|
بتاريخ : 09-02-2012 الساعة : 08:36 AM
رقم
#15
كاتب الموضوع :
علي العذاري
|
شاملى مميز
|
المقالة التاسعة
في صدور الأشياء عن التدبير الأول والمعاد إليه
سبعة فصول
الفصل الأول (ا)
فصل في صفة فاعلية المبدأ الأول.
فقد ظهر لنا أن للكل مبدأ واجب الوجود، غير داخل في جنس أو واقع تحت حد أو برهان، بريء عن الكم والكيف والماهية و الأين و المتى والحركة، لا ند له ولا شريك له ولا ضد له، وأنه واحد من جميع الوجوه؛ لأنه غير منقسم: لا في الأجزاء بالفعل ولا في الأجزاء بالفرض والوهم كالمتصل، ولا في العقل بأن تكون ذاته مركبة من معان عقلية متغايرة تتحد منها جملة؛ وأنه واحد من حيث هو غير مشارك ألبته في وجوده الذي له، فهو بهذه الوحدة فرد، وهو واحد لأنه تام الوجود ما بقي له شيء ينتظر حتى يتم، وقد كان هذا أحد وجوه الواحد. وليس الواحد فيه إلا على الوجه السلبي، ليس كالواحد الذي للأجسام، لاتصال أو اجتماع، أو غير ذلك مما يكون الواحد فيه بوحدة هي معنى وجودي يلحق ذاتا أو ذواتا. وقد أتضح لك فيما سلف من العلوم الطبيعية وجود قوة غير متناهية غير مجسمة، وأنها مبدأ الحركة الأولية، وبان لك أن الحركة المستديرة ليست متكونة تكونا" زمانيا"، وقد بان لك من هناك من وجه ما أنه مبدأ دائم الوجود. وقد بان لك بعد ذلك أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته، وأنه لا يجوز أن تستأنف له حالة لم تكن، مع إنه قد بان لك إن العلة لذاتها تكون موجبة المعلول، فإن دامت أوجبت المعلول دائما". ولو اكتفيت بتلك الأشياء لكفاك ما نحن في شرحه، إلا أنا نزيدك بصيرة. فنقول: إنك قد علمت إن كل حادث فله مادة، فإذا كان لم يحدث ثم حدث لم يخل، إما أن تكون علتا الفاعلية والقابلية لم تكونا فحدثتا، أو كانتا، ولكن كان الفاعل لا يحرك والقابل لا يتحرك، أو كان الفاعل ولم يكن القابل، أو كان القابل ولم يكن الفاعل. ونقول قولا مجملا قبل العود إلى التفصيل، إنه إذا كانت الأحوال من جهة العلل كما كانت ولم يحدث ألبته أمر لم يكن، كان وجوب كون الكائن عنها، أولا وجوبه، على ما كان؛ فلم يجز أن يحدث كائن ألبته. فإن حدث أمر لم يكن، فلا يخلو:
الصفحة : 197
إما أن يكون حدوثه على سبيل ما يحدث، لحدوث علته دفعة، لا على سبيل ما يحدث لقرب علته أو بعدها. أو يكون حدوثه على سبيل ما يحدث لقرب علته أو بعدها. فأما القسم الأول فيجب أن يكون حدوثه لحدوث العلة ومعها غير متأخر عنها ألبته؛ فإنه إن كانت العلة غير موجودة ثم وجدت، أو موجودة وتأخر عنها المعلول، لزم ما قلناه في الأول من وجوب حادث آخر غير العلة، فكان ذلك الحادث هو العلة القريبة. فإن تمادى الأمر على هذه الجهة، وجبت علل وحوادث دفعة غير متناهية، ووجبت معا، وهذا مما عرفنا الأصل القاضي بإبطاله، فبقي أن لا تكون العلل الحادثة كلها دفعة لا لقرب من علة أولى أو بعد. فبقي أن مباديء الكون تنتهي إلى قرب علل أو بعدها، وذلك بالحركة. فإذن قد كان قبل الحركة حركة، وتلك الحركة أوصلت العلل إلى هذه الحركة، فهما كالمتماسين، وإلا رجع الكلام إلى الرأس في الزمان الذي بينهما. وذلك أنه إن لم تماسه حركة كانت الحوادث الغير المتناهية منها في آن واحد، إذ لا يجوز أن تكون في آنات متلاقية متماسة، فاستحال ذلك، بل يجب أن يكون واحد قد قرب في ذلك الآن بعد بعد، أو بعد قرب؛ فيكون ذلك الآن نهاية حركة أولى؛ تؤدي إلى حركة أخرى، أو أمر آخر، فإن أدت إلى حركة أخرى وأوجبت، كانت الحركة التي هي كعلة قريبة لهذه الحركة مماسة لها. والمعنى في هذه المماسة مفهوم، على أنه لا يمكن أن يكون زمان بين حركتين ولا حركة فيه، فإنه قد بان لنا في الطبيعيات أن الزمان تابع للحركة، ولكن الاشتغال بهذا النحو من البيان يعرفنا إن كانت حركة قبل حركة، ولا يعرفنا أن تلك الحركة كانت علة لحدوث هذه الحركة اللاحقة. فقد ظهر ظهورا واضحا أن الحركة لا تحدث بعد ما لم تكن إلا لحادث، وذلك الحادث لا يحدث إلا بحركة مماسة لهذه الحركة، ولا تبالي أي حادث كان ذلك الحادث: كان قصدا من الفاعل، أو إرادة، أو علما، أو آلة، أو طبعا، أو حصول وقت أوفق للعمل دون وقت، أو حصول تهيؤ أو استعداد من القابل لم يكن، أو وصول من المؤثر لم يكن؛ فإنه كيف كان، فحدوثه متعلق بالحركة لا يمكن غير هذا. ولنرجع إلى التفصيل فنقول: إن كانت العلة الفاعلية والقابلية موجودتي الذات، ولا فعل ولا انفعال بينهما، فيحتاج إلى وقوع نسبة بينهما توجب الفعل والانفعال. أما من جهة الفاعل، فمثل إرادة موجبة للفعل، أو طبيعة موجبة للفعل، أو آلة أو زمان. وأما من جهة القابل، فمثل استعداد لم يكن:
الصفحة : 198
أو من جهتيهما جميعا مثل وصول أحدهما إلى الآخر. وقد وضح أن جميع هذا بحركة ما وأما إن كان الفاعل موجودا ولم يكن قابل ألبته، فهذا محال: أما أولا؛ فلأن القابل كما بينا لا يحدث إلا بحركة أو اتصال فيكون قبل الحركة حركة. وأما ثانيا، فإنه لا يمكن أن يحدث ما لم يتقدمه وجود القابل، وهو المادة، فيكون قد كان القابل حتى حدث القابل. وأما إن وضع أن القابل موجود والفاعل ليس بموجود، فالفاعل يحدث ويلزم أن يكون حدوثه بعلة ذات حركة على ما وصفناه. وأيضا مبدأ الكل ذات واجبة الوجود، وواجب الوجود واجب ما يوجد عنه، وإلا فله حال لم يكن فليس واجب الوجود من جميع جهاته. فإن وضعت الحال الحادثة لا في ذاته، بل خارجة عن ذاته كما يضع بعضهم الإرادة، فالكلام على حدوث الإرادة عنها ثابت، هل هو بإرادة أو طبع، أو لأمر آخر أي أمر كان؟ ومهما وضع أمر حدث لم يكن؛ فإما أن يوضع حادثا في ذاته، وإما غير حادث في ذاته، بل على أنه شيء مباين لذاته، فيكون الكلام ثابتا. وأن حدث في ذاته، كان ذاته متغيرا، وقد بُيّن أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته. وأيضا إذا كان هو عند حدوث المباينات عنه كما كان قبل حدوثها، ولم يعرض ألبته شيء لم يكن، وكان الأمر على ما كان ولا يوجد عنه شيء، فليس يجب أن يوجد عنه شيء بل يكون الحال والأمر على ما كان. فلا بد من مميز لوجوب الوجود عنه، وترجيح للوجود عنه بحادث متوسط لم يكن حين كان الترجيح للعدم عنه، وكان التعطل عن الفعل حاله، وليس هذا أمرا خارجا عنه؛ فإنا نتكلم في حدوث الحادث عنه نفسه بلا واسطة أمر يحدث فيحدث به الثاني، كما يقولون في الإرادة والمراد. والعقل الصريح الذي لم يكدر يشهد أن الذات الواحدة إذا كانت من جميع جهاتها كما كانت، وكان لا يوجد عنها فيما قبل شيء، وهي الآن كذلك، فالآن أيضا لا يوجد عنها شيء. فإذا صار الآن يوجد عنها شيء، فقد حدث في الذات قصد وإرادة، أو طبع، أو قدرة وتمكن، أو شيء مما يشبه هذا لم يكن. ومن أنكر هذا، فقد فارق مقتضى عقله لسانا ويعود إليه ضميرا؛ فإن الممكن أن يوجد وأن لا يوجد، لا يخرج إلى الفعل ولا يترجح له أن يوجد إلا بسبب؛ وإذا كانت هذه الذات التي للعلة كما كانت ولا تترجح، ولا يجب عنها هذا الترجيح، ولا داعي ولا مصلحة ولا غير ذلك، فلا بد من حادث موجب
الصفحة : 199
للترجيح في هذه الذات إن كانت هي العلة الفاعلية، وإلا كانت نسبتها إلى ذلك الممكن على ما كان قبل، ولا تحدث لها نسبة أخرى؛ فيكون الأمر بحاله، ويكون الإمكان إمكانا صرفا بحاله. وإذا حدث لها نسبة فقد حدث أمر، ولا بد من أن يحدث لذاته وفي ذاته، فانها إن كانت خارجة عن ذاته كان الكلام ثابتا، ولم تكن هي النسبة المطلوبة؛ فإنا نطلب النسبة الموافقة لوجود كل ما هو خارج عن ذاته بعد ما لم يكن أجمع، كأنها جملة واحدة وفي حال ما لم يوجد شيء، و إلا فقد أخرج من الجملة شيء ونظر في حال ما بعده. فإن كان مبدأ النسبة مباينا له، فليست هي النسبة المطلوبة؛ فإذن الحادث الأول يكون على هذا القول في ذاته، لكنه محال فكيف يمكن أن يحدث في ذاته شيء وعمن يحدث؟ وقد بان أن واجب الوجود بذاته واحد، فيرى أن ذلك غير الحادث منه فيكون ليست النسبة المطلوبة؛ لأنا نطلب النسبة الموجبة لخروج الممكن الأول إلى الفعل، أهي عن واجب وجود آخر؟ وقد قيل إن واجب الوجود واحد. وعلى أنه إن كان عن آخر، فهو العلة الأولى والكلام فيه ثابت، ثم كيف يجوز أن يتميز في العدم وقت ترك ووقت شروع؟ وبماذا يخالف الوقت الوقت؟ وأيضا، إذ بان أن الحادث لا يحدث الا لحدوث حال في المبدأ؛ فلا يخلو إما أن يكون حدوث ما يحدث عن الأول بالطبع، أو بعرض فيه عن غير الإرادة، أو بالإرادة؛ إذ ليس بقسري ولا اتفاقي. فإن كان بالطبع، فقد تغير الطبع، أو كان بالعرض فقد تغير العرض. وإن كان بالإرادة، فلنترك أنها حدثت فيه أو مباينة له، بل نقول: إما أن يكون المراد نفس الإيجاد، أو غرضا، ومنفعة بعده، فإن كان المراد نفس الإيجاد لذاته فلم لم يوجد قبل؟ أتراه استصلحه الآن؟ أو حدث وقته؟ أو قدر عليه الآن؟ ولا معنى فيما يقوله القائل: إن هذا السؤال باطل؛ لأن السؤال في كل وقت عائد، بل هذا سؤال حق لأنه في كل وقت عائد ولازم وإن كان لغرض ومنفعة، فمعلوم أن الذي هو للشيء بحيث كونه ولا كونه بمنزلة فليس لغرض، والذي هو للشيء بحيث كونه منه أولى فهو نافع؛ والحق الأول كامل الذات لا ينتفع بشيء. وأيضا فإن الأول بماذا سبق أفعاله الحادثة؟ أبذاته؟ أم بالزمان؟ فإن كان بذاته فقط مثل الواحد للاثنين - وإن كانا معا - وحركة المتحرك - بأن يتحرك بحركة ما يتحرك عنه وإن كانا معا - فيجب أن يكونا كلاهما محدثين: الأول القديم، والأفعال الكائنة عنه وإن كان قد سبق لا بذاته فقط بل بذاته والزمان بأن كان وحده ولا عالم ولا حركة. ولا شك أن لفظة " كان " تدل على أمر مضى وليس الآن، وخصوصا ويعقبه قولك ثم، فقد كان كون قد
الصفحة : 200
مضى قبل أن خلق الخلق، وذلك الكون هو متناه، فقد كان إذن زمان قبل الحركة والزمان؛ لأن الماضي إما بذاته وهو الزمان، وإما بالزمان وهو الحركة وما فيها وما معها؛ فقد بان لك هذا. فإن لم يسبق بأمر هو ماض للوقت الأول من حدوث الخلق فهو حادث مع حدوثه، وكيف لا يكون سبق على أوضاعهم بأمر ما للوقت الأول من الخلقة، وقد كان ولا خلق، وكان وخلق؟ وليس " كان ولا خلق " ثابتا عند كونه " كان وخلق " ولا " كونه قبل الخلق " ثابت " مع كونه مع الخلق " وليس " كان ولا خلق " نفس وجوده وحده؛ فإن ذاته حاصلة بعد الخلق، ولا " كان ولا خلق " هو وجوده مع عدم الخلق بلا شيء ثالث؛ فإن وجود ذاته حاصل بعد الخلق، وعدم الخلق موصوف بأنه قد كان وليس الآن. وتحت قولنا: " كان " معنى معقول دون معقول الأمرين؛ لأنك إذا قلت: " وجود ذات وعدم ذات " لم يكن مفهوما منه السبق، بل قد يصح أن يفهم معه التأخر؛ فإنه لو عدمت الأشياء صح وجوده وعدم الأشياء، ولم يصح أن يقال لذلك " كان " بل إنما يفهم السبق بشرط ثالث، فوجود الذات شيء، وعدم الذات شيء، ومفهوم كان شيء موجود غير المعنيين، وقد وضع هذا المعنى للخالق ممتدا لا عن بداية، وجّوز فيه أن يخلق قبل أي خلق توهم فيه خلقا. فإذا كان هكذا، كانت هذه القبيلة مقدرة مكمّمة، وهذا هو الذي نسميه الزمان؛ إذ تقديره ليس تقدير ذي وضع ولا ثبات، بل على سبيل التجدد. ثم إن شئت فتأمل أقاويلنا الطبيعية؛ إذ بينا أن ما يدل عليه معنى " كان ويكون " عارض لهيئة غير قارة، والهيئة غير القارة هي الحركة؛ فإذا تحققت علمت أن الأول إنما سبق الخلق عندهم ليس سبقا مطلقا، بل سبقا بزمان معه حركة وأجسام أو جسم. وهؤلاء المعطلة الذين عطلوا الله عن وجوده لا يخلو: إما أن يسلموا أن الله كان قدرا قبل أن يخلق الخلق، أن يخلق جسما ذا حركات بقدر أوقات وأزمنة تنتهي إلى وقت خلق العالم، أو يبقى مع خلق العالم ويكون له إلى وقت خلق العالم أوقات وأزمنة محدودة، أو لم يكن للخالق أن يبتديء الخلق إلا حين ابتدأ. وهذا القسم الثاني يوجب انتقال الخالق من العجز إلى القدرة، أو انتقال المخلوقات من الامتناع إلى الإمكان بلا علة. والقسم الأول يقسم عليهم قسمين، فيقال: لا يخلو إما أن يكون كان يمكن أن يخلق الخالق جسما غير ذلك الجسم إنما ينتهي إلى خلق العالم بمدة وحركات أكثر، أو لا يمكن. ومحال أن لا يمكن؛ لما بيناه. فإن أمكن فإما أن يمكن خلقه مع خلق ذلك الجسم الأول الذي ذكرنا قبل
الصفحة : 201
هذا الجسم، أو إنما يمكن قبله. فإن أمكن معه فهو محال؛ لأنه لا يمكن أن يكون ابتداء خلقين متساويي الحركة في السرعة و البطء، ويقع بحيث ينتهيان إلى خلق العالم، ومدة أحدهما أطول من الآخر. وإن لم يمكن معه، بل كان إمكانه مباينا له، متقدما عليه، أو متأخرا عنه، يقدر في حال العدم إمكان خلق شيْ ولا إمكانه، وذلك في حال دون حال، وقع ذلك متقدما و متأخرا، ثم ذلك إلى غير نهاية؛ فقد وضح صدق ما قدمناه من وجود حركة لا بدء لها في الزمان، وإنما البدء لها من جهة الخالق، وإنها هي الحركات السماوية، فيجب أن يعلم أن العلة القريبة للحركة الأولى نفس لا عقل، وأن السماء حيوان مطيع لله تبارك وتعالى.
الفصل الثاني (ب)
فصل في أن المحرك القريب للسماويات لا طبيعة ولا عقل، بل نفس، والمبدأ الأ بعد عقل.
فنقول: إنا قد بينا في الطبيعيات أن الحركة لا تكون طبيعية للجسم على الإطلاق، والجسم على حالته الطبيعية، إذا كان كل حركة بالطبع مفارقة بالطبع لحالة، والحالة التي تفارق بالطبع هي حالة غير طبيعية لا محالة؛ فظاهر أن كل حركة تصدر عن طبع فمن حالة غير طبيعية، ولو كان شيء من الحركات مقتضى طبيعة الشيء لما كان شيء من نسب الحركات باطل الذات مع بقاء الطبيعة، بل الحركة إنما تقتضيها الطبيعة لوجود حال غير طبيعية: إما في الكيف، كما إذا سخن الماء بالقسر، وإما بالكم كما يذبل البدن الصحيح ذبولا مرضيا، وإما في المكان كما إذا نقلت المدرة إلى حيز الهواء؛ وكذلك إذا كانت الحركة قد تكون في مقولة أخرى، والعلة في تجدد حركة بعد حركة تجدد الحال الغير الطبيعية، وتقدير البعد عن الغاية. فإذا كان الأمر على هذه الصفة لم تكن حركة مستديرة عن طبيعة، وإلا كانت عن حالة غير طبيعية إلى حالة طبيعية، وإذا وصلت إليها سكنت، ولم يجز أن يكون فيها بعينها قصد إلى تلك الحالة الغير الطبيعية؛ لأن الطبيعة ليست تفعل باختيار، بل على سبيل التسخير، وسبيل ما يلزمها بالذات؛ فإن كانت الطبيعة تحرك على سبيل الاستدارة فهي تحرك لا محالة: إما من أين غير طبيعي، أو وضع غير طبيعي، هربا طبيعيا عنه؛ وكل هرب طبيعي عن شيء فمحال أن يكون هو بعينه قصدا طبيعيا إليه، والحركة المستديرة تفارق كل نقطة، وتتركها، وتقصد في تركها تلك النقطة، وليست تهرب عن شيء
الصفحة : 202
إلا وتقصده، فليست إذن الحركة المستديرة طبيعية. إلا إنها قد تكون بالطبع - أي ليس وجوده في جسمها مخالفا لمقتضى طبيعة أخرى بجسمها - فإن الشيء المحرك لها وإن لم يكن قوة طبيعية كان شيئا" طبيعيا" لذلك الجسم غير غريب عنه؛ فكأنه طبيعته. وأيضا فإن كل قوة فإنما تحرك متوسط الميل، والميل هو المعنى الذي يحس في الجسم المتحرك، وإن سكن قسرا أحس ذلك الميل فيه يقاوم المسكن مع سكونه طلبا للحركة، فهو غير الحركة لا محالة، وغير القوة المحركة؛ لأن القوة المحركة تكون موجودة عند إتمامها الحركة ولا يكون الميل موجودا؛ فهكذا أيضا الحركة الأولى؛ فإن محركها لا يزال يحدث في جسمها ميلا بعد ميل، وذلك الميل لا يمتنع أن يسمى طبيعة، لأنه ليس بنفس، ولا من خارج، ولا له إرادة أو اختيار، ولا يمكنه أن لا يحرك، أو يحرك إلى غير جهة محدودة، ولا هو مع ذلك مضاد لمقتضى طبيعة ذلك الجسم الغريب، فإن سميت هذا المعنى طبيعة كان لك أن تقول: إن الفلك يتحرك بالطبيعة، إلا أن طبيعته فيض عن نفس يتجدد بحسب تصور النفس؛ فقد بان أن الفلك ليس مبدأ حركة طبيعية، وكان قد بان أنه ليس قسرا، فهي عن إرادة لا محالة. ونقول: إنه لا يجوز أن يكون مبدأ حركته القريب قوة عقلية صرفة لا يتغير ولا يتخيل الجزئيات ألبتة. وكأنا قد أشرنا إلى جمل مما تعين في معرفة هذا المعنى في الفصول المتقدمة، وأوضحنا أن الحركة معنى متجدد النسب، وكل شطر منه مخصص بنسب فإنه لا ثبات له، ولا يجوز أن يكون عن معنى ثابت ألبتة وحده، فإن كان عن معنى ثابت فيجب أن يلحقه ضرب من تبدل الأحوال؛ أما إن كانت الحركة عن طبيعة فيجب أن تكون كل حركة تتجدد فيه فلتجدد قرب وبعد من النهاية، ولولا ذلك التجدد لم يكن تجدد حركة؛ فإن الثابت من جهة ما هو ثابت لا يكون عنه إلا ثابت. وأما إن كانت عن إرادة فيجب أن تكون عن إرادة متجددة جزئية؛ فإن الإرادة الكلية نسبتها إلى كل شطر من الحركة نسبة واحدة؛ فلا يجب أن تتعين منها هذه الحركة دون هذه، فإنها إن كانت لذاتها علة لهذه الحركة لم يجز أن تبطل هذه الحركة، وإن كانت علة لهذه الحركة بسبب حركة قبلها أو بعدها معدومة كان المعدوم موجبا لموجود، والمعدوم لا يكون موجبا لموجود، وإن كان قد تكون الأعدام علة للأعدام. وأما أن يوجب المعدوم شيئا فهذا لا يمكن.
الصفحة : 203
وإن كانت علة لأمور تجدد، فالسؤال في تجددها ثابت. فان كان تجددا طبيعيا" لزم المحال الذي قدمناه، وإن كان إراديا" يتبدل بحسب تصورات متجددة فهو يثبت الذي نريده. فقد بان أن الإرادة العقلية الواحدة لا توجب ألبتة حركة، ولكن قد يمكن أن يتوهم أن ذلك لإرادة عقلية منتقلة؛ فإنه قد يمكن أن ينتقل العقل من معقول إلى معقول آخر، إذا لم يكن عقلا من كل جهة بالفعل، ويمكن أن يعقل الجزئي تحت النوع منتشرا" مخصوصا" بعوارض، عقلا بنوع كلي على ما أشرنا إليه؛ فيجب إذن أن يتوهم وجود عقل يعقل الحركة الكلية ويريدها، ثم يعقل انتقاله من حد إلى حد، ويأخذ تلك الحركات وحلولها بنوع معقول على ما أوضحناه، وعلى ما من شأننا أن نبرهن عليه من أن حركة من كذا إلى كذا فهو من كذا إلى كذا؛ فتعين مبدأ ما كليا إلى طرف آخر كلي بمقدار ما، موهوم كلي، وكذلك حتى تفنى الدائرة؛ فلا يبعد أن يتوهم أن تجدد الحركة يتبع تجدد هذا المعقول فنقول: ولا على هذا السبيل يمكن أن يتم أمر الحركة المستديرة؛ فإن هذا التأثير على هذا الوجه يكون صادرا عن الإرادة الكلية، وإن كانت على سبيل تجدد وانتقال، والإرادة الكلية كيف كانت فإنما هي بالقياس إلى طبيعة مشترك فيها؛ وإن كانت إرادة لحركة تتبعها إرادة لحركة، وأما هذه الحركة التي من ههنا بعينه إلى هناك بعينه فليست أولى بأن تصدر عن تلك الإرادة من هذه الحركة التي من هناك إلى حد ثالث؛ فنسبة جميع أجزاء الحركة المتساوية في الجزئية إلى واحد واحد من تلك الإرادات الجزئية العقلية المنتقلة واحدة، وليس جزء من ذلك أولى بأن ينسب إلى واحد من تلك التصورات من أن لا ينسب، فنسبته إلى مبدئه ولا نسبته واحدة؛ فإنه بعد عن مبدئه ولم يتميز، ولم يترجح وجوده عن لا وجوده، وكل ما لم يجب عن علته فإنه لا يكون كما قد علمت. وكيف يصح أن يقال: إن الحركة من " ا " إلى " ب " لزمت عن إرادة عقلية، والحركة من " ب " إلى " ج " من إرادة أخرى عقلية، دون أن يلزم عن كل واحدة من تلك الإرادات غير ما لزم من الأخرى، ويكون بالعكس فإن " ا " و " ب " و " ج " متشابهة بالنوع، وليس شيء من الإرادات الكلية بحيث يعين " ا " دون " ب " و " ب " دون " ج " وليس " الألف " أولى بأن يتعين من " الباء " و " الجيم " عن تلك الإرادة ما كانت عقلية، ولا " الباء " من " الجيم " إلا أن تصير نفسانية جزئية، وإذا لم تتعين تلك الحدود في العقل بل كانت حدودا كلية فقط، لم يمكن أن توجد الحركة من " أ " إلى " ب " أولى من التي من " ب " إلى " ج " ولا " الألف " أولى بأن يتعين من " ب " و " ج " عن تلك الإرادة ما كانت عقلية، ولا " الباء " من " الجيم ".
الصفحة : 204
ثم كيف يمكن أن نفرض فيها إرادة وتصورا، ثم إرادة وتصورا يختلفان في أمر متفق، ولا استناد فيه إلى مخصص شخص يقاس به؟ ومع هذا كله فإن العقل لا يمكنه أن يفرض هذا الانتقال إلا مشاركا للتخيل والحس ولا يمكننا إذا رجعنا إلى العقل الصريح أن نعقل جملة الحركة وأجزاء الانتقال العقلي فيما نعقله دائرة معا، فإذن على الأحوال كلها لا غنى عن قوة نفسانية تكون هي المبدأ القريب للحركة، وإن كنا لا نمنع أن يكون هناك أيضا قوة عقلية تنتقل هذا الانتقال العقلي بعد استناده إلى شبه تخيل، وأما القوة العقلية مجردة عن جميع أصناف التغير فتكون حاضرة المعقول دائما، إن كان معقوله كليا عن كلي، أو كليا عن جزئي، على ما أوضحناه. فإذا كان الأمر على هذا، فالفلك يتحرك بالنفس، والنفس مبدأ حركته القريبة، وتلك النفس متجددة التصور والإرادة، وهي متوهمة: أي لها إدراك للمتغيرات كالجزئيات وإرادة لأمور جزئية بأعينها، وهي كمال جسم الفلك وصورته. ولو كانت لا هكذا، بل قائمة بنفسها من كل وجه، لكانت عقلا محضا لا يتغير ولا ينتقل ولا يخالطه ما بالقوة. والمحرك القريب للفلك وإن لم يكن عقلا، فيجب أن يكون قبله عقل، هو السبب المتقدم لحركة الفلك؛ فقد علمت أن هذه الحركة محتاجة إلى قوة غير متناهية، مجردة عن المادة لا تتحرك بالذات ولا بالعرض. وأما النفس المحركة فإنها - كما تبين لك - جسمانية مستحيلة ومتغيرة وليست مجردة عن المادة، بل نسبتها إلى الفلك نسبة النفس الحيوانية التي لنا إلينا، إلا أن لها أن تعقل بوجه ما تعقلا مشوبا" بالمادة؛ وبالجملة تكون أوهامها أو ما يشبه الأوهام صادقة وتخيلاتها أو ما يشبه التخيلات حقيقة، كالعقل العملي فينا. وبالجملة إدراكاتها بالجسم ولكن المحرك الأول لها قوة غير مادية أصلا بوجه من الوجوه. وإذ ليس يجوز أن يتحرك بوجه من الوجه في أن يحرك، وإلا لاستحالت ولكانت مادية - كما قد تبين هذا - فيجب أن يحرك كما يحرك محرك بتوسط المحرك الآخر، وذلك الآخر محاول للحركة مريد لها متغير بسببها، وهذا هو النحو الذي يحرك عليه محرك المحرك. والذي يحرك المحرك من غير أن يتغير بقصد واشتياق فهو الغاية، والغرض الذي إليه ينحو المحرك، وهو المعشوق، والمعشوق بما هو معشوق هو الخير عند العاشق؛ بل نقول: إن كل متحرك حركة غير قسرية فهي هي إلى أمر ما، ولتشوق أمر ما، حتى الطبيعة أيضا؛ فإن شوق الطبيعة أمر طبيعي، وهو الكمال الذاتي للجسم: إما في صورته، وإما في أينه ووضعه؛ وشوق الإرادة أمر إرادي، إما إرادة لمطلوب حسي كاللذة، أو وهمي خيالي كالغلبة، أو ظني وهو الخير المظنون. فطالب اللذة هو الشهوة،
الصفحة : 205
وطالب الغلبة هو الغضب، وطالب الخير المظنون هو الظن، وطالب الخير الحقيقي المحض هو العقل؛ ويسمى هذا الطلب اختيارا". والشهوة والغضب غير ملائم لجوهر الجسم الذي لا يتغير ولا ينفعل؛ فإنه لا يستحيل إلى حال غير ملائمة، فيرجع إلى حال ملائمة، فيلتذ أو ينتقم من مخيل له فيغضب. وعلى أن كل حركة إلى لذيذ أو غلبة فهي متناهية. وأيضا" فإن أكثر المظنون لا يبقى مظنونا" سرمديا". فوجب أن يكون مبدأ هذه الحركة اختيارا" وإرادة لخير حقيقي، فلا يخلو ذلك الخير: إما أن يكون مما ينال بالحركة فيتوصل إليه، أو يكون خيرا" ليس جوهره مما ينال بوجه، بل هو مباين؛ ولا يجوز أن يكون ذلك الخير من كمالات الجوهر المتحرك فينال بالحركة، وإلا لانقطعت الحركة، ولا يجوز أن يكون يتحرك ليفعل فعلا يكتسب بذلك الفعل كمالا، كما من شأننا أن نجود لنمدح، ونحسن الأفعال ليحدث لنا ملكة فاضلة، أو نصير خيرين، وذلك ن المفعول يكتسب لإكماله من فاعله، ومحال أن يعود فيكمل جوهر فاعله، فإن كمال المعلول أخس من كمال العلة الفاعلة، والأخس لا يكسب الأشرف والأكمل كمالا، بل عسى أن يهىء الأخس للافضل آلته ومادته حتى يوجد هو في بعض الأشياء عن سبب آخر. وأما نحن فإن المدح الذي نطلبه ونرغب فيه هو كمال غير حقيقي بل مظنون، والملكة الفاضلة التي نحصلها بالفعل ليس سببها الفعل، بل الفعل يمنع ضدها و يهيء لها. وتحدث هذه الملكة من الجوهر المكمل لأنفس الناس - وهو العقل الفعال - أو جوهر آخر يشبهه؛ وعلى هذا فإن الحرارة المعتدلة سبب لوجود القوى النفسانية، ولكن على أنها مهيئة للمادة لا موجدة، وكلامنا في الموجد، ثم بالجملة إذا كان الفعل مهيئا" ليوجد كمالا انتهت الحركة عند حصوله. فبقي أن يكون الخير المطلوب بالحركة خيرا" قائما" بذاته ليس من شأنه أن ينال، وكل خير هذا شأنه فإنما يطلب العقل التشبه به بمقدار الإمكان؛ والتشبه به هو تعقل ذاته في كمالها، فيصير مثله، في أن يحصل له الكمال الممكن له في ذاته كما حصل لمعشوقه، فيوجب البقاء الأبدي على أكمل ما يكون لجوهر الشيء في أحواله ولوازمه كمالا لذلك، فما كان يمكن أن يحصل كماله الأقصى له في أول الأمر تم تشبهه به بالثبات، وما كان لا يمكن أن يحصل كماله الأقصى له في أول الأمر تم تشبهه به بالحركة. وتحقيق هذا هو أن الجوهر السماوي قد بان أن محركه يحرك عن قوة غير متناهية. والقوة التي لنفسه الجسمانية متناهية، لكنهما - بما يعقل الأول فيسنح عليها من نوره وقوته دائما - تصير كأن له قوة غير متناهية؛ فلا يكون له قوة غير متناهية، بل للمعقول الذي يسنح عليه من نوره وقوته، وهو - أعني
الصفحة : 206
الجرم السماوي - في جوهره على كماله الأقصى إذ لم يبق له في جوهره أمر بالقوة، وكذلك في كمه وكيفه، إلا في وضعه أو أينه أولا، وفيما يتبع وجودهما من الأمور ثانيا"، وإنه ليس أن يكون على وضع أو أين أولى بجوهره من أن يكون على وضع أو أين آخر له في حيزه؛ فانه ليس شيء من أجزاء مدار فلك أو كوكب أولى بأن يكون ملاقيا" له لجزئه من جزء آخر. فمتى كان في جزء بالفعل فهو في جزء آخر بالقوة، فقد عرض لجوهر الفلك ما بالقوة من جهة وضعه أو أينه، والتشبه بالخير الأقصى يوجب البقاء على أكمل كمال يكون للشيء دائما"، ولم يكن هذا ممكنا" للجوهر السماوي بالعدد؛ فحفظ بالنوع والتعاقب، فصارت الحركة حافظة لما يمكن من هذا الكمال؛ ومبدؤها الشوق إلى التشبه بالخير الأقصى في البقاء على الكمال الأكمل بحسب الممكن، ومبدأ هذا الشوق هو ما يعقل منه، وأنت إذا تأملت حال الأجسام الطبيعية في شوقها الطبيعي إلى أن يكون بالفعل أينا" لم تتعجب أن يكون جسم يشتاق شوقا إلى أن يكون على وضع من أوضاعه التي يمكن أن تكون له، أو إلى أن يكون على أكمل ما يكون له من كونه متحركا، وخصوصا" ويتبع ذلك من الأحوال والمقادير الفائضة ما يتشبه فيه بالأول تعالى من حيث هو مفيد للخيرات، لا أن يكون المقصود تلك الأشياء فتكون الحركة لأجل تلك الأشياء، بل أن يكون المقصود هو التشبه بالأول تعالى - بقدر الإمكان - في أن يكون على أكمل ما يكون في نفسه، وفيما يتبعه من حيث هو تشبه بالأول، لا من حيث هو يصدر عنه أمور بعده حتى تكون الحركة لأجل ذلك بالمقصود الأول، كلا. وأقول: إن نفس الشوق إلى التشبه بالأول من حيث هو بالفعل تصدر عنه الحركة الفلكية صدور الشيء عن التصور الموجب له، وإن كان غير مقصود في ذاته بالقصد الأول؛ لأن ذلك تصور لما بالفعل فيحدث عنه طلب لما بالفعل الأكمل، ولا يمكن بالشخص فيكون بالتعاقب وهو الحركة؛ لأن الشخص الواحد إذا دام لم يحصل لأمثاله وجود، وبقيت دائما" بالقوة. والحركة تتبع أيضا" ذلك التصور المقصود على هذا النحو، لا على أن تكون مقصودة أولية وإن كان ذلك التصور الواحد يتبعه تصورات جزئية - ذكرناها وفصلناها - على سبيل الانبعاث لا على سبيل المقصود الأول، وتتبع تلك التصورات الجزئية الحركات المنتقل بها في الأوضاع، والجزء الواحد بكماله لا يمكن في هذا الباب فيكون الشوق الأول على ما ذكرنا، ويكون سائر ما يتلوه انبعاثات، وهذه الأشياء قد يوجد لها نظائر بعيدة في أبداننا ليست تناسبها، وإن كانت قد تخيلها وتحكيها، مثل ان الشوق إذا اشتد إلى خليل، أو إلى شيء آخر، تبع ذلك فينا تخيلات على سبيل الانبعاث، يتبعها حركات ليست
الصفحة : 207
الحركات التي نحو المشتاق نفسه، بل حركات نحو شيء في طريقه وفي سبيله وأقرب ما يكون منه. فالحركة الفلكية كائنة بالإرادة والشوق على هذا النحو، وهذه الحركة مبدؤها شوق واختيار ولكن على النحو الذي ذكرناه، ليس أن تكون الحركة مقصودة بالقصد الأول؛ وهذه الحركة كأنها عبادة ما ملكية أو فلكية، وليس من شرط الحركة الإرادية أن تكون مقصودة في نفسها، بل إذا كانت القوة الشوقية تشتاق نحو أمر يسنح منها تأثير يحرك الأعضاء؛ فتارة يتحرك على النحو الذي يوصل به إلى الغرض، وتارة على نحو آخر مشابه أو مقارب له إذا كان عن تخيل، سواء كان الغرض أمرا" ينال، أو أمرا" يقتدى به ويحتذى حذوه ويتشبه بوجوده. فإذا بلغ الالتذاذ بتعقل المبدأ الأول، وبما يعقل منه أو يدرك منه على نحو عقلي أو نفساني، شغل ذلك عن كل شيء وكل جهة، لكنه ينبعث عن ذلك ما هو أدون مرتبة منه، وهو الشوق إلى التشبه به بمقدار الإمكان، فيلزم طلب الحركة لا من حيث هي حركة، ولكن من حيث قلنا؛ ويكون هذا الشوق يتبع ذلك العشق والالتذاذ منبعثا" عنه، وهذا الاستكمال منبعثا" عن الشوق، فعلى هذا النحو يحرك المبدأ الأول جرم السماء. وقد اتضح لك من هذه الجملة أيضا"، أن المعلم الأول إذا قال: إن الفلك متحرك بطبعه فماذا يعني؛ أو قال: إنه متحرك بالنفس فماذا يعني؛ أو قال: متحرك بقوة غير متناهية تحرك كما يحرك المعشوق، فماذا يعني، وأنه ليس في أقواله تناقص ولا اختلاف. ثم أنت تعلم أن جوهر هذا الخير المعشوق الأول واحد، ولا يمكن أن يكون هذا المحرك الأول الذي لجملة السماء فوق واحد، وإن كان لكل كرة من كرات السماء محرك قريب يخصها، ومتشوق ومعشوق يخصها على ما يراه المعلم الأول ومن بعده من محصلي علماء المشائين؛ فإنهم إنما ينفون الكثرة عن محرك الكل، ويثبتون الكثرة للمحركات المفارقة وغير المفارقة التي يختص واحدا واحدا منها؛ فيجعلون أول المفارقات الخاصة محرك الكرة الأولى، وهي عند من تقدم بطليموس كرة الثوابت، وعند من تعلم العلوم التي ظهرت لبطليموس كرة خارجة عنها غير مكوكبة، وبعد ذلك محرك الكرة التي تلي الأولى بحسب اختلاف الرأيين، وكذلك هلم جرا. فهؤلاء يرون أن محرك الكل شيء واحد، ولكل كرة بعد ذلك محرك خاص. والمعلم الأول يضع عدد الكرات المتحركة على ما كان ظهر في زمانه، ويتبع عددها عدد المباديء المفارقة. وبعض من هو أسد قولا من أصحابه يصرح ويقول - في رسالته التي في مباديء الكل - إن محرك جملة السماء
الصفحة : 208
واحد لا يجوز أن يكون عددا" كثيرا"، وإن كان لكل كرة محرك ومتشوق يخصانها. والذي يحسن عبارته عن كتب المعلم الأول على سبيل تلخيص، وإن لم يكن يغوص في المعاني، يصرح ويقول ما هذا معناه: إن الأشبه والأحق وجود مبدأ حركة خاصة لكل فلك على أنه فيه، ووجود مبدأ حركة خاصة له على أنه معشوق مفارق. وهذان أقرب قدماء تلامذة المعلم الأول من سواء السبيل. ثم القياس يوجب هذا، فإنه قد صح لنا بصناعة المجسطي أن حركات وكرات سماوية كثيرة ومختلفة في الجهة وفي السرعة والبطء، فيجب لكل حركة محرك غير الذي للآخر ومشوق غير الذي للآخر؛ وإلا لما اختلفت الجهات، ولما اختلفت السرعة والبطء. وقد بينا أن هذه المتشوقات خيرات محضة مفارقة للمادة، وإن كانت الكرات والحركات كلها تشترك في الشوق إلى المبدأ الأول، فتشترك لذلك في دوام الحركة وإستدارتها ونحن نزيد هذا بيانا".
الفصل الثالث (ح)
فصل في كيفية صدور الأفعال من المبادئ العالية.
ليعلم من ذلك ما يجب أن يعلم من المحركات المفارقة المعقولة بذاتها المعشوقة ولنحقق هذا البيان، ولنفتتح من مبدأ آخر فنقول: إن قوما" لما سمعوا ظاهر قول فاضل المتقدمين إذ يقول: إن الاختلاف في هذه الحركات وجهاتها يشبه أن يكون للعناية بالأمور الكائنة الفاسدة التي تحت كرة القمر، وكانوا سمعوا أيضا" وعلموا بالقياس أن حركات السماويات لا يجوز أن تكون لأجل شيء غير ذواتها، ولا يجوز أن تكون لأجل معلولاتها، أرادوا أن يجمعوا بين هذين المذهبين فقالوا: إن نفس الحركة ليست لأجل ما تحت كرة القمر ولكن للتشبه بالخير المحض والشوق إليه. وأما اختلاف الحركات، فلاختلاف ما يكون من كل واحد منها في عالم الكون والفساد اختلافا" ينتظم به بقاء الأنواع، كما أن رجلا خيّرا" لو أراد أن يمضي في حاجته سمة موضع، واعترض إليه طريقان: أحدهما يختص بإيصاله إلى الموضع الذي فيه قضاء وطرح، والآخر يضيف إلى ذلك إيصال نفع إلى مستحق، وجب في حكم خيريته أن يقصد الطريق الثاني، وإن لم تكن حركته لأجل نفع غيره بل لأجل ذاته. قالوا: فكذلك حركة كل فلك، إنما هي ليبقى على كماله الأخير دايما"، لكن الحركة إلى هذه الجهة وبهذه السرعة لينتفع غيره. فأول ما نقول لهؤلاء: إنه إن أمكن أن يحدث للأجرام السماوية في حركاتها قصد ما لأجل شيء معلول،
الصفحة : 209
ويكون ذلك القصد في اختيار الجهة، فيمكن أن يحدث ذلك ويعرض في نفس الحركة حتى يقول قائل: إن السكون كان يتم لها به خيرية تخصها والحركة كانت لا تضرها في الوجود وتنفع غيرها، ولم يكن أحدهما أسهل عليها من الأخر أو أعسر فاختارت الأنفع. فإن كانت العلة المانعة عن القول بأن مصير حركاتها لنفع الغير، استحالة قصدها فعلا لأجل الغير من المعلولات، فهذه العلة موجودة في نفس قصد اختيار الجهة. وإن لم يمنع هذه العلة قصد اختيار الجهة، لم يمنع قصد الحركة وكذلك الحال في قصد السرعة والبطء هذه الحال، وليس ذلك على ترتيب القوة والضعف في الأفلاك بسبب ترتيبها بعضها على بعض في العلو والسفل حتى ينسب إليه، بل ذلك مختلف. ونقول بالجملة: لا يجوز أن يكون منها شيء لأجل الكائنات؛ لا قصد حركة؛ ولا قصد جهة من حركة، ولا تقدير سرعة وبطء، بل ولا قصد فعل ألبتة لأجلها، وذلك لأن كل قصد فيكون من أجل المقصود، فيكون أنقص وجودا من المقصود؛ لأن كل ما لأجله شيء آخر فهو أتم وجودا" من الآخر من حيث هو والآخر على ما هما عليه، بل به يتم للآخر النحو من الوجود الداعي إلى القصد. ولا يجوز أن يستفاد الوجود الأكمل من الشيء الأخس، فلا يكون ألبتة إلى معلول قصد صادق غير مضمون، وإلا كان القصد معطيا" ومفيدا" لوجود ما هو أكمل وجودا" منه. وإنما يقصد بالواجب شيء يكون القصد مهيئا" له ومفيد وجوده شيء آخر: مثل الطبيب للصحة، فالطبيب لا يعطي الصحة بل يهيء لها المادة والآلة؛ وإنما يفيد الصحة مبدأ أجل من الطبيب، وهو الذي يعطي المادة جميع صورها، وذاته أشرف من المادة. وربما كان القاصد مخطئا" في قصده إذا قصد ما ليس أشرف من القصد، فلا يكون القصد لأجله في الطبع بل بالخطأ؛ ولأن هذا البيان يحتاج إلى تطويل وتحقيق، وفيه شكوك لا تحل إلا بالكلام المشبع، فلنعدل إلى الطريق الأوضح فنقول: إن كل قصد فله مقصود، والعقلى منه هو الذي يكون وجود المقصود عن القاصد أولى بالقاصد من لا وجود عنه، وإلا فهو هدر. والشيء الذي هو أولى بالشيء فإنه يفيد كمالا ما؛ إن كان بالحقيقة فحقيقيا"، وإن كان بالظن فظنيا": مثل استحقاق المدح وظهور القدرة وبقاء الذكر، فهذه وما أشبهها كمالات ظنية. أو الربح، أو السلامة، أو رضى الله تعالى وتقدس وحسن معاد الآخرة، وهذه وما أشبهها كمالات حقيقية لا تتم بالقاصد وحده. فإذن، كل قصد ليس عبثا"فإنه يفيد كمالا مّا لقاصده لو لم يقصده لم يكن ذلك الكمال؛ والعبث أيضا" يشبه أن يكون كذلك، فإن فيه لذة أو راحة أو غير ذلك أو شيئا" مما علمت أو سائر ما تبين لك.
الصفحة : 210
ومحال أن يكون المعلول المستكمل وجوده بالعلة يفيد العلة كمالا لم يكن، فإن المواضع التي يظن فيها إن المعلول أفاد علته كمالا مواضع كاذبة أو محرفة، ومثلك ممن أحاط بما سلف له من الفنون لا يقصر عن تأملها وحلها. فإن قال قائل: إن الخيرية توجب هذا، فإن الخير يفيد الخير، قيل إن الخير يفيد الخير ولكن لا على سبيل قصد وطلب ليكون ذلك؛ فإن هذا يوجب النقص؛ فإن كل طلب وقصد لشيء فهو طلب لمعدوم وجوده من الفاعل أولى من لا وجوده، ومادام معدوما وغير مقصود لم يكن ما هو الأولى بالفاعل وذلك نقص؛ فإن الخيرية لا تخلو: أما أن تكون صحيحة موجودة دون هذا القصد ولا مدخل لوجود هذا القصد في وجودها، فيكون كون هذا القصد ولا كونه عن الخيرية واحدة، فلا تكون الخيرية توجبه، ولا يكون حال سائر لوازم الخيرية التي تلزمها لذاتها لا عن قصد وهو قصد هذه الحال. وأما أن يكون بهذا القصد تتم الخيرية وتقوم، فيكون هذا القصد علة لاستكمال الخيرية وقوامها لا معلولا لها. وإن قال قائل: إن ذلك للتشبه بالعلة الأولى في أن خيرته متعدية، وحتى يكون بحيث يتبعها خير، فنقول: إن هذا في ظاهر الأمر مقبول وفي الحقيقة مردود، فإن التشبه به في إن لا يقصد شيئا بل بأن ينفرد بالذات، فإنه على هذه الصفة اتفاقا من جماعة من أهل العلم. وأما استفادة كمال بالقصد فمباين للتشبه به، اللهم إلا أن يقال إن المقصود الأول شيء، وهذا بالقصد الثاني وعلى جهة الاستتباع، فيجب في اختيار الجهة أيضا" أن يكون المقصود بالقصد الأول شيئا"، وتكون المنفعة المذكورة مستتبعة لذلك المقصود، فتكون الجهة الخيرية غير مقصودة قصدا" أوليا" لنفس ما يتبع، بل يجب أن يكون هناك استكمال في ذات الشيء مستتبع تلك المنفعة حتى يكون تشبها" بالأول. ونحن لا نمنع أن تكون الحركة مقصودة بالقصد الأول على إنها تشبه بذات الأول من الجهة التي قلنا، وتشبه بالقصد الثاني بذات الأول من حيث يفيض عنه الوجود بعد أن يكون القصد الأول أمرا" آخر ينظر به إلى فوق. وأما النظر إلى أسفل واعتباره، فلو جاز أن يقع بالقصد الأول إلى الجهة، حتى يكون تشبها" بالأول في الاستتباع، لجاز في نفس اختيار الحركة. فكانت الحركة لأجل ما تحت، ويفيض عنها وجود ليس تشبها" به من حيث هو كامل الوجود ومعشوقه، إنما ذلك لذاته من حيث ذاته. ولا مدخل ألبته لوجود الأشياء عنه في تشريف ذاته وتكميلها، بل المدخل إنه على كماله الأفضل، وبحيث ينبعث
الصفحة : 211
عنه وجود الكل لا طلبا" وقصدا". فيجب أن يكون الشوق إليه من طريق التشبه على هذه الصورة، لا على ما يتعلق للأول به كمال. فإن قال قائل: إنه كما قد يجوز أن يستفيد الجرم السماوي بالحركة خيرا" وكمالا، والحركة فعل له مقصود، فكذلك لسائر أفاعيلها؛ فالجواب إن الحركة ليست تستفيد كمالا وخيرا"، وإلا لانقطعت عنده، بل هي نفس الكمال الذي أشرنا إليه. وهي بالحقيقة استثبات نوع ما يمكن أن يكون للجرم السماوي بالفعل، إذ لا يمكن استثبات الشخص له. فهذه الحركة لا تشبه سائر الحركات التي تطلب كمالا خارجا عنها، بل يكمل لهذه الحركة نفس المتحرك عنها بذاتها؛ لأنها نفس استبقاء الأوضاع والأيون على التعاقب. وبالجملة يجب أن ترجع إلى ما فصلناه فيما سلف حين بينا إن هذه الحركة كيف تتبع تصور المتشوق، وهذه الحركة شبيهة بالثبات. فإن قال قائل: إن هذا القول يمنع وجود العناية بالكائنات والتدبير المحكم الذي فيها؛ فإنا سنذكر بعد ما نزيل هذا الإشكال، ونعرف إن عناية الباري بالكل على أي سبيل هي، وإن عناية كل علة بما بعدها على أي سبيل هي، وأن الكائنات التي عندنا كيف العناية بها من المبادئ الأولى ومن الأسباب التي وسطها. وقد اتضح بما أوضحناه إنه لا يجوز أن يكون شيء من العلل يستكمل بالمعلول بالذات لا بالعرض، وإنها لا تقصد فعلا لأجل المعلول وإن كان ترضى به وتعلمه. بل كما إن الماء يبرد بذاته بالفعل ليحفظ نوعه لا ليبرد غيره، ولكن يلزمه أن يبرد غيره؛ والنار تسخن بذاتها بالفعل لتحفظ نوعها لا لتسخن غيرها، ولكن يلزمها أن تسخن غيرها؛ والقوة الشهوانية تشتهي لذة الجماع ليندفع الفضل ويتم لها اللذة، لا ليكون عنها ولد، ولكن يلزمها ولد؛ والصحة هي صحة بجوهرها وذاتها، لا لأن تنفع المريض، لكن يلزمها نفع المريض؛ كذلك في العلل المتقدمة، إلا إن هناك إحاطة بما يكون، وعلما بأن وجه النظام والخير فيها كيف يكون، وإنه على ما يكون وليس في تلك. فإذا كان الأمر على هذا، فالأجسام السماوية إنما اشتركت في الحركة المستديرة شوقا إلى معشوق مشترك. وإنما اختلفت، لأن مبادئها المعشوقة المتشوق إليها قد تختلف بعد ذلك الأول. وليس إذا أشكل علينا إنه كيف وجب عن كل تشوق حركة بهذه الحال، فيجب أن يؤثر ذلك فيما علمنا من إن الحركات مختلفة باختلاف المتشوقات. ولكن بقي علينا شيء، وهو إنه يمكن أن تتوهم المتشوقات المختلفة أجساما لا عقولا مفارقة، حتى يكون مثل الجسم الذي هو أخس متشبها بالجسم الذي هو أقدم وأشرف كما ظنه القوم من أحداث المتفلسفة
الصفحة : 212
الإسلامية في تشويش الفلسفة إذ لم يفهم غرض الأقدمين، فنقول: إن هذا محال؛ وذلك لأن التشبه به يوجب مثل حركته وجهتها والغاية التي تؤمها؛ فإن أوجب القصور عن مرتبته شيئا فإنما يوجب الضعف في الفعل، لا المخالفة في الفعل مخالفة توجب أن يكون هذا إلى جهة وذاك إلى أخرى. ولا يمكن أن يقال: إن السبب في هذه المخالفة طبيعة ذلك الجسم؛ كأن طبيعة ذلك الجسم تعاند أن يتحرك من " أ " إلى " ب " ولا تعاند أن يتحرك من " ب " إلى " أ "؛ فإن هذا محال؛ لأن الجسم بما هو جسم لا يوجب هذا، والطبيعة بما هي طبيعة للجسم تطلب الأين الطبيعي من غير وضع مخصوص، ولو كانت تطلب وضعا مخصوصا لكان النقل عنه قسرا، فدخل في حركة الفلك معنى قسري. ثم وجود كل جزء من أجزاء الفلك على كل نسبة محتمل في طبيعة الفلك، فليس يجب إذن أن يكون إذا أزيل جزء من جهة جاز، وإن أزيل من جهة لم يجز بحسب بساطته إلا أن يكون هناك طبيعة تقبل حركة إلى جهة فتجيب إلى تلك الجهة ولا تجيب إلى جهة أخرى إن كانت عيقت عن جهتها. وقد قلنا: إن مبدأ هذه الحركة ليست طبيعته، ولا أيضا هناك طبيعة توجب وضعا بعينه ولا جهات مختلفة، فليس إذن في جوهر الفلك طبيعة تمنع تحريك النفس له إلى أي جهة كانت. وأيضا، لا يجوز أن يقع ذلك من جهة النفس حتى يكون طبعها أن يريد تلك الجهة لا محالة، إلا أن يكون الغرض في الحركة مختصا بتلك الجهة لأن الإرادة تبع للغرض ليس الغرض تبعا للإرادة. وإذا كان هكذا، كان السبب مخالفة الغرض. فإذن، لا مانع من جهة الجسمية، ولا من جهة الطبيعة، ولا من جهة النفس، إلا اختلاف الغرض والقسر أبعد الجميع عن الإمكان. فإذن لو كان الغرض تشبها بعد الأول بجسم من السماوية، لكانت الحركة من نوع حركة ذلك الجسم؛ ولم يكن مخالفا له أو أسرع منه في كثير من المواضع، وكذلك إن كان الغرض لمحرك هذا الفلك التشبه بمحرك ذلك الفلك. وقد كان بان أنه ليس الغرض في تلك الحركات شيئا يوصل إليه بالحركة، وإلا لزم الانقطاع، بل شيئا مبايناً لا يوصل إليه. وبان الآن أنه لبس جسما، فبقى أن الغرض لكل فلك تشبه بشيء غير جواهر الأفلاك من مواده وأنفسها، ومحال أن يكون بالبصريات وما يتولد عنها ولا أجسام ولا أنفس غير هذه، فبقى أن يكون لكل واحد منها تشبه بجوهر عقلي مفارق يخصه وتختلف الحركات وأحوالها اختلافها الذي لها لأجل ذلك، وإن كنا لا نعرف كيفية وجوب ذلك ولميته، وتكون العلة الأولى متشوق الجميع بالاشتراك. فهذا معنى قول القدماء إن للكل محركا واحدا معشوقا وإن لكل كرة محركا يخصها ومعشوقا يخصها. فيكون إذن لكل فلك نفس محركا تعقل الخير، ولها بسبب الجسم تخيل، أي تصور
الصفحة : 213
للجزئيات وإرادة للجزئيات، ويكون ما تعقله من الأول وما يعقله من المبدأ الذي يخصه القريب منه مبدأ تشوقه إلى التحرك. ويكون لكل فلك عقل مفارق نسبنه إلى نفسه نسبة العقل الفعال إلى أنفسنا، وإن مثال كلي عقلي لنوع فعله، فهو يتشبه به. وبالجملة، لا بد في كل متحرك منها لغرض عقلي من مبدأ عقلي يعقل الخير الأول، وتكون ذاته مفارقة، فقد علمت أن كل ما يعقل مفارق الذات؛ ومن مبدأ للحركة جسماني أي مواصل للجسم، فقد علمت أن الحركة السماوية نفسانية تصدر عن نفس مختارة متجددة الاختيارات على الاتصال جزئيتها، فيكون عدد العقول المفارقة بعد المبدأ الأول بعدد الحركات. فإن كانت الأفلاك المتحيرة إنما المبدأ في حركة كرات كل كوكب فيها قوة تفيض من الكواكب، لم يبعد إن تكون المفارقات بعدد الكواكب لا بعدد الكرات وكان عددها عشرة بعد الأول: أولها العقل المحرك الذي لا يتحرك وتحريكه لكرة الجرم الأقصى، ثم الذي هو مثله لكرة الثوابت، ثم الذي هو مثله لكرة زحل، وكذلك حتى ينتهي إلى العقل الفائض على أنفسنا، وهو عقل العالم الأرضي، ونحن نسميه العقل الفعال. وإن لم يكن كذلك، بل كان كل كرة متحركة لها حكم في حركة نفسها ولكل كوكب، كانت هذه المفارقات أكثر عددا"، وكان يلزم على مذهب المعلم الأول قريبا" من خمسين فما فوقها، وآخر العقل الفعال؛ وقد علمت من كلامنا في الرياضيات مبلغ ما ظفرنا به من عددها.
الفصل الرابع (د)
الصفحة : 214
فصل في ترتيب وجود العقل والنفوس السماوية والأجرام العلوية عن المبدأ الأول.
قد صح لنا في ما قدمناه من القول أن الواجب الوجود بذاته واحد، وأنه ليس بجسم ولا في جسم ولا منقسم بوجه من الوجوه، فإذن الموجودات كلها وجودها عنه، ولا يجوز أن يكون له مبدأ بوجه من الوجوه ولا سبب لا الذي عنه، ولا الذي فيه أو به يكون، ولا الذي له، حتى يكون لأجل شيء، فلهذا لا يجوز أن يكون كون الكل عنه على سبيل قصد منه كقصدنا لتكوين الكل ولوجود الكل فيكون قاصدا" لأجل شيء غيره وهذا الفصل قد فرغنا من تقريره في غيره؛ وذلك في أظهر، ونخصه من بيان امتناع أن يقصد وجود الكل عنه إن ذلك يؤدي إلى تكثره في ذاته؛ فإنه حينئذ يكون فيه شيء بسببه يقصد، وهو معرفته وعلمه لوجوب القصد أو استحبابه أو خيرية فيه توجب ذلك، ثم قصد، ثم فائدة يفيدها إياه القصد على ما أوضحنا قبل؛ وهذا محال؛ وليس كون الكل عنه على سبيل الطبع بأن يكون وجود الكل عنه لا بمعرفة، ولا لرضى منه، وكيف يصح هذا وهو عقل محض يعقل ذاته؟ فيجب أن يعقل إنه يلزمه وجود الكل عنه؛ لأنه لا يعقل ذاته إلا عقلا محضا ومبدأ أولا، وإنما يعقل وجود الكل عنه على إنه مبدأه وليس في ذاته مانع كاره لصدور الكل عنه، وذاته عالمة بأن كماله وعلوه بحيث يفيض عنه الخير، وإن ذلك من لوازم جلالته المعشوقة له لذاتها، وكل ذات يعلم ما يصدر عنه، ولا تخالطه معاوقة ما بل يكون على ما أوضحنا بيانه؛ فإنه راض بما يكون عنه؛ فالأول راض بفيضان الكل عنه، ولكن الحق الأول إنما فعله الأول وبالذات إنه يعقل ذاته التي هي لذاتها مبدأ لنظام الخير في الوجود؛ فهو عاقل لنظام الخير في الوجود، وإنه كيف ينبغي أن يكون، لا عقلا خارجا عن القوة إلى الفعل، ولا عقلا منتقلا، من معقول
إلى معقول؛ فإن ذاته بريئة عما بالقوة من كل وجه على ما أوضحناه قبل، بل عقلا واحدا"، ويلزم ما يعقله من نظام الخير في الوجود أن يعقل إنه كيف يمكن، وكيف يكون أفضل ما يكون أن يحصل وجود الكل على مقتضى معقوله؛ فإن الحقيقة المعقولة عنده هي بعينها على ما علمت، علم وقدرة وإرادة. وأما نحن فنحتاج في تنفيذ ما نتصوره إلى قصد وحركة وإرادة حتى توجد، وهو لا يحسن فيه ذلك ولا يصح له لبرائته عن الاثنينية، وعلى ما أطنبنا في بيانه فتعقٌّلٌه علة للوجود على ما يعقله ووجود ما يوجد عنه على سبيل لزوم لوجوده وتبع لوجوده، لا إن وجوده لأجل وجود شيء آخر غيره، وهو فاعل الكل بمعنى إنه الموجود الذي يفيض عنه كل وجود فيضانا مباينا لذاته، ولأن كون ما يكون عن الأول إنما هو على سبيل اللزوم إذا صح أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع
الصفحة : 215
جهاته، وفرغنا من بيان هذا الغرض قبل. فلا يجوز أن يكون أول الموجودات عنه - وهي المبدعات - كثيرة لا بالعدد ولا بالانقسام إلى مادة وصورة؛ لأنه يكون لزوم ما يلزم عنه هو لذاته، لا لشيء آخر. والجهة والحكم الذي في ذاته الذي يلزم عنه هذا الشيء ليست الجهة والحكم الذي في ذاته الذي يلزم عنه، لا هذا الشيء بل غيره؛ فإن لزم منه شيئان متباينان بالقوام، أو شيئان متباينان يكون منهما شيء واحد: مثل مادة وصورة، لزوما معا، فإنما يلزمان عن جهتين مختلفتين في ذاته؛ وتانك الجهتان إن كانتا لا في ذاته بل لازمتين لذاته، فالسؤال في لزومهما له ثابت حتى تكونا في ذاته، فتكون ذاته منقسمة المعنى، وقد منعنا هذا قبل وبينا فساده؛ فتبين إن أول الموجودات عن العلة الأولى واحد بالعدد، وذاته وماهيته واحدة لا في مادة، فليس شيء من الأجسام ولا من الصور التي هي كمالات للأجسام معلولا قريبا له، بل المعلول الأول عقل محض؛ لأنه صورة لا في مادة، وهو أول العقول المفارقة التي عددناها ويشبه أن يكون هو المبدأ المحرك للجرم الأقصى على سبيل التشويق. ولكن لقائل أن يقول: إنه لا يمتنع أن يكون الحادث عن المبدأ الأول صورة مادية، لكنها يلزم عنها وجود مادتها فنقول: إن هذا يوجب أن تكون الأشياء التي بعد هذه الصورة وهذه المادة تالية في درجة المعلولات، وأن يكون وجودها بتوسط المادة، فتكون المادة سببا لوجود صور الأجسام الكثيرة في العالم وقواها، وهذا محال؛ إذ المادة وجودها إنها قابلة فقط وليست سببا لوجود شيء من الأشياء على غير سبيل القبول. فإن كان شيء من المواد ليس هكذا فليس هو مادة إلا باشتراك الاسم فيكون إن كان الشيء المفروض ثابتا ليس على صفة المادة إلا باشتراك الاسم، فالمعلول الأول لا تكون نسبته إليه على إنه صورة في مادة إلا باشتراك الاسم، فإن كان هذا الثاني من جهة توجد عنه هذه المادة، ومن جهة أخرى توجد صورة شيء آخر، حتى لا تكون الصورة الأخرى موجودة بتوسط المادة، كانت الصورة المادية تفعل فعلا لا يحتاج فيه إلى المادة، وكل شيء يفعل فعله من غير أن يحتاج إلى المادة فذاته أولا غنية عن المادة، فتكون الصورة المادية غنية عن المادة. وبالجملة فإن الصورة المادية وإن كانت علة للمادة في أن تخرجها إلى الفعل وتكملها فإن للمادة أيضا تأثيرا في وجودها وهو تخصيصها وتعيينها، وإن كان مبدأ الوجود من غير المادة كما قد علمت، فيكون لا محالة كل واحد منهما علة للأخرى في شيء، وليسا من جهة واحدة؛ ولولا ذلك لاستحال أن يكون للصورة المادية تعلق بالمادة بوجه من الوجوه؛ ولذلك قد سلف منا القول: أن المادة لا يكفي في وجودها الصورة فقط، بل الصورة كجزء العلة؛ وإذا كان كذلك فليس يمكن أن تجعل الصورة من كل وجه علة
الصفحة : 216
للمادة مستغنية بنفسها؛ فبين أنه لا يجوز أن يكون المعلول الأول صورة مادية أصلا ولا أن يكون مادة أظهر؛ فوجب أن يكون المعلول الأول صورة غير مادية أصلا بل عقلا، وأنت تعلم إن ههنا عقولا ونفوسا مفارقة كثيرة؛ فمحال أن يكون وجودها مستفادا بتوسط ما ليس له وجود مفارق؛ لكنك تعلم أن في جملة الموجودات عن الأول أجساما؛ إذ علمت أن كل جسم ممكن الوجود في حيز نفسه وأنه يجب بغيره، وعلمت أنه لا سبيل إلى أن يكون عن الأول تعالى بغير واسطة، فهي كائنة عنه بواسطة وقد علمت أنه لا يجوز أن تكون الواسطة وحدة محضة لا اثنينية فيها، فقد علمت أن الواحد من حيث هو واحد إنما يوجد عنه واحد، فبالحرى أن يكون عن المبدعات الأول بسبب إثنينية يجب أن يكون فيها ضرورة أو كثرة كيف كانت، ولا يمكن في العقول المفارقة شيء من الكثرة إلا على ما أقول: إن المعلول بذاته ممكن الوجود، وبالأول واجب الوجود، ووجوب وجوده بأنه عقل، وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول ضرورة، فيجب أن يكون فيه من الكثرة معنى عقله لذاته ممكنة الوجود في حيزها، وعقله وجوب وجوده من الأول المعقول بذاته، وعقله للأول، وليست الكثرة له عن الأول؛ فإن إمكان وجوده أمر له بذاته لا بسبب الأول، بل له من الأول وجوب وجوده، ثم كثرة أنه يعقل الأول ويعقل ذاته كثرة لازمة لوجوب وجوده عن الأول، ونحن لا نمنع أن يكون عن شيء واحد ذات واحدة، ثم يتبعها كثرة إضافية ليست في أول وجوده ولا داخلة في مبدأ قوامه، بل يجوز أن يكون الواحد يلزم عنه واحد، ثم ذلك الواحد يلزمه حكم وحال، أو صفة، أو معلول؛ ويكون ذلك أيضا واحدا؛ ثم يلزم عنه بمشاركة ذلك اللازم شيء، فيتبع من هناك كثرة كلها يلزم ذاته، فيجب إذن أن تكون مثل هذه الكثرة هي العلة لإمكان وجود الكثرة فيها عن المعلولات الأٌول، ولولا هذه الكثرة لكان لا يمكن أن يوجد منه إلا واحدة، ولم يمكن أن يوجد عنها جسم، ثم لا إمكان للكثرة هناك إلا على هذا الوجه فقط، وقد بان لنا فيما سلف أن العقول المفارقة كثيرة العدد، فليست إذن موجودة معا عن الأول بل يجب أن يكون أعلاها هو الموجود الأول عنه ثم يتلوه عقل وعقل؛ ولأن تحت كل عقل فلكا بمادته وصورته التي هي النفس وعقلا دونه، فتحت كل عقل ثلاثة أشياء في الوجود، فيجب أن يكون إمكان وجود هذه الثلاثة عن العقل الأول في الإبداع لأجل التثليث المذكور، والأفضل يتبع الأفضل من جهات كثيرة، فيكون إذن العقل الأول يلزم عنه بما يعقل الأول وجود عقل تحته، وبما يعقل ذاته وجود صورة الفلك الأقصى، وكمالها وحي النفس، وبطبيعة إمكان الوجود الحاصلة له المندرجة في تعقله لذاته وجود جرمية الفلك الأقصى المندرجة في جملة ذلك الفلك الأقصى بنوعه، وهو الأمر المشارك للقوة فيما يعقل الأول، يلزم عنه عقل وبما يختص
الصفحة : 217
بذاته على جهة تلزم عنه الكثرة الأولى بجزئيها، أعني المادة والصورة، والمادة بتوسط الصورة أو بمشاركتها، كما أن إمكان الوجود يخرج إلى الفعل بالفعل الذي يحاذي صورة الفلك، وكذلك الحال في عقل عقل، وفلك فلك، حتى ينتهي إلى العقل الفعال الذي يدبر أنفسنا، وليس يجب أن يذهب هذا المعنى إلى غير النهاية حتى يكون تحت كل مفارق مفارق؛ فإنا نقول: إنه إن لزم وجود كثرة عن العقول فبسبب المعاني التي فيها من الكثرة. وقولنا هذا ليس ينعكس حتى يكون كل عقل فيه هذه الكثرة يلزم كثرته هذه المعلولات؛ ولا هذه العقول متفقة الأنواع، حتى يكون مقتضى معانيها متفقا. ولنبتدىء لبيان هذا المعنى ابتداء آخر فنقول: إن الأفلاك كثيرة فوق العدد الذي في المعلول الأول من جهة كثرته المذكورة، وخصوصاً إذا فصل كل فلك إلى صورته ومادته، فليس يجوز أن يكون مبدؤها واحدا هو المعلول الأول، ولا أيضا يجوز أن يكون كل جرم متقدم منها علة للمتأخر، وذلك لأن الجرم بما هو جرم لا يجوز أن يكون مبدأ جرم، وبما له قوة نفسانية لا يجوز أن يكون مبدأ جرم ذي نفس أخرى؛ وذلك لأنا بينا أن كل نفس لكل فلك فهي كماله وصورته وليس جوهراً مفارقاً وإلا لكان عقلا لا نفسا، وكان لا يتحرك ألبتة على سبيل التشوق وكان لا يحدث فيه من حركة الجرم تغير، ومن مشاركة الجرم تخيل وتوهم، وقد ساقنا النظر إلى إثبات هذه الأحوال لأنفس الأفلاك كما علمت، وإذا كان الأمر على هذا، فلا يجوز أن تكون أنفس الأفلاك تصدر عنها أفعال في أجسام أخرى غير أجسامها إلا بوساطة أجسامها، فإن صور الأجسام وكمالاتها على صنفين: إما صور قوامها بمواد الأجسام، فكما أن قوامها بمواد تلك الأجسام، فكذلك ما يصدر عن قوامها يصدر بواسطة مواد تلك الأجسام؛ ولهذا السبب فإن النار لا تسخن حرارتها أي شيء اتفق بل ما كان ملاقياً لجرمها، أو من جسمها بحال. والشمس لا تضيء كل شيء، بل ما كان مقابلا لجرمها. وإما صور قوامها بذاتها لا بمواد الأجسام، كالأنفس؛ ثم كل نفس فإنما جعلت خاصة لجسم بسبب أن فعلها بذلك الجسم وفيه. ولو كانت مفارقة الذات والفعل جميعا لذلك الجسم، لكانت نفس كل شيء لا نفس ذلك الجسم فقط. فقد بان على الوجوه كلها أن القوى السماوية المنطبعة بأجسامها، لا تفعل إلا بواسطة جسمها. ومحال أن تفعل بواسطة الجسم نفسا، لأن الجسم لا يكون متوسطا بين نفس ونفس؛ فإن كانت تفعل نفساً بغير توسط الجسم فلها انفراد قوام من دون الجسم واختصاص بفعل مفارق لذاتها وذات الجسم. وهذا غير الأمر الذي نحن في ذكره، وإن لم تفعل نفسا، لم تفعل جرما سماويا؛ لأن النفس متقدمة على الجسم في المرتبة و الكمال؛ فإن وضع لكل فلك شيء يصدر عنه في فلكه شيء وأثر من
الصفحة : 218
غير أن يستغرق ذاته في شغل ذلك الجرم وبه، ولكن ذاته مباينة في القوام وفي الفعل لذلك الجسم، فنحن لا نمنع هذا، وهذا هو الذي نسميه العقل المجرد، ونجعل صدور ما بعده عنه، ولكن هذا غير المنفعل عن الجسم وغير المشارك إياه، والصائر صورة خاصة به، والكائن عن الجهة التي حدثنا عنها حين أثبتنا هذه النفس. فقد بان ووضح أن للأفلاك مباديء غير جرمانية، وغير صور الأجرام. وأن كل فلك يختص بمبدأ منها، والجميع يشترك في مبدأ واحد. ومما لا شك فيه أن ههنا عقولا بسيطة مفارقة، تحدث مع حدوث أبدان الناس، ولا تفسد بل تبقى. وقد تبين ذلك في العلوم الطبيعية، وليست صادرة عن العلة الأولى؛ لأنها كثيرة مع وحدة النوع، ولأنها حادثة فهي إذن معلولات الأول بتوسط. ولا يجوز أن تكون العلل الفاعلية المتوسطة بين الأولى وبينها، دونها في المرتبة؛ فلا تكون عقولا بسيطة ومفارقة؛ فإن العلل المعطية للوجود أكمل وجودا، أما القابلة للوجود فقد تكون أخس وجودا؛ فيجب إذن أن يكون المعلول الأول عقلا واحداً بالذات، ولا يجوز أيضاً أن تكون عنه كثرة متفقة النوع؛ وذلك لأن المعاني المتكثرة التي فيه، وبها يمكن وجود الكثرة فيه إن كانت مختلفة الحقائق، كان ما يقتضيه كل واحد منها شيئاً غير ما يقتضي الآخر في النوع. فلم يلزم كل واحد منها ما يلزم الآخر، بل طبيعة أخرى وأن كانت متفقة الحقائق فبماذا تخالفت وتكثرت، ولا انقسام مادة هناك؟ فإذن المعلول الأول لا يجوز عنه وجود كثرة إلا مختلفة الأنواع، فليست هذه الأنفس الأرضية أيضاً كائنة عن المعلول الأول بلا توسط علة أخرى موجودة؛ وكذلك عن كل معلول أول عال حتى ينتهي إلى معلول أول كونه مع كون الاسقاطات القابلة للكون والفساد، المتكثرة بالنوع والعدد معا. فيكون تكثر القابل سببا لتكثر فعل مبدأ واحد بالذات. وهذا بعد استتمام وجود السماويات كلها؛ فيلزم دائما عقل بعد عقل حتى تتكون كرة القمر ثم تتكون الاسقاطات، وتتهيأ لقبول تأثير واحد بالنوع كثير بالعدد عن العقل الأخير. فإنه إذا لم يكن السبب في الفاعل، وجب في القابل ضرورة. فإذن يجب أن يحدث عن كل عقل عقل تحته، ويقف حيث يمكن أن تحدث الجواهر العقلية منقسمة متكثرة بالعدد، لتكثر الأسباب، فهناك ينتهي. وقد اتضح وبان أن كل عقل هو أعلى في المرتبة، فإنه لمعنى فيه، وهو أنه بما يعقل الأول يجب عنه وجود عقل آخر دونه، وبما يعقل ذاته يجب عنه فلك بنفسه وجرمه وجرم الفلك كائن عنه، ومستبقى بتوسط النفس الفلكية؛ فإن كل صورة فهي علة لأن يكون مادتها بالفعل، لأن المادة نفسها لا قوام لها.
الفصل الخامس (ه)
الصفحة : 219
فصل في حال تكون الإسطقسات عن العلل الأوائل.
فإذا استوفت الكرات السماوية عددها، لزم بعدها وجود اسطقسات، وذلك لأن الأجسام الاسسطقسية كائنة فاسدة، فيجب أن تكون مبادئها القريبة أشياء تقبل نوعا من التغير والحركة، وأن لا يكون ما هو عقل محض وحده سببا" لوجودها، وهذا يجب أن يتحقق من أصول، أن يتحقق من أصول، أكثرنا التكرار فيها، وفرغنا من تقريرها. ولهذه الاسطقسات مادة يشترك فيها، وصور يختلف بها، وصور يختلف بها، فيجب أن يكون اختلاف صورها مما يعين فيه اختلاف في أ في وال الأفلاك، وأن يكون اتفاق مادتها مما يعين فيه اتفاق في أحوال الأفلاك. والأفلاك تتفق في طبيعة اقتضاء الحركة المستديرة، فيجب أن يكون مقتضى تلك الطبيعة يعين في وجود المادة، ويكون ما يختلف فيه مبدأ تهيء المادة للصور المختلفة، لكن الأمور الكثيرة المشتركة في النوع والجنس لا تكون وحدها بلا مشاركة من واحد معين علة لذات هي نفسها متفقة واحدة، وإنما يقيمها غيرها؛ ولا يوجد إذن هذا الواحد عنها إلا بارتباط بواحد يردها إلى أمر واحد، فيجب أن تكون العقول المفارقة بل آخرها الذي يلينا هو الذي يفيض عنه - بمشاركة الحركات السماوية - شيء فيه رسم صور العالم الأسفل على جهة الانفعال؛ كما أن في ذلك العقل أو العقول رسم الصور على جهة التفعيل، ثم تفيض منه الصور فيها بالتخصيص لا بانفراد ذاته، فإن الواحد يفعل في الواحد - كما علمت - واحدة، بل بمشاركة الأجسام السماوية؛ فيكون إذا خصص هذا الشيء تأثير من التأثيرات السماوية بلا
واسطة جسم عنصري، أو بواسطة تجعله على استعداد خاص بعد العام الذي كان ذلك في جوهره، فاض عن هذا المفارق صورة خاصة، وارتسمت في تلك المادة. وأنت تعلم إن الواحد لا يخصص الواحد من حيث كل واحد منهما واحد، بأمر دون أمر يكون له، بل يحتاج إلى أن تكون هناك مخصصات مختلفة، ومخصصات المادة معداتها، والمعد هو الذي يحدث عنه في المستعد أمر ما، تصير مناسبته لذلك الأمر لشيء بعينه أولى من مناسبته لشيء آخر، فيكون هذا الإعداد مرجحا" لوجود ما هو أولى فيه من الأوائل الواهبة للصور، ولو كانت المادة على التهيؤ الأول وتشابهت نسبتها إلى الضدين فما يرجح أحدهما؛ اللهم إلا بحال تختلف به المؤثرات فيه، وذلك الاختلاف أيضا" منسوب إلى جميع المواد نسبة واحدة، فلا يجب أن نختص بموجبة مادة دون مادة إلا لأمر أيضا يكون في تلك المادة، وليس إلا الاستعداد الكامل، وليس الاستعداد الكامل إلا مناسبة كاملة
الصفحة : 220
لشيء بعينه هو المستعد لها؛ وهذا مثل الماء إذا أفرط تسخينه فاجتمعت السخونة الغريبة، والصورة المائية، وهي بعيدة المناسبة للصورة المائية وشديدة المناسبة للصورة النارية. فإذا أفرط ذلك واشتدت المناسبة للصورة النارية فإذا أفرط ذلك واشتدت المناسبة اشتد الاستعداد، فصار من حق الصورة النارية أن تفيض، ومن حق هذه أن تبطل؛ ولأن المادة ليست تبقى بلا صورة، فليس قوامها عن ما ينسب إليه من المباديء الأولى وحدها بل عنها وعن الصورة. ولأن الصورة التي تقيم هذه المادة الآن قد كانت المادة قائمة دونها، فليس قوامها عن الصورة وحدها بل بها، و بالمبادىء الباقية بواسطتها أو واسطة أخرى مثلها. فلو كانت من المبادىء الأولى وحدها لاستغنت عن الصورة، ولو كانت عن الصورة وحدها لما سبقت بالصورة، بل كما أن المتفق فيه من الحركة المستدير هناك يلزم طبيعة تقيمها الطبائع الخاصة بفلك فلك. فكذلك المادة ههنا يقيمها مع الطبيعة المشتركة ما يكون عن الطبائع الخاصة وهي الصور. وكما أن الحركة أخس الأحوال هناك، فكذلك المادة الذوات ههنا. وكما أن الحركة هناك تابعة لطبيعة ما بالقوة، كذلك المادة ههنا مرافقة لما بالقوة. وكما أن الطبائع الخاصة والمشتركة هناك مبادىء أو معينات لطبيعة الخاصة والمشتركة ههنا، فكذلك ما يلزم الطبائع الخاصة والمشتركة هناك من النسب المختلفة المتبدلة الواقعة فيها بسبب الحركة مبدأ لتغير الأحوال وتبدلها ههنا، وكذلك امتزاج نسبتها هناك سبب لامتزاج نسب هذه العناصر أو معين. ولأجسام السماويات تأثير في أجسام هذا العالم بالكيفيات التي تخصها، ويسرى منها إلى هذا العالم، ولأنفسها تأثير أيضا في أنفس هذا العالم. وبهذه المعاني يعلم أن الطبيعة التي هي مدبرة لهذه الأجسام بالكمال والصورة، حادية عن النفس الفاشية في الفلك، أو بمعونتها. وقال قوم من المنتسبين إلى هذا العلم: إن الفلك لأنه مستدير فيجب أن يستدير على شيء ثابت في حشوه، فيلزم محاكته له التسخين حتى يستحيل نارا"، ومما يبعد عنه يبقى ساكنا، فيصير إلى التبرد و التكثف حتى يصير أرضا"، وما يلي النار منه يكون حارا"، ولكنه أقل حرارة من النار؛ وما يلي الأرض يكون كثيفا، ولكنه أقل تكثفا" من الأرض وقلة الحر وقلة التكثف يوجبان الترطيب، فإن اليبوسة إما من الحر، وإما من البرد؛ لكن الرطب الذي يلي الأرض هو أبرد، والذي يلي النار هو أشد حرارة، فهذا سبب كون العناصر؛ فهذا هو ما قد قالوا وليس ما يمكن أن يصحح بالكلام القياسي، ولا هو بسديد عند التفتيش، ويشبه أن يكون الأمر على قانون آخر، وأن تكون هذه المادة التي تحدث بالشركة يفيض إليها
الصفحة : 221
من الأجرام السماوية، إما عن أربعة أجرام، وإما عن عدة منحصرة في أربع جمل، عن كل واحد منها ما يتهيأ لصور جسم بسيط. فإذا استعد نال الصورة من واهب الصور، أو يكون ذلك كله يفيض عن جرم واحد، وأن يكون هناك سبب يوجب انقساما من الأسباب الخفية علينا، فإنك إن أردت أن تعرف ضعف ما قالوه، تتأمل أنهم يوجبون أن يكون الوجود أولا للجسم، وليس له في نفسه إحدى الصور المقومة غير الصور الجسمية، وإنما يكتسب سائر الصور بالحركة والسكون ثانيا؛ وبيّنا نحن قبل هذا استحالة هذا، وبيّنا أن الجسم لا يستكمل له وجود بمجرد الصورة الجسمية، ما لم تقترن بها صورة أخرى، وليست المقيمة للهيلولى الأبعاد فقط، فإن الأبعاد تتبع في وجودها صورا أخرى تسبق الأبعاد. و إن شئت فتأمل حال التخلخل من الحرارة، و التكاثف من البرودة، بل الجسم لا يصير جسما حتى يصير بحيث يتبع غيره في الحركة، حتى تسخنه متابعته تلك الحركات المتتابعة التي بيّنا أنها ليست قسرية بل طبيعية، إلا وقد تمت طبيعته. لكن يجوز أن يكون إذا تمت طبيعته يستحفظ بأصلح المواضع لاستحفاظها، لأن الحار يستحفظ حيث الحركة، والبارد يستحفظ حيث السكون، ثم لا يفكرون أنه لم وجب لبعض تلك المادة أن يهبط إلى المركز، فعرض له البرودة، ولبعضه أن جاوز الفوق. أما الآن فإن السبب في ذلك معلول. أما في الكليات فالخفة والثقل، وأما في جزئي عنصر واحد، فلأنه قد صح أن أجزاء العناصر كائنة، وأنه إذا تكون جزء منه في موضع ضرورة، لزم أن يكون سطح منه يلي الفوق إذا تحرك فوق، كان ذلك السطح أولى بالفوقية من السطح الآخر. وأما في أول تكونه، فإنما يصير سطح منه إلى فوق، وسطح إلى أسفل، لأنه لا محال قد استحال بحركة ما، وأن الحركة أوجبت له ضرورة وضعا ما. فلأشبه عندي ما قد ذهبنا إليه، وأظن أن الذي قال ذلك في تكون الاسطقسات، رام تقريبا" للأمر عند بعض من كتابه من العاميين، فجزم عليه القول من تأخر عنهم على أن كاتب ذلك الكلام شديد التذبذب و الاضطراب.
الفصل السادس: (و)
الصفحة : 222
|
|
|
المفضلات