعلم . و كثير مما لا يحصى من اللآيات و الأحاديث الدالة على سنية احياء هذا الوقت تركناها اختصارا , و الله تعالى الموفق للصواب . قوله و أي فيهما حسن , الضمير في قوله فيهما عائد على ما بين المغرب و العشاء , و ما بين الفجر و طلوع الشمس . كأنه يقول , فاذا ثبت سنية احياء هذين الوقتين , أي عمل من أعمال البر يحسن تعميرهما به , و هو السؤال الثاني و الثلاثون على الكلمة المشرفة . الفصل الثاني و الثلاثون : في الجواب على قوله ما هو الافضل فيما بين المغرب و العشاء , الاشتغال بالصلاة أو بقراءة القرآن أو الذكر أو التسبيح أو غيرهما . و فيما بعد صلاة الصبح , أبالذكر أو بالقرآن أو مطالعة الكتب الشرعية أو تعلمهما أو تعليمهما أو غير ذلك مما فيه نفع في الدارين , بل في الدين , و هل تكره القراءة بعد العصر أم لا . اعلم أنه قال الامام العالم العارف بالله تعالى , زين الدين رحمه الله تعالى , في الجوهر الخاص , قال الامام النووي , رمه الله تعالى , في الأذكار : " روى بن السمني عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها , أن النبي صلى الله عليه و سلم كان اذا انصرف من صلاة المغرب يدخل فيصلي ركعتين ثم يقول فيما يدعو: " يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ". و في غير الأذكار قال أنه صلى الله عليه و سلم كان يصلي بين المغرب و العشاء ست ركعات . و روى السلمي عن أنس رضي الله عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى بعد المغرب ثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل " قل هو الله أحد " أربعين مرة , صافحته الملائكة يوم القيامة و أمن الصراط و الحساب و الميزان " . ففي هذا دليل على أن الصلاة في هذا الوقت أفضل , الا أنه ورد ما يدل على أن الذكر فيه أفضل . ففي الترمذي عن عمارة بن شبيب قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قال لا اله الا الله وحده لا شريك , له
الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير عشر مرخات اثر صلاة المغرب , بعث الله تعالى مسلحة يكفلونه من الشيطان حتى يصبح , و كتب الله له عشر حسنات موجبات و محى عنه عشر سيئات موبقات و كانت له بعدل عشر رقبات مؤمنات " . لكن قال الترمذي لا نعرف لعمارة بن شبيب سماعا من النبي صلى الله عليه و سلم . و في كتابه عمل اليوم و الليلة من طريقين , أحدهما هذا , و الثاني عن عمارة عن رجل من الأنصار , قال ابن عساكر أن هذا الثاني هو الصواب . و قوله مسلحة هو الحرس , انتهى كلامه . قال في القاموس , المسلحة بالفتح هم االقوم ذوو السلاح . قلت , و ذكر الامام العارف بالله تعالى أبو الحسن علي الخروبي في شرحه على أصول الشيخ أحمد زروق رحمهما الله تعالى , و اختار المشائخ , رحمهم الله تعالى و نفعنا بهم آمين , في هذا الوقت الى صلاة العشاء الأخيرة النافلة , لأنه وقت غفلة و من شاء ذكر الله تعالى فليفعل , و كذلك الصلاة على سيدنا و مولانا محمد صلى الله عليه و سلم . و من كان له عيال أو أولاد و أراد أن يعلمهم ما يجب عليهم من أمور دينهم , فذلك أفضل الأعمال و أعظمها ثوابا عند الله تعالى . و ذكر الامام العالكم الجامع بين الحقيقة و الشريعة , العارف بالله تعالى الخوافي في رسالته الوصية في صرف الأوقات لما يليق بها , قال : " في هذا الوقت و هو بعد المغرب الى العشاء , يأتى بسنتي المغرب ثم يصلي لبقاء الايمان , يقرأ في كل ركعة منها بعد الفاتحة آية الكرسي مرة و الاخلاص مرة , و المعوذتين كل واحدة منهما مرتين , ثم اذا سلم يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم عشر مرات , ثم يدعو بهذا الدعاء ثلاث مرات : " اللهم أستودعك ديني و ايماني فاحفظهما علي في حياتي و عند وفاتي و بعد مماتي " , ليثبته الله تعالى على الايمان و يأمنه من النزع و الخذلان . قال كذا أفاده شيخنا قدس سره . ثم اذا كان طالب العلم يشتغل فيما بين العشائين بالمطالعة و التكرار و لا يتكلم في هذا الوقت فان الكلام فيه يكدر القلب و يذهب بنظارة الوقت , فلا يصفو الى آخر الليل . و زاد , قال : " و كذا فيما بعد العشاء الأخيرة لا يتكلم البتة , الا ذا عرض عارض شرعي فذلك لا يضره اذا كان مقتصرا على قدر الحاجة . قال , و ان لم يكن طالب علم فالأولى الاشتغال بذكر لا اله الا الله على الوصف الذي تقدم , فان الذكر في هذا الوقت يصفي قلبه عما طرأ عليه من الأمور الطبيعية في النهار فيتهيأ بالصفاء للحضور فيما يعمل بالليل الى آخره . و أما فيما بعد صلاة الصبح فالافضل الذكر لما روى الترمذي في كتابه عن أنس رضي الله تعالى عنه , أنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من صلى الفجر في جماعة , ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس , ثم صلى ركعتين , كانت له كأجر حجة و عمرة " , ثلاثا . قال الترمذي حديث حسن . و أخرج البيهقي و ابن أبي الدنيا و الأصبهاني عن أنس رصي الله تعالى عنه , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لان أجلس مع قوم يذكرون الله تعالى من بعد صلاة الصبح الى أن تطلع الشمس , أحب الي مما طلعت عليه الشمس . و لان أجلس مع قوم يذكرون الله تعالى بعد صلاة العصر الى أن تغيب الشمس , أحب الي من الدنيا و ما فيها " . و قال النووي رحمه الله تعالى في الاذكار في كتاب تلاوة القرآن : " و القراءة بين المغرب و العشاء محبوبة , و أما قراءة النهار فأفضلها بعد صلاة الصبح , و لا تكره القراءة في وقت من الأوقات , و لو في وقت النهي عن الصلاة " . و أما ما حكاه ابن داوود رحمه الله تعالى عن معاذ بن أبي رفاعة رحمه الله تعالى عن مشائخه أنهم كرهوا القراءة بعد العصر , و قال انها دراسة اليهود . فغير مقبول و لا أصل له و الله أعلم , انتهى كلامه فان قلت انما قال صاحب الجوهر الخاص في الجواب على هذا السؤال و هو , ما الافضل من الأعمال فيما بعد المغرب و فيما بعد صلاة الصبح . و الأول العموم كما يفهم من النظم , و هو قوله و هل ما بعد مغرب , أي وقت الغروب , و فجر أي طلوع فجر , سن احيائه الخ , و هو مشعر بالتغاير . قلت لا تغاير بينهما , و يجاب عنه بجوابين : الأول على حذف مضاف تقديره في النظم و هل ما بعد مغرب أي صلاة سنة مغرب و فجر , أي سنة فجر . أما الفرض لا خلاف بأنه أفضل ما تحيى به أوقاته لقوله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم : " و ما تقرب الي عبدي بشيء أحب الي مما افترضته عليه " , رواه البخاري و غيره . و الثاني أنه معلوم في الشرع ضرورة , لا أفضل من هذين الركعتين اللتين بعد المغرب و بعد طلوع الفجر . و هذا آكد , حتى قيل أن المشتغل بالفتيا يترك سائر السنن الا سنة الفجر . أما الأولى , لقوله صلى الله عليه وسلم : " من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن ينطق مع أحد , يقرأ في الأولى بالحمد و قل يا أيها الكافرون , و في الركعة الثانية بالحمد و قل هو الله أحد , رج من ذنوبه كما تخرج الحية من سلخها " , أخرجه ابن النجار في تاريخه من حديث أنس . دليل أفضلية الثانية و تأكيدها على الأولى ما رواه الطبراني عن عائشة رضي الله عنها , قالت : " كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي و يدع , و لكن لم أره ترك الركعتين قبل صلاة الفجر في سفر و لا حضر , ولا صحة و لا سقم " . و قالت رضي الله تعالى عنها : " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم , لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين قبل الفجر" , رواه الشيخان . و قال صلى الله عليه وسلم : " ركعتا الفجر أحب الي من الدنيا و ما فيها " , و في لفظ " خير من الدنيا و ما فيها " , رواه مسلم . فتعين من هذا المراد من احياء الوقتين ما بعد صلاتهما فرضا و نفلا , لكن بقي عليه أدعية هناك , ثبت أفضليتها في السنة , و اتخدها الصوفية وظائفا تقرأ بين سنة الفجر و فرضه , و لو لا خيفة الاطالة , لذكرنا منها نبدة , و من أراد شيئا منها فعليه برسالة الامام الخوافي نفعنا الله تعالى به , و كتاب عوارف المعارف و غيرهما . و رسائل شيخ شيوخنا سيدي مصطفى البكري نفعنا الله تعالى به , أغنت عن غيرها , لأنه رحمه الله تعالى جعل لكل وقت وظيفة , كحزب السحر و حزب الشروق و غيرهما , و لكن كان الاستاذ رحمه الله تعالى , يقول لا تليق بالمبتدء هذه , لا ينبغي له الا الاكثار من الاسم الذي لقنه الشيخ , فان السر و الفتح فيه , و يعبر عليه بالغذاء الذي تقوم به البنية . و غيره من الأذكار و الوظائف كالأبزار التي تكون على الطعام فلا تغني عن الطعام , كذلك الورد و الوظيفة . و مما أقر الشيخ رحمه الله تعالى التلاميذ من الأدعية التي تقرأ سنة , هو بعد أن يسلم يأتي بالاستغفار و الشهادة , و يقول آمنت بالله ربا و بالاسلام دينا و بالكعبة قبلة و بالقرآن اماما و بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا و رسولا , اللهم اني أصبحت أشهدك و أشهد حملة عرشك و ملائكتك و أنبيائك و كتبك و رسولك و جميع خلقك أنك أنت الله الذي لا اله الا أنت وحدك لا شريك لك , و أ، محمدا عبدك و رسولك , أستغفرك و أتوب اليك , الحمد لله الذي نور قلبي و جعلني من المؤمنين و لم يجعلني ضالا , الحمد لله الذي خلقني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم , الحمد لله الذي لم يجعل رزقي على يد غيره , الحمد لله الذي غفر لي ذنوبي و ستر علي عيوبي , ثم يقرأ دعاء صحيفة القاضي عبد الوهاب , و هو " لا اله الا الله المعبود في كل مكان , لا اله الا الله الموجود في كل زمان , لا اله الا الله المذكور بكل لسان , لا اله الا الله المعروف يالاحسان , لا اله الا الله الحنان المنان لا اله الا الله ذو الجلال و الاكرام , لا اله الا الله كل يوم هو في شأن , لا اله الا الله أمان الأمان أعوذ بك من زوال الايمان و من الرجيم الشيطان ( ثلاثا ) , يا عزيز يا غفور يا رحمان يا رحيم " . أما هذا يأكد و يوصي به سائر التلاميذ بعد سنة الفجر , و بعد صلاة العصر (ثلاثا) تقرأ بعدهما , و زاد لبعض التلاميذ قراءة دعاء الخضر عليه السلام مع هذه الأدعية المذكورة بعدهما , و هو " اللهم اسبل لينا سترك و أدخلنا في مكنون غيبك و احجبنا من جميع خلقك , بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الارض و لا في السماء و هو السميع العليم , يا حفيظ يا حفيظ يا حفيظ احفظنا بما حفظت به أوليائك و استرنا بما سترت به عبادك الصالحين , يا حفيظ (ثلاثا) " . و اما المسبعات فهي من الورد , تقرأ الى نصف النهار و العصرية الى نصف الليل , و هي معلومة تحفظ من الفقراء في الطريقة الخلوتية . و انما ذكرت هذا لنعين ما ينبغي أن يكون عليه المريد في الطريقة المذكورة , و لو لا خشية الاطالة لذكرت ورد السحر و ورد الشروق و غيرهما , و لكن من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم , انتهى و الله أعلم . ثم قال عفا الله عنه :

علي العذاري
16-01-2012, 10:25 AM
( و ما هو الأفضل سرا او علن و هل في مسجد جماعة علن )

اشتمل البيت على سؤالين , الأول و هل الافضل القراءة أو الذكر سرا أو جهرا , أو يختلف باختلاف السالكين . و الثاني و هل ما اعتاده الصوفية من حلق الذكر و الجهر به في المساجد و غيرها , و رفع الصوت فيه أو في غيره مستحب أو مكروه أولا , و اذا قلتم باستحبابه , فما معنى قوله تعالى " واذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول " , الآية . و قوله صلى الله عليه وسلم : " خير الذكر الخفي " , و بهما تمام أربعة و ثلاثين سؤالا . قوله و ما هو الأفضل من القراءة أو الذكر , سرات يكونان أو علنا , أي لنا بمعنى جهرا . قال في القاموس , علن الأمر كضرب و نصر و كرم و فرح علنا , و اعتلن ظهر , و اعلنته أظهرته الخ . الفصل الثالث و الثلاثون : في الجواب على قوله ما هو الأفضل في الذكر و القراءة , السر أو الجهر , أو يختلف باختلاف السالكين . اعلم أنه قال الامام زين الدين في الجوهر الخاص , قال النووي في الذكار المشروعة و غيرها , لا يجب شيء منها و لا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه اذا كان صحيح السمع لاعراض له , انتهى كلامه . قلت , و الكلام الآن في الجهر الذي فوق هذا المقدار , فوردت أحاديث تقتضي الجهر و أحاديث تقتضي الاسرار , و جمع بينهما بأن الذاكر أو القارء ان خاف الرياء أو تأذي مصلي , فالاخفاء أفضل والا فالجهر أفضل , و سيأتي الكلام على ما ورد في ذلك في الفصل الرابع و الثلاثين . و فرق الصوفية بين المبتدء و غيره , فقالوا يستحب للمبتدء الجهر به , فقال الغزالي في كدتاب ثمرات الأعمال , قال صلى الله عليه و سلم : " مفتاح الجنة لا اله الا الله " . فمن حافظ على قول لا اله الا الله ظاهرا و داوم على ذكرها و جعل لسانه مستغرقا فيها , فتح الله تعالى على قلبه نورا يكشف به عن سرها الخ . و قال سيدي يوسف العجمي في آداب الذكر : " العاشر أن يختار من الذكر لا اله الا الله مع التعظيم بقوة تامة جهرا و تصعيدا " . و قال في الخلاصة أن من لم تتخلص نفسه على البشرية يحتاج الى ذكر الظاهر و البطن . و قال العجمي , قدس سره , أن الأولى للجماعة اذا اجتمعوا للذكر , و للمبتدء , رفع الصوت بالذكر , فان ذلك أشد تأثيرا في القلب لينفي الخواطر و جلاء للقلب و رقته , و رفع الحجب عنه , لأن الله تالى شبه القلوب بالحجارة في قوله تعالى : " ثم قست قلوبهم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة " . و معلوم أن الحجر لا ينكسر الا بالقوة . فقوة ذكر جماعة مجتمعين على قلب واحد , أشد تأثيرا من قوة ذكر شخص واحد , و لهذا قال الأستاذ نجم الدين كبرى , قدس سره , أن القوة شرط واستدل بهذه الآية , و بما روي أن الناس كانوا يذكرون الله عند غروب الشمس , لا يرفعون اصواتهم بالذكر , فاذا خفت أرسل اليهم عمر ابن الخطاب , رضي الله عنه , أن نوروا الذكر أي ارفعوا أصواتكم به و في قوة الذكر جلاء القلب من صدئه , اذ القلوب تصدأ من الغفلة عن ذكر الله تعالى كما يصدأ الحديد , و صقالها ذكر الله تعالى بالقوة التامة حتى تصفو كالمرآة , لا يحصل جلائها و صفائها حتى ترى فيها الاشياء الا بقوة الصقل . فكذلك القلب لا يصفو الا بدوام الذكر بالقوة المذكورة . و صفائها و طهارتها من جميع الأدناس شيء منهم مطلوب , فقد قال عليه الصلاة و السلام : " ان الله لا ينظر الى صوركم و لكن ينظر الى قلوبكم " . و قال صلى الله عليه و سلم : " ألا و ان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله , و اذا فسدت فسد الجسد كله , ألا و هي القلب " . و قال تعالى : " و ثيابك فطهر " , قيل قلبك . و قال تعالى : " الا من أتى الله بقلب سليم " . و في الحديث القدسي يا داوود طهر لي بيتي ما وسعني أرضي و لا سمائي , و وسعني قلب عبدي المؤمن " . و انما تأكدت طهارة القلب لأنه مورد الايمان و التوحيد و العرفان و الاستسلام و الرضى و الايقان و خزانة السرار و منبع الحكم و مهبط الانوار . و من المعلوم المصور أنه لا يصلح أن يكون خزانة الاسرار و محلا لسلطان الاذكار الا بيت طاهر من جميع الأدناس و الاقذار , فالبدار البدار الى تنظيفه من سيء الاخلاق كالكبر و الغل و الغش و الحقد و خوف الفقر و الغضب و خشية الاملاق و الغفلة عن ذكر الملك الخلاق , و حب التمدح بما ليس فيه و سوء الخلق و النفاق و الشقاق . فمتى ظهر القلب بالتخلي منها و تحلى بمحمود الصفات , خلص من رق الهوى و النفس الى يوم التلاق , و سمي الصوفي صوفيا لصفاء قلبه و سلامة لبه و أنشد في المعنى :
تخالف الناس في الصوفي واختلفوا و كلهم قال قولا غير معروف
و ليس يمنح هذا الاسم غير فتى صافي فصوفي حتى سمي الصوفي
و ملخص الجواب أن الحكم في هذه المسألة يختلف عند الناسكين و الله أعلم , انتهى كلامه . قلت و قد ألف الامام السيوطي رسالة في ذلك , و جمع بين الاحاديث التي تقتضي الاسرار و التي تقتضي الجهر بالذكر كما فعل النووي في ذلك بالقراءة و سماها نتيجة الفكر في الجهر بالذكر , و رجح الجهر على الاسرار لفوائد مذكورة هناك , و الحق ما قاله شيخنا الأزهري نفعنا الله تعالى به , آمين . فما ورد من الآيات و الأحاديث التي تقتضي الجهر بالذكر و القراءة , انما ذلك في حق المبتدأ , و ما ورد من الآيات و الأحاديث التي تقتضي الاسرار به انما هي في حق المنتهي . و المبتدأ لا يسمع الا بأذن رأسه فالأفضل في حقه الجهر , و المنتهي لا يسمع الا بأذن قلبه فالأفضل في حقه السر , لأن من كان في أذن قلبه وقر الخواطر و الهواجس و حديث النفس لا ينفعه الا الجهر لينفعها , و من لا فلا . تنبيه: قال الامام تاج الدين في مفتاح الفلاح : " و ينبغي للذاكر اذا كان وحده , ان كان من الخاصة , أن يخفظ صوته بالذكر , و ان كان من العامة أن يجهر به . و ان كان الذاكرون جماعة , فالأولى في حقهم رفع الصوت بالذكر مع توافق الأصوات بطريقة واحدة موزونة . قال بعضهم , مثل ذكر الواحد وحده و ذكر الجماعة , كمثل
مؤذن واحد و مؤذنين جماعة , فكما أصوات المؤذنين جماعة تقطع الهواء أكثر مما يقطعه صوت واحد , كذلك ذكر جماعة على قلب واحد أكثر تأثيرا و أشد قوة في رفع الحجب عن القلب من ذكر واحد وحده . و أيضا يحصل لكل واحد ثواب ذكر نفسه و ثواب سماع الذكر من غيره , الخ " , انتهى كلامه . فائدة : عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " من دخل السوق فقال لا اله الا الله وحده لا شريك له , له الملك و له الحمد , يحيي و يميت و هو حي لا يموت , بيده الخير و هو على كل شيء قدير , كتب الله تعالى له ألف ألف حسنة و محى عنه ألف ألف سيئة , و رفع له ألف ألف درجة " , و في رواية عوض الثلاثة , " و بنى له بيتا في الجنة " , أخرجه الترمذي . في رواية , " من دخل السوق و نادى بأعلى صوته " , الى قوله " قدير " , " كتبت له ألف ألف حسنة " , انتهى و الله أعلم . وقوله وهل في مسجد جماعة علن , يعني وهل يجوز الذكر في مسجد جماعة , أي ما اعتاده الصوفية من عقد حلق الذكر في المساجد بالجماعات . علن أي مع العلانية به و رفع الصوت و الجهر به , أو لا يجوز ذلك , و هو السؤال الرابع و الثلاثون . الفصل الرابع و الثلاثون : في الجواب على قوله و هل في مسجد جماعة علن الخ , اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى في الجوهر الخاص : " لا كراهة في شيء من ذلك , وقد وردت أحاديث تقتضي استحباب الجهر في الذكر , و أحاديث تقتضي الاسرار به , و الجمع بينهما يختلف باختلاف الأحوال و الأشخاص . كما جمع النووي بين الأحاديث الواردة باستحباب الاسرار , و الواردة باستحباب الجهر بقراءة القرآن . و وردت أحاديث باجتماع الناس و تحلقهم للذكر في المسجد و غيره . فأما أحاديث الجهر به , فمنها ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه , قال قال رسول الله صلى الله عليه ومسلم : " أنا عند ظن عبدي بي و أنا معه اذا ذكرني , فان ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي , و ان ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منهم " , و الذكر في الملا لا يكون الا جهرا . و أخرج الحاكم و البيهقي و صححه في شعب الايمان عن أبي سعيد الخذري ضي الله تعالى عنه , قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " أكثروا ذكر لا اله الا الله , حتى يقولوا مجنون " . و أخرج البيهقي أيضا في الشعب عن أبي الجوزاء رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : " أكثروا ذكر لا اله الا الله حتى يقول حالمنافقون أنكم مراؤون " . قال الجلال السيوطي رحمه الله تعالى : " وجه الاستدلال من هذا و الذي قبله , أن ذلك انما يقال عند الجهر دون الاسرار " . و أخرج البزار و البيهقي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما , قال قال تعالى : " عبدي اذا ذكرتني خاليا , و اذا ذكرتني في ملا , ذكرتك في ذملا خير منهم و أكثر " . و أخرج البيهقي عن ابن مسعود رضي اله تعالى عنه , أن الجبل ينادي الجبل باسمه , يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر لله , فان قال نعم استبشر " , الحديث . و قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى " فما بكت عليهم السماء و الأرض " , أن المؤمن اذا مات بكت عليه المواضع التي كان يصلي فيها . و أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي عبيد , قال : " ان الوؤمن اذا مات تنادت بقاع الأرض و السماء , فيقول الرحمان ما يبكيكما على عبدي , فيقولان ربنا لم يمش في ناحية منا قط الا و هو يذكرك " . قال السيوطي رحمه الله تعالى ان سماع الجبل و الأرض للذكر لا يكون الا عن جهر . و أخرج البيهقي عن جابر رضي الله تعالى عنه , أن رجلا كان يرفع صوته بالذكر فقال رجل لو أن هذا أخفض من صوته , فقال النبي صلى الله عليه و سلم : " انه أواه " , و معنى الأواه الرحيم رقيق القلب . و أخرج الحاكم عن شداد , قال : " بينما أنا عند النبي صلى الله عليه و سلم , اذ قال ارفعوا أيديكم فقولوا لا اله الا الله , فقلنا , فقال اللهم انك بعثتني بهذه الكلمة و أمرتني بها و وعدتني عليها الجنة انك لا تخلف الميعاد , ثم قال ابشروا فان الله تالى قد غفر لكم " . و أخرج أحمد و أبو داوود و الترمدي و صححه النسائي و ابن ماجة عن السائب , أن
رسول الله صلى اله عليه و سلم قال : " جائني جبريل فقال : مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية " . و أخرج الحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه و سلم قال : " من دخل السوق فقال لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك و الحمد يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير , كتب الله له ألف ألف حسنة , و محى عنه ألف ألف سيئة , و رفع له ألف ألف درجة و بنى له بيتا في الجنة " , و بعض طرق الحديث " فنادى " . و أما أحاديث اجتماع الناس للذكر , فمنها ما أخرجه البيهقي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه , قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ما من قوم يجتمعون يذكرون الله تعالى الا ناداهم منادي من السماء , قوموا مغفورا لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات " . و منها حديث " منكرني في ملا ذكرته في ملا خير منهم " , و منها ما أخرجه الامام أحمد في الزهد عن ثابت , قال : " كان سليمان في عصابة يذكرون الله تعالى , فمر النبي صلى الله عليه و سلم فكفوا , فقال اني رأيت الرحمة تنزل عليكم و أحبت أن أشارككم فيها " , ثم قال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معه " . و روى أنه قال ذلك لما نزل عليه صلى الله ليه و سلم و هو في بعض بيوت أزواجه " و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه " . كما أخرجه الطبراني في الكبير , و ابن جرير عن عبد الرحمان ابن سهل بن حنيف , " فخرج يلتمسهم فوجد قوما يذكرون الله تعالى , منهم ثائر الرأس و جاف الجلد " , الحديث . تقدم حديث " لان أجلس مع قوم يذكرون الله تعالى بعد صلاة الصبح الى ان تطلع الشمس , أحب الي مما طلعت عليه الشمس " , الحديث . و منها ما أخرجه البزار و الحاكم في المستدرك و صححه عن جابر , فال : " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : " يا أيها الناس ان لله ملائكة سيارة تحل و تقف على مجالس الذكر في الأرض , فارتعوا في رياض الجنة " ,قالوا و أين رياض الجنة يا رسول الله , " قال مجالس الذكر , فاغدوا و روحوا في ذكر الله تعالى " . و منها ما أخرجه مسلم و الحاكم و اللفظ له عن ابي هريرة , قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان لله ملائكة سيارة و فضلا يلتمسون مجالس الذكر في الأرض " , الحديث . و منها ما أخرجه مسلم و الترمذي و صححه عن أبي هريرة و أبي سعيد الخذري رضي الله تعالى عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من قوم يذكرون الله تعالى , الا حفت بهم الملائكة و غشيتهم الرحمة و نزلت عليهم السكينة و ذكرهم اله في من عنده " . و منها ما أخرج الأصبهاني في الترغيب عن أبي زرين العقيلي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له : " الا أدلك على ملاك الأمر الذي تصيب به خير الدنيا و الآخرة , قال بلى , قال : عليك بمجالس الذكر , و اذا خلوت فحرك لسانك بذكر الله تعالى " . و أما أحاديث التحلق بالذكر , فمنها ما أخرج مسلم و الترمذي و حسنه عن معاوية , أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج يوما على حلقة من أصحابه , قال : " ما أجلسكم , قالوا جلسنا نذكر الله تعالى و نحمده , فقال انه أتاني جبريل فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة " . و منها ما أخرجه البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم , اذا مررتم برياض الجن فارتعوا , قالوا بلى يا رسول الله , و ما رياض الجنة , قال حلق الذكر " . و منها ما أخرج البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم , " أن لله سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر , فاذا أتوا عليهم حفوا , فيقول الله تعالى اغشوهم برحمتي , فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم " . و أما رفع الصوت به في المسجد , فورد فيه أحاديث منها ما أخرج البيهقي عن زيد بن أسلم , قال : " قال ابن الأزرع , انطلقت مع النبي صلى الله عليه و سلم ليلة , فمر برجل في المسجد يرفع صوته , فقلت لرسول الله عسى أن يكون هذا مرائيا , قال لا لكنه أواه " . و منها ما أخرج المروزي في كتاب العبد بن عز عن عبيد بن عمير , قال : " كان عمر يكبر في قبة فيكبر أهل المسجد فيكبر أهل السوق حتى ترتج من التكبير " . و منها ما أخرج البيهقي عن أبي سعيد الخذري رضي الله تعالى عنه , أن النبي صلى الله عليه و سلم , قال : " يقول الرب يوم القيامة سيعلم أهل الجمع اليوم من أهل الكرم , فقيل من أهل الكرم يا رسول الله , قال مجالس الذكر في المساجد " . فلهذا مدح الذكر في المساجد و كل موضع شريف , و لما جاء عن ميسرة رضي الله تعالى عنه , أنه قال : " لا يذكر الله تعالى الا في مكان طاهر " . فعلم من هذه الأحاديث أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر , بل فيه ما يدل على اسحبابه , و أما معارضته بحديث " خير الذكر الخفي " , فهو نظير معارضة أحاديث الجهر بالقرآن بحديث " المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة " . و قد جمع النووي رحمه الله تعالى بينهما بأن الاخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذي به مصلين أو نيام , و الجهر أفضل في غير هذا لأن العمل فيه أكثر و تتعدى فائدته الى السامعين , لأنه يوقظ قلب القارء و يجمع همته الى الفكر , و يصرف سمعه اليه و يطرد النوم عنه و يزيد في انشاطه . و قال بعضهم : " يستحب الجهر ببعض القراءة و الاسرار ببعضها , لأن المسر قد يكل فيأنس بالجهر , و الجاهر قد يكل أيضا فيستريح بالاسرار " . و كذلك يقال في الذكر على هذا التفصيل الا للمريد المبتدء , فيتأكد في حقه الجهر بقوة تلزمه في مذهب الصوفية , و قد تقدم . و أما قوله تعالى : " و اذكر ربك في نفسك " , الآية , و قوله في الحديث " خير الذكر الخفي " , الجواب عن الآية من ثلاثة أوجه : الأول أن الآية مكية كآية الاسرار " و لا تجهر بصلاتك و لا تخافت بها " , نزلت حين كان صلى الله عليه و سلم اذا سمعه المشركون يقرأ القرآن , يسبون القرآن و من أنزله , فأمر بترك الجهر لأجل ذلك . كما نهي صلى الله عليه و سلم عن سب الأصنام في قوله تعالى : " و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم " , و قد زال هذا المعنى . الثاني أن جماعة من المفسرين , منهم ابن أسلم شيخ الامام مالك رحمهما الله تعالى , و ابن جرير , حملوا الآية على الذكر في حالة قراءة القرآن , و أنه أمر له بالذكر على هذه الصفة تعظيما للقرآن أن ترفع عنده الأصوات , و يقويه اتصالها بقوله تعالى " واذا قرء القرآن فاستمعوا له و أنصتوا " . و كأنه لما أمر بالانصات خشي من ذلك الاخلال الى البطالة فنبه على أنه و ان كان مأمورا بالسكوت باللسان , الا أن تكليف القلب بالذكر باق حتى لا يغفل عن ذكر الله , و لهذا ختمة الآية بقوله " و لا تكن من الغافلين " . الثالث ما ذكره بعض الصوفية أن الأمر بأخفاء الذكر خاص بالنبي صلى الله عليه و سلم الكامل المكمل , و أما غيره ممن هو محل الوسواس و الخواطر الردية فمأمور بالجهر , لأانه أشد تأثيرا في دفعها , و يأيده ما أخرجه البزار عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم , من صلى منكم بالليل فليجهر بقرائته فان الملائكة تصلي بصلاته و تسمع لقرائته , و ان مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء , و جيرانه الذين معه في مسكنه يصلون بصلاته و يسمعون قرائته , و أنه ينطرد بجهره بقرائته عن داره و عن الدور التي حوله فساق الجن و مردة الشياطين " . قال سيدي يوسف العجمي في الجواب عن الآية و الحديث : " ان الله تعالى خاطب عامة عباده بقوله تعالى " أفلا ينظرون الى الابل كيف خلقت " , و خاطب الخاصة بقوله تعالى " أفلا يتدبرون القرآن " , و خاطب سيد أهل الحضرة محمدا صلى الله عليه وسلم , بعد أن عرفه بنفسه و بربه بقوله تعالى " واذكر ربك في نفسك " , فمن لا يعرف نفسه ولا ربه , فكيف يذكر ربه في نفسه , بل هم المخاطبون بقوله تعالى " اذكروا الله ذكرا كثيرا " . و أما الذكر الخفي , فهو ما خفي عن الحفظة لا ما يخفض به الصوت , و هو أيضا خاص به صلى الله عليه وسلم و بمن له به اسوة . و أما ما روي عن ابن مسعود أنه خرج من المسجد قوما يرفعون أصواتهم بالتهليل فيه , و قال ما أراكم الا مبتدعين , قال الامام السيوطي رحمه الله تعالى : " يتوقف على ثبوته , فهو معارض بالأحاديث الكثيرة المتقدمة و غيرها و هي مقدمة عليه عند التعارض , بل قال الامام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب الزهد : " حدثنا حسين بن محمد , حدثنا المسعودي عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال : هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله بن مسعود كان ينهى عن الذكر , ما جالسته مجلسا قط الا ذكر الله تعالى فيه " . فان قلت قال تعالى " ادعوا ربكم تضرعا و خفية نه لا يحب المعتدين " , و قد فسر الأعتداء بالجهر بالدعاء و قد يلتحق به الجهر بالذكر من حيث الاعتداء . الجواب أن الآية نص في الدعاء فلا يلتحق به الذكر , و أما نهيه صلى الله عليه و سلم عن رفع الصوت في هذا الحديث , فيحتمل أنه نهى عن رفع الصوت الشديد المؤدي الى ضرر حتى قال عليه السلام لمن رفع صوته بالتكبير و التهليل " اربعوا على أنفسكم فانكم لا تدعون أصم و لا غائبا " , أي ارفقوا بأنفسكم ففيه دلالة على أنه خاف عليهم الضرر في أنفسهم , أو كانوا مسافرين فخاف عليهم من الجهر الشديد زيادة المشقة على ما هم فيه من مشقة السفر . و أما تفسير الاعتداء في الآية بالجهر بالدعاء فوجهه مرجوح في التفسير و الوجه الراجح فيه أنه تجاوز المأمور به أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع , لقوله صلى الله عليه و سلم لما سمع من يقول في دعائه , " اللهم اني أسألك القصر الابيض عن يمين الجنة " . يكون في هذه الأمة من يعتدون في الدعاء , و من الاعتداء فيه أيضا أن يسأل منازل الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و نحو ذلك . فحسب الداعي أن يكون دعاؤه اللهم اني أسألك الجنة و ما يقرب اليها من قول و عمل . و على تقدير تسليم أن المراد بالاعتداء الجهر بالدعاء فالآية في الدعاء لا في الذكر . فان الدعاء بخصوصه الأفضل فيه الاسرار لأنه أقرب الى الاجابة , و لهذا أثنى الله تعالى على نبيه زكرياء بقوله تعالى , " و زكريا اذ نادى ربه نداء خفيا " . قال الحسن : " ان الله تعالى يعلم القلب النقي و الدعاء الخفي , ان الرجل لقد جمع القرآن و علم الفقه الكثير و ما يشعر به , بين دعوة السر و العلانية سبعون ضعفا , و من ثم استحب الاسرار بالاستعاذة في الصلاة اتفاقا لأنها دعاء . قلت , و كذلك البسملة التأمين عند الحنفية لأنهما من قبيل الدعاء خلافا لشافعي رحمه الله تعالى . فتلخص من هذه الأحاديث و الدلائل أن ما اعتاده الصوفية و الذاكرون في المساجد غيرها من عقد حلق الذكر بالجماعة و رفع الصوت به لا يخرج عن السنة أو الندب خلافا لمن اعتدى و غلط و قال أن الأماكن التي يجتمع للذكر فيها لا تجوز فيها الصلاة حتى تحفر و يقلب ترابها , و العجب منه حيث لم يسمع ما قيل في تفسير قوله تالى " فما بكت عليهم السماء و الأرض " , و قوله عليه السلام " ان بقاع الارض كل يوم تنادي بعضها بعضا هل مر بك اليوم ذاكر الله تعالى أم لا " , الخ كما تقدم ذلك مستوفى . فعليه ان لا ينبغي لعالم أدنى درجة في الايمان أن يبث و يتشدق بعد ما بلغه علم ما تقدم من الدلائل القاطعة و الأحاديث الصحيحة بمثل هذا الكلام لدى العوام حتى ينفر الناس عن ذكره تعالى , المأمور به في كل مكان و زمان بقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا " , حيث ورد مطلقا غير مقيد بقيد من القيود بخلاف غيره من العبادات كما تقدم , و يتحذر من وعيد قوله تعالى " و من أظلم ممن نع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه و سعى في خرابها " , الآية . فائدة : دليل الايمان المحبة لقوله تعالى " و الذين آمنوا أشد حبا لله " , و دليل المحبة التلذذ بذكر المحبوب . ألم تر الى اعادته ظاهرا مكان المضمر تلذذا به بقوله :
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ليالي منكن أم ليلا من البشر
و فيه تنبيه ن ما غفل عنه كثير و اشارة لمن تفطن من كل بصير و الله أعلم . ثم قال عفا الله عنه :

( أذكر أم فكر و عد أفضل و هل بقدره الثواب يحصل )



اشتمل البيت على ثلاثة سؤالات . الاول أيما أفضل الذكر أم الفكر . الثاني , و هل يصح انحصار الذكر في عدد مع قوله تعالى " اذكروا الله ذكرا كثيرا " , أم لا . الثالث , و هل الثواب يكون مرتبا على العدد المخصوص , فينبغي بالزيادة عليه أو النقص عنه أم لا , و بها تمام سبعة و ثلاثين سؤالا . قوله أذكر أم فكر أفضل , أي هل الافضل الذكر أم الفكر . قد تقدم معنى الذكر لغة واصطلاحا , و أما الفكر لغة : قال في القاموس الفكر بالكسر و يفتح , اعمال النظر في الشيء كالفكرة الخ . و اصطلاحا تلمس البصيرة لادراك البغية . الفصل الخامس و الثلاثون : في الجواب على قوله أذكر أم فكر , أي أيما أفضل الذكر أم الفكر . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " الذكر أفضل لأنه ربما مات صاحبه فيموت في الله تعالى , و اللمتفكر يموت في الكون , قاله بن العربي " . و قال السلمي : " سألت أبا علي الدقاق أيما أتم الذكر أم الفكر , فقال ما الذي يقع للشيخ فيه , فقال أبو عبد الرحمان السلمي عندي صح الذكر أتم من الفكر , لأن الحق تعالى يوصف بالذكر و لا يوصف بالفكر و ما وصف الحق به أتم مما اختص غيره به " , انتهى كلامه . قلت قال بعض المحققين : " انما كان الذكر أفضل من الفكر لأنه , أي الفكر لا يكون غالبا الا بعد الذكر , اذ لا يكون الا عن صفاء القلب من الأكدار , و كيف النظر عن الأغيار الا بعين الاعتبار و ذلك يحصل بالذكر لا بالفكر . تنبيه : المراد بالفكر التفكر في آلاء الله تعالى لا في ذاته , كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه و سلم : " تفكروا في خلق الله و لا تفكروا في الله , فانكم لن تقدروا قدره " .
فائدة : و لفكر ابتداء و وسط و غاية . فالابتداء منه هو استعماله في تذكر التبعات و الظلامات , و تذكر أفعاله القبيحة ليتندم عليها و يعزم أن لا يعود اليها , لأن من لا توبة له لا عمل له , و ان عمل من البر ما عمل . و الوسطى هي التفكر في انعام الله تعالى بالرحمة و الجود على كافة الوجود و به يترقى الى مقام الشكر لقولهم : " من عرف النعمة عظمها و من عظمها شكرها و من شكرها قيدها واستوجب المزيد من الله تعالى بوعده الصادق " لئن شكرتم لأزيدنكم " , الآية . ولهذا قال عليه الصلاة و السلام : " تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة " , و في رواية " ثمانين سنة " . و غايته التفكر في دقائق المعارف الربانية و العلوم اللدنية التي بها يلج القلب حضرة القدس و يخلع عليه فيها خلع الأنس حيث المشاهدة و المفاتحة و المواجهة و المطالعة و المكالمة و المنادمة بلذيذ الخطاب عند رفع الحجاب . تتمة : نحى الامام تاج الدين في حكمه الى أفضيلة الفكر على الذكر , بقوله ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكره , الخ . قال شارحه و هو مذهب القوم . قال شارح المعارف : " و هو ظاهر ان أريد به الذكر اللساني المجرد " . أما الذكر النفساني , فقد قال الدقاق أنه أتم من الفكر , الخ , و قد تقدم قوله في أول الفصل . و
لقد اختلف الناس في الترجيح بينهما , و الحق الذي يتم الكلام به أن الحكم يختلف فيه باختلاف الأحوال و مراتب الرجال و الله أعلم , انتهى قوله . و عد أفضل , يعني و هل يصح انحصار الذكر في عدد و يكون أفضل من الزيادة عليه مع قوله تعالى " اذكروا الله ذكرا كثيرا " , أم لا . الفصل السادس و الثلاثون : في الجواب على قوله و عد أفضل , أي و هل العدد في الذكر أفضل أم الاطلاق كما تقدم قبله . أعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " نعم يصح في المأثور بل الوقف عند العدد المسنون أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم , كثلاثة و ثلاثين من التسبيح و التحميد و التكبير , و كعشرة مرات لا اله الا الله وحده لا شريك له , له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو حي دائم لا يموت بيده الخير و اليه المصير هو على كل شيء قدير , بعد صلاة الصبح و العصر و المغرب , و كقراءة سورة الاخلاص ثلاثا و نحو ذلك , يكون الذكر دالكثير لا ينحصر في عدد . و قد فسر بعضهم الذكر الكثير بالخالص , لأن الله تعالى وصف ذكر المنافقين بالقلة لعدم اخلاصهم . قال تعالى : " يراءون الناس و لا يذكرون الله الا قليلا " , يعني غير خالص . و قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : " ركعتان من عالم زاهد خير من عبادة المتعبدين المجتهدين الى آخر الدهر , و المراد بالزهد الاخلاص , لأن الاخلاص الزهد فيما سوى الله تعالى و الله أعلم " , انتهى كلامه . قلت ظاهر كلامه رحمه الله تعالى , العدد في الذكر أفضل حيث مال الى تفسير الكثير بالاخلاص و هو كذلك , و بيانه أن الذكر اذا ورد فيه نص بالعدد لا خلاف في أفضلية الوقوف مع نص الشارع , و ان لم يرد فيه عدد . فقال الصوفية رضي الله تعالى عنهم , لا بد أن يقيد لنفسه عددا يلتزمه , فان التزام العدد يأدي الى التنشيط , و الاهمال عنه يفضي الى التفريط , هكذا كان يقول شيخنا الازهري نفعنا الله تعالى به آمين . و هذا في الذكر اللساني لا القلبي و النفسي , فانه لا يشترط فيه الا الاستغراق في الحضور دون تقييد بعدد , فان الالتفات الى العدد يخل بالحضور و الله أعلم . فان قلت من أين للصوفية التزام العدد في الذكر , و هل أخذوا بأطلاق الدليل و هو قوله تعالى " اذكروا الله ذكرا كثيرا " , و " اذكروا الله في أيام معدودات " , و " قل الله ثم ذرهم " , الآية , حيث لم يقيد فيها عدد . قلت الدليل فيه اجمال , و قد فسرته السنة و هو ما ورد عن ابن كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم , أنهم التزموا عددا من الذكر و أخبروا رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك , فأقرهم و أرشدهم الى ما و أكثر بطريق أسهل منه , صلى الله عليه و سلم . فمن ذلك ما ورد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم , يا معاذ مالك لا تأتينا كل غداة , قال يا رسول الله اني أسبح كل غداة سبع آلاف تسبيحة قبل أن آتيك , قال عليه الصلاة السلام , ألا أعلمك كلمات هي أخف عليك و أثقل في الميزان و لا تحصيه الملائكة و لا هل الأرض , قال قل لا اله الا الله عدد رضاه , لا اله لا الله زنة عرشه , لا اله الا الله عدد ملائكته , لا اله الا الله عدد خلقه , لا اله الا الله ملأ سماواته , اله الا الله ملأ أرضه لا اله الا الله ملأ ما بينهما " , رواه الديلمي . قال الأجهوري رحمه الله تعالى , قوله " و لا تحصيه " , أي ثواب هذا الذكر . و منها ما أخرجه الترمذي و الحاكم و الطبراني عن صفية رضي الله تعالى عنها , قالت : " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم , و بين يدي أربعة آلاف نوات أسبح بهن فقال ما هذا يابنت حبيبي , قالت أسبح بهن , قال صلى الله عليه وسلم قد سبحت منذ قمت على رأسك أكثر من هذا , قلت علمني يا رسول الله قال قولي سبحان الله عدد ما خلق من كل شيء " , الخ . و قد ورد الأمر بالعد أيضا , و هو ما أخرجه ابن أبي شيبة و أبو داوود و الترمذي عن بسيرة رضي الله عنها , و كانت من المهاجرات , قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عليكن يالتسبيح و التهليل و التقديس , و لا تغفلن فتنسين التوحيد و اعقدن بالأنامل فانهن مسئولات و مستنطقات " . و قوله " و اعقدن بالأنامل " , أي اعددن , و منه تعلم أن الصوفية رضي الله عنهم لا يخرجون عن ظاهر الشريع و لا عن باطنها , و ما فعلوا أمرا الا عن طريق صحيح , و لهذا قال الامام السبكي و شارحه الجلال المحلي : " و نرى أن طريق الشيخ أبي القاسم الجنيد , سيد الصوفية علما و عملا و صحبه , طريق مقوم خال عن البدع مشيد بالكتاب و السنة , دائر على التسليم و التفويض و التبري من النفس " , الخ . فان قلت انما ورد الأمر بالذكر في الكتاب بالاطلاق دون العدد , و السنة اقتضت العدد فيه , قلت ذلك لفوائد عظيمة و منن جسيمة رحمة و لطف منه تعالى و تيسير على عباده تعالى , لأن الناس مراتب , أقوياء و ضعفاء , فربما ذكر كثير في حق قوم , قليل في حق آخرين و العكس . فكل على حسب استطاعته لقوله تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم " , فلو عدد لكان حرجا و هو منفي بقوله تعالى " و لن يجعل عليكم في الدين من حرج " , و الله أعلم . تنبيه : ان من ذكر من غير عدد فهو مأجور , ذاكر مثاب . و انما فائدة العدد العزيمة الى التنشيط احتياطا عن الترك و التفريط كما سبق ذكره . و كذلك من ذكر بغير حضور , فهو بتحريك لسانه به مأجور . قال تاج الدين في الحكم " لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه " , الخ . و لكن ينبغي لكل فطين أن لا يتقاعس عن رتبة المؤمنين من نداء رب العالمين فيأخذ حظه بالذكر من العدد على ساق العزيمة و الجد و يتعاطى قسطه من الحضور , ليحوز مقامه من الثواب الموفور . قال تالى : " واذكر اسم ربك و تبتل اليه تبتيلا " , الآية و الله أعلم , انتهى قوله . و هل بقدره الثواب يحصل , يعني هل يكون الثواب مرتبا على العدد المخصوص , فينتفي الثواب على الزيادة على العدد أو نقصه أم لا . الفصل السابع و الثلاثون : في الجواب على قوله و هل بقدره , أي العدد المذكور قبله الثوايب يحصل , يعني فاذا زاد أو نقص , ما حكمه هل يثاب بقدره أو بقدر العدد المعين , أو لا يثاب أصلا . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " اختلف الناس في هذه المسألة . قال القرافي رحمه الله تعالى : " لا يحصل ان زاد عليه أو نقص " . و قال ابن العماد : " سمعت بعضهم يذكر في توجيهه أنه ان زاد على ثلاثة و ثلاثين تسبيحة مثلا , فقد آخر التحميد عن وقته و موضعه , و تأخير العبادة عن موضعها يفوت كمال أجرها " . ثم قال : " رأيت في تفسير السلمي في قوله تعالى " قل الحمد لله و سلام على عباده الذين اصطفى " , قال لأن العبادة قد تكون في ترك العبادة كما تكون بالعبادة , أي بأحوال تعرض للذكر كما اذا سلم عليه انسان فرد عليه السلام ثم يعود الى الذكر , و تشميت العاطس ثم يعود الى الذكر و نحو ذلك . و ربما وجه كلام القرافي على المفتاح اذا كان له أسنان فزيد واحدة أو نقص لا يفتح , فكذلك اذا زيد على الأعداد المشروعة أو نقص . ثم قال : " ان العماد و هذا كله مردود لا يحل اعتقاده لأنه قول بلا دليل , لم يعثر القرافي على المعنى الذي لأجله سيق العدد المخصوص , و لا يصح قياسه على الآية السابقة , لأن لفظ القرآن معجز , و تلاوته عبادة لا يجوز الزيادة فيها و لا النقص و مراعاته مطلوبة . و مما يدل على عدم منع الزيادة في غير القرآن عموم قوله تعالى " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها , و من جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها " .و ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم , قال : " من قال في دبر كل صلاة عشر تسبيحات و عشر تحميدات و عشر تكبيرات في خمس صلوات , فتلك خمسون و مائة باللسان , و و ألف و خمسمائة في الميزان " . و في رواية عنه صلى الله عليه وسلم : " من قال حين يصبح و حين يمسي مائة مرة سبحان الله و بحمده , لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به الا أحد قال ما قال أو زاد عليه " . و في حديث أبي أمامة : " من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة الا الموت " , و في حديث صحيح : " يسبح بعد صلاة العصر خمسا و عشرين و يحمد و يكبر كذلك , و لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير " . فهذه الأحاديث و نحوها دالة على عدم اعتبار الزائد و الناقص , و انما المقصود هو الاتيان بهذه الأنواع الثلاثة من الذكر , و أن أصل السنة يحصل بدون العدد المحصور في المائة , و أن الأكمل العدد فقط كالمائة و الثلاثة و الثلاثين من التسبيح و التحميد و التكبير , و العشر من التهليل . و ان القول بعدم الثواب مطلقا لا وجه له ظاهرا , لأن كل تسبيحة و تحميدة و تكبيرة و تهليلة وحدها عبادة مستقلة يثاب عليها بمجرد ذكرها مفردة و غير مفردة , و ان لم تكن محصورة بعدد . و لا يفوت الثواب الا بعدم الاخلاص , لقوله تعالى " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " , و قوله تعالى " اني لا أضيع عمل عامل منكم " . و الذي ينبغي أن يقال ما ورد من الأذكار في السنة , فيه فضل خاص و حكمة لا نعلمها , و يخص بعلمها من شاء , يفوت بفوات العدد المذكور بالزيادة او النقص عنه فقط دون فوات الثواب بالكلية , هذا ما ظهر لي و الله أعلم , انتهى كلامه . قلت و قد وقع التنبيه في الفصل الذي قبله و غيره على أن مطلق التلفظ بالذكر مثاب عليه و متعبد به و كلام ابن العماد فيه كفاية لمن كانت له به عناية , و ملخصه أن الذي سيق له العدد في الذكر هو الخاصية التي في أسماء الله تعالى و أذكاره لا للثواب , فانه يحصل بعدد أو بغير عدد . و منها ما ورد في السبعين ألفا من لا اله الا الله , أنها فداء من النار كما نص عليه الشيخ السنوسي رحمه الله تعالى من طريق الظاهر و الباطن . انما الاصية في العدد و أما الثواب فانه يحصل ولو بمرة فقط . و كذلك الاثنتي عشرة ركعة في صلاة الضحى خاصيتها في بناء البيت في الجنة , كما ورد ذلك في الحديث , و اما الثواب بركعة أو ركعتين يحصل . فتبين أن كلام ابن العماد هو الذي ان شاء الله عليه الاعتماد , بخلاف ما قاله الامام القرافي لما فيه من التنافي و الله أعلم . ثم قال عفى الله عنه :

( و هل ملائكة سرا تكتب و أي حال فيه قطع يندب )

اشتمل البيت على سؤالين . الأول هل تكتب الملائكة ذكر السر أم لا . الثاني , هل يستثنى من الذكر الكثير حال من الاحوال أو مكان أو زمان يكره فيها الذكر أو عندها , و ما يندب القطع فيه من ذلك و بهما تمام تسعة و ثلاثين سؤالا . قوله و هل ملائكة سرا تكتب أي و هل تكتب الملائكة ذكر السر أم لا . فملائكة فاعل بتكتب , و سرا مفعول السر لغة . قال في القاموس : السر بالكسر ما يكتم كالسريرة , و جمعه أسرار , الخ . و أما في اصطلاح الصوفية , لطيفة مودوعة في القلب كالروح في البدن , و هو محل المشاهدة كما أن الروح محل المحبة و القلب محل المعرفة . الفصل الثامن و الثلاثون : في الجواب على قوله هل تكتب الملائكة ذكر السر أم لا . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " قال بعض العلماء لا تكتب الملائكة ذكر السر , اذ لا علم عندهم به , و انما يكتبون اللفظ الظاهر فقط لقوله تعالى " ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد " . و قال بعضهم بل تكتبه الملائكة , فقد قال مالك ابن دينار : " سألت أبا معشر عن الذكر الذي لا يتكلم العبد به , فكيف تكتبه الملائكة , قال تجد الرائحة الطيبة فتكتبه و الله أعلم " , انتهى كلامه . قلت و قد تقدم من معنى قوله صلى الله عليه وسلم " خير الذكر الخفي " , هو ما خفي عن الحفظة لا ما يخفض به الصوت , و هو خاص بأهل الكمال الواصلين الذين ترقت أنفسهم من الدرجة التي تنزلت اليها الى اللطيفة السرية , فيحصل لهم ذكر السر , و هو المشاهدة كما تقدم . تنبيه : ذكر شيخ مشائخنا سيدي مصطفى البكري , نفعنا الله تعالى به , في الفيتة في التصوف , ذكر اللطائف السبعة المتنزلة اليها النفس في عالم الشهادة بانفراد و ذكر الجملة و كل ذلك بالأثارة دون تلفظ بذكر ما عدى الذكر اللساني . قال رحمه الله تعالى :
الذكر لله على أقسام من يدرها له المقام السامي
ذكر السان ثم الجنان و الروح و السر مع الاركان
و بعده ذكر الخفى و الاخفا و دكر جملة و هذا أصفى
و قد على الجميع ذكر الله لأنه الأكبر و هو الزاهي
و ما عدى الاول بالملاحضه عين الرضى للمقتفي ملاحضه
بدون لفظ و بدون حركه و لا مع الأنفاس قلبا حركه
و كل واحد من اللطائف له محل في سويدى الطائف
الى أن قال :
و عندنا في هذه الطريقه اجازة من شيخنا وثيقه
الى آخر كلامه رضي الله عنه , فليتنبه ما هو ذكر السر . و ذكر العلامة شيخ مشائخنا السهروردي قال : " و قيل من أصول الملامتية , أن اتلذكر على أربعة أقسام : ذكر باللسان , و دكر بالقلب , و ذكر بالسر , و ذكر بالروح . فاذا صح ذكر الروح سكت السر و القلب و اللسان , و ذلك ذكر المشاهدة . و اذا صح ذكر السر سكت القلب و اللسان عن الذكر و ذلك ذكر الهيبة . و اذا صح ذكر القلب فتر اللسان عن الذكر , و ذلك ذكر الآلاء و النعماء . و اذا غفل القلب عن الذكر , أفبل اللسان على الذكر , و ذلك ذكر العادة , الخ كلامه , فلينظره من أراده في العوارف . ان الذاكر باحدى اللطائف المتقدم ذكرها هو المختلي في الخلوة المعنوية أي صارت جلوته خلوة , أشار اليه سيدي مصطفى البكري في النظم بقوله :
و ذا طريق النقشبندي المجتلي حال الخلا و في الملاء مختلي
و قال في هداية الاحباب فيما للخلوة من الشروط و الآداب : " الخلوة على ثلاثة أقسام , خلوة سالك و خلوة عارف و خلوة محقق . فخلوة العارف في الملاء , و هي التي تعرف بالخلوة المطلقة , و هي عبارة عن الحضور مع الحق تعالى في كل نفس , و لا تكون هذه الخلوة الا لمن جمع و فرق حتى شاهد الكثرة في الوحدة و الوحدة في الكثرة . و أما خلوة المحقق الكامل فهي الخلوة بالله تعالى و لا تكون الا للقطب الغوث في كل زمان , و لا تكون لشخصين في زمان واحد . قال ابن العربي : " ان خلوة غير القطب فلا تكون بالله تعالى , انما هي لمزيد الاستعداد و البعد عما يشغله عن الطاعة من المخلوقين . و أما خلوة السالك فهي طريق موصل الى هاتين الخلوتين و سبيل يشرف فيه السيار على حقيقة النسبتين " , انتهى باختصار و المعنى و الله أعلم . و اذا ثبت أن الذكر قد يكون غير ملفوظ به و أن الملائكة عليهم السلام لا يكتبون الا الملفوظ به و لا يكتبون عمل الأسرار على أحد الأقوال المتقدم ذكرها و هو ثابت عند الله تعالى , لا يحصي أجره و ثوابه الا هو سبحانه و تعالى , و لا يضيع من عمل عامل مثقال ذرة من خير سواء كان ذلك العمل قولا أو فعلا , بدنا أو قلبا , اعتقادا أو ضميرا أو نية و سرا , فكذلك غيره من عمل الشر و الاثم و لو تكتبه الملائكة و تصعد به و لكن لا تطلع على آفته السرية , فانه مضر محيط ممقت , كما ورد ذلك من حديث معاذ رضي الله تعالى عنه , و هو حديثه الطويل الذي خرجه ابن المبارك رحمه الله تعالى , كان معاذ اذا تلاه بكى بكاء شديدا , و آخره " و تصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة و صيام و زكاة و حج و عمرة و خلق حسن و صمت و ذكر الله تعالى , و تشيعه ملائكة السماوات السبع حتى يقطع الحجب كلها الى الله تعالى , فيقفون بين يدي الله تعالى و يشهدون له بالعمل الصالح المخلص , فيقول تعالى أنتم الحفظة على عمل عبدي و أنا الرقيب على ما في نفسه , نه لم يردني بهذا العمل و لا أخلصه لي و أنا أعلم بما أراد بعمله , عليه لعنتي , غر به الآدميين و غركم و لم يغرني , و أنا علام الغيوب المطلع على ما في القلوب لا تخفى علي خافية و لا تعزب عني عازبة , علمي بما كان كعلمي بما لم يكن , و علمي بما مضى كعلمي بما بقي " , الخ , ذكره الغزالي و غيره . فعليه , و لا ينبغي للعبد الا افراد الوجه لله تعالى و التبتل اليه و امحاض الاخلاص له تعالى بالمراقبة و المشاهدة بالسر و الروح والقلب و جميع الجوارح , فلعله ان تطرقه نفحة من الحق تعالى تعمر وجوده بعد ما كان خاليا , و تحيي سعادته بعد ما كان شاقيا . فقد نقل العلامة المجدوبي في المسائل الظرفية , أن الحفظة يكتبون القول و العمل و الاعتقاد و الهم و العزم و التعزير , أي تعزيرك الغير و تسليمك له ما قاله , و العمد و الذهول و النسيان , حتى الأنين في المرض , انتهى و الله أعلم . قوله , و أي حال فيه يندب , أي , و أي مكان أو زمان أو حال من الأحذوال يندب فيه قطع الذكر , و يكره الذكر فيها و ما لا يكره فيها , و ما الأحوال التي عند عروضها يندب له القطع ثم يعود اليه , أي الذكر . الفصل التاسع و الثلاثون : في الجواب على قوله , و أي حال من الأحوال أو زمان أو مكان فيه , أي في ذلك الحال قطع , أي قطع الذكر و لا يكره و أو يندب . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " فمن ذلك يكره الذكر عند قضاء الحاجة , و حال الجماع , و في حال الخطبة لمن يسمع صوت الخطيب , و في القيام الى الصلاة , بل يشتغل بالقراءة , في حال النعاس , و لا يكره في الحمام و لا في الطريق . و أحولا يستحب قطع الذكر فيها اذا عرضت له , ثم يعود بعد زوالها , منها اذا سلم عليه شخص رد عليه السلام و عاد الى الذكر , و كذا اذا شمت العاطس , و كذا يقطعه لسماع الخطبة و الأذان و لاجابة المؤذن في كلمة الأذان و الاقامة , يحصلها ثم يعود الى الذكر , و كذا اذا رأى منكرا أزاله أو معروفا أرشد اليه , أو من يسترشد أجابه و الله أعلم " , انتهى كلامه رحمه الله تعالى . قلت , قوله يكره الذكر عند قضاء الحاجة و حال الجماع ليس على اطلاقه . أما عند قضاء الحاجة , ان منع لسانا فلا يمنع قلبا , فان القلب من عالم الملكوت كما اللسان من عالم الملك و التباين ظاهر . و أيضا فان الفكر ذكر , فاذا تفكر فيما أنعم الله تعالى عليه و أخرج ما فيه ضرره و أبقى ما فيه بقائه و نفعه كان شاكرا ذاكرا . و اذا اتبع السنة في دخوله و جلوسه و خروجه كان بمثابة الذاكر . و قد ورد أن يقول عند دخوله الخلاء " أعوذ بالله من الخبث و الخبائث " , بضم الخاء المعجمة و الباء الموحدة , أو سكون الباء بعد التسمية , لقوله عليه السلام : " ستر ما بين أعين الجن و عورات بني آدم , اذا دخل أحدكم الخلاء أن يقول بسم الله " , رواه علي رضي لله تعالى عنه , و أن يقدم رجله اليسرى عكس دخوله المسجد , و أن يجلس غير مستقبل القبلة و لا مستديرها , و لو في البنيان كما ذلك مبين في محله من الفقه , و كذلك غير مستقبل عين الشمس و القمر و مهب الريح , و لا في الماء و الظل الذي ينتفع به , و الحجر و الطريق و شجر مثمر , و يجلس معتمدا على يساره من رجليه , ناصبا اليمنى منهما بأن يضع أصابعها على الأرض , و يرفع باقيها لأنه أسهل لخروج الخارج و يوسع فيها بين رجليه و لا يتكلم , غير كاشف عورته الا بقدر الضرورة طارقا رأسه مستحييا من الله تعالى , غاضا بصره عن عورته وما يخرج منه , و قيل لا بأس ان نظر ما يخرج منه ليعرف قدره و يستحقر نفسه . و قد ثبت عن جماعة من السلف لا يدخلون الخلاء الا بعد مدة , منهم الامام مالك رضي الله عنه , كان لا يدخل الا بعد مضي ثلاثة أيام , و يقول غلبتنا البطنة أو كلام مثله . و اا استنجى , و السنة أن يجمع بين الماء و الحجر , خرج و قدم رجله اليمنى عكس الدخول و قال " الحمد لله الذي أذهب عني الأذى و عافاني , غفرانك ربنا و اليك المصير " , اعترافا بالقصور عن بلوغ شكره تعالى . و أما حال الجماع , فقد ورد أن يقول : " بسم الله , اللهم جنبنا الشيطان و جنب الشيطان ما رزقتنا به " . و أيضا اذا كان في حال مباشرته الفعل مراعيا للسنة , و آتيا ببعض ما تيسر له منها , كان بمثابة الذاكر الشاكر . فان معنى الذكر هو التخلص من الغفلة , أو تردد معناه على القلب كما تقدم . و قد ورد اذا أراد ذلك , ينوي تحصين فرجه , و تطريد نفسه عن المادة الفاسدة المحرقة , و تكثير أهل التوحيد . و قد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول : " اني لا حاجة لي الى النساء , لكن أرجو أن يخلق الله تعالى من صلبي ما يباهي به محمد الامم " , أو كما قال . و ورد بعده بالتسمية و قراءة سورة الاخلاص , و يكبر و يهلل و يقول " بسم الله العلي العظيم , اللهم اجعل لنا من لدنك ذرية طيبة مطيعة لك " . و قيل ان قال " اللهم ان رزقتني من هذه الوقعة ولدا سميته محمدا , فانه يرزقه الله تعالى ذكرا و لا يضره الشيطان ان شاء الله تعالى , انتهى باتصار و باقي كلامه ظاهر صحيح . فتبين منه و مما تقدم كل العبادات يمكن تركها في زمان و مكان الا عبادة الذكر , فانه مهمى كره باللسان الا و ندب بالقلب , و ذلك دليل على أفضليته حيث كان , مأمور به في كل الحالات , بخلاف غيره من العبادات و الله أعلم . ثم قال عفا الله عنه :

( ما أفضل أذكر أم جهاد و ما توحيد واحد يفيد )

علي العذاري
16-01-2012, 10:26 AM
اشتمل البيت على سؤالين . الأول , هل الذكر أفضل أم الجهاد أفضل . الثاني , ما معنى توحيد العبد لله تعالى و ما فائدته مع أنه واحد قبل توحيدنا , و هل هو أفضل الطاعات أو لا , و بهما تمام واحد و أربعين سؤالا . قوله ما أفضل ذكر أم جهاد , أي أيما أفضل الذكر أم الجهاد . الفضل لغة الزيادة , و أفضل اسم تفضيل يقتضي زيادة على مقابله , و الذكر مر معناه و الجهاد لغة بالكسر القتال مع العدو كالمجاهدة . و بالفتح الأرض الصلبة التي لا نبات بها و ثمر , الا راك قاموس , و اصطلاحا الدعوة الى الدين الحق على طريق المبالغة و بذل الجهد و هو فرض كفاية , و قيل عين الخ . الفصل الأربعون : في الجواب على قوله ما أفضل , هل الذكر أم الجهاد . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " الذاكر المجاهد أفضل من الذاكر بلا جهاد , و أفضل من المجاهد الغافل , و الذاكر بلا جهاد أفضل من المجاهد الغافل عن ذكر الله تعالى . فأفضل الذاكرين المجاهدون , و أفضل المجاهدين الذاكرون . قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون " , فأمرهم بالذكر الكثير مع الجهاد رجاء للفلاح . و روى الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم , عن الله عز طوجل , أن الله تعالى يقول : " ان عبدي كل عبدي يذكرني و هو ملاق قرنه " , يعني في القتال . و روي أنه صلى اله عليه وسلم سئل " أي أهل المسجد خير , قال أكثرهم ذكرا لله تعالى عز و جل , قيل و أي الحجاج خير , قال أكثرهم ذكرا لله عز و جل , قيل فأي العواد خير , قال أكثرهم ذكرا لله عز و جل , فمن ثم قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه , ذهب الذاكرون لله تعالى بكل خير . و قال صلى اله عليه وسلم : " ذاكر الله تعالى في الغافلين كالمقاتل خلف الفارين " . و روي عن أبي سعيد الخذري رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم سئل " أي العبادة أفضل درجة عند اله تعالى يوم القيامة , قال الذاكرون الله تعالى ذكرا كثيرا ,قلت يا رسول الله و من المغازي في سبيل الله , قال لو ضرب بسيفه في سبيل الله في الكفار و المشركين حتى ينكسر و يخضب دما , لكان الذاكرون الله تعالى أفضل منهم " . و ذكر ابن الجوزي عن علي ابن الموفق , قال سمعت حاتما يقول : " لقيت الترك فرماني تركي فقلبني عن فرسي و قعد على صدري و أخذ بلحيتي الوافرة و أخذ سكينا ليذبحني , فوحدت سيدي ما كان قلبي عنده و لا عندي سكينه , انما كان قلبي عند سيدي أنظر مذا ينزله من القضاء , فقلت سيدي ان كنت قضيت علي أن يذبحني هذا فعلى الرأس و العين , انما أنا لك و ملكك , قال فرمى بعض المسلمين بسهم فما أخطأ حلقه فسقط , فقمت اليه فذبحته , فهذا ببركة ذكره لسيده بقلبه و الله أعلم , انتهى كلامه و هو عجيب . قلت , الجهاد جنس تحته أنواع منها جهاد النفس , و منها جهاد شياطين الجن , و منها جهاد شياطين الانس , و من ذلك جهاد الكفار و هو النفس و بالقلب و باللسان و بالمال و باليد , و عند أهل الله , التحقيق, أنه فرض عين , ما عدى جهاد الكفار فانه كفاية على المشهور كما تقدم , و لولا خيفة الاطالة المئدية الى السئامة لذكرناها على التفصيل و لكن نذكر بعضا منها على سبيل الاختصار تتميما للفائدة و الله أعلم . أما جهاد النفس و الشيطان , قال أهل التحقيق أنه من أعظم أنواع الجهاد , لأن أصل العداوة منهما . فجهاد النفس هو الزامها بطاعة الله تعالى و رسوله و محاسبتها على حركاتها و سكناتها و هو أعظم من جهاد الأعداء , لأن النفس الأمارة لا تفارق صاحبها طرفة عين و شيطانها كذلك لا يفارقها , بخلاف جهاد الأعداء من بني آدم , انما يكون في بعض الأحيان دون بعض , و لا يقوى عليه الا بعد جهاد نفسه , فان من لم يجاهد نفسه لا يستطيع أن يجاهد عدوه , و هو ظاهر فلا يحتاج الى دليل . و قد اتفق أهل المعرفة بالله تعالى على اختلاف طرقهم , على أن النفس قاطعة بين القلب و بين الوصول الى الله تعالى , أن العبد لا يصل الى ربه الا بعد تركها و اماتتها , و لا يقدر على امتتها الا بقهرها و مخالفتها . و الناس مع النفس على قسمين قسم ظفرت به نفسه فملكته و أهلكته فصار منقادا لها مأتمرا بأوامرها , و قسم ظفروا بنفوسهم فملكوها و قهروها و زموها بزمام الشرع . فهي تحت قهرهم و ملكهم و أمرهم , كما قال بعض العارفين , انتهى اسفر الطالبين الى الظفر بأنفسهم , فمن ظفر بنفسه أفلح و نجح و من ظفرت به نفسه خسر و هلك . قال تعالى : " فأما من طغى و آثر الحياة الدنيا فان الجحيم هي المأوى و أما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى " . قال الامام أبو عبد الله بن الضيم رحمه الله تعالى : " فالنفس تدعو الى الطغيان و ايثار الحياة الدنيا , و الرب تعالى يدعو العبد الى خوفه و نهي النفس عن الهوى , القلب بين الداعيين يميل الى هذا مرة و الى هذا مرة , و هذا موضع المحنة و الابتلاء " . و قد وصف سبحانه و تعالى النفس في القرآن بأوصاف جلها راجع الى ثلاثة : مطمئنة و أمارة بالسوء و بينهما لوامة . و اختلف الناس هل النفس واحدة و هذه أوصاف لها , أم لعبد ثلاثة أنفس . و الاول قول الفقهاء و المتكلمين و جمهور أهل التفسير , و قول محققي الصوفية , و الثاني قول كثير من أهل التصوف . و التحقيق انه لا نزاع بين الفريقين , فانها واحدة باعتبار ذاتها و متعددة باعتبار صفاتها . فاذا اعتبرت بنفسها فهي واحدة , و ان اعتبرت مع كل صفة دون الأخرى فهي متعددة . فالنفس اذا سكنت الى الله تعالى واطمئنت بذكره و أنابت اليه و اشتاقت الى لقائه و أنست بقربه , فهي مطمئنة , و هي التي يقال لها عند الموافاة " ايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك " , الآية . قال ابن عباس " المصدقة " , و قال قتادة " هو المؤمن اطمأنت نفسه الى ما وعد الله تعالى " . و قال الحسن " المطمئة بما قال الله تعالى و المصدقة بما قال " . و قال مجاهد " هي المخبتة التي أيقنت أن الله ربها و اضطربت جأشا لأمره و طاعته و أيقنت بلقائه " . و حقيقة الطمئنينة السكون و الاستقرار , فهي التي سكنت الى ربها و طاعته و أمره و ذكره و لم تسكن الى سواه . فقد اطمئنت الى محبته و عبوديته , و اطمئنت الى لقائه و وعده , و اطمئنت الى الرضى به ربا و بالاسلام دينا و بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا , و اطمئنت الى قضائه و قدره , و اطمئنت بأنه تعالى وحده ربها و الهها و معبودها و مليكها , و أنها لا غنى لها عنه طرفة عين . و اذا كانت بضد ذلك فهي أمارة بالسوء , تأمر صاحبها بما تهواه من شهوات الغي واتباع الباطل فهي مأوى كل سوء . ان أطاعها قادته الى كل قبيح و كل مكروه , و قد أخبر سبحانه و تعالى أنها أمارة بالسوء , و لم يقل آمرة لكثرة ذلك منها , و أنه عادتها و دأبها , الا اذا رحمها الله تعالى و جعلها زاكية , تأمر صاحبها بالخير , فذلك رحمة منه تعالى لا منها . فانها بذاتها أمارة بالسوء لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة , و العلم و العدل طارء عليها بالهام ربها و فاطرها . فاذا لم يلهمها رشدها بقيت على ظلمها و جهلها , فلم تكن الا أمارة بموجب الجهل و الظلم و كانت النفس الناطقة أسيرة عندها , لا تصرف لها , كالأسير في بلد الكفار , تعرف الحق و لا تقدر عليه و لا على متابعته . فلولا فضل الله تعالى و رحمته ما زكت منهم نفس واحدة , و بهذا يعلم أن ضرورة العبد الى ربه فوق كل ضرورة , فانه ان أمسك عنه رحمته و توفيقه و هدايته طرفة عين , خسر و هلك . و أما النفس اللوامة , فاختلف في اشتقاقها , هل هو من التلوم وهو التلون و التردد أو من اللوم , و عبارات السلف تدور على هذين المعنيين . قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس " ما اللوامة " , قال " هي النفس اللوم " . و قال مجاهد " هي اللتي تندم على ما فات و تلوم عليه " . و قال قتادة " هي الفاجرة " . و قال عكرمة " تلوم على الخير و الشر " . فهذه عبارات من ذهب الى أنها من اللوم , و أما من جعلها من التلوم , فلكثرة ترددها و تلومها و أنها لا تستقر على حال واحدة . و قال بعضهم , و النفس قد تكون تارة أمارة و تارة لوامة و تارة مطمئنة , بل في اليوم الواحد و الساعة الواحدة يحدث فيها هذا و هذا , و الحكم لغالب عليها من أحوالها . فكونها مطمئنة وصف مدح لها , و كونها أمارة وصف ذم لها , و كونها لوامة ينقسم الى المدح و الذم بحسب ما تلوم عليه , فوجب على العاقل أن ياهد نفسه و شيطانه على حفظ الجوارح السبعة التي هي العين و الأذن و الفم و اللسان و اليد و الفرج والرجل . فهذه الجوارح هي مركب العطب و النجاة . فمنها عطب من عطب باهمالها و عدم حفظها , و نجا من نجا بحفظ
ها و مراعاتها , و منع العدو من الشياطين من الدخول عليه منها , فان الله تعالى قد ابتلى هذا الانسان بعدو لا يفارقه طرفة عين , ينام و لا ينام , و يغفل و لا يغفل عنه , يراه هو دو قبيله من حيث لا يراه , يبذل جهده في معاداته في كل حال , و دلا يدع أمرا يكيده به يقدر على ايصاله اليه الا أوصله اليه , و يستعين عليه ببني جنسه من شياطين الجن و غيرهم من شياطين الانس , قد نصب له الحبائل و بغاة الغوائل و مد حوله الأشراك , و نصب له الفخاخ و الشباك , و قال لأعوانه دونكم عدوكم و عدو أبيكم لا يفوتنكم و لا يكون حظه الجنة و حظكم النار , و نصيبه الرحمة و نصيبكم اللعنة , قد علمتم أنما جرى علي و عليكم من الخزي و اللعن و الابعاد من رحمة الله تعالى فبسببه , و من أجله فابذلوا جهدكم أن يكونوا شركاء في هذه البلية , قد أعلمنا الحق تعالى بذلك كله من عدونا , و أمرنا أن نأخذ له أهبته . و لما علم سبحانه و تعالى أن آدم و بنيه قد ابتلوا بهذا العدو , و أنه قد سلط عليهم , أمدهم بعساكر و جند يلقونه بها , و أمد عدوهم أيضا بجند و عساكر يلقاهم بها . و أقام سوق الجهاد في هذه الدار في مدة العمر , واشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون , ثم أكد ذلك بقوله وعدا عليه حقا في التوراة و الانجيل و القرآن , ثم لا أوفى بعده منه سبحذانه و تعالى , ثم نبه أن يستبشروا بهذه الصفقة التي من أراد أن يعرف قدرها فلينظر الى المشتري من هو , و الى الثمن المبذول في هذه السلعة ما هو , و الى من جرى على يديه هذا العقد . فأي فوز أعظم من هذا و أي تجارة أربح منه . و لم يسلط سبحانه و تعالى هذا العدو على عبده المؤمن , الذي هو أحب أنواع المخلوقات اليه تعالى , الا لأن هذا الجهاد هو أحب شيء اليه , و أهله أرفع الخلق عنده درجات و أقربهم اليه وسيلة . فعقد سبحانه و تعالى لواء هذه الحرب لخلاصة مخلوقاته و هو القلب الذي هو محل نظره و معرفته و محبته و عبوديته و الاخلاص له و التوكل عليه و الانابة اليه . فولاه أمر هذه الحرب , و أيده بجند من الملائكة لا يفارقونه معقبات من بين يديه و من خلفه , يعقب بعضهم بعضا , كلما ذهب بدل جاء بدل آخر يثبتونه ويأمرونه بالخير , و يحضونه عليه , و يعدونه بكرامة الله تعالى و يصبرونه و يقولون له انما هو صبر ساعة , و قد استرحت راحة الابد . و منهم من يعبر له و يحضه على هذا الجهاد مناما , و منهم يقظة , كل ذلك اعتناء بهذا العبد و رحمة به , و لله الحجة البالغة على خلقه . و من هذا اشترط مشائخ التربية اخبار المريد منامه و خواطره , بحيث لا يفرد أحدهما على الآخر لشيخه و طبيبه و خصوصا المذمومات منهما ليعرف مزاجه بذلك و يعطيه من الدواء ما ينفعه , و أكدوا ذلك و قالوا " من كتم عن طبيبه أمر علته مات عليلا " و هو معنى قولهم لا يفلح أبدا , و هذا على طريق السلوك بالاصطلاح , و أما بالهمة فلا يحتاج اليه , و قد قيل بانقطاعه كما تقدم . و قد أجاب شيخنا نفعنا الله تعالى به , لعدم السالكين و انحطاط الهمة الى الدنيا و قلة الصدق و النية والاخلاص . و لقد أجاد ابن سعيد حيث قال " لكن سر الله في صدق الطلب " , لا لفقد المسلكين , لبقاء الصالحين الى أن تقوم الساعة أو أن ينزل عيسى عليه السلام , كما سبق ذكر منه . ثم أمره الله تعالى بجند آخر من وحيه و كلامه , فأريل اليه رسوله , و أنزل عليه كتابه فازداد قوة الى قوته و مددا الى مدده , و أمده مع ذلك بالعقل وزيرا و مدبرا , و أمره بالمعرفة مشيرة عليه ناصحة له , و بالايمان مثبتا له و مؤيدا و ناصرا , و باليقين كاشفا له عن حقيقة الامر حتى كأنه يعاين ما وعد الله تعالى به أولياءه و حزبه على جهاد أعدائه . فالعقل يدبر أمر جيشه , و المعرفة تضع له أمور الحرب و أسبابها و مواضعها اللائقة بها , و الايمان يقويه و يثبته و يبصره , و اليقين يقدم به و يحمل به الحملات الصادقة . ثم أمده سبح=انه و تعالى بالقوى الظاهرة و الباطنة , فجعل حالعين طليعته و الأذن صاحب خبره , و اللسان ترجمانه , و اليدين و الرجلين أعوانه , و أقوام ملائكته تعالى و حملة عرشه يستغفرون له . و علم سبحانه و تعالى عباده كيفية هذه الحرب و الجهاد فجمعهما لهم في اربع كلمات فقال: " يا ايها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون " . و لا يتم أمر هذا الجهاد الا بهذه الأمور الاربعة : فلا يتم له الصبر الا بمصابرة العدو و هي مواقعته و منازلته , اذا صابر عدوه احتاج الى أمر آخر و هو المرابطة , و هي لزوم ثغر القلب و حراسته لئلا يدخل منه العدو , و لزوم ثغر العين و الأذن و اللسان و البطن و اليد و الرجل , فهذه الثغور منها يدخل العدو , فيحوس خلال الديار و يفسد ما قدر عليه . فالمرابطة لزوم هذه الثغور , فالمرابطة من روابط ثغور نفسه ببدنه , و من لم يراتبط نفسه لا يقدر يرابط ثغر غيره , فليتنبه . و جماع هذه الثلاثة و عمودها الذي يقوم به , هو تقوى الله تعالى . فلا ينفع الصبر و لا المصابرة و لا المرابطة الا بالتقوى , و لا تقوم التقوى الا على ساق الصبر , فانظر الآن الى التقاء الجيشين , واصطفاف العسكرين , و كيف تدئل مرة و يدئل عليك أخرى . أقبل ملك الكفر بجنوده و عساكره , فوجد القلب في حصنه جالسا على كرسي مملكته , امره نافذ في اعوانه و جنده قد حفوا به يقاتلون عنه و يدافعون عن حوزته , فلم يمكنه الهجوم عليه الا بمخامرة بعض أمرائه و جنده عليه , فسأله عن أخص الجند به و أقربهم منه منزلة , فقيل له هي النفس , فقال لاعوانه ادخلوا عليها من مرادها و انظروا ما هو محبوبها فعدوها به و منوها اياه , و انقشوا صورة المحبوب فيها يقظة و مناما , فاذا اطمأنت اليه و سكنت عنده , فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة و خطاطيفها ثم جروها بها اليكم , فاذا خامرت على القلب و صارت معكم عليه , ملكتم ثغر العين و الأذن و اللسان و الفم و اليد و الرجل , فرابطوا على هذه الثغور كل المرابطة , فمتى دخلتم منها على القلب , فهو قتيل أو أسير أو جريح مثخن بالجراحات . ثم يضع على هذه الثغور حراسا من الشياطين يكيدونه في الطاعة و يعينونه في المعصية , و يقول لهم ان أكثر عونكم على لزوم هه الثغور مصالحة النفس الامارة فأعينوها و استعينوا بها , و أمدوها و استمدوا منها , و كونوا معها على حرب النفس المطمئنة فاجتهدوا في كسرها و ابطال قواها , و لا سبيل الى ذلك الا بقطع موادها عنها , فاذا انقطعت موادها و قويت مواد النفس الأمارة , انصاعت لكم أعوانها فاستنزلوا القلب من حصنه و عزلوه عن مملكته وولوا مكانه الامارة , فانها لا تأمر الا بما تحبونه . ثم يقول , و ان أحسستم من القلب منازعة الى مملكته و أردتم الامن من ذلك فانكحوه النفس الأمارة و زينوها له و جملوها و أروه أياها في أحسن صورة , واستعينوا يا بني على بني آدم بجنديين عظيمين لن تغلبوا معهما , أحدهما جند الغفلة , فاغفلوا بني آدم عن الله تعالى و الدار الآخرة بكل طريق , فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك , فان القلب اذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه و من أعوانه . و الثاني جند الشهوات فزينوها في قلوبهم و حسنوها في أعينهم , و صولوا عليهم بهذين العسكرين و استعينوا على الغفلة بالشهوات و بالشهوات على الغفلة , ثم استعينوا بهما على الذاكر و لا يغلب واحد خمسة . يقول اللعين اذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم من ذكر الله تعالى , أو مذاكرة أمره و نهيه و دينه و لم تقدروا على تفريقهم , فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الانس البطالين , فقربوهم منهم و شوشوا عليهم بهم , و ضموا الى سلطان الشهوة الغضب , فاني انما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة , و انما ألقيت العداوة بين اولادهم بالغضب . فيه قطعت أرحامهم و سفكت دمائهم . واعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم , و الشهوة نار تثور من قلبه , و انما تطفىء النار بالماء و الصلاة و الذكر و التكبير , فاياكم أن تمكنوا ابن آدم عند غضبه و شهوته من قربان الوضوء والصلاة و الذكر بأن يطفىء عنهم نار الغضب و الشهوة . قال اللعين , و قد أوصاهم الله تعالى أن يستعينوا عليكم بالصبر و الصلاة فحولوا بينهم وبين ذلك و أنسوهم اياه , انتهى كلامه لعنه الله , مع اختصار جدا , و انما أطلنا الكلام فيه , لأن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر المشار اليه في الحديث السابق و مبنى الدين عليه , و لكون توقف الذكر و الاسلام و غيره من جميع الطاعات عليه , فتبين على هذا أن قوله الذكر أفضل من الجهاد ليس على اطلاقه , فالمراد به هاد الكفار لا غيره من جهاد النفس و الشيطان كما تقدم بيانه . و عليه كما قال سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه : " ذكر الله عند أمره و نهيه خير من ذكره باللسان " , أو كلام مثله و الله أعلم . تنبيه : و لما جرى الكلام الى هذا , فلا بد من ذكر قاعدة بها ملاك الامر كله تتميما للجهاد المذكور , و هي معرفة محاسبة النفس . قال بعض السلف : " واعلم أن العبد له مع نفسه حالتان , الاولى قبل العمل : قال الحسن رحمه الله تعالى : " عبدا وقف عند همه , فان كان لله تعالى مضى , و ان كان لغيره تأخر " . و قد شرح هذا بعضهم فقال : " اذا تحركت النفس لعمل من الأعمال و هم به العبد وقف أولا و نظر ان كان مأذونا فيه أو غير مأذون . فان لم يكن مأذونا فيه لم يقدم عليه , و ان كان مأونا فيه وقف وقفة أخرى و نظر هل فعله خير من تركه , أو تركه خير من فعله . فان كان الثاني تركه و لم يقدم عليه , و ان كان الأول وقف وقفة ثالثة و نظر هل الباعث عليه وجه الله تعالى و ثوابه أم ارادة الجاه و الثناء من المخلوق . فان كان الثاني لم يقدم عليه و ان أفضى به الى مطلوبه لئلا تعتاد النفس الشرك , و يخف عليها العمل لغير الله تعالى . فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى , حتى يصير أثقل شيء عليها . و ان كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر هل هو معان عليه و له أعوان يساعدونه و ينصرونه اذا كان العمل محتاجا الى ذلك أم لا . فان لم يكن له أعوان أمسك عنه كما أمسك النبي صلى الله عليه و سلم عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة و أنصار. و ان وجده معانا عليه فليقدم عليه فانه منصور , و لا يفوت النجاح الا من فوات خصلة من هذه الخصال " . و الثانية محاسبة النفس بعد العمل , و هو ثلاثة أنواع , أحدها محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى , فلم يوقعها على الوجه الذي ينبغي , و حق الله في الطاعة بمراعاة ستة أمور , و هي الاخلاص في العمل و النصيحة لله تعالى فيه , و متابعة الرسول صلى الله عليه و سلم فيه , و شهود منة الله تعالى عليه فيه , و شهود تقصيره فيه بعد ذلك كله . فيحاسب نفسه هل وفى هذه المقامات حقها , وهل أتى بها في هذه الطاعة أم لا . الثاني , أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لم فعله , و هل أراد به الله تعالى و الدار حالآخرة , فيكون رابحا فيه . أو أرد به الدنيا و عاجلها , فيخسر ذلك الربح , فيتدارك ذلك بالتوبة و الاستغفار و الانابة الى الله تعالى . و المقصود أن القيام على النفس و محاسبتها و مجاهدتها في ذات الله تعالى منأهم الأمور , و لا ينقسم سير العبد الى ربه تعالى الا بذلك . و في الحديث الذي رواه الامام أحمد و غيره من حديث شداد ابن أوس , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت , العاجز من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله " . دان نفسه أي حاسبها , و منه قوله تعالى " انا لمدينون " , أي محاسبون . و ذكر الامام أحمد عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا و زنوها قبل أن توزنوا, فانه أهون عليكم في الحساب غدا " , الخ . و ذكر عن الحسن قال : " لا يلقى المؤمن الا يحاسب نفسه ما أردت بكلمتي , ما أردت بأكلتي , ما أردت بشربتي , و الفاجر يمضي قدما و لا يحاسب نفسه " . و قال قتادة في قوله تعالى " و كان أمره فرطا " , أضاع نفسه و غبن , مع ذلك تراه حافظا لماله مضيعا لدينه " . و قالت داية لداوود الطاءي : " با أبا سليمان أما تشتهي الخبز " , فقال لها : " يا داية , بين مضغ الخبز و شرب الفتيت قراءة خمسين آية " . و قال بعض الحكماء : " أعز الأشياء شيئان , قلبك و وقتك . فاذا أهملت و قتك و ضيعت قلبك , فقد ذهبت منك الفوئد كلها " . و قال ميمون بن مهران : " لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه " , ولهذا قيل النفس كالشريك الخوان , فان لم تحاسبه و الا ذهب بمالك . و كتب عمر رضي الله تعالى عنه الى بعض أعماله : " حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة , فانه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره الى الرضى و الغبطة , و من ألهته حياته و شغلته أهوائه عاد أمره الى الندامة و الحسرة " . و قال ابن المبارك في تفسير قوله تعالى " و جاهدوا في الله حق جهاده " , هو جهاد النفس و الهوى , و هو الجهاد الأكبر , واستدل عليه بحديث " رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر " , و قال هو أن يطاع فلا يعصى , الخ . وروى الترمذي من حديث فضالة بن عبيد , قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المجاهد من جاهد نفسه في سبيل الله " , انتهى و الله أعلم . قوله و ما توحيد واحد يفيد , أي ما معنى توحيد العبد لله تعالى , و ما فائدته مع أنه واحد قبل توحيدنا , و هل هو أفضل الطاعات . أولا , التوحيد لغة الحكم بأن الشيء واحد , و العلم بأنه واحد . يقال وحدته أي وصفته بالوحدانية , كما يقال شجعته أي وصفته بالشجاعة . واصطلاحا تجريد الذات الالاهية عن كل ما يتصور في الافهام و يتخيل في الأذهان و الأوهام . و معنى كون الله تعالى واحدا نفي الانقسام في ذاته و نفي الشبه و الشريك في ذاته و صفاته . الفصل الواحد و الاربعون : في الجواب على قوله و ما معنى توحيد العبد لله تعالى لأنه واحد , و ما يفيدنا مع أنه واحد قبل توحيدنا , الخ . اعلم أنه قال الامام زين الدين في الجوهر الخاص , رحمه الله تعالى , معناه معرفة وحدانيته تعالى الثابتة له , و توحيد الخلق له لم يفد الحق بثبوت الوحدانية له تعالى . ليس بتوحيدك يتوحد الواحد , بل هو على كل حال واحد , و انما أفاد الموحد صفة الموحدية , و الحق تعالى وراء كل توحيد , قائم بذاته موصوف بصفاته , غني عن غيره في جميع كملاته . و دالتوحيد سبب النجاة من النار و هو أفضل الطاعات و شرط في صحتها . و اختلفت عبارات الناس فيه , فسئل ذو النون المصري عن التوحيد فقال : " أن تشهد أن قدرته في الاشياء بلا علاج , و صنعه للأشياء بلا مزاج و علة . كل شيء صنعه و لا علة لصنعه , و ما جلاه الوهم أو حكاه الفهم فالله تعالى بخلافه " . و قال ابوالقاسم الجنيد رحمه الله تعالى : " التوحيد اثبات القدم و نفي الحدوث " . و قال الامام الغزالي رحمه الله تعالى : " التوحيد أصل على ثلاثة مراتب . توحيد العامة , و هو أن تشهد أن لا اله الا الله , و يسمى التوحيد المجرد . و توحيد خاصة العامة , و هو أن لا ترى مع الحق سواه , و يحصل لهم بالقائق العشرة و هي المكاشفة و المشاهدة و المعاينة و الحياة و القبض و البسط و الصحو و السكر و الايصال و الانفصال . فأهل الحقائق أهل هذه المقامات و الله أعلم . تحقيق : الحكم بأن الشيء واحد و العلم بأن الشيء واحد أيضا توحيد , و غلبة روية الحق على القلب توحيد . فمن اعتقد أنه تعالى واحد بغير دليل موحدا , وعلم أنه تعالى واحد فهو موحد أيضا . فمن حصل له التوحيد الأول فهو مؤمن , و من حصل له الثاني فهو عالم , و من حصل له الثالث فهو عارف . فالأول توحيد كافة الصوفية . تدقيق قال الجنيد قدس سره : " الوحدانية أعلى من الربوبية , لأن الوحدانية ترجع الى توحيد مولانا جل و علا , و الربوبية ترجع الى مربوبيتنا , و كل ما أضيف اليه يكون أعلا مما أضيف الينا و الله أعلم , انتهى كلامه . قلت , و لما كان التوحيد سبب النجاة من النار و هو أفضل الطاعات و شرط في صحتها , و اختلفت عبارات الناس فيه كما ذكره الشيخ , ينبغي لنا زيادة كلام فيه على مذهب أهل الحقيقة , ليكون في البيان كافيا و من داء الشكوك و الأوهام و الظنون شافيا ان شاء الله تعالى . اعلم أيه المتجرد المريد المستشرف على مراتب التوحيد أن الحق تعالى واجب الوجود لذاته , يعلم ذاته و يعلم صفاته و يعلم أفعاله . فهناك أربع اعتبارات : الأول من حيث هو واجب الوجود , و ذلك هو الوجود فقط و هو النور المطلق المشار اليه في قوله صلى الله عليه و سلم : " ان الله نظر دالى نوره المطلق " , الخ , و هو البحر الطمس و العمى الذي لا عين فيه و لا اثر و لا كلام و لا خبر بل هو الحق أخ العدم لمن أراد أن يتأخر أو يتقدم . و الثاني من حيث هو يعلم ذاته و هذا هو تعيين ذاته من حيث الذات , و هذا العلم هو المحمول على الذات , الذي هو عين العالم و المعلوم , و هذا هو الكنز المخفي و الذكر الخفي مصدوق التا و المشار اليه بأنا . واعلم أن عن هذا التعيين الذاتي ظهرت الصفات العلية في العلم , اذ هي من الوجود فافهم المقصود , واعلم أن الذكر المشار اليه في قوله صلى الله عليه وسلم " و كتب في الذكر كل شيء " , هو الحقيقة المحمدية , و هو الكنز المخفي و الذكر الخفي اليه ينتهي السير و السفر , و منه تبدو مراتب السفر , و عند ذلك يظفر بمرتبة الصديق و بالاسم الأعظم , و تكمل مراتب التحقيق و ليس شيء بعد ذلك يرام , و ها هنا ينقطع الكلام . و الثالث من حيث هو يعلم صفاته , و هذا هو التعيين الصفاتي من حيث الصفات , و عن هذا التعيين كانت أسمائه الصفاتية العلية , كما ان عن تعيين ذاته كان اسمه الأعظم . فافهم واعلم أن عن هذا التعيين وجدت الافعال , اذ الصفات مرتبطة بأثرها بالذات , فافهم ثم اعلم أن هذا العلم هو مبدأ الكثرة الوهمية و العينية و مبدأ الانفعال و حصول الآثار و تمييز النسب و التفرقة بين العبد و الرب , بل هو البرزخ الواصل و الحجاب الفاصل , مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان . و بالجملة هو أصل المتفرقات و مجمع المختلفات , الذي تنوعت مظاهره , و ان شئت قلت مراتبه , و ان شئت قلت ذاته الى ع ل م و ادراك و و ه م , فاعلم ذلك . و الرابع من هو يعلم أفعاله , و هذا هو التعيين الفعلي من حيث الافعال , و عن هذا التعيين كانت أسماء أفعاله التي هي في الحقيقة أعيان الى ع ا ل م . و بالجملة فالموجود من حيث الوجوب الذاتي الذي هو الحق باطلاق ذات و صفات و أفعال , و لكل مرتبة من هذه تعيين من حيثيتها واسم من ذلك التعيين . فللتعيين الذاتي من حيث الذات الاسم الأعظم , و الصفاتي من حيث الصفات اسم الصفة , و الفعلي من حيث الأفعال أسماء الافعال . فليس الوجود في الحقيقة الا ذات الله جل و علا و صفاته و أفعاله . و صفاته ليست غير ذاته , و أفعاله راجعة الى صفاته , و مراتب الوجود من حيث الوجود الممكن الذي هو الحق باضافة , و هو العبد كلمة ثم روح ثم نفس ثم جسم , فالجسم عالم الملك و النفس عالم الملكوت و الروح عالم الجبروت و الكامة عالم العزة , سبحان ذي الملك و الملكوت , سبحان ذي العزة و الجبروت . فالروح الجبروتي مظهر الذات , و النفس الملكوتي مظهر الصفات , و الجسم الملكي مظهر الأفعال , و الكلمة البرزخ الكلي الجامع و الحيز المانع , حقيقة الحقائق و روح كل الخلائق . قال تعالى : " و يحق الحق بكلماته " , و قال تعالى : " فآمنوا بالله و رسوله النبي المي الذي يؤمن بالله و كلماته " . فالكلمة اذا حقيقة كل كون متعين و الكلمة في ذات المتكلم , الخ . و بالجملة فالحق حل و علا أظهر الموجودات و جعل مبدأها الكلمة الجامعة و الحقيقة الجاذبة الرافعة و العنصر الأعظم و الروح الأعلم أصل حالأكوان علما و عينا و المفيض عليها من حضرة الجود الأسنى صلى الله عليه و سلم و شرف و كرم و مجد و عظم . بل هو مظهر الاسم الأعظم , بل هو كنز من اعتبر و فهم . ثم انه لما أتم الله تعالى مظاهر الحق و مراتب الوجود باللسان الجامع للقبضتين , و ما اشتملت عليه كلتا اليدين من كل ضدين و خلافين و مثلين , و كان المقصود من الجمع معرفة الشأن العزيز الذي هو شأن الله تعالى , كما قال تعالى : " و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون " , " و كنت كنزا " , الخ . و كان هذا الانسان الكامل ليس شيء يصلح لذلك أو يكون أهلا لما هنالك لجمعيته الكلية , و حقيقته البرزخية . فقبل تلك المعرفة من بين من هنالك " انا عرضنا الأمانة " , الآية , فكان من حيث قبضة اليمين في أحسن تقويم , و من حيث قبضة الشمال في أسفل سافلين , و هذا من العلم و الجهل . فشأن العبد اذا رجعوه باليقين و الشهود الى حقيقة التوحيد و وحدة الوجود , بحيث يخير عن الامر بما هو عليه في نفسه ان تكلم و لا يكون للوهم عليه من تحكم . فمن علم ما هو الامر عليه في نفسه أو استعد للعلم بذلك فهو السعيد القويم , و من جهل ذلك و تكاسل عن تحصيل ذلك فهو الشقي السفيل . ثم ان الأنسان القويم على قسمين , من هو باق على تقويمه لم يعرض له ضده , كالأنبياء و الكمل من الأولياء . ومنهم من عرض له ذلك , ثم خلصه الله تعالى من ذلك , و هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات , و هؤلاء على قسمين : منهم من وصل بالجذبة الالهية , أعني أخذ الحق تعالى بيده و اخراجه من الكثرة الوهمية الى الوحدة الوجودية , اما ايمانا و علما , أو دراية و فهما , أو وجدا و كشفا , بحيث لا يجد لاخراجه تكلفا و لا لقطع عوالمه الوهمية تألما . و منهم من وصل بالسلوك , و هو الذي قطع بالرياضة و المجاهدة و الخلوة و الذكر مراتب الملك و ظفر بعد ذلك بنتيجة الملك بملك عنان نفسه و سلوكها الى حضرة قدسه , و ذلك باعتنائه بالتقوى التي وصى بها الله تعالى كافة خلقه بقوله تعالى " و لقد و صينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و اياكم أن اتقوا " . و بيانه أن التقوى بلسان المحقق هي ذهاب السوى من الوجود , و ذهاب السوى من الوجود هو التحقق بالوجود , و التحقق بالوجود هو تحققك بفص هويتك , و تحققك بفص هويتك هو وجودك فقط , و وجودك فقط أن لا تكون أنت و لا هو , و أن تكون أنت و لا هو , هو وجود الله , و ودود الله هو كان الله و لا شيء غيره , و كان الله و لا شيء غيره هو أن يكون الله فقط , و أن يكون الله فقط هو أن يكون الله كل شيء , و أن يكون الله كل شيء هو أن تكون أنت , و أن تكون أنت هو أن لا يكون السوى . فانظر هذا الأمر ما أغربه و أعجبه , فانه دوري , فالدور عجيب و الواصل اليه غريب , و لهذا قيل شعر :
ففي الخلق عين الحق ان كنت ذا عين و في الحق عين الخلق ان كنت ذا عقل
و ان كنت ذا عين و عقل فما ترى سوى عين شيء واحد فيه بالشكل
فابحث عن شئونك فانك مجمع الشئون , و محل الظهور و الكمون , و لا تقنع بما يبدو لك من العرفان . فابحث فان القناعة من الله تعالى حرمان , و بأي شيء تقنع و ما بقي فهو أنفع و الأمر من كل هذا أوسع . فالتقوى هي سلم الوصول الى مراتب التوحيد , و لهذا قالوا , ان التوحيد على ثلاثة أقسام تقليدي و نظري و ذوقي . أما التقليدي , فهو الظاهر الجلي الذي يقي من الشرك الأعظم , و عليه نصبت القبلة و به وجبت الذمة و حقنت الدماء و الاموال و صحت به الملة للعامة , و ان لم يقوموا بحق الاستدلال اذ ليس في وسع كل انسان الاهتداء لطريق النظر و الاستدلال , لاختلاف الفطر و تباين الطباع من البشر , لا سيما من أول وهلة , وقد كان الداخلون في الاسلام من الأعراب و غيرهم على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و غيره , يدخلون في الاسلام فيحسبون من أهله بمجرد التقليد , ثم لا يزالون
يباشرون أحوال الدين و وظائف الاسلام و يعملون بها حتى تستمكن بشاشة الايمان من قلوبهم , فيقوى ايمانهم و يرتص بناء توحيدهم . فهذا النوع من التوحيد أقل ما يجزءى لأهل التوبة التي هي أصل التقوى , و ان فتح لهم في زائد عليه فهو أحسن و أكمل . و أما النظري فهو ما يحصل من اليقين عن النظر في المخلوقات , فيستدل بها على الخالق , و في المصنوعات فيستدل بها على الصانع , و في المحدثات فيستدل بها على القديم بتحقيق جواز الجائز , و وجوب الواجب و استحالة المستحيل بقوانين علمية و مقايس عقلية تفيد القطع بوجود الباري تعالى و صفاته و أفعاله , حتى لا يدخله في ذلك تشكيك و لا احتمال . و ليس من شرط هذا النوع من التوحيد افصاح لسان كل أحد ممن يدعيه بحجج المناظرة على صحة ذلك , و لا تجويد العبارة عن حقائقه , اذ ليس كل انسان يقدر على الوفاء بالتعبير عن المعاني القائمة في نفسه التي هي مناط المعرفة الى ربه تعالى , و هذا النوع من التوحيد أقل ما يجزءى لأهل الاستقامة و هي بداية التقوى , و ذلك بما خالطوه من أمور الدين و وقفوا عليه من آثار الشرع المبين , و بما باشروه من وظائف سنته مع ما واصلوهمن محبته و ذكره و الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم , حتى قام لهم بذلك نور تنشرح به الصدور لتدبر العبر و الاهتاء لطرق الاستدلال و النظر . و لا شك أن العقل تشحره و تجوهره و تصفي مرآته أعمال الطاعات و وظائف العبادات , حذتى يهتدي بذلك الى سبيل النظر و الاستدلال , فيحسب حسن نتيجة الاحوال . و أما التوحيد الذوقي , فله سبع مراتب : الأولى , تفيد حسن الاهتداء بالبطن لنيل مذاق يفيد الزيادة في مادة ما أفاده النظر , و الستدلال من ثلج اليقين في التوحيد القطعي , و هذا من نتائج التقوى , لأن التقوى تنزيه القلب عن الذنوب بملاحظة الله تعالى . فكلما خطر بباطنه همة شيطانية , تذكر ما لديه من أمر العبادة , فظهر له بنورها أن معبوده واجب أن يطاع فلا يعصى , فيطرد بذلك عن باطنه جميع واردات الشر , فتذهب عنه بذلك المكدرات التي تحجب عن استبصار الحقائق , فيزداد بذلك قوة في ثلج اليقين و نور التوحيد ما يغنيه عن النظر و الاستدلال و ضعف التقليد . و الثانية , تفيد تحصيل بداية توحيد الافعال , و تختص بمنزل الاخلاص , أول منازل مقام الايمان . و الثالثة , تفيد تحصيل نهاية توحيد الافعال و تختص بمنزل الصدق ثاني منازل مقام الايمان . و الرابعة , تفيد تحصيل بداية توحيد الصفات , و تختص بمنزل الطمأنينة ثالث منازل مقام الايمان و الخامسة , تفيد تحصيل نهاية توحيد الصفات , و تختص بمنزل المراقبة , أول منازل مقام الاحسان . و السادسة , تفيد تحصيل بداية توحيد الذات , و تختص بمنزل المشاهدة ثاني منازل مقام الاحسان . و السابعة , تفيد تحصيل نهاية توحيد الذات , و تختص بمنزل المعرفة ثالث منازل مقام الاحسان . و نهاية كل مرتبة تشترك مع بداية المرتبة التي تليها . و نعني بتوحيد الأفعال العثور على ما تقتضيه أفعاله تعالى من سر التوحيد , و بتوحيد الصفات العثورعلى ما تقتضيه صفاته تعالى من سر التوحيد , و بتوحيد الذات العثور على ما تقتضيه ذاته المقدسة من سر التوحيد . و توضيحه أن الله تعالى حجب ذاته المقدسة بصفاته , و حجب صفاته العلية بأفعاله , و حجب أفعاله الجميلة بمألوفات طباع الانسان . و قد أفصح بهذا عبد الله بن عباس حين تكلم في التوحيد , فقال : " حجبت الذات بالصفات و حجبت الصفات بالافعال , فبقدر ما يخرج الانسان عنه من مألوفات طباعه , يبدو له من حقائق توحيد الأفعال , و بقدر ما يحصل عليه من توحيد الأفعال , يظفر به من أسرار توحيد الصفات , و بقدر ما يلوح له من أنوار توحيد الصفات يشاهد من عجائب توحيد الذات " . و ذكر غايات ذلك انما هو نسبة أقصى ما يحمله عقل الانسان , لأن أسرار التوحيد لا غاية لها و لا نهاية , فهي تستغرق العقول و تكتنف الاذهان من الفحول , و تقطع نياط مجال الافكار لمن تمعن بالجد و الاستبصار و الله تعالى و دلي التوفيق و اليه يعود التحقيق , و من تحقق بهذا الفصل و الذي قبله , فهو السالك الموحد . فقد ظفر بأسلوب الطريقة و الحقيقة , و ان بقيت هناك أمور لا غرو يعثر عليها ببركة جهاده لنفسه و ولوجه بالتوحيد الى حضرة قدسه . فتبين بما تقرر معنى قوله و ما توحيد واحد يفيد . فائدة : الموحد حقيقته هو الخارج من تقليد المقال بالنظر و الاستدلال الى توحيد الحال , بدايته الافعال و لهذا قال :
ما وحد الواحد من واحد اذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد
توحيده اياه توحيده و نعت من ينعته لاحد
فافهم الاشارة تغنيك عن العبارة , و في التلويح ما يغني عن التصريح . من عرف نفسه فقد عرف ربه , و قال عليه السلام : " أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه " , و فيه كفاية و الحمد لواهب الهداية . ثم قال عفا الله عنه :


( و ما اذكر ربك اذا نسيت حمدلة هيللة فضلت )

اشتمل البيت على سؤالين . الأول , ما معنى قوله تعالى " واذكر ربك اذا نسيت " . الثاني , أيما افضل , الحمد لله رب العالمين , أو لا اله الا الله , و بهما تمام ثلاثة و أربعين سؤالا . قوله " و ما اذكر ربك اذا نسيت " , أي ما معنى قوله تعالى في التنزيل " واذكر ربك اذا نسيت " . واذكر , أمر من ذكر ذكرا , و هو لغة كما قال في القاموس , الذكر بكسر حفظ الشيء كالتذكار , و الشيء يجري على اللسان و الصيت كالذكرة بالضم و الثناء و الشرف و الصلاة لله تعالى و الدعاء , الخ . و اصطلاحا , كما قال في مفتاح الفلاح هو التخلص من الغفلة و النسيان بدوام حضور القلب مع الرب كما تقدم الخ . و الرب لغة المعبود و السيد و المالك و القائم بالأمور , المصلح لما يفسد منها , كذا في جواهر الحسان . واصطلاحا اسم للحق تعالى عن اسمه باعتبار نسب حالذات الى الموجودات العينية أرواحا كانت أو أجسادا , و الكاف خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم خصوصا و لغيره عموما , و اذا ظرف مستقبل خافض لشرطه منصوب بجوابه , و نسيت فعل من النسيان بكسر فسكون , و التء خطاب لمحمد صلى الله عليه و سلم كما تقدم في الكاف , و هو لغة خلاف الذكر و الحفظ جوهري , و اصطلاحا الغفلة عن معلوم في غير حالة السنة , فلا ينافي الوجوب , أي نفس الوجوب لا وجوب الأداء , كذا في كتاب التعريفات و الاصطلاحات . الفصل الثاني و الاربعون : في الجواب على قوله تعالى " و اذكر ربك اذا نسيت " , الآية , قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " هذه الآية وقعت بعد قوله تعالى " و لا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله " , قال الواحدي في تفسيره الوجيز هذا تأديب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم , أمر له بالاستثناء بمشيئة الله تعالى " . و اذكره , أي قله . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما , يجوز الاستثناء الى سنة ما لم يحنث , و عن الحسن و طاووس ما دام في الملجس و أكثرهم لا يجوزه حتى يكون متصلا . و اذكر ربك اذا نسيت يذكرك اذا تذكرت . و قال الكواشي " و اذكر ربك " بالاستغفار اذا نسيت الاستثناء , أو اذكر ربك اذا تسيت شيئا ما لتذكره . و قال بعض الصوفية و اذكر ربك بلسانك و ان كان قلبك ساهيا أو غافلا , فقد قال ابن عطاء الله : " لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه , فان غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره , فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة الى ذكر مع وجود يقظة , من ذكر مع وجود يقظة الى ذكر مع وجود حضور , و من ذكر مع وجود حضور الى ذكر مع وجود غيبة عن ما سوى المذكور , و ما ذلك على الله بعزيز " . و قال بعض , و اذكر ربك اذا نسيت نفسك , أي تركتها ترك الناسي , أي تركت طاعتها و خالفت هواها لأن من ذكر الله تعالى على الحقيقة نسي في جنبه كل شيء , و حفظ الله تعالى عليه كل شيء , و كان له عوضا عن كل شيء , و هذا حال العارفين المحققين من الأولياء , و هو الغيبة في الذكر عن سوى المذكور , و استدلوا له بهذه الآية " واذكر ربك اذا نسيت " , أي ما دون الله تعالى , فاذا تكون ذاكرا لله تعالى . هذا و ان الذكر في الاصل خلاف الغفلة , لأن الذكر حضور المعنى في النفس ثم يكون في القلب , ثم يكون بالقول , و قد يستعمل من غير سبق نسيان كما قيل :
حاضر في القلب يعمره لست أنساه فأذكره
انتهى كلامه و الله أعلم . قلت , و أنسب العبارات للمقام ما ذكره في اللباب , نقلا عن ابن عطا , و اذكر ربك اذا نسيت , أي اذا نسيت ما سوى الله تعالى و ذكرت الله تعالى , فأنت ذاكر حقا , و الا فلم تخرج عن الامر و اجعل نفسك أول منسي كما قيل :
لازم الباب ان عشقت الجمال و اهجر النوم ان أردت الوصال
و اجعل الروح منك فداء في الحبيب جماله قد تلالا
قال , و الىية تفصح عن قوله تعالى " لا يزال عبدي يتقرب الي بنوافل الخيرات حتى أحبه , فاذا أحببته كنت له سمعا و بصرا و يدا و مِئيدا , فبي يسمع و بي يبصر" , الخ كلامه , فانظره .تنبيه : في الآية تحريض على الذكر كيف ما أمكن في حال غفلة أو في حال حضور على ما نقله الشيخ عن بعض الصوفية . و المراد بالحضور الفهم عن الله تعالى فيه ما مرادك به و ما الذي أنت تذكر . لا يزال الذاكر يتردد بين فهم ما ذكر حتى يفنى , ما لم يكن و يبقى ما لم يزل . و لقد سال الشيخ أبو عثمان عن ذكر الله تعالى باللسان و القلب غافل , فأجاب : " لا تترك الذكر على أي حال , و دواء هذه العلة في خمسة أشياء . الأولى مجالسة أهل الذكر و البعد من غيرهم . و الثانية , التضرع الى الله تعالى و دوام ذكره في الأسحار , فان الوسوسة في ذلك الوقت أقل من غيره . الثالثة , النظر في كتب الصالحين و حكاياتهم . الرابعة , اقلال الطعام و الاقتصاد في القوت و الملبس . الخامسة , امزاج الذكر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم . فاذا لازمت هذه الخمسة زالت الغفلة عن قلبك , و فتح الله تعالى لك في بصيرتك بابا تفهم منه و تدري ما لم تكن تدري قبل ذلك . قال عليه السلام : " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " . و قال الصوفية " ذكر الله تعالى هو مفتاح الفلاح و مصباح الأرواح و عمدة الطريق الى الفتاح , بدايته المعرفة و نهايته العيان " . و قالوا أيضا " باب الدنيا الهوى , و باب الهوى الحرص و باب الحرص الأمل , و الأمل هو الداء العضال الذي لا دواء له , و أصله حب الدنيا , و باب حب الدنيا الغفلة عن الله تعالى , و الغفلة غلاف في باطن القلب يتربى من ترادف الذنوب , و دواء ذلك كله ذكر الله تعالى باسمه الاعظم . و باب الذكر الفكر , و باب الفكر اليقظة , و باب اليقظة الزهد , و باب الزهد القناعة , و باب القناعة طلب الآخرة , و باب طلب الآخرة التقوى , باب التقوى دوام ذكر الله تعالى . فذكر الله تعالى هو قطب رحاها و شمس ضحاها , و به يسلك الطريق , و يصل الى فهم علم التحقيق . و لهذا قيل " اذا رأيت من فتح له بالتصديق بعلم التقيق فبشره , و اذا رايت من فتح له بالفهم فيه فاغبطه , و اذا رأيت من فتح له بالنطق فيه فعظمه , و اذا رأيت جاحد له او مكذبا , ففر منه " . و قالوا أيضا " كل مصدق بهذا العلم فهو من الخاصة , و كل من فهمه فهو من خاصة الخاصة , و كل من عبر عنه أو تكلم به فهو النجم الذي لا يدرك و لبحر الذي لا ينزف " , كذا في أنوار القلوب من العلم الموهوب . قال صلى الله عليه و سلم : " لو عرفتم الله حق معرفته لعلمتم العلم الذي ليس بعده جهل , و ما بلغ ذلك أحد , قيل و لا أنت يا رسول الله , قال و لا أنا , فقيل ما كنا نرى أن الرسل عليهم الصلاة و السلام يغيب عنهم شيء أو تقصر مقاماتهم عن شيء , فقال صلى الله عليه و سلم , الله أعظم شأنا و أعظم سلطانا من أن ينال أحد أمره كله " . أشار الى المعرفة الخاصة بالحق تعالى , و هي الاحاطة بالمعلومات على الاطلاق من غير تقييد . و أما معرفة الخلق فبقدر ما حوطهم يحيطون . فالناس فيها على درجات , و الذاكرون في الدرجة العليا , لأن لكل قلب من الأنوار بحسب ما ظهر له من الأسرار . فليس من اهتدى بنور ذكر الله تعالى الى الله كمن اهتدى بنور غيره اليه , و لا من استدل يالله على الأشياء كمن استدل بالاشياء على الله , فلا يصل الى الفتح الرباني الوهبي من في قلبه مثقال ذرة من احساس الغيرية من نفسه أو غيره . فان قلب العارف لا ينفك عن شهود الحق تعالى بأنه الخالق لكل شيء . فهو له به مشاهد , و كذا سره الا أن مشاهدة السر غير مشاهدة القلب . فالسر ما يكون مكتوبا بين الحق و العبد , يخص الله تعالى به بعض أصفيائه و هو ألطف من الروح , و ليس مطلوب القوم الا هو مشاهدته , لأن المشاهدة وجود بلا حدود , و شهود العين بلا أين و حضور القلب مع الرب . و ما دام حاضر القلب فهو مشاهده تعالى في سائر مخلوقاته , موجدا بلا حلول و لا اتصال و لا انفصال لأنه لا اتصال لأحد بذاته , لأن التقيد مظهر من مظاهره تعالى , أظهره رحمة و هو ايجاده و خلقه , و الاطلاق وصفه تعالى و ستره . و في الحقيقة لا تغاير لأنه واحد أحد , فلا تلحظ لسواه , لأنه الموجد لكل شيء , و مظهره من العدم , و لا انفصل عنه أحد من حيث العلم , لأن أصل ظهور العالم وجود الصفات و هي لا تنفك عن الذات , لأن الذات ظهرت بصور معلوماتها . فما أظهر العالم الا على وفق ما كان عليه في علمه تعالى , لأن تعلقاته أزلية . فالعالم كله قديم في العلم حادث في الظهور . و ما وقع حقيقة التكوين الا على هذه الصور البارزة لعالم الشهادة , لا على الأمور الثابتة في العلم , فافهم و انظر الى الماء بواسطة النار صار محرقا فهي متصلة بالصفات منفصلة بالذات . فاذا أردت الحضور مع الذات العلية على الدوام , فعليك بذكر الله تعالى , لأنه الحضرة الجامعة للحضرات كلها , و الملازمة عليه تفضي الى انمحاق الآثار و نسيان الاغيار كلها , و لهذا قال تعالى " و اذكر ربك اذا نسيت " , خص الذكر بالربوبية , لأنها اسم للمرتبة المقتضية لأسماء التي تطلب الموجودات , و يدخل تحتها اسم العليم و السميع و البصير و القيوم و المريد و الملك و ما أشبه ذلك , لأن كل واحد من هذه الاسماء و الصفات يطلب ما يقع عليه . فالعليم يقتضي المعلوم و القادر يقتضي المقدور , و المريد يطلب مرادا و ما أشبه ذلك . و بالربوبية ظهور الرحمان الى الموجودات , و من هذه المرتبة صحت النسبة بين الله و عباده . و أن للربوبية تجليان , تجل معنوي و تجل صوري . فالتجلي المعنوي ظهوره في أسمائه و صفاته على مااقتضاه القانون التنزيهي من أنواع الكمالات , و التجلي الصوري ظهوره في مخلوقاته على ما اقتاه القانون الخلقي التشبيهي و ما حواه المخلوق من أنواع النقص . فاذا ظهر سبحانه و تعالى في خلق من مخلوقاته على ما استحقه ذلك المظهر من التشبيه , فانه على ما هو عليه من التنزيه سبحانه . و الامر بين صوري ملحق بالتشبيه و معنوي ملحق بالتنزيه . ان ظهر الصوري فالمعنوي مظهر له , و ان ظهر المعنوي فالصوري مظهر له , و قد يغلب حكم أحدهما فينستر الثاني تحت الحكم بالأمر الواحد على حجاب , فافهم , و من هذا قيل شعر :
ففي الخلق عين الحق ان كنت ذا عين و في الحق عين الخلق ان كنت ذا عقل
و ان كنت ذا عين و عقل فما ترى سوى عين شيء واحد فيه بالشكل
فائدة : لا يزال الذاكر يترقى بالذكر الى المراقبة ثم المشاهدة , فيسمى أولا ذا العقل , و هو الذي يرى الخلق ظاهرا و الحق باطنا , فيكون الحق عنده مرآة الخلق , لاحتجاب المرآة بالصورة الظاهرة فيها احتجاب المطلق بالمقيد . ثم يترقى فيسمى ثانيا ذا العين , و هو الذي يرى الحق ظاهرا و الخلق باطنا , فيكون الخلق عنده مرآة الحق لظهور الحق عنده واختفاء الخلق فيه اختفاء المرآة بالصورة , ثم يترقى الى مقام أيضا , فيسمى فيه ذا العقل و العين , و هو الذي يرى الحق في الخلق و هذا أقرب النوافل , و يرى الخلق في الحق , و هذا أقرب الفرائض , و لا يحتجب بأحدهما عن الآخر , بل يرى الوجود الواحد بعينه حقا من وجه و خلقا من وجه . فلا يحتجب بالكثرة عن شهود الوجه الواحد الأحد , كما لا يحتجب بكثرة المرايا عن شهود الواحد الأحد الراءي . أعني لا يزاحم في شهوده لكثرة المظاهر أحدية الذات التي تتجلى فيها , و لا يحتجب بأحدية وجه الحق شهود الكثرة الخلقية , لا يزاحم في شهود أحدية الذات المتجلية في المجالي كثرتها , و الى المراتب حالثلاث أشير بالبيتين و الله أعلم , فتبين تخصيصها بالذكر لما فيها من معنى التربية التي هي ايصال الشيء الى كماله على التدريج , أي تبليغه شيئا فشيئا من نقص الى كمال قدرته له الربوبية , و علقه على النسيان اشارة الى مقامات الفناء الثلاث على التدريج أيضا , و هو أي الفناء عدم الاحساس بعالم الملك و الملكوت , بالاستغراق في عظمة الباري جل جلاله , و مشاهدة الحق تعالى و اليه الاشارة بقولهم الفقر سواد الوجه في الدارين يعني الفناء في العالمين الملكي و الملكوتي . و قال في العوارف : " الفناء أن تفنى عنه الحظوظ , فلا يكون له في شيء حظ , يفنى عن الاشياء كلها شغلا بمن فني فيه " . قيل هو الغيبة عن الاشياء كلها . و قال الخراز : " علامة من ادعى الفناء ذهاب حظه من الدنيا و الآخرة الا من الله تعالى " . ثم اختلفت عبارة القوم في الفناء , و باختصار قالوا : " و يكون من أقسام الفناء , أن يكون في كل فغل و قول مرجعه الى الله تعالى , و ينتظر الاذن في كليات أموره , فيكون في الاشياء بالله تعالى لا بنفسه . فتارك الاختيار منتظر لفعل الحق تعالى فيه , فان . و صاحب الانتظار لاذن الحق تعالى في كليات أموره راجع الى الله تعالى بباطنه في جزئياتها , فان . و من ملكه الله اختياره و أطلقه في التصرف يختار كيف شاء و أراد , لا منتظرا للفعل و لا منتظرا للاذن , هو باق و الباقي في مقام لا يحجبه الخلق عن الحق و لا الحق عن الخلق . و الفاني محجوب بالحق عن الخلق . و الفناء الظاهر لأرباب القلوب و الأحوال , و الفناء الباطن لمن أطلق عن وثاق الأحوال و صار بالله تعالى لا بالاحوال , و خرج من القلب فصار مع مقلبه لا مع قلبه و هو ابتداء و وسطي و نهائيي . فناء و فناء الفناء , و فناء عن الفناء و قد تقدم طرف منه في أثناء الكتاب فلا نطيل به , و الله أعلم . تنبيه : و لا يصل الى هذا الفناء الا بعد الموت الاختياري , و تقدم طرف في معناه , لقوله عليه الصلاة و السلام " لن يرى أحدكم ربه حتى يموت " , الخ , " ومن مات قامت قيامته " , و قد قال تعالى في القيامة " وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة " , الآية . قال في بدء الأمالي :
فينسون النعيم اذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
و في الحديث القدسي : " اذا رأيتني فلا تذكرني , و مهما لم ترني فلا تفارق اسمي " . فتكون الرئية حينئذ هي عين ذكره , بل أفضل منه لوقوع النهي عندها , و يكون النسيان حقيقة عندها , و هو قول صاحب اللبان " اذا نسيت ما سواه و ذكرته فأنت ذاكر حقا " . قال أهل الحقيقة : " حقيقة التوحيد نسيانك أنت في حضورك معه , و هو أن تكون كما كنت قبل نفخ الروح فيك , بأن لا ترى حولا و لا قوة و لا حركة و لا سكونا و لا بعدا و لا وصولا , الا بالله تعالى , و اترك الالتفات الى الأحوال و المقامات و الكرامات و خرق العادات , و دالمعرفة و القرب و دالحب و الوجد و الفقد و غير ذلك , فان ذلك كله بقايا نفسانية تخل باقتضاء الحكمة البالغة , و توجب الحياة الفانية التي لا طائل تحتها . و في الحديث " ان لله عبادا تركوا حظوظ أنفسهم , ثم تركوا الدنيا , ثم تركوا العقبى , ثم تركوا الرئية ثم تركوا المشاهدة , ثم تركوا الترك , ثم ترك الترك فوجدوا الحق تعالى . و شهوده و رئيته أغنتهم عن ذلك من أنفسهم لنسيانهم اياها بموتها قبل موتها , و هو عين حياتها عند موتها , فافهم اللغز وانذفق من الكنز و لا تخشى من الفقر و ان كنت غريبا في فقر , و الحمد لله رب العالمين , انتهى و الله أعلم . و قوله حمدلة هيلة فضلت , أي أيما أفضل , و هو معنى فضلت , الحمد لله أو لا اله الا الله . الحمدلة كالهيللة أحد المصادر المركبة من اسمين كالحوقلة و الحسبلة و قد تقدم معناها , و فضلت فعل و فاعل و هو من التفضيل الذي هو زيادة المزية . الفصل الثالث و الأربون في الجواب على قوله حمدلة هيللة فضلت , أي و ما فضلت حمدلة أو هيللة . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " اختلف العلماء في هذه المسئلة , فقالت طائفة بالأول , لأن في ضمن الحمدلة التوحيد الذي هو لا اله الا الله . ففي قولك الحمد لله توحيد و حمد , وفي قولك لا اله الا الله توحيد فقط . و احتجوا بقوله صلى الله عليه و سلم : " من قال لا اله الا الله كتب له عشرون حسنة و حط عنه عشرون سيئة , و من قال الحمد لله رب العالمين كتب له ثلاثون حسنة و حط عنه ثلاثون سيئة " . و قالت طائفة بالثاني , لأن كلمة لا اله الا الله ترفع الكفر و الاشراك , و اختاره ابن عطية في تفسيره , قال : " و الحاكم بذلك قوله صلى الله عليه و سلم " أفضل ما قلته أنا و النبيون من قبلي لا اله الا الله وحده لا شريك له " . و على هذا فخير القول لا اله الا الله محمد رسول الله فانها كلمة الاخلاص و بها يحصل الخلاص , انتهى كلامه و الله أعلم . قلت لا حجة للطائفة القائلين بأفضلية الحمد لله على لا اله الا الله . أما قولهم في الحمد لله توحيد و حمد , و في لا اله الا الله توحيد فقط , فلا ينهض حجة . و لقائل أن يقول في لا اله الا الله توحيد و حمد أيضا , و بيانه أن معنى لا اله الا الله نفي نقائص و اثبات كمالات , و الكمالات تستوجب الحمد بلا خلاف و مثبتها حامد , لأن الحمد ثناء و الثناء ذكر و الذكر بالجميل هو الحمد . و اذا كان ذلك كذلك فهي حمد و توحيد و تنزيه , و قد اجتمع فيها ما تفرق في غيرها من التوحيد و التحميد و التنزيه بخلاف غيرها . و أما حجتهم بحديث قوله صلى الله عليه وسلم : " من قال لا اله الا الله كتب له عشرون حسنة " , الخ , " و من قال الحمد لله كتب له ثلاثون حسنة " , فلا دليل فيه , و بيانه ن الثواب انما يترتب على قوله لا اله الا الله , و من لم يقلها لا يكتب له ثواب و لو قال الحمد لله ألف مرة . فيحمل قوله صلى الله عليه وسلم " و من قال الحمد لله كتب له ثلاثون حسنة " , أي مع لا اله الا الله , محتمل لوجهين اما مصاحبة و اما ضمنا لترتب الثواب و العقاب عليها . فتبين من هذا أن ما ترتب من ثواب أو من عدم ثواب ذكر أو عمل أو غير ذلك مما يثاب عليه الا كان معلقا عليها , سواء كان مصاحبة أو ضمنا . فهي أفضل الأذكار على الاطلاق , و الجامعة للأسماء و الصفات بالاتفاق . فان قلت فان كان ذلك كذلك , فما معنى تخصيص العدد بالثلاثين في الحمدلة و العشرين في الهيللة . قلت , يحتمل وجوها و أقربها و الله أعلم , أن لا اله الا الله تضمنت حسنتين , حسنة التنزيه و هو النفي , و حسنة التوحيد و هو الاثبات , و الحسنة بعشر أمثالها , فنبه صلى الله عليه و سلم عليه . و الحمد لله تضمنت حسنة التحميد فهي بعشر , و لا تصح هده العشرة الا اذا تضمنت لا اله الا الله , و هي بعشرين كما تقدم , فاجتمع في الحمدلة ثلاثون . نبه عليه صلى الله عليه وو سلم ترغيبا و اشارة الى توقف الثواب على التوحيد بقول لا اله الا الله , و ما كان خيرا الا بشر به صلى الله عليه و سلم , و ما كان شرا الا أنذر عنه و حذر منه . و يحتمل وجها آخر و هو لا اله الا الله و محمد رسول الله , المتضمن فيها جعل اثبات الألوهية حسنة و أثبات الرسالة حسنة , و الحسنة بعشر , فهي العشرون , و يحتمل الحسنات على عدد الحروف المنطوق بها لا المكتوبة و هي عشرون , للحديث الوارد في تلاوة القرآن , و أن الحرف بعشر الى خمسين . و يحتمل هذه الحسنات الذكورة كليات و لواحدة منها أقلها عشر , و الله تعالى أعلم , و كل ذلك محتمل , حدث عن البحر و لا حرج . فانه صلى الله عليه و سلم معدن البالغة و أساس الفصاحة و أوتي جوامع الكلم و شرب من عين التسنيم . فتعين به أن الكلمة المشرفة أفضل الأذكار على الاطلاق , و لذلك كانت مفتاحا لكل مغلاق . و قوله الحمد لله فيه توحيد و حمد , فلو كان كذلك لكان يقتضي اكتفاء دخول الاسلام به , و لا قائل به بخلاف ما ذكرناه في لا اله الا لله , فانه كله على القياس , و يجاب عنه بان مراده بالتوحيد الضمني , و هو اختصاص المحامد بواحد و هو صحيح , لكن فاته أن ذلك متوقف على اثبات التوحيد الطبقي و هو خاص بلا اله الا الله , و الله أعلم . تنبيه : انما كانت الكلمة المشرفة أفضل الأذكار لأنها دالة على ثبوت الألوهية , و الالوهية هي أعلا مظاهر الذات العلية , اذ لها الحيطة و الشمول على كل مظهر و هي عبارة عن حقائق الأشياء أي الموجودات , و حفظها في مراتبها . و نعني بحقائق الموجودات أحكام المظاهر مع الظاهر فيها , أعني به الحق و الخلق . فشمول المراتب الالهية و جميع المراتب الكونية و اعطاء كل حقه من مرتبة الوجود هو معناها , و لا يكون ذلك الا لذات واجب الوجود تعالى و تقدس . و لما كانت الألوهية اعطاء حقائق الوجود و غيره حقها من الحيطة و الشمول , كانت الأحدية التي هي أعلا الأسماء حقيقة من حقائق الوجود تحت الألوهية , و الواحدية تحت الأحدية , و الرحمانية تحت الواحدية , و الربوبية تحت الرحمانية , و الملكية تحت الربوبية , لأن أعلا مراتب الربوبية في اسمه تعالى الملك . فالألوهية أعلا و لهذا كان اسمه تعالى الله أعلا الأسماء حتى من اسمه الاحد الذي هو أعلاها , فافهم كما تقدم . و الأحدية أخص مظاهر الذات لنفسها , و الألوهية أفضل مظاهر الذات لنفسها و لغيرها , و من ثم منع أهل الحق تجلي الأحدية و لم يمنعوا تجلي الألوهية . فان الأحدية ذات محض لا ظهور لصفة فيها فضلا عن أن يظهر فيها مخلوق فامتنع نسبتها الى المخلوقات من كل وجه . فما هي الا للقديم القائم بذاته , و لا كلام في ذات واجب الوجود , فانه لا يخفى عليه شيء من نفسه , فان كنت أنت هو , فما أنت أنت بل هو هو . و أن كان هو أنت فما هو هو بل أنت أنت . فمن حصل في هذا التجلي , فليعلم أنه من تجليات الواحدية , لأن تجلي الأحدية لا يسوغ فيه ذكر أنت و لا ذكر هو . و اعلم أن الوجود و العدم متقابلان و الألوهية محيطة بهما , لأنها تجمع الضدين من القديم و الحادث و الحق و الخلق و الوجود و العدم . فيظهر فيها الواجب مستحيلا بعد ظهوره واجبا , و يظهر المستحيل فيها واجبا بعد ظهوره مستحيلا , و يظهر الحق فيها بصورة الخلق , مثل قوله صلى الله عليه و سلم " رأيت ربي في صورة شاب أمرد " . و يظهر الخلق بصورة الحق مثل قوله صلى الله عليه و سلم " خلق الله ءادم على صورته " . و على هذا التضاد فانها تعطي كل شيء مما شملته من هذه الحقائق حقه من كمال التنزيه و التشبيه , فلا يدرك لها غاية و لا يعلم لها نهاية , و الى سر الألوهية أشار صلى الله عليه و سلم بقوله " أنا أعرفكم بالله و أشدكم خوفا منه " , فما خاف من الرب و لا من الرحمان و انما خاف من الله تعالى , و اليه الاشارة بقوله " و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم " , على أنه صلى الله عليه و سلم أعرف الموجودات بالله تعالى . و ربما يبرز من ذلك الجناب الالهي لا أدري أي صورة أظهر بها في التجلي الالهي , و لا أظهر الا بما يقتضيه حكمها , و ليس لحكمها قانون لا نقيض له , فافهم .
فهو يعلم و لا يعلم و يجهل و لا يجهل اذ ليس لتجلي الالوهية حد يوقف عليه بالتفصيل , فلا يقع عليها الادراك التفصيلي بوجه من الوجوه لأنه محال أن يكون لله تعالى نهاية , و لا سبيل الى ادراك ما ليس له نهاية , و جلكن اله سبحانه و تعالى قد يتجلى لها على سبيل الكلية و الاجمال , و الكمل متفاوتون في الحظ من ذلك التجلي كل على قدر ما فضل له من ذلك الاجمال , و بحسب ما ذهب اليه الكبير المتعال , و الله أعلم . فالألوهية مشهودة الاثر مفقودة في النظر , يعلم حكمها و لا يرى رسمها , و الذات مرتبة العين مجهولة الاين , ترى عيانا و لا يدرك لها بيانا . ألا ترى أنك اذا رايت رجلا يعلم أنه موصوف مثلا بأوصاف متعددة فتلك الأوصاف الثابتة له انما تقع عليها بالعلم و الاعتقاد أنها فيه و لا شهود لها عينا و أما ذاته فأنت تراها بجملتها عيانا , و جلكن تجهل ما فيها من بقية الأوصاف التي لم يبلغك علمها , اذ يمكن أن يكون لها ألف ألف وصف مثلا و ما بلغك منها الا بعضها . فالذات مرئية و الأوصاف مجهولة و لا نرى من الوصف الا الاثر , أما الوصف فهو الذي لا يرى أبدا البتة مثاله . ما ترى من الشجاع عند المحاربة الا اقدامه , و ذلك أثر الشجاعة لا الشجاعة . و لا ترى من الكريم الا اعطائه , و ذلك أثر الكرم لا نفس الكرم , لأن الصفة كامنة في الذات لا سبيل الى بروزها . فلو جاز عليها البروز لجاز عليها الانفصال عن الذات , و هذا غير ممكن , فافهم , و تقدم أنها ليست غيرها و اله أعلم . فائدة : الأحية تطلب انعدام الأسماء و الصفات مع آثارها و مأثراتها . و الوحدانية تطلب فناء العالم بظهور أسماء الحق و أوصافه . و الربوبية تطلب بقائه و الألوهية تطلب فناء العالم في عين بقائه , و بقاء العالم في عين فنائه . و العزة تستدعي رفع المناسبة بين الحق و الخلق . و القيومية تطلب صحة وقوع النسبة بين الله تعالى و عبده , لأن القيوم من قام بنفسه و قام به غيره , انتهى مع اختصار . فهذه نبذة من علم أصل الحقيقة , ذكرناها على سبيل التبرك باشارة بعض الأحبة , و ان كان يعتاص فهم بعض معانيها , فحسب العقل , المعاشي لا الكلي , المستمد من العقل الأول , فانه يزن بكفتين و يجمع بين الضدين , كما بيناه في غير هذا . فعلى الواقف على مثل هذا الكلام أن لايقابله , ان اعتاص عليه فهمه , بالانكار أولا , فيحرم بركة الاستبصار , و ليقابله بالتصديق لعل الله يفتح بالتحقيق و منه الهداية و به التوفيق و الله أعلم . ثم قال عفا الله عنه :

(ما أفضل تسبيحكم تحميدكم و ما معناه اذكروني أذكركم )

اشتمل البيت على سؤالين . الأول ايما أفضل التسبيح أم التحميد , و هو سبحان الله أو الحمد لله . و الثاني , ما معنى قوله تعالى " اذكروني أذكركم " . و بهما تمام خمسة و أربعين سؤالا . قوله ما أفضل تسبيحكم تحميدكم , أي ما افضل التسبيح و هو سبحان الله م التحميد و هو الحمد لله للذاكر , الخ. التسبيح لغة التنزيه مطلقا , و اصطلاحا تنزيه الحق تعالى عن نقائص الامكان و الحدوث . و التحميد مبالغة في الحمد و هو لغة نقيض الذم , و اصطلاحا الثناء على الجميل من جهة التعظيم عن نعمة و غيرها . الفصل الرابع و الأربعون : في الجواب على قوله ما تسبيحكم تحميدكم الخ , أي أيما أفضل قول الذاكر سبحان الله أو قوله الحمد لله . اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى في الجوهر الخاص : " التحميد أفضل باتفاق الأحاديث كلها , حتى جاء أنه يملأ الميزان . و قد جاء صريحا أن التسبيح يملأ نصفها و التحميد يملأها , كما قال صلى الله عليه و سلم " تعليم التسبيح نصف و الحمد يملأه " , خرجه الامام و الترمذي من حديث رجل من بني سليم , و خرجه مسلم و النسائي و ابن ماجة و غيرهما . و في حديث عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم " الحمد تملأ الميزان و سبحان الله نصف الميزان " , و سبب ذلك و الله أعلم أن التحميد اثبات المحامد كلها لله تعالى , فدخل في الاثبات صفات الكمال و نعوت الجلال كلها . و التسبيح هو تنزيه الله تعالى عن النقائص و العيوب و الآفات . و الاثبات أفضل من السلب و لهذا لم يرد التسبيح الا مجردا , لكن مقرونا بما يدل على اثبات الكمال . فتارة يقرن بالحمد , كسبحان الله و بحمده , و تارة يقرن باسم من أسماء العظمة و الجلال , كسبحان الله العظيم و نحو ذلك , و الله أعلم , انتهى كلامه . قلت ليس معنى التسبيح الا التنزيه و هو عند أهل الحقيقة عبارة عن انفراد القديم بأوصافه و أسمائه و ذاته كما يستحقه لنفسه من نفسه بطريق الأصالة و التعالي , لا باعتبار المحدث ماثله أو شابهه . فانفرد الحق سبحانه و تعالى عن ذلك , و اذا كان ذلك كذلك فلا تفاضل بينه و بين التحميد , لأنه نسبة جالحمد الى الله تعالى , و هو معنى الثناء , و الثناء هو ثناء الله سبحانه و تعالى على ذاته الكريمة بصفاته العلية , ثناء ذاتيا وحدانيا , اذ صفاته الكمالية من ذاته , و لا صفة كمالية على الحقيقة الا هي صفته , و بأفعاله الجليلة كذلك , اذ لا فعل على الحقيقة الا هو فعله , أفعاله مظاهر أسمائه و متنزلات صفاته . فنسبة الأسماء الشريفة و الصفات العلية و الأفعال الجليلة الى الذات الكريمة على سبيل الاختصاص و الانفراد هو التنزيه و هو التحميد . فالمنزه و الحامد بهذا المعنى واحد , و التحميد و التنزيه هو عين المحمود و المنزه فافهم . الا أن يقال فليس بأيدينا من التنزيه الا التنزيه المحدث , و التحقق به التنزيه القديم , لأن التنزيه المحدث ما بازائه نسبة من جنسه , لأن الحق لا يقبل الضد و لا يعلم كيف تنزيهه . فلأجل ذا يقال " تنزيه عن التنزيه " . فتنزيهه تعالى في نفسه لا يعلمه غيره , و لا نعلم الا التنزيه المحدث , لأن اعتباره عند أهل الحقيقة هو تعدي عن حكم كان مكن نسبته اليه فتنزه و لم يكن للحق شبيها ذاتيا يستحق عنه التنزيه , اذ ذاته هي المنزهة في نفسها عما لا يناسب كبريائها . فعلى أي اعتبار كان و في أي تجل ظهر أو بان تشبيهها , كان كقوله صلى الله عليه و سلم " رايت ربي في صورة شاب أمرد " , أو تنزيها كقوله صلى الله عليه و سلم " نورانيا أراه " . فان التنزيه الذاتي له حكم لازم لزوم الصفة لموصوف , و هو في ذلك التجلي على ما استحقه من ذاته لذاته بالتنزيه القديم الذي لا يسوغ الا له , و لا يعرفه غيره كما تقدم . فانفرد تعالى في أسمائه و صفاته و ذاته و مظاهره و تجلياته بحكم قدمه عن كل ما يناسب الى الحدوث و لو بوجه من الوجوه . فلا تنزيهه كالتنزيه الخلقي , و لا تشبيهه كالتشبيه , تعالى و انفرد سبحانه التنزيه الحقي عن التنزيه و التشبيه الخلقي . تنبيه : التسبيح , و هو قول القائل "سبحان الله " , فباطنه استحضار القلب وقوع نسبة التنزيه الى الله جل و علا عن ما لا يليق بجلاله و كرمه , بما نسبته الافهام الباطلة و جرته الأوهام العاطلة , و هو على ثلاثة أقسام . تنزيه الأفعال عما يقتضي المشاركة حتى يحصل اليقين , علما بأن لا فاعل الا الله تعالى . و تنزيه الصفات عما يقتضي التعداد و المماثلة في شيء منها , حتى يحصل للقلب اليقين عيانا بأن لا حي الا الله تعالى و تنزيه الذات عما يقتضي التعداد في الوجود حتى يحصل اليقين تحققا بأن لا موجود الا الله تعالى , فافهم . و التحميد و هو نسبة الحمد الى اله تعالى , و أجمع تركيب فيه الحمد لله . فباطنه استحضار القلب وقوع نسبة المحامد كلها الى الله جل و علا , و ذلك ان حقيقة الحمد هو الثناء , و الله جل وعلا قد أثنى على ذاته الكريمة بصفاته العلية ثناء ذاتيا وحدانيا كما تقدم . فاذا جميع المحامد كلها لله تعالى ما علم منها و ما لم يعلم . ثم ان العبد اذا تحقق بحقيقة الحمد على ما ذكر , تحقق بأن ذاته عين الحمد , اذ هي فعله جل و علا , فيكون هو نفس الحمد . و كذلك جميع الذوات اذ هي فعله تعالى , و
الله جل و علا هو الحامد . و قد يفنى العبد عن اضافته و نسبته و ينتقل عند ذلك من الحمد القولي و العقلي الى الحمد العيني الجوهري المحمول على ذاته محمل هو هو , و يتحقق عند ذلك بقوله صلى الله عليه و سلم " فان الله يقول على لسان عبده سمع الله لمن حمده " . فالله تعالى هو الحامد المحمود فافهم . و افهم قوله عليه السلام " ربنا و لك الحمد " , أي الحمد مصدره منك و عوده اليك , فلم يحمد الله الا الله تعالى , و من هذا كان الحمد أفضل من التسبيح , لأن الحمد حق و خلق و التسبيح الذي هو التنزيه حق فقط و لم نصل اليه لما تقدم , و ما بأيدينا الا التنزيه المحدث الخلقي كما تقدم . فائدة : انما كانت الحمدلة في حديث علي و غيره تملأ الميزان , و السبلة نصفه , و لم تكن أقل و لا أكثر اشارة , و الله أعلم , الى ما ذكر من أن الحمدلة لها مرتبتان الحقية و الخلقية , و السبحلة فلم يكن لها الا مرتبة واحدة فقط و هي الخلقية , و لا وصول للحقية من حيث الخلق , و الله أعلم . فملأت الحمدلة الكفتين من الميزان , أي المرتبتين لجمعيتها بين الحقية و الخلقية , و ملأت الالسبحلة نصفه , كفة واحدة أي مرتبة واحدة . اما حقية لا وصول اليها من الخلقية , أو خلقية لا تشاركها الحقية , فافهم ذلك و الله المستعان , انتهى باختصار , و الله سبحانه و تعالى أعلم . و قوله , و ما معناه أذكروني أذكركم , أي ما معنى قوله تعالى في التنزيل " أذكروني أذكركم " , الآية . فهو أمر من الحق تعالى لجميع خلقه بذكره و قد تقدم معناه لغة و اصطلاحا . و " أذكركم " مضارع فاعله مستتر و مفعول و هو مجزوم بالأمر لنيابته عن الشرط عند الفارسي و السيرافي . و قيل بنفس الامر لتضمنه معنى حرف الشرط عند الخليل و سيبويه , و الجمهور على تقدير أدات الشرط و فعله و هو الأصح . الفصل الخامس و الأربعون : في الجواب على قوله تعالى أذكروني أذكركم , اعلم أنه قال الامام زين الدين رحمه الله تعالى : " ذكر علماء التفسير فيها عشرين وجها . أذكروني بطاعتي , أذكركم

فريدة
25-01-2012, 06:49 PM
مشكور على الكتاب والمجهود الرائع شيخنا وبارك الله فيك

الشيخ درويش عبود المغربى
25-01-2012, 07:01 PM
مشكور شيخنا ابو حسين وبارك الله فيك وعليك وجعله الله ذخرا لك يوم تلقاه

الحسناء
05-02-2012, 05:22 PM
شكرا لك .... بارك الله فيك

مولانا وشيخنا الكريم

وليد البلوشى
18-02-2012, 03:35 PM
مشكور شيخنا ابو حسين وبارك الله فيك وعليك وجعله الله ذخرا لك يوم تلقاه

هاشم
21-02-2012, 02:47 PM
مشكور يا شيخنا وبارك الله فيك

فايزة
04-09-2012, 08:28 PM
شكرا لك .... بارك الله فيك

مايسة عبد الهادى
28-09-2012, 02:58 PM
شكرا للموضوع الرائع
بارك الله فيك وعليك
موفق لكل خير

خيرى السيد
15-09-2014, 06:37 PM
مشكور بارك الله فيك

عبد الرحمن المنصوري
23-04-2017, 11:26 AM
شكرا وجزاكم الله كل خير

اسامه العشرى
19-03-2019, 03:28 PM
مشكوووووور والله يعطيك الف عافيه

صقر البرارى
14-09-2020, 10:42 PM
مشكوووووور والله يعطيك الف عافيه