المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العرفان



سيف من لا سيف له
12-10-2012, 04:50 AM
العرفان






ا

تمهيد
رغم الاختلاف الواقع بين اللّغويين والعلماء والفلاسفة في تحديد المعنى الدّقيق المراد من كلمة "معرفة"، إذ تارةً تُعتبَر مساويةً للعلم، وأخرى تُعرّف بإدراك الحقائق على ما هي عليه، أو تُخصّص بالعلوم الجزئيّة أو تنحصر بالعلم التّجريبي، أو تُشير حيناً إلى العلم الحضوريّ وما إلى ذلك من التّحديدات، إلاّ أنّه يبقى من الشّائع استخدام كلمة "معرفة" للدّلالة على اكتساب فكرة أو حصول علم أو شهود حقيقة ، بحيث أصبح هذا المصطلح دالاًّ على أيّ جديد علميّ يناله الإنسان.


ومن مصدر " عَرَفَ، يعرِفُ، معرفةً " في الّلغة، اشتُقّ مصطلح " العرفان " الّذي اقتصر تداوله في الدّائرة العلميّة والميادين الاختصاصيّة، وظلّ في الّلسان العُرفي والعقل العامّي مُكتَنَفاً بالغموض والإبهام، إن لم نَقُل مُحاطاً بالشّبهات، ومُثيراً حوله الكثير لعرفان
من التّساؤلات والتّكهّنات.


وقولنا "في الدّائرة العلميّة" لا نقصد به العلوم التجريبيّة، وإنما يختصّ بالمعارف الماورائية، إذ إنّ كلّ من استخدم هذا المصطلح وتناوله بالتّفكير أو تداوله بالكتابة أو شاركه بالمباحثة العلميّة أو تعاطاه بالخبرة العمليّة، لم يبرح يدور حول الدّين ويربط العرفان بالوجود الإلهيّ.
من هنا كان لا بدّ في البداية من تحديد علم العرفان موضوعاً ومنهجاً وهدفاً، لاسيّما في المفهوم الإسلامي عامّةً والشّيعي خاصّة، وهو موضوع مقالتنا، فيتسنىّ لنا تمييزه، من بين العلوم الفلسفيّة، عن علوم التصوّف والعقيدة والفقه وغيرها، لنخلُص إلى تقديم نموذج معاصر من مدارس العرفان وهو النّموذج العرفاني المتعالي.


وهل الدين إلاّ المعرفة!


لا ريب أن الهدف الأوحد والغاية القصوى من وجود الإنسان، في المنظور الدّيني عامّةً والإسلامي خاصةً، هو التوّصل إلى معرفة الله التّوحيديّة. يقول الله سبحانه وتعالى في حديثه القدسيّ: " كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن أُعْرَف فخلقتُ الخلقَ لكي أُعْرَف". ويقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) "أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التّصديق به وكمال التّصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له


وليس المُراد بالمعرفة هنا، والّتي تُمثّل الهدف من الخلق وأوّل الدّين، المعرفة المفهوميّة الفكريّة وهي إعتباريّة إدّعائيّة، بل هو ضربٌ آخر من المعرفة وهي الحقيقية الوجوديّة، المعروفة على لسان الإبستمولوجيّين بالعلم الحضوري، بحيث ينال العالِمُ عينَ المعلوم وحقيقتَه عن طريق حضور المعلوم بوجوده وكيانه لدى العالِم، لا بمفهومه أو صورته أو بفكرة عنه، الّذي هو مناط العلم الحصولي والمعرفة الإرتساميّة. وفرقٌ كبيرٌ بين المعرفتين، حيث يُشبّهه العلماء بالفرق بين من يقرأ عن العسل ويحلّل خصائصه وفوائده تحليلاً عقليّاً، ومن يتذوّقه ويتغذّى به ويستفيد من خصائصه.


من هنا يغدو واقع معرفة الله التوحيديّة، وفق هذا النّمط الحقيقي من المعرفة، حالة قربٍ من الله يُحصّلها العبد بعلاقته ووصاله مع الوجود والحياة، عندما تفيض عليه من كمالاتها التي لا تنفد وصفاتها التّي لا تُعدّ، بعد أن يُهيّء أرضه ويُعدّها لاستقبال الفيوضات والبركات الالهيّة، فيعيش في كنف الحياة آمناً مُطمئنّاً مُستهدياً، ليُمثّل بمرآتيّته آية الله التّامة وخليفته الأوحد وعبده الأوفى.


إنّ هذه المعرفة العالية بل المُتعالية، الآخذة بوجود الإنسان تكاملاً وترقيّاً، نفساً وروحاً وعقلاً، بل فعلاً وصفاتاً وذاتاً، والّتي تترعرع في جنبات الشخصيّة الإنسانيّة وتحيا في صميم وجوده التي تمثّل حقيقته وهويته، إنما هي ثمرة التلاقح ما بين فطرة الإنسان والوحي الإلهي المُنزل.


أما فطرته فهي تلك القابليّة المغروسة في خلقته وأصل جبلّته، والتي تبعث فيه الشوق للحياة والوجود أصله ومبدأه، فينجذب نحوه طالباً إياه مستخدماً قواه الممنوحة إليه من قدرة واختيار وإرادة وتصميم، مُستعيناً بقوّة عقليّة وموهبة قلبيّة، فتكون الفطرة أوّل أداة يستخدمها الإنسان في تفعيل معارفه بالحياة والواقع، "فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ
وأمّا الاستماع إلى الوحي الإلهي فيتمثّل بقبول الرّسالة الإلهية وتلقّي الفيوضات الربّانيّة، حيث أنّ الله سبحانه بعد أن أودع في الإنسان هذه الفطرة التي تقوده إلى معرفة الحياة الحقّة، بعث إليه رسالاته التي تُمثّل يداً ممدودة لخلقه، تحمل خريطة طريق العَوْدُ


(مصدر من عاد يعود عَوْدة وعَوْداً) إليه والرّجوع إلى حضرته.


فَغَدا الدّين منهجاً حياتياً متكاملاً، إن أخذ به الإنسان وسار على هداه، يوصله الى مبتغاه الحقيقي ويحقّق له الهدف الأسمى من وجوده، الذّي حدّدته الآية المباركة:
"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ


من هنا يفسّر العرفاء العبادة في هذه الآية بالمعرفة الحقيقيّة الواقعيّة، بحيث يصبح معناها: وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ "ليعرفونِ".


وبهذه المعرفة الحضوريّة والعلم الشّهودي الحقّاني يصبح الإنسان عالَماً عقلياً مضاهياً للعالَم العيني، كما قال صدر المتألهين
في مقدمة كتابه الأسفار الأربعة، ويقصد من ذلك أنّ الإنسان ذلك الكون الجامع، والعالم الصّغير الذي انطوى فيه العالم الأكبر إذ يحتوي وجوده على جميع مراتب العالم الخارجي من المرتبة الأدنى المادّية الجسمانيّة إلى مرتبة النّفس والمثال إلى مرتبة الرّوح والتّجرّد بل إلى مرتبة الأسماء والتّأله، يصبح بفضل تلك المعرفة الحقّة حائزاً على كمالات الوجود كلّها بعد أن منحته الحياة إيّاها، فيغدو عالَما متكاملاً يمثّل آية ربّه وصورة خالقه ومظهر كمالاته ومجلى صفاته.
وهو إن احتاج باجتماعه أن يعبّر عن هذه االمعرفة النابضة في قلبه وقلب الوجود كلّه استخدم قوّته الذّهنيّة واعتباره العقلي ليشير بأفكارٍ ومفاهيم عن حقائق حيّة نالها بوجوده وعاشها بكيانه.


النّفس مرآة الرّب

ولمّا كان وجود الإنسان وهو الخليفة الإلهية، "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرِض خَلِيْفَةًوحامل الأسماء الربّانيّة، "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا


مشتملاً على مراتب الوجود كلّها، غَدَت معرفته لنفسه طريقاً واضحاً ومسلكاً قويماً ومنهجاً رشيداً لمعرفة الوجود كلّه. ففي الحديث الشريف: "من عرف نفسه فقد عرف ربّه


، و"من عرف نفسه تألّه"


وللمعرفة هنا وجهتان: فإمّا أن يشهد الإنسان ضعفه وهوانه وقلّة حيلته وعجزه ويعاين فقره وعبوديّته، ويبصر جهله، فيخاطبه ضمير الفطرة المغروسة في وجوده الحيّ وعقله المتبصّر بأنك أيّها الإنسان تعلم أنّك لم تكن ثم كنت ولم تكوّن نفسك ولا كوّنك من هو مثلك*، فيتأجّج الألم في جنباته وتستعر نار الشّوق في كيانه، فيهرب من ضعفه إلى القويّ الذي لا ضعف عنده، ويفرّ من عجزه إلى القادر الذي لا عجز يكتنفه، ويلجأ من فقره إلى الغنيّ الذي لا فقر لديه، ويعتصم من نقصه بالكامل الذي لا نقص يطاله، ويتعلّق قلبه بالمحبّ الّذي لا طريق للبغض إليه، فيلوذ بالحياة حيث لا موت، ويحتمي بالوجود حيث لا عدم، فهو من معاينة عبوديته ارتبط بالرّبوبيّة، كما يقول الحديث:
"العبوديّة جوهرة كنهها الرّبوبيّة


وإمّا أن يجعل معرفة النّفس طريقاً إلى معرفة الربّ، بأن يشهد أنّ مياه النّهر التي شربها من النّبع فاضت، وأمواج البحر التي لاعبها من البحر هاجت، وأشعة الشّمس التي تمتّع بها من قرص الشّمس تلألأت، فيُعيد كلّ ما عاينه في وجوده إلى أصله، فيشهد أنّه ليس هو المستحقّ له، فتذوب إرادته بإرادة ربّه، وتفنى عزّته في عزّة خالقه، ويُرجع كرمه إلى الكريم بذاته، ويُعيد الرحمة إلى رحم الوجود الرّحمان الرّحيم... فيصير عبداً فانياً موحّداً يرى نفسه آيةً تعكس في مرآتها جمال خالقها ومالكها، "سَنُرِيْهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"


يقول السّيّد محمّد حسين الطّباطبائيّ: "فالدّين الفطريّ إنما يَعتبر عرفان النّفس ليتوصّل به إلى السّعادة الإنسانيّة التي يدعو إليها، وهي معرفة الإله الّتي هي المطلوب الأخير عنده،
وبعبارة أخرى الدّين إنّما يدعو الى عرفان النّفس دعوة طريقيّة لا غائيّة، فإنّ الذّوق الدّيني لا يرتضي الاشتغال بأمرٍ إلاّ في سبيل العبوديّة... من هنا يظهر أنّ معرفة النّفس تنتهي الى أصلٍ دينيّ فطريّ، إذ ليس هو بنفسه أمراً مستقلاً تدعو إليه الفطرة الإنسانيّة حتى تنتهي فروعه وأغصانه الى أصل واحد هو المعرفة الفطريّة، فمعرفة النّفس ذريعة لمعرفة الربّ... فتكون النّفس طريقاً مسلوكاً والله سبحانه هو الغاية التي يُسلك إليها، وإنّ الى ربّك المُنتهى

علم العرفان بين النّظري والعملي

والسّؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: كيف السّبيل إلى تلك المعرفة وذلك العلم، بل إلى ذاك المقام الإلهيّ الذّي لا يناله مخلوقٌ سوى الإنسان، لما حباه الله من موهبة وفطنة وكياسة مدعمّة باختيار وإرادة ربانيّتين؟ وما هو الطّريق الحقّ والصّراط الأقوم، بل النّهج الأمثل، الذي سيكشف للإنسان عن هدفه الأعلى ويريه إيّاه ويقوده نحوه؟


إنّ علم العرفان من بين سائر العلوم هو الذّي اعتنى بالمعرفة الإلهيّة موضوعاً وغايةً. وينقسم إلى نظريّ وعمليّ. يقوم العرفان النّظري، أو ما يُعرف بعلم الإلهيات، على البحث والدّراسة والممارسة الفكريّة، ويعمل على تفعيل وعي الإنسان بحيث يُحصِّل معرفةً واقعيةً بالله وصفاته وأفعاله ويتنوّر قلبه بعلم حقيقيّ بمبدئه ومعاده، مستعيناً بالقوة العقليّة التي منحه الله إيّاها سالكاً الأسلوب العقلي البرهاني المؤدّي إلى اليقين، وذلك للتصديق بمعطى الوحي والإيقان به، مع تفاعل قلبي وشهود وجداني تحت مِظلّة الوحي ورعاية الكلام الإلهي، يتفاعل عقل الإنسان مع قلبه وحقيقته وسرّه لمشاهدة الواقع كما هو من أعلى مراتبه إلى أدناها.
أمّا العرفان العملي التّطبيقي فيبحث في طريق السّفر إلى الله تعالى وكيفية طيّه وإتمامه (السّير) ومكاشفة معالم منازله (السّلوك). وهو يعمل على قيادة الإنسان وسَوقه نحو الواقع المُشاهَد والمكشوف، فيتمحور موضوعه حول المنازل التي يقطعها الإنسان في سيره وسلوكه نحو ربّه وكيفية تحصيلها وعيشها ويحذّر من العقبات التي تواجهه في رحلته تلك وكيفية تخطّيها وإزالتها كما يكشف عن أسرار عباداته والحقائق المبتغاة من ورائها.


العرفان وعلاقته بالعلوم الفلسفيّة

قد يتمّ الخلط أحياناً بين العرفان وبعض العلوم لاسيّما عند غير المتخصّصين، فتتداخل العلوم وتختلط المسائل لديهم.


من هذه العلوم: الفلسفة؛ إذ من المعلوم أنّه كمصطلح استُعمِل بشكل متنوّع أضرّ بتحديده وبَعُد عن تعريفه العلمي الدّقيق، والحقّ أنّه لا يشير الى علم محدّد وموضوع مخصّص، بل هو يشمل عدداً من العلوم غير التّجريبيّة كالمنطق وعلم المعرفة وعلم الوجود وعلم الإلهيّات وعلم الأخلاق وعلم الفنّ وعلم الجمال وغيرها. وعليه، لا يصح الخلط بين الفلسفة والعرفان.
ومن هذه العلوم أيضاً علم الأنتولوجيا الّذي يتناول بالدّراسة والتّحليل الوجود بشكلٍ مطلق، ويبحث عن أحواله ويبيّن أحكامه، العامّة منها والخاصّة. وبالتّالي فهو لا يمتّ الى العلوم الدّينية بصِلة أصلاً ولا يتعرض للوجود الإلهي بأيّ حكم، بل جلّ اهتمامه يتمحور حول تمييز الموجود من المعدوم والواقعي من اللاواقعي. فموضوع علم الوجود هو الوجود المطلق ومنهجيّته البرهان العقلي وغايته تمييز الحقّانيّ من الوهميّ، بغضّ النّظر عن أيّة مرتبة من مراتب الوجود سواء الجسمانيّ أو النفسيّ او الإلهيّ.


أما فيما خصّ علم الفقه أو ما يُعرف بعلم الشّريعة، فلا أساس موضوعي للخلط بينه وبين علم العرفان، إذ إنّ علم الفقه يتناول أفعال المكلفين موضوعاً، فيبحث في الحدود الإلهيّة لجميع العبادات والمعاملات واضعاً القوانين، موضّحاً واجبات الإنسان تجاه ربّه والّتي تعلو بإنسانيّته وتحفظها، ومحدِّداً ما يَحرم على الإنسان القيام به لأنه يمسّ بإنسانيّته ويهين كرامة الله فيه. ويستند علماء الفقه في ذلك كلّه على الآيات القرآنية والروايات الواردة عن النبيّ وأهل بيته، معتمدين منطقاً أصولياً خاصاً، له قواعده وأصوله المُحكمة. ولا يتعرّض الفقه في مسائله لمعرفة الذّات الإلهية أو العلم بأسمائها وصفاتها وأفعالها لانتفاء هذه الأمور عن موضوعه الخاص.


كما أنّعلم العقيدة المشهور بعلم الكلام يبحث في أصول العقيدة الإسلاميّة، متعاطياً معها كمسلّمات يصدّق بها عقله الدّيني الموروث تصديقاً لا يقبل التّساؤل أو النّقاش، مدافعاً عنها في وجه العقائد المخالفة، معتمداً منهج الجدل للإثبات أو الدفاع، مستشهداً للإستدلال على مطلوبه بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة. في حين أنّ العرفان ينظر الى معطيات الوحي كقضايا يقينيّة يطلب العقل التصديق بها عن يقين لا عن تسليم، ويرنو القلب الى مكاشفتها عن حقّ لا عن تقليد.


وأمّا علم الإله أو ما يُعرف بالعلم الإلهيّ أو الحكمة الإلهيّة أو المعرفة الرّبوبيّة، فهو عين علم العرفان النظري الشامخ من حيث الموضوع والأسلوب والغاية، والّذي يتكفّل التعريف بالذّات الالهيّّة وحضراتها، ليتكفّل العرفان الشامخ العملي بتوضيح كيفيّة التقرّب منها والوصول الى مشاهدتها في آياتها المنتشرة في الكون أجمع.


وأمّا علم الإلهيّات فيشمل إلى جانب الرّبوبيّة النّبوّة والإمامة والمعاد.


العرفان وعلاقته بالتّصوّف

إنّ علماء العرفان والتّصوّف، وإن كانا يهدفان إلى المعرفة الإلهيّة، إلاّ أنّهما يفترقان في الأساليب والطّرق التّربوية الرّوحية ومصادرها، بالإضافة إلى المسلكيّات الإجتماعيّة والتّصرّفات العامة. يقول الشّهيد مرتضى مطهري: "عندما يُراد الإشارة إلى أهل العرفان من النّاحية الفكرية فإنّه يُطلق عليهم اسم "العرفاء"، وإذا كان المراد الإشارة إلى النّاحية الإجتماعية فإنهم يُعرفون بعنوان "المتصوفة
فالتّصوّف تتّصف به المذاهب والفرق التي تمارس طقوساً عباديّة ورياضات قلبيّة، بهدف تطهير النّفس وترويض القلب، فينحصر بالتّطبيقات العمليّة بعيداً عن التّنظير العقلي ومعطيات الوعي.
أمّا العرفان الكلاسيكي، ويقابله الحقيقي أو الشّامخ أو المتعالي، فيُطلق على علم نظريّ هو علم معرفة الله، كما تعرّف عليه العرفاء باختبارهم الشخصي.
ويُعتبر الاختلاف في النّظرة الى الوجود والكينونة، المؤدّي إلى فهم الواقع الإلهي بين العرفان الكلاسيكي والعرفان الشامخ من أهم الفروقات التي تُميِّز هذَيْن النَهْجَيْن، مما ترك أثره وبصماته على مسلكيّة كلٍّ من الفرقتين. فالعارف الكلاسيكي لا يعترف إلا بوجود الذّات الإلهيّة موجوداً واحداً، لا ثاني له في الوجود وكلّ ما دونه أو سواه أو غيره سراب وخيال تحت نظريّة وحدة الوجود والموجود مطلقاً، في محاولة منه لتنزيه الذّات الإلهية وتقديسها عن الشريك والمثل، وحصر الوجود بها وقصر الكون والتحقق الأصيل عليها.


وانطلاقاً من هذه النّظرة الى الله تعالى والتّي لا تَعتَرف إلاّ بالّذات موجوداً حقّاً، فقد عمِل المتصوّف على الاقتراب من الذّات والفناء فيها من خلال الانعزال عن الخلق والزّهد الظّاهري بالدّنيا، فلجأ إلى طقوس اجتماعيّة خاصّة تقوم على التّقشّف والخلوة، واستعان بالأذكار والريّاضات القلبيّة، فجافى عباد الله ليختلي وحده مع ربّه منكراً خلقه،


في حين أنّ العارف الشامخ، والّذي ينطلق من نظريّة وجوديّة تُثبت حقّانيّة الموجودات بحقّانيّة خالقها، وتقول بوحدة الوجود في عين كثرته وبكثرته في عين وحدته، بناء على نظرية التّشكيك الوجودي المتعالي، والذي يرى في الذّات الإلهيّة الوجود الأصل والمنبع، وبفيضها وإشراقها وتنزّلها الوجود الظلّي والنّهر الجاري. فليست تلك المياه الجارية إلاّ من ذلك النّبع الأصيل، فأثبت وجوداً وتحقُّقاً بل أصالة للذات الإلهية في كل مراتبها، ولم ينكر لله فعله، بل يرى جميع المخلوقات آيات دالّة عليه سبحانه وعلى جماله وكماله وحُسنه وبهائه، وعلامات كاشفة عن إبداعه ولُطفه وحكمته: "توحيده تمييزه عن خلقه وحُكم التّمييز بينونة صفة لا بينونة عُزلة"


عاش بين الناس متألّهاً وعلى الأرض سماويّاً وعاشر العباد ربّانيّاً، فتسامى بلا تجافٍ عن الخلق، وتعالى بلا تخلٍّ، وترقّى دونما انعزال. فلم يلجأ إلى الممارسات الخاصّة والطّقوس الظّاهريّة والزّهد القشري، كما فعل المتصوّف، بل عاش مع الله تعالى في خلقه، وشاهده في آياته، فلم تُعمه الكائنات عن مكوّنها ولم تحجبه الآية عن ذِيها (أي صاحبها، "ذو" من الأسماء الخمسة)، كما أنّه لم يراها منفصلةً عن بارئها حتى ينفيها، وتوسّل الى ذلك بالعلم والوعي الحقّانيّين وبالعبادات والممارسات المنصوص عليها في الرسالة النبويّة دونما أيّة زيادات أو نقصانات.


العرفان المتعالي فرع الوحيّ الإلهيّ المجيد

لماّ كانت المعرفة العالية للربّ المتعال، أصل الوجود ومنبع الحياة والجود، قد خُطَّّت أطرها ووُضِّحت معالمها في الرّسالات السّماوية، وتجلّت في أتمّ وأكمل حُلّة لها في الرّسالة النّبويّة الخاتمة النّازلة بالوحي الإلهيّ على قلب العبد الأوحد والإنسان الأكمل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد حملها وحفظها وتابعها عنه أوصياؤه الأئمّة من أهل بيته (عليهم السلام)، فقد مثّلت هذه الرّسالة الأساس والأصل الذّي انطلق منه الحكماء المتألّهون والعرفاء الشامخون على مختلف أذواقهم وتنوّع مشاربهم، ليشيّدوا أبنية العلوم السّاعية إلى شرح تفاصيل، وتوضيح معان، ووضع مسارات، وخطّ مسالك الوصول إلى تلك المعارف الحقّة، فجاء العرفان مرتبطاً إرتباطاً وثيقاً بالإسلام.


وظلّ العرفان عبر العصور رابطاً نفسه أشدّ الإرتباط بالمصدر الأساس للمعارف الإلهيّة، وبالعروة الوثقى للعلوم الربانيّة ألا وهو الكلام الإلهيّ والوحي الربّانيّ المتجلّي في القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشّريفة ونهج أهل البيت.


واقتصر جلّ عَمَله على استخراج الجواهر الإلهيّة من هذه الكنوز، واستكشاف الأسرار الخفيّة من تلك المخازن الغنيّة، فبقي العرفان مُطهّراً من التّدخلات البشريّة ومُنزّهاً من الآراء الشخصيّة، وبرح معتصماً بالمصادر الإلهيّة ملتزماً بالينابيع الأصليّة، لا تسليماً أعمى وتماشياً إرثياً، بل وعى تلك المعارف وعياً دقيقاً، وفهمها فهماً عميقاً، ودخلت وجدانه وكيانه، إيماناً منه أنه لا تناقض ولا اختلاف في الواقع بين ما يَكشف الوحي عنه وما يَتوصّل إليه العقل أو يكاشفه القلب، فالواقع واحد والسُبُل إليه ملتقيّة عليه، والحقيقة واحدة متأحّدة يكشف عنها الكلام الإلهي ويصل إليها العقل الربّانيّ ويعيشها القلب المتألّه.


هذه المبدئية في التمسّك بالأصول التي حافظ عليها العرفان المتعالي هي التي وجّهت منهجيّته، وخطّت أسلوبه، وحدّدت خريطته في رسم طريق الإنسان ومسلكيّته أثناء رحلته نحو ربّه وعياً وتطبيقاً، علماً وعملاً، اعتقاداً وممارسة، إذ أن النّهج الدّيني الإسلامي المرتكز على الوحي الإلهي نهجٌ حياتيّ واقعيّ يحاكي الوجود الإنساني بحقيقته، ويعمل على تكميله في جميع نواحي وجوده، فهو يتكفّل بهدي الإنسان الى معرفة الله تعالى والإيقان به وتوحيده والإخلاص له لا معرفة منفصلة عن حياته مقطوعة التأثير عن واقعه وإنّما معرفة حيّة تنبض في عقله وتحيا في أخلاقه وتظهر في مسلكيّته، إنّها معرفة كفيلة في توجيه بوصلة أهدافه وطموحاته إلى كلّ ما يلائم إنسانيّته ويناسب كماله وسعادته، فيغدو مُبصراً لآيات الله في جميع ما يحيط به قارئاً كلماته في كل ما يجري معه مستمعاً إلى ندائه في سائر ما يدور حوله.


إنّ العارف المتعالي يبحث عن الله في تفاصيل حياته ويعيش معه في أفعاله ومخلوقاته فيخافه خيفة المحبّ ويهابه مهابة المشتاق ويحبّه محبّة المتّقي ويراعي حرمته ويحفظ كرامته ويُعلي كلمته ويحترم حدوده في الأزهار والأشجار في الفراشات والأطيار مع الأشرار والأبرار مع الأعداء والأخيار على مدار اللّيل والنّهار وفي الإعلان والإسرار، يقول مولى العارفين الامام عليّ بن أبي طالب:"
ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيتُ الله قبله ومعه وبعده وفيه
فليس للسّالك على طريق المعرفة الإلهيّة نمطاً خاصاً في الحياة يتميّز به عن سائر أبناء مجتمعه، بل هو يعيش حياته كسائر الخلق يتمتع بما متّعه الله به شاكراً عطاءه ونعمه متقرّباً إليه في مأكله ومشربه وملبسه، طالباً إيّاه في دراسته وتحصيله سالكاً نحوه في جدّه وعمله وكسبه

.
 
.


ربما هذه محاولة بسيطة جداً لتعريف العرفان، وبشكل يستفيد منه الكل، حيث وللأسف نرى الغموض يلف هذا العلم، فيوصف رجاله مرة بأنهم فلاسفة، ومرة متألهين، ومرة علماء نفس وغيرها

.

سوف يكون جوابنا على الكثير من التساؤلات على شكل نقاط أو مستويات :

المستوى الأول : العرفان هو علم باطني، أي ليس من علوم الظاهر المعتمدة على الدراسات المادية، بل هو علم باطني يستند على المعنويات في الوصول إلى هدفه، حيث يكون اعتماد الوصول فيه على الروح، فيكون هو طريق روحي للإنسان.. وبهذا يختلف عن الفلسفة باعتبارها علم عقلي، ويختلف عن الروحان باعتباره علم باطني، ولكن الروحان هو الاتصال بالحق عن طريق المخلوقات الأخرى..
فيكون العرفان هو الاتصال بالحق تعالى عن طريق الروح.

المستوى الثاني : العرفان عبارة عن السير بالمقامات المعنوية : كالتوكل، والتسليم، والرضا، والشكر، والمحبة، والعشق... حيث يكون إجمالاً السير بهذه المستويات، هو عرفاناً أو جزء من العرفان.. وهذه المقامات وإن حسبت على السفر الأول إلا أنها لها محبوها ومريدوها، ويكون السير فيها أيضاً سيراً باطنياً، أفضل من الاقتصار على ظواهر الأشياء.

المستوى الثالث : العرفان هو طريق معرفة النفس، وكما قيل : (من عرف نفسه عرف ربه)، فيكون هو طريق التحلي بالفضائل : كالإخلاص، وصفاء النية، والإيثار، وغيرها.. والتخلي عن الرذائل، ومعالجة أمراض النفس : كالرياء، والعجب، والتكبر، وغيرها.

المستوى الرابع : العرفان هو السلوك إلى الله تعالى، والوصول إلى مقام الخلوص، أي الإخلاص لله في العبادات دون شك أو ريب، والدخول إلى عالم الله الحقيقي، فيكون مستوى العبادة عبادة الأحرار، أي لا طمعاً في الجنة، ولا خوفاً من النار، بل لأنه وجد الله تعالى أهلاً للعبادة فعبده.

المستوى الخامس : العرفان هو معرفة حقائق الأشياء، ورؤية الأشياء على واقعها الحقيقي التي دارت عليها الأشياء.

المستوى السادس : العرفان هو المسير المعنوي نحو الحق تعالى، وذلك بتصفية القلب.. وكما قيل أن الله تعالى : (لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)، حيث يهتم بتصفية القلب من الشوائب الدنيوية، وتهيئته لنزول المعارف الإلهية.

المستوى السابع : العرفان هو المسير بالأسفار الأربعة، وهي كالتالي :

السفر الأول : من الخلق إلى الحق.
السفر الثاني : من الحق إلى الحق.
السفر الثالث : من الحق إلى الخلق.
السفر الرابع : من الخلق إلى الخلق.

فيكون المسير بهذه الأسفار وبهذه الكيفية هو العرفان.

فالسالك : هو أي سائر في هذا الطريق، ولكن الكثير من العرفاء خصصوه على كل إنسان سائر في السفر الأول.
والعارف : هو كل إنسان دخل السفر الثاني، وهو سفر لا متناهي، حيث هو يكون من الحق إلى الحق.
والشيخ : وهو من أتم الأسفار الأربعة، ودخل إلى السفر الرابع، مع استمرار مسيره بالسفر الثاني.. فالشيخ في الباطن، هو أعلى من العارف بالدقة الباطنية.
حيث أن من مختصات هذا المستوى، هو أن يسير السالك بمعرفة مربي أو شيخ أو أستاذ، وكما قيل (من لا شيخ له، فشيخه الشيطان).

فهذه سبعة مستويات من العرفان، والواقع هي أكثر من ذلك بكثير، إلا أن هذا هو أبسط المستويات العرفانية، حيث يتداخل مع الكثير من العلوم الإسلامية، كعلم الأخلاق مثلاً -، وعلم الفقه، وغيرها.

بقي شيء واحد، وهو ما هو الطريق لدخول هذا العالم؟..
الجواب : هو شيئين هما :
النية الصافية ولو بقدر بسيط.
الإخلاص لله تعالى.
ثم يأتي التوفيق من الله تعالى إلى عبده بتوفير سبل السير والسلوك.
__________________

منقوووووووووووووول

الشيخ درويش عبود المغربى
12-10-2012, 09:52 AM
مشكور الفاضل سيف على الطرح الطيب وبارك الله فيك وعليك

زخارى
12-10-2012, 04:28 PM
الف مبروك شيخنا الكريم المغربى على افتتاح هذه المملكة الجديدة فى المنتدى والذى يعود على الاعضاء بالنفع الكبير من حيث انشطتهم ومشاركتهم فى المواضيع وبارك الله فيك على الطرح الطيب والى الامام دوما ولمزيد من الرقى والتقدم للمنتدى بمشيئة الله

جنة
12-10-2012, 06:23 PM
مشكور شيخنا الكريم على الطرح الطيب والف مبروك افتتاح المملكة الجديدة والى الامام دائما لتطوير ورقى منتدانا ان شاء الله

هاشم
12-10-2012, 06:56 PM
ما شاء الله شيخنا ربنا يزيد ويبارك وكل يوم تزود النا مملكة (ابتسامة)
وشكرا على الطرح الطيب امد الله لنا فى عمرك شيخنا بكل خير وصحة وعافية

شكرى
12-10-2012, 09:41 PM
مبارك شيخنا افتتاح المملكة الجديدة نسأل الله عز وجل ان تكون فى نفع الاعضاء ورقى المنتدى وبارك الله فيك على الموضوع والطرح

ظفار العدوى
12-10-2012, 10:23 PM
جزاك الله عنا خير الجزاء شيخنا وشكرا على الطرح الطيب

نسائم الرحمن
13-10-2012, 08:50 AM
مبارك علينا شيخنا افتتاح المملكة الجديدة وبمشيئة الله تكون فاتحة خير علينا جميعا وشكرا على الطرح الطيب والممتع

شاهنده الميرغنى
13-10-2012, 02:35 PM
مشكور على النقل الطيب بارك الله فيك وعليك ولا تحرمنا من المزيد
لي بس طلب يسيط لو سمجت تغير لون الفقرة الثالثة لانها تتعب البصر (لان بصري على قدي) ***** :cool:

مركوش
19-10-2012, 05:41 PM
جزيل الشكر للمواضيع المميزة وبارك الله فيكم جميعا وشكرا للقائمين على المنتدى وشيخنا الفاضل عبود المغربى كل عام وانتم جميعا بخير

وعد المحبة
20-10-2012, 02:37 PM
شكرا وبارك الله فيكم جميعا على المواضيع المفيدة والرائعة وعيدكم مبارك ان شاء الله