صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 23
  1. تكبير الخط تصغير الخط
    بتاريخ : 09-02-2012 الساعة : 08:29 AM رقم #11
    كاتب الموضوع : علي العذاري


    شاملى مميز


    • بيانات علي العذاري
      رقم العضوية : 6016
      عضو منذ : Jan 2012
      الدولة : ariq
      المشاركات : 141
      بمعدل : 0.03 يوميا
      معدل تقييم المستوى : 14
      التقييم : Array


  2. الفصل الثامن (ح)
    الصفحة : 122
    فصل في الحد.
    والذي ينبغي لنا أن نعرفه الآن أن الأشياء كيف تتحدد، وكيف نسبة الحد إليها، وما الفرق بين الماهية للشيء وبين الصورة. فنقول: كما أن الموجود والواحد من الأشياء العامة للمقولات ولكن على سبيل تقديم وتأخير، فكذلك أيضاً كون الأشياء ذوات ماهية وحد، فليس ذلك في الأشياء كلها على مرتبة واحدة. فأما الجوهر فإنه مما يتناوله تناولاً أولياً بالحقيقة، وأما الأشياء الأخرى فلما كانت ماهيتها متعلقة بالجوهر أو بالصورة الجوهرية على نحو ما حددناه، أما الصورة الطبيعية فقد عرفت حالها، والمقادير والأشكال قد عرفتها أيضاً، فيكون تلك الأشياء الأخرى أيضاً من وجه لا تحدد إلا بالجوهر فيعرض من ذلك أن تكون.أما الأعراض فإن في حدودها زيادة على ذواتها، لأن ذواتها وإن كانت أشياء لا يدخل الجوهر فيها على أنه جزء لها بوجه من الوجوه، وذلك لأن ما جزؤه جوهر فهو جوهر، فإن حدودها يدخل الجوهر فيها على أنه جزء إذ كانت تتحدد بالجوهر لا محالة. وأما المركبات فإنها يعرض فيها تكرار شيء واحد بعينه مرتين، فإنه إذ فيها جوهر فلا بد من إدخاله في الحد، وإذ فيها عرض يتحدد بالجوهر فلا بد من دخوله في حد العرض مرة أخرى لتكون جملة الحد مؤلفة من حد الجوهر وحد العرض لا محالة وعائد إلى اثنينية وكثرة. ويتبين إذا حلل حد ذلك العرض ورد إلى متضمناته، فيكون حد هذا المركب قد وجد فيه الجوهر مرتين، وهو في ذات المركب مرة واحدة، فيكون في هذا الحد زيادة على معنى المحدود في نفسه. والحدود والحقيقة لا يجب أن تكون فيها زيادات. ومثال هذا أنك إذا حددت الأنف الأفطس فيجب أن تأخذ فيه الأنف لا محالة، وتأخذ فيه الأفطس فتكون أخذت فيه حد الأفطس، لكن الأفطس هو أنف عميق، ولا يجوز أن تأخذ عميقاً وحده، فإنه لو كان العميق وحده هو الأفطس لكانت الساق المعمقة أيضاً فطساء، بل يجب لا محالة أن تأخذ الأنف في حد الأفطس. فإذا حددت الأنف الأفطس تكون قد أخذت فيه الأنف مرتين، فلا يخلو إما أن لا تكون أمثال هذه حدوداً وإنما تكون الحدود للبسائط فقط، أو تكون هذه حدوداً على جهة أخرى. وليس ينبغي أن نقتصر من الحد على أن يكون شرح الاسم، فتجعل أمثال هذه لذلك حدوداً حقيقية، لأن الحد هو ما يدل على الماهية، وقد عرفته. لو كان كل قول يمكن أن يفرض بإزائه اسمٌ حداً لكان جميع كتب الجاحظ حدوداً. فإذا كان الأمر على هذا، فبيّن أن هذه المركبات حدودها حدود على جهة أخرى. وكل بسيط فإن ماهيته ذاته لأنه ليس هناك شيء قابل لماهيته، ولو كان هناك شيء قابل لماهيته، لم يكن ذلك الشيء ماهيته
    الصفحة : 123
    ماهية المقبول الذي حصل له، لأن ذلك المقبول كا يكون صورته، وصورته ليس هو الذي يقابله حده، ولا المركبات بالصورة وحدها هي ما هي، فإن الحد للمركبات ليس هو من الصورة وحدها، بل حد الشيء يدل على جميع ما يتقوم به ذاته، فيكون هو أيضاً يتضمن المادة بوجه. وبهذا يعرف الفرق بين الماهية في المركبات والصورة، والصورة دائماً جزء من الماهية في المركبات، وكل بسيط فإن صورته أيضاً ذاته لأنه لا تركيب فيه، وأما المركبات فلا صورتها ذاتها ولا ماهيتها ذاتها، أما الصورة فظاهر أنها جزء منها، وأما الماهية فهي ما بها هي ما هي، وإنما هي ما هي بكون الصورة مقارنة للمادة، وهو أزيد من معنى الصورة. والمركب ليس هذا المعنى أيضاً، بل هو مجموع الصورة والمادة، فإن هذا هو ما هو المركب، والماهية هذا التركيب. فالصورة أحد ما يضاف إليه التركيب، والماهية هي نفس هذا التركيب الجامع للصورة والمادة، والوحدة الحادثة منهما لهذا الواحد. فللجنس بما هو جنس ماهية. وللنوع بما هو نوع ماهية، وللمفرد الجزئي أيضاً بما هو مفرد جزئي ماهية مما يتقوم به من الأعراض اللازمة. فكأن الماهية إذا قيلت على التي في الجنس والنوع وعلى التي للمفرد الشخصي كان باشتراك الاسم. وليست هذه الماهية مفارقة لما هو بها ما هو، وإلا لم تكن ماهية. لكنه لا حد للمفرد بوجه من الوجوه، وإن كان للمركب حد ما، وذلك لأن الحد مؤلف من أسماء ناعتة لا محالة ليس فيها إشارة إلى شيء معين، ولو كانت إشارة لكانت تسمية فقط، أو دلالة أخرى بحركة وإشارة وما أشبه ذلك، وليس فيها تعريف المجهول بالنعت. وإذا كان كل اسم يحصر في حد المفرد يدل على نعت، والنعت يحتمل الوقوع على عدة، والتأليف لا يخرجها من هذا الاحتمال، فإنه إذا كان "أ" معنى كلياً وأضيف إليه "ب" - وهو معنى كلي - جاز أن يكون فيه تخصيص ما. ولكن إذا كان تخصيص كلي بكلي يبقى بعده الشيء الذي هو "أ" و"ب" كلياً يجوز أن يقع فيه شركة. ومثال ذلك: "هذه سقراط"، إن حددته فقلت: إنه الفيلسوف، ففيه شركة؛ وإن قلت: الفيلسوف الدين، ففيه شركة؛ فإن قلت: الفيلسوف الدين المقتول ظلماً، ففيه أيضاً شركة؛ فإن قلت: ابن فلان، كان فيه احتمال شركة أيضاً، وكان فلان شخصاً تعريفه كتعريفه، فإن عرف ذلك الشخص بالإشارة أو باللقب عاد الأمر إلأى الإشارة واللقب، وبطل أن يكون بالتحديد. وإن زيد فقيل: هو الذي قتل في مدينة كذا يوم كذا، فهذا الوصف أيضاً مع تشخصه بالحيلة كلي يجوز أن يقال على كثيرين إلا أن يستند إلى شخص. فإن كان المسند إليه شخصاً من جملة أشخاص نوع من الأنواع لم يكن السبيل إليه إلا بالمشاهدة ولم يجد العقل عليه وقوفاً إلا بالحس، فإن كان المسند إليه من الأشخاص - التي كل
    الصفحة : 124
    شخص منها مستوف لحقيقة النوع - فلا شخص نظيراً له، وكان قد عقل العقل ذلك النوع بشخصه. فإذا جعل الرسم مسنداً إليه كان للعقل وقوف عليه ولم يخف العقل تغير الحال لجواز فساد ذلك الشيء، إذ مثل هذا الشيء لا يفسد. ولكن المرسوم لا يوثق بوجوده ودوام قول الرسم عليه، وربما عرف العقل مدة بقائه، فلم يكن هذا أيضاً حداً حقيقياً. فبين أنه لا حد حقيقي للمفرد، إنما يعرف بلقب أو إشارة أو نسبة إلى معروف بلقب أو إشارة. وكل حد فإنه تصور عقلي صادق أن يحمل على المحدود، والجزئي فاسد إذا فسد لم يكن محدوداً بحده. فيكون حمل الحد عليه مدة ما صادقاً وفي غيرها كاذباً، فيكون حمل الحد عليه بالظن دائماً، أو يكون هناك غير التحديد بالعقل زيادة إشارة ومشاهدة، فيصير بتلك الإشارة محدوداً بحده، وإذا لم يكن ذلك يكون مظنوناً به أن له حده. وأما المحدود بالحقيقة فيكون حده له يقيناً. فمن شاء أن يحد الفاسدات فقد تعرض لإبقائها، ويركب شططاً.
    الفصل التاسع (ط)
    فصل في مناسبة الحد وأجزائه
    ونقول: إنه كثيراً ما يكون في الحدود أجزاء هي أجزاء المحدود. وليس إذا قلنا: إن الجنس والفصل لا يتقومان جزئين للنوع في الوجود، نكون كأنا قلنا: إنه لا يكون للنوع أجزاء. فإن النوع قد يكون له أجزاء، وذلك إذا كان من أحد صنفي الأشياء، أما في الأعراض فمن الكميات، وأما في الجواهر فمن المركبات. وظاهر الحال يومئ إلى أن أجزاء الحد أقدم من المحدود، لكنه قد يتفق أن يكون في بعض المواضع بالخلاف. فإنا إذا أردنا أن نحد قطعة الدائرة حددناها بالدائرة، وإذا أردنا أن نحد أصبع الإنسان حددناها بالإنسان، وإذا أردنا أن نحد الحادة وهي جزء من القائمة حددناها بالقائمة، ولا نحد البتة القائمة بالحادة ولا الدائرة بقطعتها ولا الإنسان بالأصبع. فيجب أن نعرف العلة في هذا. فنقول: إن هذه ليس شيء منها أجزاء النوع من جهة ماهيته وصورته؛ ثم إنه ليس من شروط الدائرة أن تكون فيها قطعة بالفعل تتألف عنها صورة الدائرة، كما من شرطها أن يكون لها محيط؛ ولا من شرط الإنسان - من حيث هو إنسان - أن يكون له أصبع بالفعل، ولا من شرط القائمة أن تكون هناك حادة هي جزء منها. فهذه كلها ليست أجزاء للشيء من حيث ماهيته بل من حيث مادته موضوعه. فإنما يعرض للقائمة أن تكون فيها حادة، وللدائرة أن تكون فيها قطعة لانفعال
    الصفحة : 125
    يعرض لمادتها، ليس ذلك مما يتعلق به استكمال مادتها بصورتها ولا استكمال صورتها في نفسها. واعلم أن السطح مادة عقلية لصورة الدائرة وبسببه يقع لها الإنقسام، ولو كان يتعلق بها استكمال مادتها لكان من اللازمات التي لا يخلو الشيء عنها، لا من المقومات كما مضى لك شرحه. وليس ما نحن فيه كذلك، بل يخلو الشيء منها. وما يجري مجرى الأصبع أيضاً فإنه ليس يحتاج الإنسان في أن يكون حيواناً ناطقاً إلى أصبع، بل هذا من الأجزاء التي لمادته ليحسن بها حال مادته. فما كان من الأجزاء إنما هو بسبب المادة، وليس تحتاج إليه الصورة، فليست هي من أجزاء الحد البتة. لكنها إذا كانت أجزاء المادة ولم تكن أجزاء للمادة مطلقاً، بل إنما تكون أجزاء لتلك المادة لأجل تلك الصورة، وجب أن تؤخذ في حدها تلك الصورة. وذلك النوع فيكون أيضاً مع المادة مثلما أن الأصبع ليس جزءاً مناسباً للجسم مطلقاً، بل للجسم الذي صار حيواناً أو إنساناً. وكذلك الحادة والقطعة ليس جزءاً للسطح الذي صار قائمة أو دائرة.فلذلك تؤخذ صورة هذه الكلات في حدود هذه الأجزاء. ثم تفترق هذه الأمثلة الثلاثة. فإن الإصبع في الإنسان جزء بالفعل، فإذا حد أو رسم الإنسان من حيث هو شخص كامل إنساني وجب أن يوجد الإصبع حينئذ في رسمه لأنه يكون له ذلك جزءاً ذاتياً في أن يكون شخصاً كامل الأعراض ولا يكون مقوماً لطبيعة نوعه. إذا قلنا مراراً: إن ما يتقوم ويتم به الشخص في شخصه هو غير ما تتقوم به طبيعة النوع. فهذا القسم من الجملة التي الجزء فيها جزء بالفعل، وأما ذانك الآخران فليس الجزء فيهما جزء بالفعل. ويشبه أن تكون الدائرة إذا قسمت بالفعل إلى قطع بطلت الوحدة لسطحها وبطل عنها أنها دائرة، إذ لا يكون المحيط خطاً واحداً بالفعل بل كثيراً، اللهم إلا أن تكون الأقسام بالوهم وبالفرض لا بالفعل وبالقطع. وكذلك حكم القائمة. ثم الدائرة والقائمة يختلفان في شيء وهو أن قطعة الدائرة لا تكون إلا من دائرة بالفعل. والحادة ليس من شرطها في الوجود أن تكون جزء زاوية أخرى، ولا أنها هي حادة بالقياس إلى المنفرجة والقائمة، بل هي في نفسها حادة بسبب وضع أحد ضلعيها عند الآخر. ولكنها من جهة أن ذلك الوضع من حيث هو وضع وقعت فيه الإضافة، لأن الميل والقرب بين الخطوط بعضها إلى بعض أو البعد فيما بينها مما تتعلق به إضافة ما عرض أن يتعلق البيان للمادة بالإضافة، وإن لم يدل على هذه الإضافة بالفعل لصعوبتها فقد دل عليها بالقوة في إدخال إضافة بالفعل. ثم لما كانت الزاوية السطحية إنما تحدث عن قيام خط على خط، وكان الميل الذي يحدث هو ميل عن اعتدال ما وجهة ما، لأنا لو أخذنا قرب أحد الخطين من الآخر مطلقاً وأخذنا ميله إليه مطلقاً من غير تعيين الميل
    الصفحة : 126
    عنه لم يكن إلا ميل مطلق يوجد ذلك للحادة وللقائمة والمنفرجة. فإن خطوطها أيضاً فيها ميل لبعضها إلى بعض، فإنك إذا اعتبرت اتصال خطين على الإستقامة لوجدت المنفرجة وفيها ميل لأحد الخطين إلى الآخر. لكن هذا الميل هو ميل مطلق يقتضيه انفراج خطي كل زاوية، فيجب ضرورة أن يكون هذا الميل حدوداً عن شيء. ولما كان ذلك الشيء يجب أن يكون بُعداً خطياً، ولم يمكن أن تتوهم خطوط يميل عنها هذا الخط إلا الخط المتصل على الإستقامة بالخط الثاني، والذي يفعل زاوية منفرجة أو الذي يفعل زاوية قائمة أو الذي يفعل زاوية حادة. فأما الخط الغير متصل بهذا الخ فإنه لا يحدد به شيء، وكان اعتبار الميل من الخط المستقيم مطلقاً غير صحيح في هذا الباب، وإلا المنفرجة والقائمة أيضا حادة. وكذلك اعتبار الميل عن الخط الفاعل للمنفرجة، لأن الميل عن الانفراج قد يحفظ الانفراج، إذ تكون منفرجة أصغر من منفرجة. وكذلك حكم الحادة هذه مع أن الحادة لا يمكن أن تعرّف بالحادة فيكون تعريف مجهول بمجهول. فبقي ضرورة أن يكون تعريفها بالقائمة، التي ليس يبقى قوامها مع الميل عنها محفوظاً. فكأنه يقول: إن الحادة هي التي عن خطين قام أحدهما على الآخر، ومال أقرب من خط قائمة لو قامت حتى هي أصغر من القائمة لو كانت. وليس نعني بها أنها بالفعل موجودة مقيسة بقائمة تزيد عليها فحينئذ يكون الحد كاذباً، ولكن بقائمة بهذه الصفة. والقائمة بهذه الصفة من حيث هي بالقوة الموجودة بالفعل قوة هي قائمة بالقوة، فإن القوة من حيث هي قوة وجودٌ بالفعل. وربما كانت القوة أيضاً موجودة بالقوة وهي القوة البعيدة من الفعل، ثم يصير بالفعل قوة قريبة. فإن القوة القريبة على تكوّن الإنسان في الغذاء تكون بالقوة، ثم إذا صار ميّتاً صارت تلك القوة القريبة موجودة بالفعل، وإنما يكون فعلها غير موجود. فإذن الحادة تحد بالقائمة لا بالفعل مطلقاً، بل القوة. فلا تحد بنظير لها ولا أيضاً بما ليس له حصول. فإن المحدود به قائم بالقوة، وذلك له من حيث هو كذلك حصول بالفعل، وبالحري إن عرّفت الحادة والمنفرجة بالقائمة فان القائمة تتحقق من المساواة والمماثلة والوحدانية، وتانك تتحققان من الخروج عن المساواة. وأما القائمة فتتحقق بذاتها. ولقد كان يمكن أن يقال: إن الحادة أصغر زاويتين مختلفتين تحدثان من قيام خط على خط، والمنفرجة أعظمهما، وكان حينئذ إذا حقق فقد أشير إلى القائمة، لأن الأكبر هو الذي يكون مثلاً وزيادة، والأصغر هو الذي ينقص عن المثل. فبالمثل تتحقق معرفة الصغر والكبر، وبالواحد المتشابه يتحقق المتكثر الغير المتشابه المختلف. فهكذا يجب أن يتصور الحال في أجزاء المحدودات، ثم يجب أن يتذكر ماقلناه قبل أيضاً في حال أجزاء المادة وعلائقها.
    الصفحة : 127
    المقالة السادسة
    وفيها خمسة فصول
    الفصل الأول (أ)
    فصل في أقسام العلل وأحوالها
    قد تكلمنا في أمر الجوهر والأعراض، وفي اعتبار التقدم والتأخر فيها، وفي معرفة مطابقة الحدود للمحدودات الكلية والجزئية. فبالحري أن نتكلم الآن في العلة والمعلول، فإنهما أيضاً من اللواحق التي تلحق الموجود بما هو موجود. والعلل كما سمعت، صورة وعنصر وفاعل وغاية. فنقول: إنا نعني بالعلة الصورية، العلة التي هي جزء من قوام الشيء، يكون الشيء بها هو ما هو بالفعل؛ وبالعنصرية العلة التي هي جزء من قوام الشيء، يكون بها الشيء هو ما هو بالقوة، وتستقر فيها قوة وجوده؛ وبالفاعل، العلة التي تفيد وجوداً مبايناً لذاتها، أي لا تكون ذاتها بالقصد الأول محلاً لما يستفيد منها وجود شيء يتصور بها، حتى يكون في ذاتها قوة وجوده إلا بالعرض، ومع ذلك فيجب ألا يكون ذلك الوجود من أجله من جهة ما هو فاعل، بل إن كان ولا بد فباعتبار آخر، وذلك لأن الفلاسفة الإلهيين ليسوا يعنون بالفاعل مبدأ التحريك فقط، كما يعنيه الطبيعيون، بل مبدأ الوجود ومفيده، مثل الباري للعالم؛ وأما العلة الفاعلية الطبيعية فلا تفيد وجوداً غير التحريك بأحد أنحاء التحريكات؛ فيكون مفيد الوجود في الطبيعيات مبدأ حركة؛ ونعني بالغاية، العلة التي لأجلها يحصل وجود شيء مباين لها. وقد يظهر أنه لا علة خارجة عن هذه، فنقول: إن السبب للشيء لا يخلو إما أن يكون داخلاً في قوامه وجزءاً من وجوده، أو لا يكون. فإن كان داخلاً في قوامه وجزءاً من وجوده فإما أن يكون الجزء الذي ليس يجب من وجوده وحده له أن يكون بالفعل، بل أن يكون بالقوة فقط، ويسمى الهيولي؛ أو يكون الجزء الذي وجوده هو صيرورته بالفعل، وهو الصورة. وأما إن لم يكن جزءاً من وجوده فإما أن يكون ما هو لأجله، أو لا يكون. فإن كان ما هو لأجله، فهو الغاية؛ وإن لم يكن ما هو لأجله، فلا يخلو إما أن يكون وجوده منه بألا يكون هو فيه إلا بالعرض، وهو فاعله، أو يكون وجوده منه بأن يكون هو فيه، وهو أيضاً عنصره أو موضوعه.
    الصفحة : 128
    فتكون المبادئ إذن كلها من جهة خمسة، ومن جهة أربعة. لأنك إن أخذت العنصر الذي هو قابل، وليس جزءاً من الشيء، غير العنصر الذي هو جزء، كانت خمسة. وإن أخذت كليهما شيئاً واحداً، لاشتراكهما في معنى القوة والاستعداد، كانت أربعة. ويجب أن لا تأخذ العنصر بمعنى القابل الذي هو جزء، مبدأ للصورة بل للمركب. إنما القابل يكون مبدأ بالعرض، لأنه إنما يتقوم أولاً بالصورة وبالفعل، وذاته باعتبار ذاته فقط تكون بالقوة، والشيء الذي هو بالقوة من جهة ما هو بالقوة، لا يكون مبدأ البتة. ولكنه إنما يكون مبدأ بالعرض، فإن العرض يحتاج إلى أن يكون قد حصل الموضوع له بالفعل، ثم صار سبباً لقوامه، سواء كان العرض لازماً فتكون الأولية بالذات، أو زائلاً فتكون الأولية بالذات والزمان. فهذه هي أنواع العلل. وإذا كان الموضوع علة لعرض يقيمه، فليس ذلك على النوع الذي يكون فيه الموضوع علة للمركب، بل هو نوع آخر. وإذا كانت الصورة علة للمادة تقيمها، فليست على الجهة التي تكون الصورة علة للمركب، وإن كانا يتفقان من جهة أن كل واحد منهما علة لشيء لا تباينه ذاته. فإنهما وإن اتفقا في ذلك، فإن أحد الوجهين ليس تفيد العلة للآخر وجوده، بل إنما يفيد الوجود شيء آخر ولكن فيه؛ والثاني يكون العلة فيه هو المبدأ القريب لإفادة المعلول وجوده بالفعل، ولكن ليس وحده، وإنما يكون مع شريك وسبب يوجد هذه العلة، أعني الصورة فتقيم الآخر به، فتكون واسطة مع شريك في إفادة ذلك وجوده بالفعل وتكون الصورة للمادة كأنها مبدأ فاعلي لو كان وجودها بالفعل يكون عنه وحده، ويشبه أن تكون الصورة جزءاً للعلة الفاعلية، مثل أحد محركي السفينة على ما سيتضح بعد. وإنما الصورة، علة صورية للمركب منها ومن المادة، فالصورة إنما هي صورة للمادة ولكن ليست علة صورية للمادة. والفاعل يفيد شيئاً آخر وجوداً ليس للآخر عن ذاته، يكون صدور ذلك الوجود عن هذا الذي هو فاعل، من حيث لا تكون ذات هذا الفاعل قابلة لصورة ذلك الوجود، ولا مقارنة له مقارنة داخلة فيه، بل يكون كل واحد من الذاتين خارجاً عن الآخر، ولا يكون في أحدهما قوة أن يقبل الآخر. وليس يبعد أن يكون الفاعل يوجد المفعول حيث هو، وملاقياً ذاته؛ فإن الطبيعة التي في الخشب هي مبدأ فاعل للحركة، وإنما تحدث الحركة في المادة التي الطبيعة فيها وحيث ذاته، ولكن ليس مقارنتهما على سبيل أن أحدهما جزء من وجود الآخر أو مادة له، بل الذاتان متباينتان في الحقائق، ولهما محل مشترك، فمن الفاعل ما يتفق وقتاً أن لا يكون فاعلاً، ولا مفعوله مفعولاً، بل يكون مفعوله معدوماً، ثم يعرض الفاعل الأسباب التي يصير بها فاعلاً بالفعل.
    الصفحة : 129
    وقد تكلمنا في هذا فيما سلف، فحينئذ يصير فاعلاً، فيكون عنه وجود الشيء بعد ما لم يكن، فيكون لذلك الشيء وجود، ولذلك الشيء أنه لم يكن، وليس له من الفاعل أنه لم يكن، ولا أنه كان بعد ما لم يكن، إنما له من الفاعل وجوده. وإذن فإن كان له من ذاته اللا وجود، لزم أن صار وجوده بعد ما لم يكن، فصار كائناً بعد ما لم يكن. فالذي له بالذات من الفاعل الوجود، وأن الوجود الذي له، إنما هو لأن الشيء الآخر على جملة يجب عنها أن يكون لغيره وجود عن وجوده الذي له بالذات. وأما أنه لم يكن موجوداً فليس عن علة فعلته، فإن كونه غير موجود قد ينسب إلى علة ما، وهو عدم علته، فأما كون وجوده بعد العدم فأمر لم يصر لعلة، فإنه لا يمكن البتة أن يكون وجوده إلا بعد عدم. وما لا يمكن فلا علة له، نعم وجوده يمكن أن يكون، وأن لا يكون، فلوجود علة، وعدمه قد يكون وقد لا يكون، فيجوز أن يكون لعدمه علة، وأما كون وجوده بعد ما لم يكن فلا علة له. فإن قال قائل: كذلك وجوده بعد عدمه، يجوز أن يكون، ويجوز أن لا يكون، فنقول: إن عنيت وجوده من حيث هو وجوده، فلا مدخل للعدم فيه؛ فإ نفس وجوده يكون غير ضروري، أي ممكن، وليس هو غير ضروري من حيث هو بعد عدم، ولكن الغير الضروري، وجوده هذا الذي اتفق الآن، وقد كان معدوماً. وأما من حيث أخذ وجوده وجوداً بعد عدم، فليحفظ كونه بعد عدم، لا كونه موجوداً فقط، الذي كان بعد عدم، واتفق بعد عدم، وذلك لا سبب له، فلا سبب لكون وجوده بعد العدم، وإن كان سبباً لوجود الذي كان بعد عدم من حيث وجوده. فحق أن وجوده جائز أن يكون وأن لا يكون بعد العدم الحاصل، وليس بحق أن يكون وجوده بعد العدم من حيث هو وجود بعد العدم جائز أن يكون وجوداً بعد العدم وأن لا يكون بعد العدم، اللهم إلا أن لا يكون وجوداً أصلاً فيكون الاعتبار للوجود. وربما ظن ظان أن الفاعل والعلة إنما يحتاج إليه ليكون للشيء وجود بعد ما لم يكن، وإذا وجد الشيء، فلو فقدت العلة، لوجد الشيء مستغنياً بنفسه، فظن من ظن أن الشيء إنما يحتاج إلى على في حدوثه، فإذا حدث ووجد فقد استغنى عن العلة، فتكون عنده العلل علل الحدوث فقط وهي متقدمة لا معاً، وهو ظن باطل لأن الوجود بعد الحدوث لا يخلو إما أن يكون وجوداً واجباً أو وجوداً غير واجب؛ فإن كان وجوداً واجباً، فإما أن يكون وجوبه لتلك الماهية لذات تلك الماهية حتى تقتضي تلك الماهية وجوب الوجود فيستحيل حينئذ أن تكون حادثة، وإما أن يجب لها بشرط، وذلك الشرط إما الحدوث، وإما صفة من صفات تلك الماهية، وإما شيء مباين، ولا يجوز أن يكون وجوب وجوده بالحدوث؛ فإن الحدوث
    الصفحة : 130
    نفسه ليس وجوده واجباً بذاته، فكيف يجب به وجود غيره. والحدوث قد بطل فكيف يكون عند عدمه علة لوجوب غيره، إلا أن يقال إن العلة ليست هي الحدوث، بل يكون الشيء قد حصل له الحدوث، فيكون هذا من الصفات التي للشيء الحادث فيدخل في الجملة الثانية من القسمين. فنقول: إن هذه الصفات لا تخلو إما أن تكون للماهية بماهي ماهية، لا بما هي قد وجدت، فيجب أن يكون ما قد يلزمها يلزم الماهية، فتكون الماهية يلزمها وجوب الوجود؛ أو تكون هذه الصفات حادثة مع الوجود؛ فيكون الكلام في وجوب وجودها كالكلام في الأول، فإما أن يكون هناك صفات بلا نهاية كلها بهذه الصفة، فتكون كلها ممكنة الوجود، غير واجبة بذاتها، وإما أن تنتهي إلى صفة تجب بشيء خارج. والقسم الأول يجعل الصفات كلها ممكنة الوجود في أنفسها، وقد بان أن الممكن الوجود في نفسه، موود بغيره، فتكون جميع الصفات تجب بغير خارج عنها. والقسم الثاني يوجب أن الوجود الحادث إنما يبقى وجوداً بسبب من خارج وهو العلة. على أنك قد علمت أن الحدوث ليس معناه إلا وجوداً بعد ما لم يكن، فهناك وجود، وهناك كون بعد ما لم يكن، وليس للعلة المحدثة تأثير وغناء في أنه لم يكن، بل إنما تأثيرها وغناؤها في أن منه الوجود.ث عرض أن كان ذلك، في ذلك الوقت، بعد ما لم يكن، والعارض الذي عرض بالاتفاق لا دخول له في تقوم الشيء، فلا دخول للعدم المتقدم في أن يكون للوجود الحادث علة، بل ذلك النوع من الوجود بما هو لذلك النوع من الماهيات مستحق لأن يكون له علة وإن استمر وبقي. ولهذا لا يمكنك أن تقول: إن شيئاً جعل وجود الشيء بحيث يكون بعد أن لم يكن، فهذا غير مقدور عليه، بل بعض ما هو موجود واجب ضرورة أن لا يكون بعد عدم، وبعضه واجب ضرورة أن يكون بعد عدم. فأما الوجود، من حيث هو وجود هذه الماهية، فيجوز أن يكون عن علة؛ وأما صفة هذا الوجود، وهي أنه بعد ما لم يكن، فلا يجوز أن تكون عن علة؛ فالشيء من حيث وجوده حادث، أي من حيث أن الوجود الذي له موصوف بأنه بعد العدم لا لعة له بالحقيقة، بل العلة له من حيث للماهية وجود، فالأمر بعكس ما يظنون بل العلة للوجود فقط، فإن اتفق أن سبقه عدم كان حادثاً، وإن لم يتفق كان غير حادث. والفاعل، الذي تسميته العامة فاعلاً، فليس هو بالحقيقة علة من حيث يجعلونه فاعلاً، فإنهم يجعلونه فاعلاً من حيث يجب أن يعتبر فيه أنه لم يكن فاعلاً، فلا يكون فاعلاً من حيث هو علة، بل من حيث هو علة وأمر لازم معه، فإنه يكون فاعلاً من حيث اعتبار ما له فيه أثر مقروناً باعتبار ما ليس له فيه أثر، كأنه إذا اعتبرت العلة من حيث ما يستفاد منها مقارناً لما لا يستفاد منها سمي فاعلاً. فلذلك كل
    الصفحة : 131
    شيء يسمونه فاعلاً يكون من شرطه أن يكون بالضرورة وقد كان مرة غير فاعل، ثم أراد أو قسر، أو عرض حال من الأحوال لم يكن، فلما قارنه ذلك المقارن كان ذاته مع ذلك المقارن علة بالفعل، وقد كان خلا عن ذلك، فيكون فاعلاً عندهم من حيث هو علة بالفعل بعد كونه علة بالقوة، لا من حيث هو علة بالفعل فقط. فيكون كل ما يسمونه فاعلاً يلزم أن يكون أيضاً ما يسمونه منفعلاً، فإنهم لا يخلونه عن مقارنة ما يقارنه من حال حادثة لأجلها ما صدر عنه وجوده ما لم يكن.فإذا ظهر أن وجود الماهية يتعلق بالغير من حيث هو وجود لتلك الماهية لا من حيث هو بعد ما لم يكن، فذلك الوجود من هذه الجهة معلول ما دام موجوداً. كذلك كان معلولاً متعلقاً بالغير، فقد بان أن المعلول يحتاج إلى مفيده الوجود لنفس الوجود بالذات، لكن الحدوث وما سوى ذلك أمور تعرض له، وأن المعلول يحتاج إلى مفيده الوجود دائماً سرمداً ما دام موجوداً.
    الفصل الثاني (ب)
    فصل كل علة هي مع معلولها في حل ما يتشكك به على ما يذهب إليه أهل الحق من أن كل علة هي مع معلولها، وتحقيق الكلام في العلة الفاعلية والذي يظن من أن الابن يبقى مع الأب، والبناء يبقى بعد البنّاء، والسخونة تبقى بعد النار، فالسبب فيه تخليط واقع من جهة جهل العلة بالحقيقة، فإن البنّاء والأب والنار ليست عللاً بالحقيقة لقوام هذه المعلولات، فإن الباني العامل له المذكور، ليس علة لقوام البناء المذكور، ولا أيضاً وجوده. أما البنّاء فحركته علة لحركة ما، ثم سكونه وتركه الحركة أو عدم حركته ونقله بعد ذلك النقل علة لانتهاء تلك الحركة، وذلك النقل بعينه وانتهاء تلك الحركة علة لاجتماع ما، وذلك الاجتماع علة لتشكل ما، وكل واحد مما هو علة فهو ومعلوله معاً. وأما الأب فهو علة لحركة المني، وحركة المني إذا انتهت على الجهة المذكورة علة لحصول المني في القرار، ثم حصوله في القرار علة لأمر؛ وأما تصويره حيواناً وبقاؤه حيواناً فله علة أخرى؛ فإذا كان كذلك كان كل علة مع معلولها. وكذلك النار على لتسخين عنصر الماء، والتسخين علة لإبطال استعداد الماء بالفعل لقبول صورة المائية
    الصفحة : 132
    أو حفضها، وذلك أن شيئاً آخر علة لإحداث الاستعداد التام في مثل هذه الحال لقبول ضدها وهي الصورة النارية، وعلة الصورة النارية هي العلل التي تكسو العناصر صورها وهي مفارقة. فتكون العلل الحقيقية موجودة مع المعلول؛ وأما المتقدمات فهي علل، إما بالعرض وإما معينات. فلهذا يجب أن يعتقد أن علة شكل البناء هو الاجتماع، وعلة ذلك طبائع المجتمعات وثباتها على ما ألفت، وعلة ذلك السبب المفارق الفاعل للطبائع. وعلة الولد اجتماع صورته مع مادته بالسبب المفيد للصور. وعلة النار السبب المفيد للصور وزوال الاستعداد التام لضد تلك الصور معاً. فنجد إذن أن العلل مع المعلولات. وإذا قضينا بما يتصل به كلامنا بأن العلل متناهية، فإنما نشير إلى هذه العلل ولا نمنع أن تكون عللاً معينة ومُعدة بلا نهاية، بعضها قبل بعض، بل ذلك واجب ضرورة، لأن كل حادث فقد وجب بعد ما لم يجب لوجوب علته حينئذ كما بينا، وعلته ما كان أيضاً وجب. فوجب في المور الجزئية، أن تكون الأمور المتقدمة التي بها تجب في العلل الموجودة بالفعل، أن تصير عللاً لها بالفعل أموراً بلا نهاية، ولذلك لا يقف فيها سؤال لِمَ البتة. ولكن الإشكال ههنا في شيء، وهو أن هذه التي بلا نهاية لا يخلو إما أن يوجد كل واحد منها آناً فتتوالى آنات متشافعة ليس بينها زمان وهذا محال؛ وإما أن يبقى زماناً فيجب أن يكون إيجابها في كل ذلك الزمان لا في طرف منه، ويكون المعنى الموجب لإيجابها ايضاً معها في ذلك الزمان، ويكون الكلام في إيجاب إيجابها كالكلام فيه، وتحصل علل بلا نهاية معاً. وهذه هو الذي نحن في منعه فنقول: إنه لولا الحركة لوجب هذا الإشكال، إلا أن الحركة تبقي الشيء الواحد لا على حالة واحدة فلا يكون ما يتجدد من حالة بعد حالة في آن بعد آن يشافعه ويماسه، بل كذلك على الاتصال، فتكون ذات العلة غير موجبة لوجود المعلول بل لكونها على نسبة ما، وتلك النسبة تكون علتها الحركة أو شريكة علتها أو التي بها العلة علة بالفعل الحركة، فتكون حينئذ العلة لا ثابتة الوجود على حالة واحدة ولا باطلة الوجود حادثة في آن واحد، فباضطرار إذن تكون العلة الحافظة أو المشاركة لنظام هذه العلل التي بسببها تنحل الإشكالات هو الحركة، وسنوضح ذلك في موضعه إيضاحاً أشفى من هذا. فقد بان ووضح أن العلل الذاتية للشيء التي بها وجود ذات الشيء بالفعل يجب أن تكون معه لامتقدمة في الوجود تقدماً يكون زواله مع الحدوث المعلول، وأن هذا إنما يجوز في علل غير ذاتية أو غير قريبة، والعلل غير الذاتية أو الغير القريبة لا يمنع ذهابها إلى غير النهاية بل يوجبه.
    الصفحة : 133
    وإذ قد تقرر هذا، فإذا كان شيء من الأشياء لذاته سبباً لوجود شيء آخر دائماً كان سبباً له دائماً ما دامت ذاته موجودة. فإن كان دائم الوجود كان معلوله دائم الوجود، فيكون ميل هذا من العلل أولى بالعلية لأنه يمنع مطلق العدم للشيء فهو الذي يعطي الوجود التام للشيء. فهذا هو المعنى الذي يسمى إبداعاً عند الحكماء وهو تأييس الشيء بعد ليس مطلق، فإن للمعلول في نفسه أن يكون "ليس" ويكون له عن علته أن يكون "أيس". والذي يكون للشيء في نفسه أقدم عند الذهن بالذات لا في الزمان، من الذي يكون عن غيره، فيكون كل معلول "أيساً" بعد "ليس" بعدية بالذات. فإن أطلق اسم المحدث على كل ما له "أيس" بعد "ليس" وإن لم تكن بعدية بالزمان كان كل معلول محدثاً، وإن لم يطلق، بل كان شرط المحدث أن يوجد زمان ووقت كان قبله فبطل لمجيئه بعده، فتكون بعديته بعدية لا تكون مع القبلية موجودة، بل تكون ممايزة لها في الوجود لأنها زمانية.‎ فلا يكون كل معلول محدثاً، بل المعلول الذي سبق وجوده زمان سبق وجوده لا محالة حركة وتغير كما علمت، ونحن لا نناقش في الاسماء. ثم المحدث بالمعنى الذي لا يستوجب الزمان لا يخلو إما أن يكون وجوده بعد "ليس" مطلق، أو يكون وجوده بعد "ليس" غير مطلق بل بعد عدم مقابل خاص في مادة موجودة على ما عرفته. فإن كان وجود بعد "ليس" مطلق كان صدوره عن العلة، ذلك الصدور إبداعاً، ويكون أفضل أنحاء إعطاء الوجود، لأن العدم يكون قد منع البتة، وسُلّط عليه الوجود، ولو أمكن العدم تمكيناً فسبق الوجود كان تكوينه ممتنعاً إلا عن مادة، وكان سلطان الإيجاد، أعني وجود الشيء من الشيء ضعيفاً قصيراً مستأنفاً. ومن الناس من لا يجعل كل ما هذا بصفته مبدعاً، بل يقول، إذا توهمنا شيئاً وجد عن علة أولى بتوسط علة وسطى فاعلية، وإن لم يكن عن مادة، ولا كان لعدمه سلطان، ولكن كان وجوده عن العلة الأولى الحقيقية بعد وجود آخر انساق إليه، فليس تأييسه عن "ليس" مطلقاً، بل عن "أيس" وإن لم يكن مادياً. ومن الناس من يجعل الإبداع لكل وجود صوري كيف كان، وأما المادي، وإن لم تكن المادة سبقت فيخص نسبته إلى العلة باسم التكوين. ونحن لا نناقش في هذه الاسماء البتة بعد أن تحصل المعاني متميزة، فنجد بعضها له وجود عن علة دوماً بلا مادة، وبعضها بمادة، وبعضها بواسطة، وبعضها بغير واسطة، ويحسن أن يسمى كل ما لم يوجد عن مادة سابقة غير متكون بل مبدعاً، وأن نجعل أفضل ما يسمى مبدعاً ما لم يكن بواسطة عن علته الأولى مادية كانت أو فاعلية أو غير ذلك.
    الصفحة : 134
    ونرجع إلى ما كنا فيه فنقول: أما الفاعل الذي يعرض له أن يكون فاعلاً فلا بد له من مادة يفعل بها، لأن كل حادث، كما علمت، يحتاج إلى مادة فربما فعل دفعة، وربما فعل بالتحريك فيكون مبدأ الحركة؛ وإذا قال الطبيعيون للفاعل، مبدأ الحركة، عنوا به الحركات الأربع، وتساهلوا في هذا الموضع فجعلوا الكون والفساد حركة. وقد يكون الفاعل بذاته فاعلاً، وقد يكون بقوة؛ فالذي بذاته، فمثل الحرارة لو كانت موجودة مجردة تفعل، فكان يصدر عنها ما يصدر لأنها حرارة فقط؛ وأما الفاعل بقوة، فمثل النار بحرارتها وقد عددنا في موضع آخر أصناف القوى.

    علي العذاري غير متواجد حالياً
    رد مع اقتباس
  3. تكبير الخط تصغير الخط
    بتاريخ : 09-02-2012 الساعة : 08:30 AM رقم #12
    كاتب الموضوع : علي العذاري


    شاملى مميز


    • بيانات علي العذاري
      رقم العضوية : 6016
      عضو منذ : Jan 2012
      الدولة : ariq
      المشاركات : 141
      بمعدل : 0.03 يوميا
      معدل تقييم المستوى : 14
      التقييم : Array


  4. الفصل الثالث (ج)
    فصل في مناسبة ما بين العلل الفاعلية ومعلولاتها
    نقول انه ليس الفاعل كل ما أفاد وجوداً أفاده مثل نفسه، فربما أفاد وجوداً مثل نفسه وربما أفاد وجوداً، لا مثل نفسه، كالنار تسوّد، أو كالحرارة تسخّن؛ والفاعل الذي يفعل وجوداً مثل نفسه، فإن المشهور أنه أولى وأقوى في الطبيعة التي يفيدها من غيره، وليس هذا المشهور ببين ولا بحق من كل وجه، إلا أن يكون ما يفيده هو نفس الوجود والحقيقة، فحينئذ يكون المفيد أولى بما يفيده من المستفيد. ولنعد من رأس فنقول: إن العلل لا تخلو إما أن تكون عللاً للمعلولات في نحو وجود أنفسها، وإما أن تكون عللاً للمعلولات في وجود آخر، مثال الأول: تسخين النار؛ ومثال الثاني: تسخين الحركة، وحدوث التخلخل من الحرارة، وأشياء كثيرة مشابهة لذلك. ولنتكلم عن العلل والمعلولات التي تناسب الوجه الأول. ولنورد الأقسام التي قد يظن في الظاهر أنها أقسامه، فنقول: قد يظن في الوجه الأول أنه قد يكون المعلول في كثير منه أنقص وجوداً من العلة في ذلك المعنى، إن كان ذلك المعنى يقبل الأشد والأنقص مثل الماء إذا تسخن عن النار، وقد يكون في ظاهر النظر مثله أيضاً، قبل ذلك أو لم يقبل، مثل النار فإنها يعتقد فيها، في الظاهر، أنها تحيل غيرها مثل نفسها ناراً في الظاهر فيكون مساوياً لها في صورة النارية، لأن تلك الصورة لا تقبل الأزيد والأقل، ومساوياً له في العرض اللازم من السخونة المحسوسة إذا كان صدور ذلك الفعل عن الصورة المساوية لصورته وعنه أيضاً، والمادة أيضاً، والمادة مساوية في التهيؤ. وأما كون المعلول أزيد في المعنى الذي هو من العلة، فهو الذي يرى أنه لا يمكن البتة ولا يوجد في الأشياء المظنونة عللاً ومعلولات، لأن تلك الزيادة لا يجوز أن يكون حدوثها بذاتها، ولا يجوز أن يكون
    الصفحة : 135
    حدوثها لزيادة استعداد المادة، حتى يكون قد أوجب ذلك خروج الشيء إلى الفعل بذاته، فإن الاستعداد ليس سبباً للإيجاد، فإن جعل سببها العلة والأثر الذي وجد عن العلة معاً، فتلك الزيادة تكون معلولة أمرين لا معلولة أمر واحد، وهما مجموعتين يكونان أكثر وأزيد من المعلول الذي هو الزيادة. فإن سلمنا هذه الظنون إلى أن نستبين حالها، ساغ لنا أن نقول: إنه إذا كان المعنى في المعلول والعلة متساوياً في الشدة والضعف فإنه يكون للعلة، بما هي علة، التقدم الذاتي لا محالة في ذلك المعنى. والتقدم الذاتي، الذي له في ذلك المعنى معنى من حال ذلك المعنى، غير الموجود للثاني، فيكون ذلك المعنى مساوياً للأول إذا أخذ بحسب وجوده وأحواله التي له من جهة وجوده أقدم منه للآخر. فيزول إذن مطلق المساواة، لأن المساواة تبقى في الحد، وهما من جهة ما لهما ذلك الحد متساويان، وليس أحدهما علة ولا معلولاً. فأما من جهة ما أحدهما علة والآخر معلول فواضح أن اعتبار وجود ذلك الحد لأحدهما أولى، إذ كان له أولاً لا من الثاني ولم يكن الثاني إلا منه. فظاهر من هذا أن هذا المعنى إذا كان نفس الوجود لم يمكن أن يتساويا فيه البتة إذ كان إنما يمكن أن يساويه باعتبار الحد ويفضل عليه باعتبار استحقاق الوجود. والآن فإن استحقاق الوجود هو من جنس استحقاق الحد بعينه، إذ قد أخذ هذا المعنى نفس الوجود، فبين أنه لا يمكن أن يساويه إذا كان المعنى نفس الوجود فمفيد وجود الشيء من حيث هو وجود أولي بالوجود من الشيء. ولكن ههنا تفضيل آخر بنوع من التحقيق يجب أن لا نغفله، وهو أن العلل والمعلولات تنقسم في أول النظر عند التفكر إلى قسمين: قسم تكون طباع المعلول فيه ونوعيته وماهيته الذاتية توجب أن يكون معلولاً في وجوده لطبيعة أو لطبائع، فتكون العلل مخالفة لنوعيته، لا محالة، إذ كانت عللاً له في نوعه لا في شخصه. وإذا كان كذلك لم يكن النوعان واحداً، إذ المطلوب علة ذلك النوع، بل تكون المعلولات تجب عن نوع غير نوعها، والعلل يجب عنها نوع غير نوعها، تكون عللاً للشيء المعلول ذاتية بالقياس إلى نوع المعلول مطلقاً. وقسم منه يكون المعلول ليس معلول العلة، والعلة علة المعلول في نوعه بل في شخصه. ولنأخذ هذا على ظاهر ما يقتضيه الفكر من التقسيم، وظاهر ما يوجد له من الأمثلة وعلى سبيل التوسع، إلى أن نبين حقيقة الحال الواجبة فيه من نظرنا في السبب المعطى لصورة كل ذي صورة من الأجسام. فمثال الأول كون النفس علة للحركة الاختيارية، ومثال الثاني كون هذه النار علة لتلك النار. والفرق بين
    الصفحة : 136
    الأمرين معلوم، فإن هذه النار ليست علة لتلك النار على أنها علة نوعية النار بل على أنها علة نار ما، فإذا اعتبر من جهة النوعية كانت هذه العلة للنوعية بالعرض، وكذلك الأب للابن لا من جهة ما هو أب وذلك ابن، وذاك من جهة وجود الإنسانية. وهذا القسم يتوهم على وجهين: أحدهما أن تكون العلة والمعلول مشتركين في استعداد المادة كالنار والنار. والآخر أن لا يكونا فيه مشتركين كضوء الشمس الذي في جوهره الفاعل للضوء ههنا أو في القمر، وإذ ليس استعداد المادتين فيهما متساوياً ولا المادتان من نوع واحد، فبالحري أن لا يتساوى الشخصان في ذلك، أعني هذا الضوء الذي في الشمس وهذا الضوء الحادث عنه، فيكاد لذلك أن لا يكون الضوءان من نوع واحد عند من يشترط في تساوي نوعية الكيفيات أن لا يكون أحدهما أنقص والآخر أزيد، على ما علمت في موضعه من صفته، ويكونان نوعاً واحداً عند من يرى المخالفة بالنقص والاشتداد مخالفة بالعوارض والتشخصات. وأما القسم الأول وهو أن يكون الأمران مشتركين في استعداد المادة، فهو أيضاً على قسمين؛ لأن ذلك الاستعداد إما أن يكون استعداداً في المنفعل تاماً، أو يكون استعداداً ناقصاً. والاستعداد التام أن لا يكون في طباع الشيء معاوق ومضاد لما هو بالقوة فيه، كاستعداد الماء المسخن للتبريد لأن في نفسه قوة طبيعية - كما علمناه في الطبيعيات - تعاوق القوة الخارجة في التبريد أو لا تعاوقه؛ وأما الاستعداد الناقص فهو كاستعداد الماء للتسخن، لأن فيه قوة تعاوق التسخن الذي يحدث فيه من خارج، وتوجد مع التسخن باقية فيه ولا تبطل. والقسم الأول على أقسام ثلاثة: فإنه إما أن يكون في المستعد قوة معاونة، تبقى كما في الماء إذا برد عن سخونته. وإما أن يكون في المستعد قوة مضادة للأمر، إلا أنها تبطل مع وجود الأمر كما في الشعر إذا شاب عن سواد. وإما أن لا يكون في المستعد ولا واحد من الأمرين لا ضد ولا معين، ولكن عدم الأمر والاستعداد له فقط، مثل حال التّفه في قبول الطعم، وعديم الرائحة في قبول الرائحة. فإن سئلنا عن استعداد الماء لأن يصير ناراً أنه من أي الأقسام الخمسة هو، لم يشكل علينا أنه من قسم المشاركة في استعداد تام للمادة ولكن به في المادة ضده. ولقائل أن يقول: إنكم قد تركتم اعتبار قسم واحد، وهو أن لا يكون هناك مشاركة في المادة أصلاً إذ لا يكون لها مادة؛ فالجواب عن هذا أن هناك لا يمكن أن يكون اتفاق في النوع البتة، فإنه قد استبان أن
    الصفحة : 137
    الأشياء المتفقة في النوع البريئة عن المادة أصلاً يكون وجودها عيناً واحداً، ولا يجوز أن يقال معنى الواحد منها على كثيرين. فغذا قد دللنا على هذه الأقسام التي حاصلها خمسة؛ فإنا نرود الحكم في قسم قسم منها فنقول: أما القسم من هذا الباب الذي لا مشاركة فيه في استعداد المادة لا القريبة ولا البعيدة، فليس يجب فيه أن يكون ما يحدثه الفاعل من الاثار القابلة للزيادة والنقصان مساوياً لنفسه، لأنه يمكن أن يكون بما افترقاً فيه من جوهر المادة افتراقاً في الاستعداد لقبول الأمر فلم يقبلاه بالسوية، وليس أيضاً يجب أن لا يتساويا فيه، بل قد يجوز أن يكون الحال في ذلك مثل الحال في اتباع سطح فلك الأثير لسطح فلك القمر في الحركة التي بالعرض، وذلك حيث يمكن أن لا يكون في هذا مانع من قبول التأثير مساوياً لما يؤثره الفاعل وهو في مثل هذا الموضع إحداث مثل نفسه. وأما القسم من هذا الباب الذي هناك استعداد تام كيف كان، فالأمر ظاهر في أن المنفعل قد يجوز أن يتشبه بالفاعل تشبهاً تاماً، وذلك مثل النار تحيل الماء ناراً والملح يحيل العسل ملحاً، وما أشبه ذلك. وقد يجوز أن يزيد فيه المنفعل على الفاعل في الظاهر غير المتحقق، مثل الماء الذي يجمده الهواء ولا يكون برد ذلك الهواء برد ذلك الجمد؛ إلا انك إذا تحققت لم يكن الفاعل وجده هو البرد الذي في الهواء، بل والقوة المبردة الصورية التي في جوهر الماء - الذي دللنا عليه في الطبيعيات - إذا عاونها ولم يعاوقها برد الهواء. وأما القسم من هذا الباب الذي يكون استعداد المنفعل فيه ناقصاً، فليس يمكن البتة أن يتشبه فيه المنفعل بالفاعل التام القوة ويساويه، فإنه لا يمكن أن يكون الشيء الحاصل من قوة في الشيء لا مضاد لها والحاصل من قوة أخرى، وهناك مضاد ممانع، متساويين البتة، أو يبطل الممانع. ولهذا لا يمكن أن يكون شيء غير النار يتسخن من النار وتكون سخونته مثل سخونة تلك النار، أو شيء غير الماء يبرد عن الماء وتكون برودته أكثر من برودة ذلك الماء، لأن استعداد النار للتسخن والماء للتبرد حال غير مضاد في جوهره، والقوة الفاعلة داخلة في جوهره غير غريبة منه، فأما ما ينفعل منهما ففيه مانع عنه مضاد. والفاعل الأول للإنفعال خارج عن جوهره ويفعل فيه بمماسته وبتوسط أمر، كالسخونة المحسوسة في النار المسخنة، والبرودة المحسوسة في الماء المبرد، فليس يمكن أن يساويه. فإن قال قائل: إن النار قد تذيب الجواهر فتجعلها أسخن منها، لأنا ندخل أيدينا في النار ونمرها بعجلة فلا تحترق احتراقها في المسبوكات لو فعل بها ذلك بعينه، فيعلم من ذلك يقيناً أن المسبوكات أسخن من
    الصفحة : 138
    النار ومع ذلك فإنما سخنت من النار. فإنا نجيب ونقول: إن ذلك ليس بسبب أن المسبوكات أسخن، ولكن لمعان ثلاثة، منها ما هو أقرب إلى الظهور؛ أحدهما في المسبوك. والآخر في النار، والثالث في اللامس، وكلها متعاونة متقاربة. أما الذي في المسبوك، فلأنه غليظ فيه تشبث ما ولزوجة وبطء انفصال، فإذا لمس ذهب مع اللامس ولم يمكن أن يفارق إلا في زمان ذي قدر في نفسه بالقياس إلى زمان مفارقة اللامس النار، وإن كان الحس لا يضبط ذلك الإختلاف، لكن العقل والذهن يوجبه. ومن شأن الفاعل الطبيعي أن يفعل في المنفعل في مدة أطول فعلاً آكد وأحكم، وأن يفعل الضعيف في مدة اطول ما لا يفعله القوي في مدة قصيرة. وأما الذي في النار، فلأن النار محسوسة إنما هي أجزاء من النار الحقيقية مع أجزاء من الأرض متحركة، واجتماعها على سبيل التجاور لا على سبيل الإتصال، بل هي في أنفسها متفرقة، ويتخللها الهواء تخللاً على سبيل التجدد، فيكسر ما بداخله فيها من صرافة حرة، لأنه أبرد منها، ولأنه ليس ينفعل في تلك العجلة انفعالاً لا يصير به ناراً محضاً، ومع ذلك فإنها سريعة الحركة في نفسها لا يكاد يبقى جزء منها مماساً لجزء من اليد زماناً يؤثر فيه تأثيراً محسوساً بل يتجدد، فما لم تجتمع تأثيرات غير محسوسة كثيرة لا يؤدي إلى قدر محسوس وذلك في مدة لها قدر. وأما المسبوك، فإن جوهره مجتمع متحد ثابت قائم بالإتصال؛ وإذا كان كذلك كان ما يلاقي سطح اليد من المسبوك سطحاً واحداً مطابقاً بالكلية، وما يلاقيه من النار المحسوسة سطوح صغار مخالطة لما هو بالقياس إليها برد، فيختلف بذلك التأثير، إلا أن يبقى مدة تتوالى فيها المماسات فيكثر ويفعل كل سطح فيما يماسه فعلاً، ثم يتسلط الفعل على ما هو عليه الأمر في الاستحالات الطبيعية.وأما النار المحقونة في مثل الكيران للحدادين فإنها أعظم تأثيراً فيما يماسه من المسبوكات وغيرها، وأسرع مدة لاجتماعها وصرافتها. وأما الحال التي في اليد، فلأن اليد قادرة على قطع الهواء والنار والأجسام اللطيفة بأسرع حركة، وليست قادرة على قطع المسبوك الكثيف باسرع حركة، لأن المقاومة للدفع والخرق في اللطيف قليل، وفي الكثيف كثير، ويكاد أن يكون هذا يسمى كثيفاً وذلك لطيفاً بسبب اختلافهما في هذا المعنى، فلو كان المسبوك ليس ألزج وأكثر تشبثاً لما يلامسه، وليس أيضاً اشد اجتماعاً واتحاداً، ثم كان قطعه في مدة أطول لمقاومته، وكان ثابتاً لازماً غير هارب عن المماسة، لكفاه ذلك في جواز أن يؤثر تأثيراً أشد من تاثير اللطيف بحسب نسبة الأزمنة إذ كان ذا أثر في مثل زمان ملاقاة اللطيف أثراً ما، فإذا ضوعف الزمان أمكن أن يساويه في بعض الأضعاف، وإذا زيد في الأضعاف أمكن أن يزيد عليه، وربما لم يكن زمانه المضاعف مع عظم نسبته محسوس القدر لما تعرفه. ومن حق هذا الموضع أن
    الصفحة : 139
    يبسط بسطاً أكثر مما بسطناه، لكنه أولى بالصناعة الطبيعية وإنما يجب أن نذكر ههنا قدر ما تنحل به الشبهة ويظهر وجهها، ثم إن شاء مستقص أن يستقصي ذلك استقصاه من الأقوال المستقصاة في علم الطبيعة وخصوصاً ما عسى يجده من جهتنا. فقد ظهر من جملة هذه التفصيلات الموضع الذي نظن فيه أنه يجوز أن يتساوى الفاعل والمنفعل فيه، والموضع الذي يظن فيه أنه يجوز أن يزيد عليه، والموضع الذي لا يجوز إلا أن يقصر عنه. وظهر في خلال ذلك أنه وإن كان كذلك فوجود المعنى من جهة نفس الوجود لا يتساوى فيه الفاعل والمنفعل إذا لم يكن فاعلاً للمعنى بما هو وجود المعنى بالعرض كما بيناه. ثم الفاعل والمبدأ الذي ليس منفعله مشاركاً له في النوع ولا في المادة، وإنما يشاركه بوجه ما في معنى الوجود، وليس يمكن أن يعتبر فيه حال المعنى الذي له الوجود لأنهما ليسا يشتركان فيه، فبقي فيه حال اعتبار الوجود نفسه، وقد كان في سائر ذلك ما كان من المتساوية والزائدة على مبدأ الفاعل إذا رجع إلى حال اعتبار الوجود كان المبدأ الفاعلي غير مساو له لأن وجوده بنفسه، ووجود المنفعل من حيث ذلك الإنفعال مستفاد منه. ثم الوجود بما هو وجود لا يختلف في الشدة والضعف، ولا يقبل الأقل والأنقص وإنما يختلف في عدة أحكام وهي: التقدم، والتأخر، والاستغناء والحاجة، والوجوب والإمكان. أما في التقدم والتأخر، فإن الوجود، كما علمت، للعلة أولاً، ولمعلول ثانياً. وأما الاستغناء والحاجة، فقد علمت أن العة لا تفتقر في الوجود إلى المعلول، بل يكون موجوداً بذاته أو بعلة أخرى، وهذا المعنى قريب من الأول وإن خالفه في الاعتبار. وأما الوجوب والإمكان، فإنا لم نعلم أنه إن كانت علة هي علة لكل ما هو معلول فهي واجبة الوجود بالقياس إلى الكل من كل المعلولات وعلى الإطلاق، وإن كان علة لمعلول ما فهي واجبة الوجود بالقياس إلى ذلك المعلول، وذلك المعلول كيف كان فهو ممكن الوجود في نفسه. وتلخيص هذا: هو أن المعلول هو في ذاته بحيث لا يجب له وجود، وإلا لوجب من دون علته إذا فرض واجباً لذاته وبحيث لا يمتنع له وجود؛ وإلا لما وجد بالعلة فذاته بذاته بلا شرط كون علة له أو لا كون علة له ممكنة الوجود، وإنما يجب لا محالة بالعلة. ثم العلة كما قد تبين لا يجوز أن يجب بها، بل يكون إما واجباً بذاته وإما واجباً من شيء غيره، فإذا حصل له الوجوب به فحينئذ يصح أن يكون عنه وجوب غيره، فيكون المعلول باعتبار ذاته ممكناً وأما العلة فباعتبار ذاتها إما واجباً وإما ممكناً، فإن كان واجباً فوجوده أحق من وجود الممكن وإن كان ممكناً
    الصفحة : 140
    وليس يجب بالمعلول، والمعلول يجب به وبعد وجوبه، فتكون العلة إذا صار ذاتها واجبة لم يكن بالقياس إلى المعلول، والمعلول لا يصير ذاته واجبة إلا بالقياس إليها، فيكون إلى ذات العلة نظر قد وجب به لا يتناول ذات المعلول بل يكون به هو واجباً، والمعلول غير ملحوظ بعد، وذات المعلول لا تكون إلا ممكنة، ولا يجب إلا ا، تلاحظ مقيسة بالعلة، فيكون للعلة اختصاص بوجوب، ولا يكون للمعلول إلا الإمكان فقط عند ذاك الإختصاص، ويكون إذا كان للمعلول وجوب كان العلة اولاً وإلا لكانت العلة بعد ممكنة لم يجب وجودها ووجب وجود المعلول، فيكون وجب لا عن ذات العلة وهذا محال، فيكون للعلة وجوب باعتبار ذاته ومن حيث لم تضف إلى المعلول والمعلول بعد ثابت على مقتضى إمكانه إذ كانت العلة لا تجب عنه بل بذاته أو بإضافة إلى غيره لا إليه، ومن حيث العلة غير مضافة إلى المعلول بعد. فالمعلول ليس يجب وجوده، بل إنما يجب وجوده من حيث العلة مضافة إليه، فتصير العلة، لهذه المعاني الثلاثة، أولى بالوجود من المعلول، فالعلة أحق من المعلول، ولأن الوجود المطلق إذا جعل وجود شيء صار حقيقياً. فبين أن المبدأ المعطى للحقيقة المشارك فيها أولى بالحقية، فإذا صح أن ههنا مبدأ أولاً هو المعطي لغيره الحقيقة، صح أنه الحق بذاته، وصح أن العلم به هو العلم بالحق مطلقاً؛ وإذا حصل العلم به كان العلم الحق مطلقاً بالنحو الذي يقال للعلم حق، وهو الذي بالقياس إلى المعلوم.
    الفصل الرابع (د)
    الصفحة : 141
    فصل في العلل الأخرى العنصرية والصورية والغائبة
    فهذا ما نقوله في المبدأ الفاعلي، ولنشرح الآن القول في المبادئ الأخر، فأما العنصر فهو الذي فيه قوة وجود الشيء، فنقول: إن الشيء تكون له هذه الحالة مع شيء آخر على وجوه: فتارة يكون كما للوح إلى الكتابة، وهو أنه مستعد لقبول شيء يعرض له من غير تغير فيه ولا زوال أمر كان له عنه. وتارة يكون كما للشمعة إلى الصنم، وللصبي إلى الرجل، وهو أنه مستعد لقبول شيء يعرض له من غير أن يتغير من أحواله شيء، إلا حركة في "أين" أو "كم" أو غير ذلك. وتارة يكون كما للخشبة إلى السرير، فإنه يُنقصه بالنحت شيئاً من جوهره. وتارة يكون مثل ما للأسود إلى الأبيض، فإنه يستحيل ويفقد كيفيته من غير فساد جوهره. وتارة يكون كما للماء إلى الهواء، فإنه يكون الهواء عنه بأن يفسد. وتارة يكون كما للمني إلى الحيوان، فإنه يحتاج أن ينسلخ عن صور له انسلاخات حتى يستعد لقبول صورة الحيوان. وكذلك الحصرم للخمر. وتارة يكون كما للمادة الأولى إلى الصورة، فإنها مستعدة لقبولها متقومة بالفعل. وتارة يكون مثل الهليلجة إلى المعجون، فإنه ليس عنه وحده يكون المعجون، بل عنه وعن غيره فيكون قبل ذلك جزءاً بالقوة. وتارة يكون كما للخشب والحجارة إلى البيت، فإنه كالأول، إلا أن الأول إنما يكون عنه المعجون بضرب من الاستحالة، وهذا ليس فيه إلا التركيب. ومن هذا الجنس أيضاً الآحاد للعدد، وقد يجعل قوم المقدمات كذلك النتيجة، وذلك غلط. بل المقدمات كذلك لشكل القياس، وأما النتيجة فليست صورة في المقدمات، بل شيئاً يلزم عنها، كأن المقدمات تفعلها في النفس. فعلى هذه الأنحاء نجد الأشياء الحاملة للقوة، فإنها إما أن تكون حاملة للقوة بوحدانيتها أو بشركة غيرها. فإن كانت بوحدانيتها فإما إلا يحتاج فيما يكون منها إلا إلى الخروج بالفعل لذلك فقط، وهذا هو الذي بالحري أن يسمى موضوعاً بالقياس إلى ما هو فيه، ويجب أن يكون لمثل هذه بنفسه بالفعل قوام، فإنه إن لم يكن له قوام لم يجز أن يكون متهيئاً لقبول الحاصل فيه، بل يجب أن يكون قائماً بالفعل؛ فإن كان إنما يصير قائماً بما يحله فقد كان فيه شيء يحله قبل ما حله ثانياً به يقوم، وإما أن يكون الثاني ليس مما يقومه بل مضافاً إليه أو يكون وروده يبطل ما كان يقيمه قبله فيكون قد استحال، وقد فرضناه لم
    الصفحة : 142
    يستحل.فهذا قسم. وأما إن كان يحتاج إلى زيادة شيء، فإما أن يكون إلى حركة فقط، إما مكانية وإما حركة كيفية أو حركة كمية أو وضعية و جوهرية، وإما إلى فوات أمر آخر من جوهره من كم أو كيف أو غير ذلك. وأما الذي يكون بمشاركة غيره فيكون لا محالة فيه اجتماع وتركيب، فإما أن يكون تركيب من اجتماع فقط، وإما أن يكون مع ذلك استحالة في الكيف. وكل ما فيه تغير فإما أن ينتهي إلى الغاية وتغير واحد، أو بتغيرات كثيرة. وقد جرت العادة بأن يسمى الذي يكون الكون منه بالتركيب وهو في الشيء أسطقساً، وهو الذي ينحل إليه أخيراً، فإن كان جسمانياً فهو أصغر ما ينتهي إليه القاسم في القسمة إلى المختلفات الصور الموجودة فيه وقد حد بأنه الذي منه ومن غيره تركب الشيء وهو فيه بالذات ولا ينقسم بالصورة. ومن رأى أن الأشياء إنما تتكون من الأجناس والفصول جعلها الاسطقسات الأولى، وخصوصاً الواحد والهوية فقد جعلوها أولى المبادئ بالمبدئية، لأنها أشدها كلية وجنسية. ولو أنصفوا لعلموا أن القوام بالذات إنما هو للأشخاص، فما يليها أولى بأن يكون جواهر وقائمات بأنفسها، وأنها أولى بالوجود أيضاً. ولنعد إلى أمر النعصر فنقول: قد جرت العادة في مواضع بأن يقال: إن الشيء كان عن العنصر في مواضع، ولم يجر في مواضع، فإنه يقال: إنه كان من الخشب باب، ولا يقال: كان من الإنسان كاتب. وأن ينسب الكائن إلى الموضوع في مواضع، وأن لا ينسب في مواضع، فيقال، تارة، إن هذا باب خشبي، ولا يقال: إن هذا كاتب إنساني. فأما الأول، فإذا وجدوا الموضوع لم يتحرك إليه البتة ولم يتغير في قبول الشيء، فإنهم حينئذ لا يقولون دائماً إنه كان عن العدم، كما يقولون عن غير الكاتب. وإذا تغير خصوصاً فيما لا يجدون للعدم منه اسماً، فيقولون: كان عن غير الموضوع. وأما بالنسبة إلى الموضوع فإنما يستعمل في الأكثر إذا كان الموضوع قد يصلح غيره للصورة. وأما الصورة فلا ينسب إليها، ولا يقال كان منها، إنما يشتق منها الاسم، والموضوع قد يكون مشتركاً للكل وقد يكون مشتركاً لعدة أمور، مثل العصير للخل والخمر والطلا والرُّبّ وغير ذلك. وكل عنصر فإنه من حيث هو عنصر، إنما له القبول فقط، وأما حصول الصورة فله من غيره، وما كان من العناصر أو القوابل مبدأ الحركة إلى الأثر موجود في نفسه ظن أنه متحرك إليه بنفسه، وليس كذلك. فقد تبين لنا في مواضع أخرى أنه لا يجوز أن يكون شيء واحد فاعلاً وقابلاً لشيء واحد من غير أن يتجزأ ذاته، لكن العنصر إذا كان مبدأ حركته فيه بذاته كان متحركاً عن الطبيعة، وكان ما
    الصفحة : 143
    يكون منه طبيعياً، وإذا كان مبدأ الحركة فيه من خارج ولم يكن له أن يتحرك إلى ذلك الكمال من نفسه كان ما يكون منه صناعياً أو تجارياً مجراه، فهذا جمل ما نقوله في العنصر. وأما الصورة فنقول: قد يقال صورة لكل معنى بالفعل يصلح أن يفعل حتى تكون الجواهر المفارقة صوراً بهذا المعنى. ويقال صورة لكل هيئة وفعل يكون في قابل وحداني أو بالتركيب حتى تكون الحركات والأعراض صوراً. ويقال صورة لما تتقوم به المادة بالفعل فلا تكون حينئذ الجواهر العقلية والأعراض صوراً. ويقال صورة لما تكمل به المادة وإن لم تكن متقومة بها بالفعل، مثل الصورة وما يتحرك بها إليها بالطبع، ويقال صورة خاصة لما يحدث في المواد بالصناعة من الأشكال وغيرها. ويقال صورة لنوع الشيء ولجنسه ولفصله ولجميع ذلك. وتكون كلية الكلي صورة للأجزاء أيضاً، والصورة قد تكون ناقصة كالحركة وقد تكون تامة كالتربيع والتدوير. وقد علمت أن الشيء الواحد يكون صورة وغاية ومبدأ فاعلياً من وجوه مختلفة. وفي الصناعة أيضاً، فإن الصناعة هي صورة المصنوع في النفس، فإن البناء في نفسه صورة الحركة إلى صورة البيت، وذلك هو المبدأ الذي يصدر عنه حصول الصورة في مادة البيت، وكذلك الصحة هي صورة البرء، ومعرفة العلاج هي صورة الإبراء. والفاعل الناقص يحتاج إلى حركة وآلات حتى يصدر ما في نفسه محصلاً في المادة، والكامل فإن الصورة التي في ذاته يتبعها وجود الصورة في مادتها ويشبه أن تكون الأمور الطبيعية صورها عند العلل المتقدمة للطبيعة بنوع، وعند الطبيعة على طريق التسخير بنوع، وأنت تعلم هذا بعد. وأما الغاية فهي ما لأجله يكون الشيء، وقد علمته فيما سلف، وقد تكون الغاية في بعض الأشياء في نفس الفاعل فقط كالفرح بالغلبة، وقد تكون الغاية في بعض الأشياء في شيء غير الفاعل، وذلك تارة في الموضوع مثل غايات الحركات التي تصدر عن رؤية أو طبيعة، وتارة في شيء ثالث كمن يفعل شيئاً ليرضي به فلان، فيكون رضاء فلان غاية خارجة عن الفاعل والقابل، وإن كان الفرح بذلك الرضى أيضاً غاية أخرى. ومن الغايات التشبه بشيء آخر، والمتشبه به من حيث هو متشوق إليه غاية، والتشبه نفسه أيضاً غاية.
    الفصل الخامس (ه)
    الصفحة : 144
    فصل في إثبات الغاية وحل شكوك قيلت في إبطالها، والفرق بين الغاية وبين الضروري وتعريف الوجه الذي تتقدم به الغاية على سائر العلل والوجه الذي تتأخر به فنقول: إنه قد بان، مما سلف لنا من القول، أن كل معلول فله مبدأ، وكل حادث فله مادة وصورة، ولم يتبين بعد أن كل تحريك فله غاية ما، فإن ههنا ما هو عبث، وههنا ما هو اتفاق، وأيضاً ههنا مثل حركة الفلك، فإن لا غاية لها في ظاهر الأمر، والكون والفساد لا غاية لهما في ظاهر الظن. ثم لقائل أن يقول: قد يجوز أن يكون لكل غاية غاية، كما يكون لكل ابتداء ابتداء، فلا يكون بالحقيقة غاية وتمام، لأن الغاية بالحقيقة ما يسكن لديه، وقد نجد أشياء هي غايات أخرى إلى غير النهاية، فإن ههنا أشياء يظن أنها غايات ولا تتناهى، كنتائج تترادف عن القياسات ولا تتناهى. ثم لقائل أن يقول: لنترك أن الغاية موجودة لكل فعل، فلم جعلت علة متقدمة وهو بالحقيقة معلولة العلل كلها؟ ومما يليق أن نتكلم فيه بعد حل هذه الشبهة أنه هل الغاية والخير شيء واحد أم يختلف؟ وأيضاً ما الفرق بين الجود والخيرية؟ فتقول: أما الشك الأول المنسوب إلى الاتفاق والعبث فنحله ونقول: أما حال الاتفاق وأنه غاية ما فقد فرغ منه في الطبيعيات. وأما بيان أمر العبث فيجب أن نعرف أن كل حركة ارادية فلها مبدأ قريب، ومبدأ بعيد، ومبدأ أبعد. فالمبدأ القريب هو القوة المحركة التي في عضلة العضو، والمبدأ الذي يليه هو الإجماع من القوة الشوقية، والأبعد من ذلك هو التخيل أو التفكر. فغذا ارتسم في التخيل أو الفكر النطقي صورة ما، فتحركت القوة الشوقية إلى الإجماع، خدمتها القوة المحركة التي في الاعضاء، فربما كانت الصور المرتسمة في التخيل أو الفكر هي نفس الغاية التي تنتهي إليها الحركة؛ وربما كانت شيئاً غير ذلك؛ إلا أنه لا يتوصل إليه إلا بالحركة إلى ما تنتهي إليه الحركة، أو تدوم عليه الحركة. مثال الأول: أن الإنسان ربما ضجر عن المقام في موضع ما، وتخيل في نفسه صورة موضع آخر، فاشتاق إلى المقام فيه، فتحرك نحوه، فانتهت حركته إليه، فكان متشوقه نفس ما انتهى إليه تحريك القوى المحركة للعضلة. ومثال الثاني: أن الإنسان قد يتخيل في نفسه صورة لقائه لصديق له، فيشتاقه، فيتحرك إلى المكان الذي يقدر مصادفته فيه، فتنتتهي حركته إلى ذلك المكان، ولا تكون نفس ما انتهت إليه حركته نفس المتشوق الأول الذي نزع إليه بل معنى آخر، لكن المتشوق يتبعه، ويحصل بعده، وهو لقاء الصديق.
    الصفحة : 145
    فقد عرفت هذين القسمين، وتبين لك من ذلك بأدنى تأمل أن الغاية التي تنتهي إليها الحركة في كل حال من حيث هي غاية الحركة، هي غاية أولى حقيقية للقوة الفاعلة المحركة التي في الأعضاء، وليس للقوة المحركة التي في الأعضاء غاية غيرها، لكنه ربما كان للقوة التي قبلها غاية غيرها، فليس يجب دائماً أن يكون ذلك الأمر غاية أولى للقوة الشوقية: تخييلية كانت أو فكرية، ولا أيضاً دائماً يجب أن لا يكون، بل ربما كان، وربما لم يكن، كما تبين لك في المثالين. أما الأول منهما فكانت الغاية فيهما واحدة، وأما الثاني فكانت مختلفة. والقوة المحركة التي في الأعضاء مبدأ حركة لا محالة، والقوة الشوقية ايضاً مبدأ أول لتلك الحركة، فإنه لا يمكن أن تكون حركة نفسانية لا عن شوق البتة، لأن الشيء الذي لا تنبعث إليه القوة ثم تنبعث إليه إنبعاثاً نفسانياً يكون بتشوق نفساني لا محالة قد حدث بعد ما لم يكن. فإذن كل حركة نفسانية مبدؤها الأقرب قوة محركة في عضل الأعضاء، ومبدؤها الذي يليه شوق، والشوق - كما علم في علم كتاب النفس - تابع لتخيل أو فكر لا محالة، فيكون المبدأ الأبعد تخيلاً أو فكراً. فإذن ههنا مبادئ للحركات النفسانية. منها واجبة بأعيانها ضرورة. ومنها غير الواجبة بأعيانها ضرورة. والواجبة ضرورة: هي القوى المحركة في الأعضاء، والقوة الشوقية. وغير الواجبة: هي التخيل والفكر، فإنه ليس يجب لا محالة أن يكون تخيل ولا فكر أو فكر ولا تخيل ولكل مبدأ حركة غاية لا محالة والمبدأ الذي لا بد منه في الحركة الإرادية له غاية لا بد منها، والمبدأ الذي منه بد توجد الحركة خالية عن غايته؛ فإن اتفق أن يتطابق المبدأ الأقرب - وهو القوة المحركة - والمبدءان اللذان بعده - أعني الشوقية مع التخيل أو الشوقية مع الفكرية - كانت نهاية الحركة هي الغاية للمبادئ كلها، وكان ذلك غير عبث لا محالة. وإن اتفق أن يختلف؛ أعني أن لا يكون ما هو الغاية الذاتية للقوة المحركة غاية، ذاتية للقوة الشوقية، وجب ضرورة أن يكون للقوة الشوقية غاية أخرى بعد الغاية التي في القوة المحركة التي للعضو؛ وذلك لأنا قد أوضحنا أن الحركة الإرادية لا تكون بلا شوق وكل ما هو شوق فهو شوق لشيء، وإذا لم يكن لمنتهى الحركة كان لشيء آخر غيره لا محالة، وإذا كان ذلك الشيء يراد لأجله الحركة فيجب أن يكون بعد انتهاء الحركة.
    الصفحة : 146
    وكل نهاية تنتهي إليها الحركة أو تحصل بعد نهاية الحركة، ويكون الشوق التخيلي والفكري قد تطابقا عليها، فبين أنها غاية إرادية، وليست بعبث البتة، وكل نهاية تنتهي إليها الحركة وتكون هي بعينها الغاية المتشوقة المتخيلة ولا تكون المتشوقة بحسب الفكرة، فهي التي تسمى العبث. وكل غاية ليست هي نهاية الحركة ومبدؤها تشوق تخيلي غير فكري، فلا تخلو: إما أن يكون التخيل وحده هو المبدأ لحركة الشوق. أو التخيل مع طبيعة أو مزاج مثل التنفس أو حركة المريض. أو التخيل مع خلق وملكة نفسانية داعية إلى ذلك الفعل بلا روية. فإن كان التخيل وحده هو المبدأ للشوق سمي ذلك الفعل جزافاً، ولم يسم عبثاً. وإن كان تخيل مع طبيعة مثل التنفس، سمي ذلك الفعل قصداً ضرورياً أو طبيعياً. وإن كان تخيل مع خلق وملكة نفسانية سمي ذلك الفعل عادة، لأن الخلق إنما يتقرر باستعمال الأفعال، فما يكون بعد الخلق يكون عادة لا محالة. وإذا كانت الغاية التي للقوة المحركة وهي نهاية الحركة موجودة ولم توجد الغاية الأخرى التي بعدها وينحو التشوق وهي غاية الشوق فيسمى ذلك الفعل باطلاً، كمن حصل في المكان الذي قدّر فيه مصادفة الصديق ولم يصادفه هناك، فسمي فعله باطلاً بالقياس إلى القوة المتشوقة دون القوة المحركة وبالقياس إلى الغاية الأولى دون الغاية الثانية. وإذا تقررت هذه المقدمات فنقول: قول من يقول إن العبث فعل من غير غاية البتة هو قول كاذب. وقول القائل أيضاً إن العبث فعل من غير غاية البتة هي خير أو مظنون خيراً، هو قول كاذب. أما الأول فإن الفعل إنما يكون بلا غاية إذا لم يكن له غاية بالقياس إلى ما هو مبدأ حركته، لا بالقياس إلى ما ليس مبدأ حركته، وإلى أي شيء اتفق. وما مثل به في الشك من اللعب باللحية، فمبدأ حركته القريبة هو القوة التي في العضلة، والذي قبله تشوق تخيلي بلا فكر، وليس مبدؤه فكراً البتة، فليس فيه غاية فكرية، وقد حصلت فيه الغاية التي للتشوق التخيلي وللقوة المحركة، فبيّنٌ أن هذا الفعل بحسب مبدئه المحرك، منته إلى غاية، وأنه إنما لا يتحرك إلى غاية بحسب ما ليس مبدأه المحرك. ولا يجب أن يظن أن هذا يصدر لا عن شوق تخيلي، فإن كان فعل نفساني كان بعد ما لم يكن، فهناك شوق ما لا محالة، وطلب نفساني، وذلك مع تخيل ما، إلا أن ذلك التخيل ربما كان غير ثابت بل سريع البطلان، أو كان ثابتاً ولكن لم يشعر به، فليس كل من تخيل شيئاً يشعر مع ذلك ويحكم أنه قد تخيل؛
    الصفحة : 147
    وذلك لأن التخيل غير الشعور بأنه قد تخيل. وهذا ظاهر، ولو كان كل تخيل يتبعه شعور بالتخيل لذهب الأمر إلى غير النهاية. وأما الثاني فلأن لانبعاث هذا الشوق علة ما لا محالة: إما عادة، وإما ضجر عن هيئة وإرادة انتقال إلى هيئة أخرى، وإما حرص من القوى المحركة والمحسة على أن يتجدد لها فعل تحريك وإحساس. والعادة لذيذة، الانتقال من المملول لذيذ، والحرص على الفعل الجديد لذيذ، أعني بحسب القوة الحيوانية والتخييلية. واللذة هي الخير الحسي، والتخييلي، والحيواني، بالحقيقة وهي المظنونة خيراً، بحسب الإنساني فإذا كان المبدأ تخيلاً حيوانياً فيكون خيره لا محالة خيراً تخيلياً حيوانياً فليس إذن هذا الفعل خالياً عن خير بحسبه، وإن لم يكن خيراً حقيقياً أي بحسب العقل ثم رواه هذا علل لتخصيص هيئة دون هيئة من الحركات جزئية لا تضبط. وأما الشك الذي يليه فينكشف بأن نعرف الفرق بين الغاية بالذات وبين الضروري الذي هو أحد الغايات التي بالعرض. والفرق بينهما أن الغاية بالذات هي الغاية التي تطلب لذاتها، والضروري أحد ثلاثة أمور. إما أمر لا بد من وجوده حتى توجد الغاية على أنه علة للغاية بوجه؛ مثل صلابة الحديد حتى يتم القطع به. وإما أمر لا بد من وجوده حتى توجد الغاية لا على أنه علة للغاية، بل على أنه أمر لازم للعلة؛ مثل أنه لا بد من أن يكون جسم أدكن حتى يتم القطع به؛ وإنما لم يكن بد من جسم أدكن لا لدكانته، لكن لأنه كان لازماً للحديد الذي لا بد منه. وإما أمر لا بد من وجوده لازماً للعلة الغائية نفسها؛ مثل أن العلة الغائية في التزويج مثلاً التوليد، ثم التوليد يتبعه حب الولد ويلزمه، لأن التزويج كان لأجله. فهذه كلها غايات بالعرض الضروري، لا بالعرض الإتفاقي. وقد علمت الغايات العرضية الاتفاقية في موضع آخر. واعلم أن وجود مبادئ الشر في الطبيعة، هو من القسم الثاني من هذه الأقسام، فإنه مثلاً لما كان يجب في الغاية الإلهية - التي هي الجود - أن يؤتى كل ممكن الوجود وجوده الخيري، وكان الوجود الذي للمركبات من العناصر، وكان لا يمكن أن تكون المركبات إلا من العناصر وكان يمكن أن تكون العناصر لها إلا الأرض والماء والنار والهواء، وكان لا يمكن أن تكون النار على الجهة المؤدية إلى الغاية الخيرية المقصودة بها إلا أن تكون محرقة مفرقة، لزم ذلك ضرورة أن يكون بحيث تضر
    الصفحة : 148
    الصالحين وتفسد كثيراً من المركبات. وكأنا قد خرجنا عن غرضنا، فلنعد إليه، ولنجب عن الشك المورد فنقول: أما أشخاص الكائنات الغير متناهية فليست هي بغايات ذاتية في الطبيعة، ولكن الغايات الذاتية هي مثلاً أن يوجد الجوهر الذي هو الإنسان أو الفرس أو النخلة، وأن يكون هذا الوجود وجوداً دائماً ثابتاً، وكان هذا ممتنعاً في الشخص الواحد المشار إليه، لأن كل كائن يلزمه ضرورة الفساد، وأعني الكائنات من الهيولي الجسمانية، ولما امتنع في الشخص استبقى بالنوع، فالغرض الأول إذن هو بقاء الطبيعة الإنسانية مثلاً، أو غيرها،أو الشخص منتشر في غير معين، وهو العلة التمامية لفعل الطبيعة الكلية؛ وهو واحد، لكن هذا الواحد لا بد له في حصوله باقياً من أن يكون أشخاص بعد أشخاص بلا نهاية، فيكون لا تناهي الأشخاص بالعدد غرضاً على المعنى الضروري من القسم الأول، ل على أنه عرض بنفسه، لأنه لو أمكن أن يبقى الإنسان دتئماً كما تبقى الشمس والقمر لما احتيج إلى التوالد والتكاثر بالنسل. على أنه وإن سلمنا أن الغرض لا تناهي الأشخاص كان لا تناهي الأشخاص غير معنى كا شخص، وإنما يذهب بلا نهاية شخص بعد شخص، لا لا تناه بعد لا تناه؛ فإذن الغاية بالحقيقة ههنا موجودة، وهي وجود شخص منتشر، أو لا تناهي الأشخاص ثم الشخص الذي يؤدي إلى شخص آخر إلى ثالث إلى رابع ليس هو بعينه غاية للطبيعة الكلية؛ بل للطبيعة الجزئية فهذه هي غاية للطبيعة الجزئية فليس غيرها بعدها غرضاً وغاية لتلك الطبيعة الجزئية التي هي غايتها. وأعني بالطبيعة الجزئية القوة الخاصة التدبير بشخص واحد. وأعني بالطبيعة الكلية القوة القابضة من جواهر السماويات كشيء واحد وهو المدبرة لكلية ما في الكون. وأنت تعلم هذه كلها بعد هذا. وأما الحركة الذاهبة إلى غير النهاية فإنها واحدة بالإتصال كما علمت في الطبيعيات. وأيضاً فإن الغرض في تلك الحركة ليس هو نفس الحركة بما هي هذه الحركة، بل الغرض هناك الدوام الذي نصفه بعد، وهذا الدوام معنى واحد إلا أنه متعلق الوجود بأشياء لنسلم أن عددها بغير نهاية. وأما حديث المقدمات والنتيجة، فيجب أن يعلم أن المراد بقولنا: إن العلة الغائية تتناهى وتقف، أن العلة الغائية التي بحسب فاعل واحد فعل واحد تتناهى، ولا يجوز أن يكون فاعل طبيعي أو اختياري يفعل فعلاً يروم به بعينه غاية بعد غاية من غير أن يقف عند نهاية. وأما المبدأ الواحد إذا كان قد يصدر عنه فعل بعد فعل، ويصير بحسب لك فعل فلعلاً غير الفاعل الذي
    الصفحة : 149
    كان بحسب الفعل الآخر، وإن لم يكن بالذات والموضوع غيره، فيجوز أن تتكثر غاياته ويكون له بحسب كل كون منه فاعلاً غاية أخرى، وإن جاز أن يعتبر له كونه فاعلاً إلأى غير النهاية، كانت غاياته بغير نهاية. ثم النتيجة هي علة غاية تمامية للقياس الذي يكون على مطلوب محدود، وكل تركيب قياس فعل مبتدأ، وللنفس بحسب كل قياس فعل مستأنف يصدر عنه استحقاق أن يقال له فاعل مستأنف، وفي كل واحد من مرات كونه فاعلاً غاية محدودة بعينها لا يجوز أن تكون ذاهبة إلى غير النهاية إذ لكل قياس واحد نتيجة واحدة لا محالة. وأما الشك الذي يليه فينحل بأن يعلم أن الغاية تفرض شيئاً. وتفرض موجوداً، وفرق بين الشيء والموجود، وإن كان الشيء لا يكون إلا موجوداً، كالفرق بين الأمر ولازمه، وقد علمت هذا وتحققته فاستأنف تأمله من الإنسان. فإن للإنسان حقيقة هي حده وماهيته من غير شرط وجود خاص أو عام في الأعيان أو في النفس بالقوة شيء من ذلك أو بالفعل. وكل علة فإنها من حيث هي تلك العلة لها حقيقة وشيئية، فالعلة الغائية هي في شيئيتها سبب لأن تكون سائر العلل موجودة بالفعل عللاً، والعلة الغائية في وجودها مسببة لوجود سائر العلل عللاً بالفعل، فكأن الشيئية من العلة الغائية علة علة وجودها، وكأن وجودها معلول معلول شيئيتها، لكن شيئيتها لا تكون علة ما لم تحصل متصورة في النفس أو ما يجري مجراها، ولا علة للعلة الغائية في شيئيتها إلا علة أخرى غير العلة التي تحرك إليها أو يتحرك إليها. واعلم أن الشيء: يكون معلولاً في شيئيته. ويكون معلولاً في وجوده. فالمعلول في شيئيته مثل الاثنينية، فإنها في حد تكونها اثنينية معلولة واحدة. والمعلول في ظاهر وجوده ظاهر لا يخفى. وكذلك قد يكون للشيء أمر حاصل موجود في شيئيته مثل العددية للاثنينية. وقد يكون الأمر زائداً لأمر زائد على شيئيته مثل كون التربيع في الخشب أو الحجر. والأجسام الطبيعية علة لشيئية كثير من الصور والأعراض، أعني التي لا يتجدد إلا بها، وعلة لوجود بعضها دون شيئية كما يظن أن الحكم في التعليمات كذلك.
    الصفحة : 150
    فقد سهل لك أن تفهم أن العلة الغائية في الشيئية قبل العلل الفاعلة والقابلة، وكذلك قبل الصورة من جهة ما الصورة علة صورية مؤدية إليها، وكذلك أيضاً العلة الغائية في وجودها في النفس قبل العلل الأخرى. أما في نفس الفاعل فلأنها توجد أولاً ثميتصور عنده الفاعلية، وطلب القابل، وكيفية الصورة. وأما في نفس غير الفاعل فليس لبعضها ترتيب على الآخر ضروري، فإذن في اعتبارالشيئية واعتبار الوجود في العقل ليست علة أقدم من الغائية بل هي علة لصيرورة سائر العلل عللاً، ولكن وجود العلل الأخرى بالفعل عللاً، علة لوجودها؛ وليست العلة الغائية علة على أنها موجودة، بل على أنها شيء فبالجهة التي هي علة، هي علة العلل؛ وبالجهة الأخرى هي معلولة العلل. هذا إذا كانت العلة الغائية في الكون، وأما إذا كانت العلة الغائية ليست في الكونولكن وجودها أعلى من الكون على ما سيتضح في موضعه فلا يكون شيء من العلل الأخرى علة لها ولا في الواحد الذي هو الحصول والوجود؛ فتكون إذن العلة الغائية ليست معلولة لسائر العلل لا لأنها علة غائية ولكن لأنها ذات كون؛ ولو كانت ليست ذات كون، لما كانت معلولة البتة، وأما إذا اعتبرت كونها علة غائية فتجدها علة لسائر العلل في أن تكون عللاً مثل أن تكون علة فاعلية وعلة قابلية وعلة صورية، لا في أن تكون كائنة وموجودة في أنفسها؛ فإذن الذي بالذات للعلة الغائية بما هي علة غائية، أن تكون علة لسائر العلل ويعرض لها من جهة أن معناها قد يكون واقعاً في الكون أن يكون معلولاً من جهة الكون. فقد تبين لك أنه كيف يكون الشيء علة ومعلولاً، على أنه فاعل وغاية، وهذا من المبادئ للطبيعيين. وأما البحث الذي بعد هذا فينكشف بما نقوله: إن الغاية التي تحصل في فعل الفاعل تنقسم إلى قسمين: غاية تكون صورة أو عرضاً في منفعل قابل للفعل. وغاية لا تكون صورة ولا عرضاً في منفعل قابل البتة فتكون في الفاعل لا محالة؛ لأنها إن لم تكن في الفاعل ولا في المنفعل، وليس يجوز أن يكون ما يقوم بنفسه جوهراً حدث من مادة ولا من مادة، فلا يكون لها وجود البتة. فمثال الأول صورة الإنسانية في المادة الإنسانية، فإنها غاية للقوة الفاعلة للتصوير في مادة الإنسان، وإليها يتوجه فعلها وتحريكها. ومثال الثاني الاستكنان، فإنه غاية لمستبني البيت الذي هو مبدأ لحركة كونه، وليس هو البتة صورة في البيت. ويشبه أن تكون غاية الفاعل القريب الملاصق لتحريك المادة صورة في المادة، وأن يكون ما ليس غايته صورة في المادة ليس مبدأ قريباً للحركة بما هو كذلك، فإن عرض أن يكون ما غايته صورة
    الصفحة : 151
    في المادة المتعاطاة وما غايته معنى ليس صورة في تلك المادة شيئاً واحداً، فإن وحدته تكون بالعرض، مثل أن يكون الإنسان يبني بيتاً ليسكن فيه؛ فإنه من جهة ما هو طالب السكن داع إلى البناء وعلة أولى للبناء، ومن جهة ما هو بناء معلول لما هو مستكن، فيكون الغاية لما هو مستكن، غير الغاية لما هو بان. وإذا كان كذلك فيكون أيضاً في الإنسان الواحد المستكن الباني غايته بما هو مستكن غير غايته بما هو بان. وإذ قد تقرر هذا فنقول: أما القسم الأول فإن للغاية نسبة إلى أمور كثيرة هي قبلها في الحصول بالفعل والوجود؛ لأنها لها نسبة إلى الفاعل، ونسبة إلى القابل، وهي بالقوة؛ ونسبة إلى القابل، وهي بالفعل قابل، ونسبة إلى الحركة؛ فهي بقياسها إلى الفاعل غاية وبقياسها إلى الحركة نهاية وليست بغاية؛ لأن الغاية التي لأجلها الشيء ويؤمها الشيء لا يبطل مع وجودها الشيء، بل يستكمل بها الشيء والحركة تبطل مع انتهائها؛ وهي بقياسها إلى القابل المستكمل به وهو بالقوة خير يصلحه؛ لأن الشر هو العدم لكماله، والخير الذي يقابله هو الوجود والحصول بالفعل، وبالقياس إلى القابل وهو بالفعل صورة. وأما الغاية التي بحسب القسم الثاني فبيّن أنها ليست صورة للمادة المنفعلة، ولا هي نفس نهاية الحركة. وقد بان أنها تكون صورة أو عرضاً في الفاعل، ويكون لا محالة قد خرج بها الفاعل من الذي بالقوة إلى الذي بالفعل، والذي بالقوة هو لأجل العدم الذي يقارنه شر، والذي بالفعل هو الخير الذي يقابله. فتكون إذن هذه الغاية خيراً بالقياس إلى ذات الفاعل، لا غلى ذات القابل؛ فإذا نسبت إلى الفاعل من جهة ما هو مبدأ حركة وفاعل، كانت غاية، وإذا نسبت إليه من جهة ما هو خارج بها من قوة إلى الفعل ومستكمل، كانت خيراً إذا كان ذلك الخروج من القوة إلى الفعل في معنى نافع في الوجود أو بقاء الوجود، وكانت الحركة طبيعية أو اختيارية عقلية، وأما إن كانت تخيلية فليس يجب أن يكون خيراً حقيقياً، بل قد يكون خيراً مظنوناً، فيكون إذن كل غاية فهي باعتبار غاية، وباعتبار آخر خير إما مظنون وإما حقيقي، فهذا هو حال الخير والعلة التمامية. وأما الحال الجود والخير فيجب أن يعلم أن شيئاً واحداً له قياس إلى القابل المستكمل به، وقياس إلى الفاعل الذي يصدر عنه، وإذا كان قياسه إلى الفاعل الذي يصدر عنه، بحيث لا يوجب أن يكون الفاعل منفعلاً به أو بشيء يتبعه كان قياسه إلى الفاعل جوداً وإلى المنفعل خيراً؛ ولفظة الجود وما يقوم مقامها موضوعها الأول في اللغات إفادة المفيد لغيره فائدة لا يستعيض منها بدلاً، وأنه إذا استعاض منها بدلاً قيل له مبايع أو معاوض، وبالجملة معامل، ولأن الشكر والثناء والصيت وسائر الأحوال المستحسنة لا
    الصفحة : 152
    تعد عند الجمهور من الأعواض، بل إما جواهر وإما أعراض يقررونها في موضوعات يظن أن المفيد غيره فائدة يربح منها شكراً هو أيضاً جواد وليس مبايعاً ولا معاوضاً، وهو في الحقيقة معاوض؛ لأنه أفاد واستفاد سواء استفاد عوضاً مالياً، إما من جنسه، وإما من غير جنسه، أو شكراً، أو ثناء يفرح به، أو استفاد أن صار فاضلاً محموداً، بأن فعل ما هو أولى وأحرى الذي لو لم يفعله لم يكن جميل الحال في فضيلته. لكن الجمهور لا يعدون هذه المعاني في الأعواض، فلا يمتنعون عن تسمية من يحسن إلى غيره بشيء من هذه الخيرات المظنونة أو الحقيقية التي يحصل له بذلك ثناء، جواداً؛ ولو فطنوا لهذا المعنى لم يسموه جواداً، إذ الواحد منهم إذا أحسن إليه لعوض وإن كان شيئاً غير المال، ففطن له، استخف المنة أو أنكرها وأبى أن يكون المحسن إليه جواداً إذ كان فعله لعلة، فإذا حقق وحصل معنى الجود كان إفادة الغير كمالاً في جوهره أو في أحواله من غير ان يكون بإزائه، عوض بوجه من الوجوه، فكل فاعل يفعل فعلاً لغرض يؤدي إلى شبه عوض فليس بجواد، وكل مفيد للقابل صورة أو عرضاً وله غاية أخرى يحصل بالخير الذي أفاده إياه فليس بجواد. بل نقول: إن الغرض والمراد في المقصود لا يقع إلا للشيء الناقص الذات؛ وذلك لأن الغرض إما أن يكون بحسب نفسه في ذاته، أو بحسب مصالح ذاته، أو بحسب شيء آخر في ذاته، أو في مصالحه. ومعلوم أنه إن كان بحسب ذاته أو بحسب مصالح ذاته أو بحسب شيء آخر في مصالحه، وبالجملة بحسب أمر يعود إلى ذاته بعائدة ما، فذاته ناقصة في وجودها، أو في كمالاتها. وإن كان بحسب شيء آخر فلا يخلو إما أن يكون صدور ذلك المعنى عنه إلى غيره بحيث كونه عنه له ولا كونه عنه بمنزلة، حتى إنه لو لم يصدر عنه ذلك الخير الذي هو خير بحسب غيره كانت حاله من كل جهة كحالة لو صدر عنه ذلك، فلم يكن ذلك أجمل وأحسن به وأجلب إليه لمحمدة أو غيرها من الأغراض الخاصة في ذاته ولا ضده غير الأجمل به وغير الجالب إليه محمدة أو غيرها من الأغراض المأثورة والنافعة، حتى لو لم يفعل ذلك لما ترك ما هو أولى والأحسن به، فيكون لا داعي له إلى ذلك ولا مرجح لأن يصدر عنه ذلك الخير إلى غيره على مقابلة. ومثل هذا إن لم يكن شيئاً يصدر ع طبع وعن إرادة ليست على سبيل إجابة داع بل على وجه آخر سيوقف عليه فلا يكون مصدراً لأمر من الأمور علة من العلل، بل يجب أن يكون الأولى بالفاعل القاصد بالقصد المذكور أن يكون إنما يفيض خيراً على غيره؛ لأنه أولى به، وضده غير الأولى به،
    الصفحة : 153
    ويرجع آخر الأمر إلى غرض يتصل بذاته ويعود على ذاته ويرجع إلى ذاته، وحينئذ لا يكون وجود ذلك الغرض ولا وجوده بمنزلة واحدة بالقياس إلى ذاته وكمالات ذاته ومصالحها، بل يكون كونه عن ذاته كون الأغراض التي تختص بذاته فيعود إلى أن ذاته تنال بذلك كمالاً وحظاً خاصاً. وكذلك فإن سؤال اللم لا يزال يتكرر إلى أن يبلغ المبلغ الراجع إلى الذات. مثاله إذا قيل للفاعل: لم فعلت كذا؟ فقال، لينال فلان غرضاً؛ فيقال له: ولم طلبت أن ينال فلان غرضاً؟ فقال: لأن الإحسان حسن، لم يقف السؤال؛ بل قيل: ولم تطلب ما هو حسن؟ فإذا أجيب حينئذ بخير يعود إليه أو شر ينتفي عنه، وقف السؤال، فإن حصول الخير لكل شيء وزوال الشر عنه هو المطلوب لذاته مطلقاً. وأما الشفقة والرحمة والعطف على الغير والفرح بما يحسن إلى الغير، والغم بما يقع من التقصير وغير ذلك، فهي اغراض خاصة للفاعل، ودواع يذم عاملها أو تنحط به منزلة كماله. فالوجود إفادة الغنى في جميع الجهات عن الإفادة كمالاً فيكون ذلك المعنى بالقياس إلى القابل خيراً، وبالقياس إلى الفاعل جوداً، وكل إفادة كمال فإنه يكون بالقياس إلى القابل خيراً، سواء كان بعوض ولا يكون بالقياس إلى الفاعل جوداً إلا أن يكون لا بعوض. فهكذا هو البيان لحقيقة الخير والجود. وقد تكلمنا عن العلل وأحوالها، وبقي أن نكمل فيها القول فنقول: إن هذه العلل الأربع وإن كان يظن يظن بها أنها تجتمع في كثير من الأمور الموجودة في العلوم، فإن الأمور التي تتحرك والتعليميات لا يظن أن فيها فاعلاً أي مبدأ حركة، ولا أيضاً يظن أن فيها غاية لأن الغاية يظن أنها للحركة، ولا أيضاً لها مادة بل إنما يبحث عن صورها، فلذلك استخف بها من استخف، قائلاً: إنها لا تدل على علة تمامية، فالنظر فيها لهذا العلم لا أن علماً واحداً يتناولها، كما للمتقابلات فليست متقابلة، ولكن لأن علماً واحداً بالوجه الذي به هذا العلم واحد يشرح أمرها. وذلك لأنا وإن سلمنا أن هذه العلل لا تجتمع في العلوم كلها حتى تكون من الأمور العامة الواقعة في موضوعات للعلوم مختلفة، فإنها أيضاً قد توجد في علوم متفرقة مختلفة، ولو كانت أيضاً في علم واحد لم يكن في منة صاحب ذلك العلم الواحد كالطبيعي مثلاً الذي في صناعته هذه المبادئ كلها، أن يبينها؛ لأنها مبادئ للعلم الطبيعي ويتكلم فيما يعرض لها على اساس أنه ليس الأمر كذلك. فليس كل فاعل مبدأ حركة على ما قيل، فالأمور التعليمية في طبائعها إنما يجب وجودها بغيرها، وطبائعها لا تفارق المادة وإن جردت عن المادة في الوهم فقد يلزمها في الوهم من القسمة ومن التشكل ما يكون بسبب المادة، ويكاد أن تكون المقادير هيولات قريبة الأشكال المقدارية والوحدات أيضاً للعدد، والعدد لخواص العدد،
    الصفحة : 154
    فهذه يوجد لها مبدأ فاعلي ومبدأ قابلي وحيث كانا، كان تمام، والتمام هو الاعتدال، والتحديد والترتيب التي بها يكون لها ما يكون من الخواص، وإنما هي لأجل أن يكون على ما هي عليه من الترتيب والاعتدال والتحديد، فإن منع أن يكون هذا تماماً أي غاية حركة فلا يمنع أن يكون خيراً ويكون علة لأنه خير، وهناك أيضاً إنما كان علة لأنه خير ثم كان اتفق لذلك الخير إن كان تماماً لحركة، إذ كان السبيل إليه بحركة. ولولا أن الخواص واللواحق التي لهذه هي غايات تتؤدي إليها هيئاتها لما كان الطالب يطلبها في المواد لتلك الغايات؛ فإن الصانع يحرك المادة إلى أن تكون مستديرة، ولا تكون الغاية هي الاستدارة نفسها بل شيء من خواصها ولواحقها، فتطلب الدائرة لها، فقد صارت هذه العلل أيضاً مشتركة فيجب أن ينظر فيها صاحب هذا العلم، وليس ينظر في المشترك فقط بل ينظر فيما يخص علماً علماً، لكنه مبدأ لذلك العلم وعارض للمشترك؛ فإن هذا العلم قد ينظر في العوارض المخصصة للجزئيات إذا كانت لذاتها أولاً وكانت لم تتأدى بعد إلى أن تكون أعراضاً ذاتية لموضوعات العلوم الجزئية، ولو كانت هذه علوماً مفردة لكان أفضلها علم الغاية وكان يكون ذلك هو الحكمة. والآن فذلك أيضاً أفضل أجزاء هذا العلم، أعني العلم الناظر في العلل الغائية للأشياء.
    الصفحة : 155
    المقالة السابعة
    وفيها ثلاثة فصول

    علي العذاري غير متواجد حالياً
    رد مع اقتباس
  5. تكبير الخط تصغير الخط
    بتاريخ : 09-02-2012 الساعة : 08:32 AM رقم #13
    كاتب الموضوع : علي العذاري


    شاملى مميز


    • بيانات علي العذاري
      رقم العضوية : 6016
      عضو منذ : Jan 2012
      الدولة : ariq
      المشاركات : 141
      بمعدل : 0.03 يوميا
      معدل تقييم المستوى : 14
      التقييم : Array


  6. الفصل الأول (أ)
    فصل في لواحق الوحدة من الهوية وأقسامها ولواحق الكثرة من الغيرية والخلاف وأصناف التقابل المعروفة.
    يشبه أن يكون قد استوفينا الكلام بحسب غرضنا هذا في الأمور التي تختص بالهوية من حيث هي هوية أو تلحقها، ثم الواحد والموجود قد يتساويان في الحمل على الأشياء حتى أن كل ما يقال إنه موجود باعتبار يصح أن يقال له أنه واحد باعتبار، وكل شيء فله وجود واحد لذلك ربما ظن أن المفهوم منهما واحد وليس كذلك، بل هما واحد بالموضوع، أي كل ما يوصف بهذا يوصف بذاك، ولو كان المفهوم من الواحد من كل جهة مفهوم الموجود لما كان الكثير من حيث هو كثير موجوداً، كما ليس واحداً، وإن كان يعرض له الواحد أيضاً، فيقال للكثرة إنها كثرة واحدة ولكن لا من حيث هي كثرة. فحري بنا أن نتكلم أيضاً في الأمور التي تختص بالوحدة ومقابلاتها أي الكثرة مثل الهوية والمجانسة والموافقة والمساواة والمشابهة ومقابلاتها، بل الكلام في الجانب المقابل لها أكثر، فإن الوحدة متشابهة وما يضادها متفنن متغير متشعب، فالهوية هو أن يحصل للكثرة وجه وحدة من وجه آخر، فمن ذلك ما بالعرض وهو على قياس الواحد بالعرض فكما يقال هناك واحد يقال ههنا هو هو، وما كان هو هو في الكيف فهو شبيه، وما كان هو هو في الكم فهو مساو، وما كان هو هو في الإضافة يقال له مناسب، وأما الذي بالذات فيكون في الأمور التي تقوم الذات، فما كان هو هو في الجنس قيل مجانس، وما كان هو هو في النوع قيل مماثل. وأيضاً ما كان هو هو في الخواص يقال له مشاكل. ومقابلات هذه معروفة من المعرفة بهذه. ومقابل الهو هو على الاطلاق الغير. والغير منه في الجنس ومنه في النوع، وهو بعينه الغير بالفصل ومنه غير بالعرض، ويجوز أن يكون الغير بالعرض شيئاً واحداً وهو غير لنفسه من وجهين. وأما الآخر فاسم خاص في الاصطلاح للمخالف بالعدد، والغير يفارق المخالف مخالف بشيء، والغير قد يغاير بالذات، والمخالف أخص من الغير وكذلك الآخر. والأشياء المتغايرة بالجنس الأعلى إذا كانت مما يحب المواد فنفس تغايرها بالجنس الأعلى لا يوجب أن لا يجتمع في مادة واحدة.
    الصفحة : 156
    وأما المغايرات التي تختلف بالأنواع تحت الأجناس القريبة التي دون الأعلى، فيستحيل البتة أن تجتمع في موضع واحد، وكل الأشياء التي لا تجتمع في موضع واحد من جهة واحدة في زمان فإنها تسمى متقابلات وقد علمت في المنطق عددها وخاصياتها والقنية، والعدم منها، تدخل بوجه تحت التناقض، والأضداد تدخل بوجه تحت العدد والقنية. ووجه دخول العدم تحت السالبة، غير وجه دخول الضد تحت العدم. ولكن يجب أن تعلم أن العدم يقال على وجوه: فيقال لما من شأنه أن يكون لموجود ما وليس له؛ لأنه ليس من شأنه أن يكون له، وإن كان من شأنه أن يوجد لأمر ما كالبصر فإنه من شأنه أن يكون لشيء ما، لكن الحائط ليس من شأنه أن يكون البصر له. ويقال لما من شأنه أن يكون لجنس الشيء وليس للشيء ولا من شأنه أن يكون له جنساًقريباً أو بعيداً. ويقال لما من شانه أن يكون لنوع الشيء وليس من شأنه أن يكون لشخصه كالأنوثة. ويقال لما من شأنه أن يكون للشيء وليس له مطلقاً أو في وقته أو لأن وقته لم يجيء كالمرد أو لأن وقته قد فات كالدرد؛ والضرب الأول يطابق السالبة مطابقة شديدة وأما الوجوه الأخرى فيخالفها، ويقال عدم لكل فقد بالقسر، ويقال عدم لما يكون قد فقد الشيء لا بتمامه، فإن الأعور لا يقال له أعمى ولا هو أيضاً بصير مطلق لكن هذا إنما يكون بالقياس إلى الموضوع البعيد أعني الإنسان لا العين. ثم إن العدم يحمل عليه السلب، ولا ينعكس. وأما العدم فلا يحمل على الضد لأنه: ليس المرارة عدم الحلاوة، بل هي شيء آخر مع عدم الحلاوة؛ فإن العدم وحده قد يكون في المادة وقد يكون مصاحباً لذات توجب في المادة عدم ذات أخرى أولا يكون إلا مع العدم. وهذه هي الأضداد، وليس السبب في تقابلها تغاير الأجناس وقد بينا ذلك؛ بل السبب في ذلك أن ذواتها في حد أنفسها وحد فصولها تتمانع عن الاجتماع وتتفاسده، وإذا ليس شيء من الأجناس العالية بمتضادة فيجب أن تكون الأضداد الحقيقية واقعة تحت جنس، وأن يكون جنساً واحداً، فيجب أن يكون الأضداد تتخالف بالفصول، وتكون الأضداد من جملة الغير في الصورة مثل السواد والبياض تحت اللون، والحلاوة والمرارة تحت الذوق. وأما الخير والشر فليسا بالحقيقة أجناساً عالية ولا الخير يدل على معنى متواطئ ولا الشر، ومع ذلك فالشر يدل في كل وجه ما على عدم الكمال الذي له، والخير على وجوده؛ فبينهما مخالفة العدم والوجود، وأما الراحة والألم وأمثال ذلك فإنها تشترك في غير جنس الخير والشر، وإنها تشترك في المحسوس أو في المتخيل وغير ذلك، فليست أنواعاً للخير والشر ويشبه أن يكون أهل الظاهر من النظر
    الصفحة : 157
    عمدوا إلى الأشياء التي هي متضادة ولها أجناسقريبة تدخل فيها، وطبقة منها موافقة للحاسة أو العقل وطبقة مخالفة وطبقة منها موافقة للإيجاب، والأخرى للفصل، وطبقة مخالفة لأيهما كان، فالتقطوا منها المعنى الموافق والمعنى المخالف فجعلوا أحدهما جنساً لطبقة، والآخر لطبقة أخرى، وليس الواجب كذلك بل دلالة الموافقة والمخالفة دلالة اللوازم لأنها ليست للأشياء في أنفسها بل بالإضافة. ثم إن الأمور الموافقة والمخالفة إذا جعلا كطبيعتين وجد لهما أشياء يصلح أن تجعل بحسب الاعتبارات المختلفة كالأجناس لها فغنها تدخل في جملة الأفعال والإنفعالات من جهة، وفي الكيفيات من جهة أخرى، وفي المضافات باعتبارات أخرى، فإنها من حيث هي صادرة من أشياء هي أفعال، ومن حيث هي حاصلة عن أشياء في أشياء هي انفعالات، ومن حيث يتقرر عنها هيآت قارة في حواملها فهي من الكيفيات، ومن حيث أن الموافق موافق لموافقة فهي من المضاف، فإذا كان اسم الموافقة والمخالفة مصروفاً إلى أحد هذه المعاني بعينه دخل في الجنس الخاص له، لست أقول إن شيئاً واحداً يدخل في أجناس مختلفة فهذا مما نحرمه، بل كل اعتبار هو شيء آخر، وهو الذاخل في جنس آخر ولا هذه بالحقيقة أجناس بل كأجناس، لأنها أمور مركبة من معنى ومن فعل أو إنفعال أو إضافة أو غير ذلك، ويشبه أن تكون في ذواتها كيفيات وتكون سائر الاعتبارات تلزمها، ثم مع الاجتهاد كله في أن تجعل الموافقة والمخالفة مما يسندها إلى الأجناس العالية فإن لتلك الطبائع الأضداد التي جعلت طبيعتين أجناساً حقيقية غير الموافقة والمخالفة هي تدخل فيها وقد علمت هذا في موضعه. وأما القول بوجود الضدين في جنسين متضادين مثل الشجاعة والتهور فهو أيضاً قول متوسع فيه، فإن الشجاعة في نفسها كيفية، وباعتبار ما تكون فضيلة، وكذلك التهور في نفسه كيفية، وباعتبار ما يكون رذيلة، فالفضيلة والرذيلة ليستا من الأجناس لهذه الكيفيات، كما أن الطيب وغير الطيب ليسا جنسين للروائح والمذوقات بل لوازم لها بحسب اعتبارات تلحقها. فالشجاعة في ذاتها لا تضاد التهور والجبن وإنما المتضادان هما التهور والجبن الداخلان في باب الملكة من الكيف، وأما الشجاعة فتقابل اللا شجاعة كما قلنا في المساوي وما يقابله، ثم اللا شجاعة كالجنس للتهور والجبن، فإذا ضادت الشجاعة التهور فتضاده لا لطبيعة ذاتها بل إنما تضاده لعارض فيها هو أن هذه محمودة وفضيلة ونافعة. وذلك مذموم ورذيلة وضار، فالأضداد بالحقيقة هي التي تتفق في الجنس وتتفق في الموضوع الواحد، فمنها ما يكون الموضوع الواحد يقبل الضدين جميعاً من غير استحالة في غيرهما، ومنها ما يكون الموضوع يستحيل أولاً في غيرهما حتى يعرض له أحدهما فإن مزاجاً ما يحلو
    الصفحة : 158
    به الشيء، وإذا أمر احتاج إلى مزاج آخر وليس كذلك الحال في استحالة الحار إلى البارد. ولما كان الضدان يكونان في الجنس فلا يخلو إما أن يكون عدم كل واحد منهما في طبيعة الجنس يلزمه الآخر فقط فيكون لا واسطة بينهما، إما أن يكون ليس كذلك. فلا يخلو: إما أن يكون مخالفة تلك الكثرة للواحد منهما مخالفة واحدة ليس مخالفة بعضها أقل أو أكثر أو يكون ذلك مختلفاً، فإن كان مختلفاً في ذلك فيكون أقرب إلى مشابهته والأقرب إلى مشابهته فيه شيء من صورته وبعضها في غاية الخلاف له فيكون الضد ذلك، ويكون التضاد غاية الخلاف للمتقابلات المتفقة في الجنس والمادة، وذلك لأنه يصدق أن يقول غاية الخلاف من حيث كان متوسطاً وحيث لم يكن، لأنه إن كان اثنان كل واحد منهما في غاية البعد عن الآخر فالتضاد خلاف تام، ولذلك فإن ضد الشيء واحد. وأما إن جعل غاية الخلاف والبعد قد يقع بين الواحد وبين أخرين اثنين متخالفين فذلك محال، لأن التخالف بين الواحد وبينهما إما أن يكون في معنى واحد من جهة واحدة فتكون المخالفات للواحد من جهة واحدة متفقة في صورة الخلاف، ويكون نوعاً واحداً لا أنوعاً كثيرة؛ وإما أن يكون من جهات فيكون ذلك وجوهاً من التضاد لا وجهاً واحداً، فلا يكون ذلك بسبب الفصل الذي إذا لحق الجنس فعل ذلك النوع من غير انتظار شيء، وخصوصاً في البسائط، وقد علمت هذا، بل يكون من جهة لواحق وأحوال تلزم النوع. وكلامنا في نمط واحد من التضاد وفي التضاد الذي بالذات ليس نعني بقوله بالذات الجوهر والموضوع، بل نعني به ما يقع به التضاد ولو كان كيفية أيضاً، فقد بان أن ضد الواحد واحد. والمتوسط في الحقيقة هو الذي مع أنه يخالف يشابه، فحينئذ يجب أن يكون الانتقال إليه أولاً في التغيير إلى الضد، فإن الأسود لذلك يغبر أو يخضر أو يحمر أولاً ثم يبيض، وقد يعرض للأضداد متوسطات بسبب الطرفين، فربما كان ذلك لعدم الاسم، والمتوسط متوسط، ونعني به متوسطاً حقيقياً مثل اللا حار واللا بارد، وإذا لم يكن للفاتر اسم فمثل هذا أيضاً يكون في الجنس، وإذا أخرج عن الجنس كقوله لا خفيف ولا ثقيل فذلك ليس بالمتوسط الحقيقي إنما ذلك متوسط باللفظ، وأما الملكة والعدم فلا يكون لهما في الموضوع متوسط لأنهما هما الموجبة والسالبة بعينهما مخصصة بجنس أو موضوع، وأيضاً في وقت وحال، فتكون نسبة الملكة والعدم إلى ذلك الشيء والحال نسبة النقيضين إلى الوجود كله، وإذ لا واسطة بين النقيضين فكذلك لا واسطة بين العدم والملكة.
    الفصل الثاني (ب)
    الصفحة : 159
    فصل مذاهب الحكماء الأقدمين في المثل في اقتصاص مذاهب الحكماء الأقدمين في المثل ومبادئ التعليميات والسبب الداعي إلى ذلك وبيان أصل الجهل الذي وقع لهم حتى زاغوا لأجله قد حان لنا أن نتجرد لمناقضة آراء قيلت في الصور والتعليمات والمبادئ المفارقة والكليات مخالفة لأصولنا التي قد قررناها، وإن كان في صحة ما قلناه وإعطائنا القوانين التي أعطيناها تنبيه للمستبصر على حل جميع شبههم وإفسادها ومناقضات مذاهبهم، لكنا مستظهرون بتكلف ذلك بأنفسنا لما نرجو أن يجري في ذلك من فوائد نذكرها من خلال مقاومتنا إياهم يكون قد ذهب علينا فيما قدمناه وشرحناه. ونقول: إن كل صناعة فإن لها نشأة تكون فيها نيئة فجة غير أنها تنضج بعد حين ثم إنها تزداد وتكمل بعد حين آخر؛ ولذلك كانت الفلسفة في قديم ما اشتغل بها اليونانيون خطبية، ثم خالطها غلط وجدل، وكان السابق إلى الجمهور من أقسامها هو القسم الطبيعي، ثم أخذوا ينتبهون للتعليمي، ثم الإلهي وكانت لهم انتقالات من بعضها إلى بعض غير سديدة، وأول ما انتقلوا عن المحسوس إلى المعقول تشوشوا فظن قوم أن القسمة توجب شيئين في كل شيء؛ كإنسانين في معنى الإنسانية: إنسان فاسد محسوس، وإنسان معقول مفارق أبدي لا يتغير، وجعلوا لكل واحد منهما وجوداً، فسموا الوجود المفارق وجوداً مثالياً، وجعلوا لكل واحد من الأمور الطبيعية صورة مفارقة هي المعقولة، وإياها يتلقى العقل؛ إذ كان المعقول أمراً لا يفسد، وكل محسوس من هذه فهو فاسد، وجعلوا العلوم والبراهين تنحو نحو هذه وإياها تتناول. وكان المعروف بافلاطون ومعلمه سقراط يفرطان في هذا الرأي ويقولان إن للإنسانية معنى واحد موجود يشترك فيه الأشخاص ويبقى مع بطلانها، وليس هو المعنى المحسوس المتكثر الفاسد فهو إذن المعنى المعقول المفارق. وقوم آخرون لم يروا لهذه الصورة مفارقة بل لمبادئها، وجعلوا الأمور التعليمية التي تفارق بالحدود مستحقة للمفارقة بالوجود، وجعلوا ما لا يفارق بالحد من الصور الطبيعية لا يفارق بالذات، وجعلوا الصور الطبيعية إنما تتولد بمقارنة تلك الصور التعليمية للمادة؛ كالتقعير فإنه معنى تعليمي، فإذا قارن المادة صار فطوسة، وصار معنى طبيعياً، وكان للتقعير من حيث هو تعليمي أن يفارق وإن لم يكن له من حيث هو طبيعي أن يفارق. وأما افلاطون فأكثر ميله إلى أن الصور هي المفارقة، فأما التعليميات فإنها عنده معان بين الصور والماديات؛ فإنها وإن فارقت في الحد فليس يجوز عنده أن يكون بعد قائم لا في مادة؛ لأنه إما أن يكون
    الصفحة : 160
    متناهياً، أو غير متناه، فإن كان غير متناه، وذلك يلحقه لأنه مجرد طبيعة، كان حينئذ كل بعد غير متناه، وإن لحقه لأنه مجرد عن المادة كانت المادة مفيدة للحصر والصورة، وكلا الوجهين محال؛ بل وجود بعد غير متناه محال، وإن كان متناهياً فانحصاره في حد محدود وشكل مقدر ليس إلا لإنفعال عرض له من خارج، لا لنفس طبيعته، ولن تنفعل الصورة إلا لمادتها، فتكون مفارقة وغير مفارقة، وهذه محال فيجب أن تكون متوسطة. وأما الآخرون فإنهم جعلوا مبادئ الأمور الطبيعية أموراً تعليمية؛ وجعلوها المعقولات بالحقيقة، وجعلوها المفارقات بالحقيقة، وذكروا أنهم إذا جردوا الأحوال الجسمانية عن المادة لم يبق إلا أقطار وأشكال وأعداد؛ وذلك لأن المقولات التسع فإن الكيفيات الإنفعالية والإنفعالات منها والملكات والقوة واللا قوة أمور تكون لذوات الإنفعالات والملكات والقوى، وأما الإضافة فما يتعلق بأمثال هذه فهي أيضاً مادية؛ فيبقى الأين وهو كمي، ومتى وهو كمي، وأما الفعل والانفعال فهو مادي، فيحصل من هذا أن جميع ما ليس بكمي فهو متعلق بالمادة، والمتعلق بالمادة مبدؤه ما ليس متعلقاً بالمادة، فتكون التعليميات هي المبادئ، وتكون هي المعقولات بالحقيقة، وسائر ذلك غير معقول؛ ولذلك فليس واحد يحد اللون والطعم وغير ذلك حداً يعبأ به، إنما هو نسبة إلى قوة مدركة فلا يعقلها عندهم العقل إنما يتخيلها الخيال تبعاً للحس. قالوا واما الأعداد والمقادير وأحوالها فهي معقولة لذاتها، فهي إذن مفارقة. وقوم جعلوها مبادئ ولم يجعلوها مفارقة، وهم أصحاب فيثاغورث، وركبوا كل شي من الوحدة والثنائية، وجعلوا الوحدة في حيز الخير والحصر، وجعلوا الثنائية في حيز الشر وغير الحصر. وقوم جعلوا المبادئ الزائد والناقص والمساوي، وجعلوا المساوي مكان الهيولي؛ إذ عنه الاستحالة إلى الطرفين. وقوم جعلوه مكان الصورة؛ لأنها المحصورة المحدودة ولا حد للزائد والناقص. ثم تشعبوا في أمر تركيب الكل من التعليميات، فجعل بعضهم العدد مبدأ للمقدار، فركب الخط من وحدتين، والسطح من أربع وحدات. وبعضهم جعل لكل واحد منهما حيزاً على حدة، وأكثرهم على أن العدد هو المبدأ، والوحدة هي المبدأ الأول، وأن الوحدة ولهوية متلازمتان أو مترادفتان، وقد رتبوا العدد وإنشاؤه من الوحدة على وجوه ثلاثة: أحدها على وجه العدد العددي.
    الصفحة : 161
    والثاني على وجه العدد التعليمي. والثالث على وجه التكرار. أما وجه العدد العددي فجعلوا الوحدة في أول الترتيب، ثم الثنائية، ثم الثلاثية. وأما العدد التعليمي: فجعلوا الوحدة مبدأ، ثم الثاني، ثم الثالث، فرتبوا العدد على توالي وحدة وحدة. وأما الثالث فجعلوا إنشاء العدد بتكرار وحدة بعينها لا باضافة أخرى إليها. والعجب من طائفة فيثاغورثية ترى أن العدد يتألف من وحدة وجوهر؛ إذ الوحدة لا تقوم وحدها، فإنها وحدة شيء، والمحل جوهر، وحينئذ يكون التركيب، فتكون الكثرة. ومن هؤلاء من يجعل لكل رتبة تعليمية من العدد صورة مطابقة لصورة موجودة، فيكون عند التجريد رتبة عدد وعند الخلط بالمادة صورة إنسان أو فرس، وذلك للمعنى الذي أشرنا إليه فيما سلف، وقوم يرون أن بين هذه الصور العددية وبين المثل فرقاً، ومن هؤلاء من جعلها متوسطات على ما سلف قبل. وأكثر الفيثاغورسيين يرون أن العدد التعليمي هو مبدأ ولكنه غير مفارق، ومنهم من يجوز تركيب الصور الهندسية من الآحاد فيمتنع تصنيف المقادير، ومنهم من لا يرى بأساً بأن تكون التعليميات مركبة من أعداد يعرض لها بعد التركيب أن تنقسم إلى غير نهاية، ومنهم من يجعل الصور العددية مباينة للصور الهندسية. وأنت إذا فكرت وجدت أصول أسباب الغلط في جميع ما ضل فيه هؤلاء القوم خمسة: أحدها، ظنهم أن الشيء إذا جرد من حيث لم يقترن به اعتبار غيره كان مجرداً في الوجود عنه، كأنه إذا التفت إلى الشيء وحده ومعه قرين التفاتاً خلا الالتفات إلى قرينه فقد جعل غير مجاور لقرينه، وبالجملة إذا نظر إليه لا بشرط المقارنة فقد ظن أنه نظر إليه بشرط غير المقارنة، حتى إنما صلح أن ينظر فيه؛ لأنه غير مقارن بل مفارق، فظن لهذا أن المعقولات الموجودة في العالم لما كان العقل ينالها من غير أن يتعرض لما يقارنها أن العقل ليس ينال إلا المفارقات منها وليس كذلك، بل لكل شيء من حيث ذاته اعتبار، ومن حيث إضافته إلى مقارن اعتبار آخر. وإنا إذا عقلنا صورة الإنسان مثلاً من حيث هي صورة الإنسان وحده فقد عقلنا موجوداً وحده من حيث ذاته، ولكن حيث عقلناه فليس يجب أن يكون وحده مفارقاً فإن المخالط من حيث هو هو غير مفارق على جهة السلب لا على جهة العدول الذي يفهم منه المفارقة بالقوام وليس يعسر علينا أن نقصد بالإدراك أو بغير ذلك من الأحوال واحداً من الاثنين ليس من شأنه أن يفارق صاحبه قواماً وإن فارقه
    الصفحة : 162
    حداً ومعنى وحقيقة؛ إذ كانت حقيقته ليست مدخولة في حقيقة الآخر، إذ المعية توجب المقارنة لا المداخلة في المعاني. والسبب الثاني، غلطهم في أمر واحد؛ فإنا إذا قلنا إن الإنسانية معنى واحد لم تذهب فيه إلى أنه معنى واحد هو بعينه يوجد في كثيرين فيتكثر بالإضافة كأب واحد يكون لكثيرين، بل هو كالآباء لأبناء متفرقين، وقد استقصينا القول في هذا في مواضع أخر.فهؤلاء لم يعلموا أنا نقول لأشياء كثيرة إن معناها واحد، ونعني بذلك أن أرى واحد منها لو توهمناه سابقاً إلى مادة هي بالحالة التي بالأخر، كان يحصل منه هذا الشخص الواحد، وكذلك أي واحد منها سبق إلى الذهن منطبعاً فيه كأن يحصل منه هذا المعنى الواحد، وإن كان قد سبق واحد تعطل الآخر فلم يعمل شيئاً كالحرارة التي لو طرأت على مادة فيها رطوبة أثرت معنى آخر أو تعرضت لذهن سبق إليه معنى رطوبة ومعقولها لفعلت معنى آخر، ولو أنهم فهموا معنى الواحد في هذا لكفاهم. ذلك ما أضلهم. والثالث جهلهم بأن قولنا: إن كذا من حيث هو كذا شيء آخر مباين في الحد له، قول متناقض؛ كقول المسئول الغالط إذا سئل هل الإنسان من حيث هو إنسان، إنسان واحد أو كثير؟ فقال: واحد أو كثير؛ فإن الإنسان من حيث هو إنسان، إنسان فقط، وليس هو من حيث هو إنسان، شيئاً غير الإنسان. والوحدة والكثرة غير الإنسان، وقد فرغنا أيضاً من تفهيم هذا. والرابع، ظنهم أنا إذا قلنا: إن الإنسانية توجد دائماً باقية، أن هذا القول هو قولنا إنسانية واحدة أو كثيرة، وإنما يكون هذا لو كان قولنا الإنسانية وإنسانية واحدة أو كثيرة معنى واحداً، وكذلك لا يجب أن يحسبوا أنهم إذا سلموا لأنفسهم أن الإنسانية باقية فقد لزمهم أن الإنسانية الواحدة بعينها باقية حتى يضعوا إنسانية أزلية. والخامس ظنهم أن الأمور المادية إذا كانت معلولة يجب أن تكون عللها أي أمور يمكن أن تفارق؛ فإنه ليس إذا كانت الأمور المادية معلولة وكانت التعليميات مفارقة يجب أن تكون عللها التعليميات لا محالة، بل ربما كانت جواهر أخرى ليست من المقولات التسع؛ ولم يتحققوا كنه التحقيق أن الهندسيات من التعليميات لا تستغني حدودها عن المواد مطلقاً، وإن استغنت عن نوع ما من المواد، وهذه أشياء يشبه أن يكفي في تحقيقها أصول سلفت لنا، فلنتجرد للقائلين بالتعليميات.
    الفصل الثالث (ج)
    الصفحة : 163
    فصل في إبطال القول بالتعليميات والمثل
    فنقول:إنه إن كان في التعليميات تعليمي مفارق للتعليمي المحسوس، فإما أن لا يكون في المحسوس تعليمي البتة أو يكون؛ فإن لم يكن في المحسوس تعليمي وجب أن لا يكون مربع ولا مدور ولا معدود محسوس، وإذا لم يكن شيء من هذا محسوساً فكيف السبيل إلى إثبات وجودها بل إلى تخيلها، فإن مبدأ تخيلها كذلك من الوجود المحسوس حتى لو توهمنا واحداً لم يحس شيئاً منها لحكمنا أنه لا يتخيل بل لا يعقل شيئاً منها، على أنا أثبتنا وجود كثير منها في المحسوس. وإن كانت طبيعة التعليميات قد توجد أيضاً في المحسوسات فيكون لتلك الطبيعة بذاتها اعتبار، فتكون ذاتها إما مطابقة بالحد والمعنى للمفارق أو مباينة له؛ فإن كانت مفارقة له فتكون التعليميات المعقولة أموراً غير التي نتخيلها ونعقلها ونحتاج في إثباتها إلى دليل مستأنف، ثم نشتغل بالنظر في حال مفارقتها فلا يكون ما عملوا عليه من الإخلاد إلى الاستغناء عن إثباتها والاشتغال بتقديم الشغل في بيان مفارقتها عملاً يستنام إليه. وإن كانت مطابقة مشاركة له في الحد فلا يخلو: إما أن تكون هذه التي في المحسوسات إنما صارت فيها لطبيعتها وحدها، وكيف يفارق ما له حدها؟ وإما أن يكون ذلك أمراً يعرض لها لسبب من الأسباب، وتكون هي معرضة لذلك، وحدودها غير مانعة عن لحوق ذلك إياها، فيكون من شأن تلك المفارقات أن تصير مادية ومن شأن هذه المادية أن تفارق، وهذه هو خلاف ما عقدوه وبنوا عليه أصل رأيهم. وأيضاً فإن هذه المادة التي مع العوارض إما أن تحتاج إلى المفارقات أو لا تحتاج إليها، فإن كانت تحتاج إلى المفارقات، فإنما تحتاج إلى مفارقات غيرها لطبائعها، فتحتاج المفارقات أيضاً إلى أخرى، وإن كانت هذه إنما تحتاج إلى المفارقات لما عرض لها حتى لو لا ذلك العارض لكانت لا تحتاج إلى المفارقات البتة، ولا كان يجب أن يكون للمفارقات وجود البتة، فيكون العارض للشيء يوجب أمر أقدم منه وغني عنه، ويجعل المفارقات محتاجة إليها حتى يجب لها وجود. فإن لم يكن الأمر كذلك، بل كان وجود المفارقات يوجب وجودها مع هذا العارض فلم يوجب العارض في غيرها ولا يوجب في أنفسها والطبيعة متفقة، وإن كانت غير محتاجة إلى المفارقات فلا تكون المفارقات عللاً لها بوجه من الوجوه ولا مبادئ أولى ويلزم أن تكون لها هذه المفارقات ناقصة؛ فإن هذا المفارق للمادة تلحقه من القوى والأفاعيل ما لا يوجد للمفارق، وكم الفرق بين شكل إنساني ساذج وبين شكل إنساني حي كامل.
    الصفحة : 164
    والعجب منهم إذ يجعلون الخط متجرداً في قوامه عن السطح، والنقطة عن الخط، فما الذي يجمعها في الجسم الطبيعي؟ أطبيعة واحدة منها توجب ذلك؟ فكذلك يجب أن يجمعهما لو كان مفارقة أو قوة أخرى نفس أو عقل أو باري، ثم الخط كيف يتقدم الجسم التام تقدم العلل وليس هو صورته، فليس الخط صورة جسمية ولا هو فاعله ولا هو غايته، بل إن كان ولا بد فالجسم التام الكامل في الأبعاد هو غاية الخط وغيره ولا هو هيولاه، بل هو شيء يلحقه من جهة ما يتناهى وينقطع، وأيضاً يلزم القائل بالأعداد أن يجعل التفاوت بين الأمور بزيادة كثرة ونقصانها، فيكون الخلاف بين الإنسان والفرس أن أحدهما أكثر والآخر أقل، والأقل دائماً موجود في الأكثر فيكون في أحدهما الآخر، فيلزم من ذلك دخول بعض المتباينات تحت بعض وهو خلف فاسد. ومن هؤلاء من يجعل الوحدات متساوية فيكون ما خالف به الأكثر الأقل جزءاً من الأقل، لكن منهم من يجعل الوحدات أيضاً غير متساوية؛ فإن كانت تختلف بالحد فليست وحدات إلا باشتراك الاسم وإن كانت لا تختلف بالحد لكنها بعد اتفاق في الحد تزيد وتنقص، فإما أن يكون زيادة الزائد منها بشيء فيها بالقوة كالمقادير، فتكون الوحدة مقداراً لا مبدأ مقدار، وإن كانت زيادة الزائد بشيء فيها بالفعل كالأعداد فتكون الوحدة كثرة. ويلزم القائلين بالعدد العددي المركبين منها صور الطبيعيات أن يعلموا أحد شيئين: إما أن يجعلوا للعدد المفارق الموجود نهاية، فيكون تناهيه عند حد من الحدود دون غيره من الاختراع الذي لا محصول له. أو يجعلوه غير متناه فيجعلوا صور الطبيعيات غير متناهية، وهؤلاء يجعلون الوحدة الأولى غير كل وحدة من الوحدتين اللتين في الثنائية، ثم يجعلون الثنائية الأولى غير الثنائية التي في الثلاثية وأقدم منها، وكذلك فيما بعد الثلاثية، وهذا محال؛ فإنه ليس بين الثنائية الأولى، والثنائية التي في الثلاثية فرق في الذات بل في عارض، وهو مقارنة شيء له. ومقارنة الشيء للشيء لا يجوز أن تبطل ذاته، ولو أبطل ذاته لم يكن مقارناً، لأن المقارن مقارن للموجود، وأما المفسد فغير مقارن، وكيف تكون الوحدة مفسدة للوحدتين إلا بإفسادها واحداً واحداً منهما، وكيف تكون الوحدة مفسدة لوحدة؟ ولو أفسدتها لم تكن ثنائية، بل الثنائية بمقارنة الوحدة إياها لا تصير مباينة في الذات للثنائية بوجودها غير مقارنة للوحدة؛ فإن الوحدة لا تتغير بالمقارنة حالاً، بل تجعل الكل أكثر وتذر الجزء على حاله. وبالجملة إذا كانت الوحدات متشاكلة والتركيب واحداً كانت الطبيعتان متفقتين، إلا أن يعرض شيء يغير ويفسد، ولا يجوز أن لا تكون الوحدات متشاكلة، فإن العدد يحدث من وحدات متشاكلة لا غير.
    الصفحة : 165
    على أن قوماً منهم يقولون إن الثنائية يلحقها من حيث هي ثنائية وحدة غير وحدة الثلاثية، فكذلك تكون وحدة الثنائية غير وحدة الثلاثية، فيلزم أن تكون العشارية مركبة لا من خماسيتين على ما تكون به الخماسيتان، لأن آحاد العشرة غير آحاد الخماسية، فلا تتركب العشارية من خماسيتين، ويلزم أن تكون آحاد الخماسية إذا كانت جزء عشرة مخالفة لآحادها إذا كانت جزء خمسة عشر، لكنهم عساهم يقولون: إن الخماسية التي في خمسة عشر غير الخماسية التي في العشارية البسيطة، لأنها خماسية عشارية هي جزء من خمسة عشر، فيلزم أن تكون العشارية إذا أضيف إليها الخماسية لا تصير خمسة عشر أو تستحيل آحادها، وذلك كله محال. ثم إن لم تكن خماسية العشرة مساوية للخماسية المطلقة فلا تكون خماسية إلا باشتراك الاسم، فبالحري أن يتفهم معنى الخماسية فيها بعد المشاركة في اللفظ، وإن كانت مساوية فتكون إذن الآحاد في جميعها متساوية والثنائيات والثلاثيات، فتكون أيضاً صورة الثلاثية موجودة في الرباعية، لكن الثلاثية صورة لنوع طبيعي، والرباعية كذلك، فتكون الأنواع الطبيعية موجودة فيها أنواع أمور أخرى مخالفة. مثلاً إذا كان عدد ما هو صورة للإنسان ثم عدد آخر صورة للفرس إما أكثر منه وإما أقل، فإن كان أكثر منه كان نوع الإنسان موجوداً في الفرس وإن كان أقل منه كان نوع الفرس موجوداً في الإنسان، فيلزم أن تكون صورة أنواع قبل أنواع وصورة أنواع بعد أنواع إذا كانت أشد تركيباً منها وإن لم يأخذ تركيب الأنواع من الأنواع مأخذ غير متناه. ثم كيف يكون عدد موجود له ترتيب ذاتي من الوحدانية والثنائية يذهب إلى غير النهاية بالفعل وقد تبين استحالة هذا. وأما الذي يولدون العدد بالتكرير مع ثبات الوحدة للواحد فليس يفهم للتكرير فيه معنى إلا إيجاد شيء آخر غير الأول بالعدد، فإن كان للعدد يفعله التكرير وليس كل واحد من الأول والثاني فيه وحدة فليس الوحدة مبدأ تأليف عدد، فإن كان الأول من حيث هو أول وحدة، والثاني من حيث هو ثان وحدة، فهناك وحدتان، فإن الوحدة لا تتكرر إلا بأن تكون هناك مرة بعد مرة، وهذه المرة إما أن تكون زمانية أو ذاتية، فإن كانت زمانية ولم تعدم في الوسط فهي كما كانت إلا أنها كررت، وإن عدمت ثم أوجدت فالموجودة شخصية أخرى، وإن كانت ذاتية فذلك أبين. وقوم جعلوا الوحدة كالهيولي للعدد وقوم جعلوها كالصورة لأنها تقال في الكل. والعجب من الفيثاغورثيين إذا جعلوا الوحدات الغير متجزئة مبادئ للمقادير، وعلموا أن المقادير تذهب إلى مذهب في التجزؤ إلى غير النهاية. وقال قوم: إن الوحدة إذا قارنت المادة صارت نقطة، والثنائية على ذلك القياس إذا قارنتها فعلت خطاً
    الصفحة : 166
    والثلاثية سطحاً والرباعية جسماً، ولا يخلو إما أن تكون المادة لها مشتركة، أو تكون لكل واحد منها مادة أخرى، فإن كانت لها مادة واحدة فتصير المادة تارة نقطة، ثم تنقلب جسماً، ثم تنقلب نقطة، وهذا مع استحالته يوجب أن لا يكون كون النقطة مبدأ للجسم أولى من أن يكون الجسم مبدأ للنقطة، بل ربما يكونان من الأمور المتعاقبة على موضوع واحد وإن كانت موادها مختلفة فلا توجد في مادة الثنائية وحدة، فلا تكون في المادة الثنائية ثنائية، ويلزم أن لا تكون هذه الأشياء البتة معاً. وأما على مذهب التحقيق فليست النقطة موجودة إلا في الخط، الذي هو في السطح، الذي هو في الجسم، الذي هو في المادة، وليست النقطة مبدأ إلا بمعنى الطرف، وأما بالحقيقة فالجسم هو المبدأ، بمعنى أنه معروض له التناهي به. والعجب ممن جعل المبدأ الزيادة والنقصان، فجعل المضاف مبدأ، والمضاف هو أمر عارض لغيره من الموجودات ومتأخر عن كل شيء. ثك كيف يمكنهم أن يجعلوا في الوجود كثرة؟ فإن الوحدة الثانية التي توجد في الكثرة مضافة إلى الأولى إن كانت موجودة لذاتها، فبماذا تباين وحدة وحدة؟ واجب الوجود بذاته لا يتكثر ولا يباين شيئاً إلا بالجوهر لا بالعدد، وإن جاءت بانقسام وحدة فليست الوحدة إلا مقداراً، وإن جاءت بسبب آخر فالوحدة لها علة موجودة في طبيعتها وليست من الأمور التي بذاتها ومن المبادئ التي توجد ولا سبب لها. ثم كيف جعلوا الوحدة والكثرة من الأضداد وقسموها إلى الخير والشر، فمنهم من ما إلى أن يجعل العدد من الخير لما فيه من الترتيب والتركيب والنظام، ومنهم من مال إلى أن يجعل الوحدة من الخير، فإذا كانت الوحدة من الخير، فكيف تولد من خير شر؟ وكيف صار ازدياد الخير شراً؟ وإن كانت الكثرة خيراً والوحدة شراً، فكيف حصل من ازدياد الشر خير؟ وكيف كان الأول والمبدأ شراً حتى صار الأفضل معلوماً والأنقص علة؟ ومنهم من جعل العدد والوحدة من باب الخير، وجعل الشر هيولي، والهيولي إن كانت معلولة فيكون لها علة تستند إلى هيولي أو إلى صورة، فإن كانت تستند إلى هيولي فستقف على ما يقصد بالكلام، وإن كانت تستند إلى صورة فكيف يولد الخير الشر؟ وإن لم تكن معلولة فهي واجبة بذاتها، فإما أن تكون قابلة للإنقسام أو مجردة؛ فإن كانت قابلة للإنقسام في نفسها فهي مقدار مؤلف من آحاد على رأيهم، فهي أيضاً من الخير؛ وإن كانت غير منقسمة في ذاتها فذاتها وحدانية، والوحدانية - بما هي وحدانية - خير؛ إذ ليس عندهم للخير معنى إلا كونه وحدة ونظاماً من العدد، والوحدة أولى عندهم بذلك. فإن جعلوا كون الوحدة وحدة غير كونها خيراً انتقضت أصولهم كلها، وإن جعلوا الوحدانية خيرية لزم
    الصفحة : 167
    من ذلك أن تكون الهيولي - لأنها وحدانية - خيرية، ثم إن كانت الوحدانية فيها خيرية، ولكنها لا حق لها غريب، فلتجرد الملحوق به، يلزمه هذا البحث بعينه؛ ثم كيف يتولد من الأعداد حرارة وبرودة وثقل وخفة حتى يكون عدد يوجب أن يتحرك الشيء إلى فوق وعدد يوجب أن يتحرك الشيء إلى أسفل؟ فإن بطلان هذه مما يغني عن تكلف إبانة. على أن قوماً منهم جعلوا الأشياء تتولد من عدد يطابق كيفية ويوجد معها، فتكون المبادئ ليست أعداداً، بل أعداداً، وكيفيات وأمور أخرى؛ وهذا محال عندهم. واعلم بعد هذا كله أن التعليميات لا تفارق الخيرية، وذلك لأنها في أنفسها ذوات حظ وافر من الترتيب والنظام والاعتدال، فكل شيء منها على ما ينبغي أن يكون له،وهذا خير كل شيء.
    المقالة الثامنة
    في معرفة المبدأ الأول للوجود كله ومعرفة صفاته

    علي العذاري غير متواجد حالياً
    رد مع اقتباس
  7. تكبير الخط تصغير الخط
    بتاريخ : 09-02-2012 الساعة : 08:34 AM رقم #14
    كاتب الموضوع : علي العذاري


    شاملى مميز


    • بيانات علي العذاري
      رقم العضوية : 6016
      عضو منذ : Jan 2012
      الدولة : ariq
      المشاركات : 141
      بمعدل : 0.03 يوميا
      معدل تقييم المستوى : 14
      التقييم : Array


  8. سبعة فصول
    الفصل الأول (ا)
    الصفحة : 168
    فصل في تناهي العطل الفاعلية والقابلية
    وإذ قد بلغنا هذا المبلغ من كتابنا فبالحرى أن نختمه بمعرفة المبدء الأول للوجود كله وأنه هل هو موجود، وهل هو واحد لا شريك له في مرتبته ولا ندّ له؟ وندل على مرتبته في الوجود، وعلى ترتيب الموجودات دونه ومراتبها، وعلى حال العود إليه، مستعينين به. فأول ما يجب علينا من ذلك أن ندل على أن العلل من الوجوه كلها متناهية، وأن في كل طبقة منها مبدأ أول، وأن مبدأ جميعها واحد، وأنه مباين لجميع الموجودات، واجب الوجود وحده، وأن كل موجود فمنه ابتدأ وجوده. فنقول: أما أن علة الوجود للشيء تكون موجودة معه فقد سلف لك وتحقق. ثم نقول: إنا إذا فرضنا معلولا، وفرضنا له علة، ولعلته علة، فليس يمكن أن يكون لكل علة علة بغير نهاية، لأن المعلول وعلته وعلة علته إذا اعتبرت جملتها في القياس الذي لبعضها إلى بعض كانت علة العلة علة أولى مطلقة للأمرين، وكان للأمرين نسبة المعلولية إليها، وإن اختلفا في أن أحدهما معلول بمتوسط والآخر معلول بغير متوسط، ولم يكن كذلك الأخير ولا المتوسط لأن المتوسط - الذي هو العلة المماسة للمعلول - علة لشيء واحد فقط، والمعلول ليس علة لشيء، ولكل واحد من الثلاثة خاصية، فكانت خاصية الطرف المعلول أنه ليس علة لشيء، وخاصية الطرف الآخر أنه علة للكل غيره، وكانت خاصية المتوسط أنه علة لطرف ومعلول لطرف. وسواء كان الوسط واحدا" أو فوق واحد، فإن كان فوق واحد فسواء ترتب ترتيبا متناهيا أو ترتب ترتيبا غير متناه؛ فإنه إن ترتب في كثرة متناهية كانت جملة عدد ما بين الطرفين كواسطة واحدة تشترك في خاصية الواسطة بالقياس إلى الطرفين، ويكون لكل واحد من الطرفين خاصية، وكذلك إن ترتب في كثرة غير متناهية ولم يحصل الطرف كان جميع الطرف غير المتناهي مشتركا في خاصية الواسطة، لأنك أي جملة أخذت كانت علة لوجود المعلول الأخير، وكانت معلولة، إذ كل واحد منها معلول، والجملة متعلقة الوجود بها، ومتعلق الوجود بالمعلول معلول، إلا أن تلك الجملة شرط في وجود المعلول الأخير، وعلة له، وكلما زدت في البصر كان الحكم إلى غير نهاية باقيا، فليس يجوز إذن أن تكون جملة علل موجودة وليس فيها علة غير معلولة، وعلة أولى، فإن جميع غير المتناهي يكون واسطة بلا طرف وهذا محال؛ وقول القائل إنها - أعنى المعلل قبل العلل - تكون بلا نهاية مع تسليمه لوجود الطرفين، حتى يكون طرفان وبينهما وسائط بلا نهاية، ليس يمنع غرضنا الذي نحن فيه، وهو إثبات
    الصفحة : 169
    العلة الأولى. على أن قول القائل: أن ههنا طرفين ووسائط بغير نهاية قول يقوله باللسان، دون الاعتقاد، وذلك لأنه إذا كان له طرف فهو متناه في نفسه، فإن كان المحصى لا ينتهى إلى طرفه، فإن ذلك معنى في المحصى لا معنى في الشيء نفسه، وكون الأمر في نفسه متناهيا، هو أن يكون له طرف، وكل ما بين الطرفين فهو ممدود ضرورة بهما. فقد تبين من جميع هذه الأقاويل أن ههنا علة أولى، فإنه وإن كان ما بين الطرفين غير متناه، ووجد الطرف، فذلك الطرف أول لما لا يتناهى، وهو علة غير معلول. وهذا البيان يصلح أن يجعل بيانا لتناهى جميع طبقات أصناف العلل، وإن كان استعمالنا له في العلل الفاعلية، بل قد علمت أن كل ذي ترتيب في الطبع، فانه متناه وذلك في الطبيعيات، وإن كان كالدخيل فيها فلنقبل على بيان تناهى العلل التي تكون أجزاء من وجود الشيء ومتقدمة في الزمان، وهي العلل التي تختص باسم العنصرية، وهي ما يكون عنه الشيء، بأن يكون هو جزءا" ذاتيا للشيء. وبالجملة اعتبر بقولنا شيء من شيء أن يكون قد دخل في وجود الثاني أمر كان للشيء الأول، إما الجوهر والذات الذي للشيء الأول، مثل الإنسان في الصبى، إذا قيل: إنه كان منه رجل، أو جزء من الجوهر والذات الذي للشيء الأول، ملل الهيولى في الماء، إذا قيل: إنه كان من هواء؛ ولا تعتبر المفهوم من قول القائل: كان كذا من كذا، إذا كان بعده، ولم تدل لفظ " من " على شيء من ذات الأول، بل على البعدية فقط. فنقول: إن كون الشيء من الشيء، لا بمعنى بعد الشيء، بل بمعنى أن في الثاني أمرا" من الأول داخلا في جوهره، يقال على وجهين: أحدهما بمعنى أن يكون الأول إنما هو ما هو بأنه بالطبع يتحرك إلى الاستكمال بالثاني، كالصبي إنما هو صبي لأنه في طريق السلوك إلى الرجلية مثلا، فإذا صار رجلا لم يفسد، ولكنه استكمل، لأنه لم يزل عنه أمر جوهري، ولا أيضا أمر عرضي، إلا ما يتعلق بالنقص، وبكونه بالقوة بعدُ، إذا قيس إلى الكمال الأخير. والثاني أن يكون الأول ليس في طباعه أن يتحرك إلى الثاني، وإن كان يلزمه الإستعداد لقبول صورته، لا من جهة ماهيته،ولكن من جهة حامل ماهيته. وإذا كان منه الثاني، لم يكن من جوهره الذي بالفعل إلا بمعنى بعد، ولكن كان من جزء جوهره، وهو الجزء الثاني الذي يقارن القوة، مثل الماء إنما يصير
    الصفحة : 170
    هواء بأن تنخلع عن هيولاه صورة المائية، ويحصل لها صورة الهوائية، والقسم الأول كما لا يخفى عليك، يحصل فيه الجوهر الذي للأول بعينه في الثاني، والقسم الثاني لا يحصل الجوهر الذي في الأول بعينه في الثاني، بل جزء منه ويفسد ذلك الجوهر. ولما كان في أول القسمين جوهر ما هو أقدم موجودا" فيما هو أشد تأخرا" كان هو بعينه، أو هو بعض منه، وكان الثاني هو مجموع جوهر الأول وكمال مضاف إليه، ولما كان قد علم فيما سلف أن الشيء المتناهي الموجود بالفعل لا يكون له أبعاض بالفعل كانت أبعاضا" مقدارية أو معنوية لها تراتيب غير متناهية، فقد استغنينا بذلك عن أن نشتغل ببيان أنه هل يمكن أن يكون موضوع من هذا القبيل قبل موضوع بلا نهاية، أو لا يمكن. وأما الثاني من القسمين فإنه من الظاهر أيضا" وجوب التناهي فيه، لأن الأول إنما هو بالقوة الثاني لأجل المقابلة التي بين صورته وبين صورة الثاني، وتلك المقابلة تقتصر في الإستحالة على الطرفين بأن يكون كل واحد من الأمرين موضوعا" للآخر، فيفسد هذا إلى ذاك، وذاك إلى هذا، فحينئذ بالحقيقة لا يكون أحدهما بالذات متقدما على الآخر، بل يكون تقدمه عليه بالعرض، أي باعتبار الشخصية دون النوعية، ولهذا ليس طبيعة الماء أولى بأن تكون مبدأ للهواء من الهواء للماء، بل هما كالمتكافئين في الوجود. وأما هذا الشخص من الماء فيجوز أن يكون لهذا الشخص من الهواء، ولا يمنع أن يتفق أن لا يكون لتلك الأشخاص نهاية أو بداية. وليس كلامنا ههنا فيما هو بشخصيته مبدأ لا بنوعيته، وفيما هو بالعرض مبدأ لا بالذات، فإنا نجوز أن تكون هناك علل قبل علل بلا نهاية في الماضي والمستقبل، وإنما علينا أن نبين التناهي في الأشياء التي هي بذواتها علل، فهذا هو الحال في ثاني القسمين، بعد أن نستعين أيضا" بما قيل في الطبيعيات. والقسم الأول هو الذي هو بذاته علة موضوعية، ولا ينعكس فيصير الثاني علة للأول، فأن الثاني لما كان عند الاستكمال، والأول عند الحركة إلى الاستكمال، لم يجز أن تكون الحركة إلى الاستكمال بعد حصول لاستكمال.كما يجوز أن يكون الاستكمال بعد الحركة إلى الاستكمال، فجاز رجل من صبي ولم يجز صبي من رجل.
    الفصل الثاني (ب)
    الصفحة : 171
    فصل في شكوك تلزم ما قيل وحلها
    ونحن فقد آثرنا في هذا البيان أن نحاذي المذكور منه في التعليم الأول في المقالة الموسومة بألف الصغرى، ثم على هذا الموضوع شكوك يجب أن نوردها ثم نتجرد لحلها. فمن ذلك، أن لقائل أن يقول: إن المعلم الأول لم يستوف القسمة في كون الشيء من شيء آخر، لأنه ذكر ذلك على وجهين: أحدهما، كون الشيء عن آخر يضاده، وبالجملة الكون الذي على سبيل الاستحالة. والثاني، كون الشيء المستكمل عن المتحرك إليه والذي في طريق الكون. وهذا غير مستوف للقسمة، لأن كل ما يكون عن الشيء يكون أولا على وجهين، وهو أنه لا يخلو: إما أن يكون الأول المكون منه هو على وجود ذاته لم يبطل منه شيء، ولم يفسد إلا معنى الاستعداد أو ما يتعلق به. وأما أن يكون الأول إنما أمكن أن يكون منه الثاني بزوال شيء من الأول. والقسم الأول لا يخلو: أن يكون عنه الشيء، وقد كان مستعدا" فقط، فخرج إلى الفعل دفعة من غير سلوك. أو يكون قد كان مستعدا فقط فخرج إلى الفعل بحركة متصلة كان فيها بين الاستعداد الصرف وبين الاستكمال الصرف. فيكون الكائن في القسم الأول ينسب أنه كان عن حالة واحدة، كقولنا: كان عن الجاهل بأمري كذا عالم. والكائن في القسم الثاني ينسب أنه كان تارة عن حالة سالكا، كقولنا كان من الصبي رجل، وتارة عن حالة مستعدة فقط كقولنا: كان عن المنى رجل، فإن اسم الصبي هو للمستعد أن يستكمل رجلا، وهو في السلوك، واسم المنى للمستعد أن يكون إنسانا لا بشرط أن يكون في السلوك. فقد ترك المعلم الأول من الأقسام ما كان استكمالا"، وكان الكون منه غير منسوب إلى الحركة نحو الاستكمال. وأيضا فإنه ليس كل خروج عن استعداد صرف إلى فعل استكمالا، فإن النفس تعتقد الرأي الخطأ فيخرج إلى الفعل فيه من القوة، ويكون ليس على سبيل الاستكمال، ولا أيضا على سبيل الاستحالة. وأيضا" فإن العناصر تتكون منها الكائنات فتكون مستحيلة عند الامتزاج غير فاسدة في صورها الذاتية على ما علمت، فيكون المزاج غير كائن فيها لزوال ضد المزاج بل عدمه فقط، فيكون هذا القسم ليس
    الصفحة : 172
    هو من القسم الذي مثل له بكون الهواء من الماء، وذلك لأن العناصر لا تفسد في أنواعها عند المزاج بل تستحيل، ولا من القسم الذي مثل له بكون الرجل من الصبي، لأنه كان لا ينعكس، فلا يكون الصبي بفساد الرجل، وههنا ينعكس فيكون من الممتزج شيء عنه أمتزج بعد فساد المزاج. وأيضا" فإنه إنما تكلم لا على الموضوع، بما هو الموضوع، بل بما يدل عليه لفظ الكون من الشيء؛ ومعلوم أن هذا لا يقال لكل نسبة للمتكون إلى موضوعه؛ فإن ما كان من المستعدات التي يكون منها الشيء بالاستكمال لا اسم له من جهة ما هو مستعد، ولا يلحقه تغير عن حالته التي له قبل الخروج إلى الفعل؛ فلا يقال إن الشيء كان منه، فلا يقال كان من الإنسان رجل، ولكن من الصبي، لأن الصبي اسم له من جهة ما هو ناقص، ولأنه لا يتم إلا بإستحالات أيضا في طريق السلوك؛ فكأنه لما سمى كان له معنى يدل عليه لاسم يزول عنه عند الخروج إلى الفعل؛ كأنه ما لم يتوهم فيه زوال أمر ما، كان له بسببه استحقاق الاسم، لم يقل إنه يكون منه شيء، فيعرض من هذا أن تكون ما لا يسمى فيه نسبة الكائن إلى الموضوع غير داخل في هذه القسمة ويعرض منه أن تكون النسبة إلى الموضوع بالعرض لا الذي بالذات، لأن الصبي بما هو صبي لا يجوز أن يصير رجلا، حتى يكون هو صبيا ورجلا، بل يفسد المعنى المفهوم من اسم الصبي حتى يصير رجلا فيكون الكون من الصبي آخر الأمر بمعنى بعد ويكون أيضا" إنما يتكلم عن الموضوعات التي بالعرض. وأيضا" فإنه لا يخلو: إما أن يكون الماء إذا كان منه الهواء عنصرا" له بوجه ما. أو لا يكون. فإن لم يكن فالاشتغال بذكره باطل. وإن كان فليس يجب إذا كان الهواء يستحيل في كيفيته الفاعلة إلى المائية، فيصير عنصرا" له أن لا يستحيل في كيفية أخرى، فيصير عنصرا" لشيء آخر، مثلا في رطوبته في فيصير عنصرا" للنار من غير أن يرجع ماء؛ ثم كذلك النار في كيفية أخرى غير مقابلة للتي فيها استحالة إليها الهواء فتكون العلل المادية تذهب إلى غير نهاية، من غير أن ترجع؛ فإذن لم يتبين من وضعه أنه يجب أن يرجع لا محالة، بل بأن إمكان الرجوع، ويتعلق بذلك إمكان التناهي، فليس ذلك مطلوبه، بل مطلوبه وجوب التناهي. ولنشرع الآن في حل هذه الشكوك فنقول: الأولى أن يكون كلام المعلم الأول، إنما هو في مباديء الجوهر- بما هو جوهر- لا بما هو جوهر معروض له ما لا يقوم جوهريته، ولا أيضا" يكمله، فيكون
    الصفحة : 173
    كلامه في كون الجوهر من عنصره، أو من موضع له، إما على سبيل كون نوع الجوهر مطلقا"، وأما على سبيل كون كمال نوع الجوهر. والأولى أيضا" أن يكون كلامه في الكون الطبيعي دون الصناعي، وإذا كان كذلك كان العنصر جزءا" ذاتيا" في وجود الكائن وأيضا" في وجود المتكون منه، لست أعني بالذاتي أنه يكون ضروريا" لوجود المركب منه ومن غيره، فإن هذا أيضا" موجود العنصر في الأكوان غير الذاتية، مثل العنصر في الجسم الأبيض. ولكن أعني بالذاتية أن يكون كون العنصر جزءا" آمرا" ذاتيا" له، فلا يقوم ذلك العنصر بالفعل إلا أن يكون جزءا" لذلك الشيء أو لما الشيء كما له الطبيعي؛ إذ يكون جزءا" لجوهر أو لآخر، حكمه حكمه، لا أن يكون العنصر يقوم دون ذلك، ثم عرض له أن صار جزا" من مركب منه ومن عرض فيه ليس هو مقوما" له ولا مكملا لما يقومه، فيكون كونه جزءا" هو ذاتي بالقياس إلى المركب، وليس ذاتيا" بالقياس إلى ذاته، بل يجب أن لا يعرى عن كونه جزءا". وإذا كان كذلك، لم يخل الموضوع من أحد أمرين: إما أن يكون متقوما" بهذا الشيء أو بآخر يقوم مقامه، فيكون قد كان فيه قبل حصول الصورة الحادثة فيه شيء آخر يقوم مقامها في تقويمه إلا أنها لا تجتمع مع هذا، فيكون قد كان حصل من العنصر ومن ذلك الشيء جوهر، فلما كان الثاني فسد ذلك الجوهر المركب، وهذا أحد القسمين. وإما أن يكون العنصر قد يقوم لا بهذا الشيء الذي حدث، ولكن بصورة غير مستكملة فيما لها بالطبع، ولكنها قد حصلت بحيث يقوّم المادة فقط، ولم يحصل الأمر الذي هو علة غائية لهذه الصورة بالطبع، فيكون الجوهر قد حصل ولم يحصل كاملا بالطبع، وإذا كان ذلك الكمال كمالا له بالطبع، والقوة الطبيعية مبدأ الحركة إلى الكمال الذي بالطبع فيلزم ضرورة أن لا يكون هذا الشيء موجودا" على سلامته الطبيعية زمانا" لا عائق له فيه وهو غير متحرك بالطبع إلى ذلك الكمال؛ فإذن يلزم ضرورة في هذا القسم أن يكون المستعد متحركا إلى الكمال. فقد ظهر إذن أن جميع أصناف كون الجوهر الذي بحسب هذا النظر هو داخل تحت أحد هذين القسمين ضرورة، وكذلك جميع أصناف ما هو كون الشيء عن شيء يكون ذلك القابل في كليهما جزءا" ذاتيا" باعتباره في نفسه، وباعتباره بالقياس إلى المركب. وليس لقائل، أن يقول: إنه يجوز أن تكون القوة الطبيعية لا تحرك إلى كما هي لإعواز معين من خارج
    الصفحة : 174
    أو عائق مانع. مثال الأول فقدان ضوء الشمس في الحبوب والبذور؛ ومثال الثاني الأمراض المذبلة. فالجواب عن ذلك أن كلام المعلم الأول ليس في الذي يكون لا محالة يتحرك بالفعل، بل في الذي لو لم يكن عائق لطبيعته، وكانت الأسباب الطبيعية المعاضدة بالطبع لطبيعته موجودة، كان متحركا إلى الكمال وكان في طريق السلوك. فقد ظهر إذن أن سائر الأقسام غير مقصودة في هذا البحث إلا القسم المذكور، بل هذا الحكم غير صحيح في سائر الأقسام؛ فانه يجوز في غير كون الجوهر إذا فرضنا موضوعا" مبتدأ أن لا يزال يكتسب استعدادا" بعد استعداد لأمور عرضية من غير أن يتناهى؛ كالخشب فإنك كلما شكلته بشكل استعد بذلك لأمر، وإذا خرج استعداده إلى الفعل، استعد لأمر آخر وكذلك النفس في إدراك المعقولات، ويشبه أن تكون الاستحالات الطبيعية لا يمنع فيها هذا المعنى. وأما الشبهة المذكورة في كون الاشياء من العناصر، وأنه ليس على أحد القسمين، فحلها يظهر أيضا" مما قد قيل؛ وهو أن العنصر مفردا ليس مستعدا" لقبول الصور الحيوانية والنباتية، بل يحصل له ذلك الاستعداد بالكيفية التي يحدث فيه بالمزاج؛ والمزاج يحدث فيه لا محالة استحالة ما في أمر طبيعي له، وإن لم يكن مقوما"؛ فتكون نسبته إلى صورة المزاج من القسم الذي يكون بالاستحالة، وإذا حصل فيه المزاج كان قبول صورة الحيوانية له استكمالا لذلك المزاج، ويتحرك الظبع به إليه، فتكون نسبته إلى صورة الحيوانية نسبة الصبي إلى الرجل؛ فلذلك ليست تفسد الصورة الحيوانية إلى أن تصير مجرد مزاج، كما لا يكون الصبي من الرجل، ويفسد المزاج إلى موجب الصورة البسيطة، كما يستحيل الماء إلى الهواء، وليس الحيوان عنصرا" لجوهر العناصر، بل يستحيل إليها من حيث هي بسيطة. فيكون إذن الامتزاج والبساطة يتعاقبان على الموضوع. والبساطة ليست تقوم جوهر العناصر ولكن تكمل طبيعة كل واحد منها، من حيث هو بسيط، فتكون النار نارا" صرفة في الكيفية التي فيها، اللازمة لصورتها وكذلك الماء. وكذلك كل واحد من العناصر؛ فإذن كون الحيوان يتعلق بكونين، ولكل واحد منهما حكم يخصه من وجوب التناهي، فهو داخل أيضا" في القسمين المذكورين. وأما الشبهة التي تعرض من جهة إنه إننا أخذ من العناصر ما جرت به العادة بأن يقال: إن الشيء منه دون ما لم تجري به العادة، فالجواب عن تلك الشبهة هو إنه ليس تتغير أحكام الأشياء من جهة الأسماء، ولكن يجب أن يقصد المعنى؛ فلنقصد ولنعرف الحال فيه فنقول:
    الصفحة : 175
    إن العنصر أو الموضوع الذي يكون منه الشيء إذا كان يتقدمه في الزمان، فإن له من جهة تقدمه له خاصية لا تكون مع حصوله له، وهي الاستعداد القوي، وإنما يتكون الجوهر منه لأجل استعداده لقبول صورته. واما إذا زال الاستعداد بالخروج إلى الفعل وجد الجوهر وكان محالا أن يقال إنه متكون منه. فإذا لم يكن من جهة الاستعداد أسم، بل أخذ له اسمه الذي لذاته الذي يكون له أيضا" عندما لا يجوز أن يتكون منه الشيء، لم يكن هو الاسم الذي يتعلق بمعناه التكون، فإن لم يكن له من جهة الاستعداد اسم، لم يمكن أن يقال باللفظ وإن كان المعنى حاصلا في الوجود؛ وإذا كان المعنى الذي يكون للمسمى حاصلا في غير المسمى كان حكمه في المعنى حكم ذلك، وإن كان عدم الاسم يمنع أن يكون حكمه في اللفظ حكم ذلك. فإذا أخذنا القول الذي يكون لذلك الاسم لو كان موضوعا" أمكننا حينئذ أن نقول في كل شيء: إنه يكون من العنصر له؛ مثلا أمكننا أن نقول: إن النفس العاقلة تكون من نفس جاهلة مستعدة للعلم، إلا أن نمنع استعمال لفظ يكون فيما خلا التكو ن الذي في الجوهر.فلا يجوز أن نقول في النفس العاقلة: إنها كانت من نفس مستعدة للعلم؛ ولكن يجوز لا محالة في الجواهر، وكلامنا فيها. على أنه فيما أحسب لا يختلف هذا الحكم في الجواهر مع ذواتها، وفي الجواهر مع أحوالها. وأما قول هذا القائل: إن هذا يكون كونا" من الشيء بمعنى بعد، فليس إذا كان بمعنى بعد كيف كان، لم يكن الكون الذي نقصده؛ فإنه لا بد في كل كون عن شيء أن يكون الكائن بعد ما عنه كان، إنما الذي يزيفه المعلم الأول ولا يتعرض له هو أن لا يكون هناك معنى غير البعدية، مثل المثل الذي يضربه ويشرحه، وأما إذا كان من الشيء بمعنى أن كان بعده، بأن بقي له من جوهره، الذي كان أولا ما هو أيضا"من جوهر الثاني لم يكن بمعنى بعد فقط، وكان الذي كلامنا فيه. وأما قول هذا القائل: إنه تكلم في العنصر الذي بالعرض دون العنصر الذي بالذات، فقد وقعت فيه مغالطة؛ بسبب أن العنصر للكون ليس هو بعينه العنصر للقوام في الاعتبار، وإن كان هو هو بالذات، فإن العنصر بالذات للكون هو ذات مقارنة للقوة، والعنصر بالذات للقوام هو ذات مقارنة للفعل، وكل واحد منهما هو عنصر بالعرض لما ليس هو عنصرا" له بالذات، وكلامه في العنصر الذي للكون، لا في الذي للقوام، فيكون إنما أخذ العنصر بالعرض لو أخذ العنصر الذي للكون مبدأ للقوام؛ فإن الصبي ليس عنصرا" لقوام الرجل ولا يكون منه قوام الرجل، ولكنه عنصر لكون الرجل ويكون منه كون الرجل.
    الصفحة : 176
    فإن قال قائل: إن المعلم الأول إنما يتكلم في مباديء الجوهر مطلقا"، فلم أعرض عن العنصر الذي للجوهر في قوامه، مثل موضوع السماء؛ واقتصر على العنصر الذي للجوهر في كونه. فالجواب عن ذلك أن عنصر قوامه جزء منه، وهو معه بالفعل، ولا يشكل تناهي الأمور الموجودة بالفعل في شيء متناه موجود بالفعل. على أن من بلغ أن يتعلم هذا العلم، ووقف على سائر ما سلف فإنما يشكل عليه من أمر تناهي العلل ولا تناهيها أنه هل يمكن أن يكون كذلك في العناصر التي بالقوة واحدا" بعد آخر مختلفة بالقرب والبعد. وأما الشك الآخر في حديث الماء والهواء فحله سهل على من وقف على كلامنا في العناصر، حيث تكلمنا في الكون والفساد؛ على أن الكلام ههنا في كون الشيء من الشيء بالذات، وكل تغير من الذي بالذات فهو في مضادة واحدة مقتصر عليها، فيكون الذي كان عنها بالذات يفسد إليها ضرورة، وفي الأخرى كذلك، فتكون جملة التغيرات محصورة، وكل طبقة منها مقتصرة على طرفين نرجع بأحدهما على الآخر، فقد انحلت جميع الشبه المذكورة.
    الفصل الثالث (ج)
    الصفحة : 177
    فصل في إبانة تناهي العلل الغائية والصورية وإثبات المبدأ الأول مطلقا"، وفصل القول في العلة الأولى مطلقا"، وفي العلة الأولى مقيدا"، وبيان أن ما هو علة أولى مطلقة علة لسائر العلل. وأما تناهي العلل الغائية فيظهر لك من الموضوع الذي حاولنا فيه إثباتها وحللنا الشكوك في أمرها؛ فإن العلة الغائية إذا ثبت وجودها ثبت تناهيها؛ وذلك لأن العلة التمامية هي التي تكون سائر الأشياء لأجلها، ولا تكون هي من أجل شيء آخر؛ فإن كان وراء العلة التمامية علة تمامية كانت الأولى لأجل الثانية، فلم تكن الأولى علة تمامية، وقد فرضت علة تمامية فإذا كان كذلك فمن جوز أن تكون العلل التمامية تستمر واحدة بعد أخرى، فقد رفع العلل التمامية في أنفسها، وأبطل طبيعة الخير التي هي العلة التمامية، إذا الخير هو الذي يطلب لذاته، وسائر الأشياء تطلب لأجله؛ فإذا كان الشيء يطلب لشيء آخر كان نافعا" لا خيرا" حقيقيا، فقد اتضح أن في ايجاب لا تناهي العلل التمامية رفع العلل التمامية؛ فإن من جوز أن وراء كل تمام تماما" فقد أبطل فعل العقل؛ فإنه من البين بنفسه أن العاقل إنما يفعل ما يفعل بالعقل؛ لأنه يؤم مقصودا" وغاية؛ حتى إنه إذا كان فاعل ما منا يفعل فعلا وليس له غاية عقلية، قيل إنه يعبث ويجازف ويفعل لا بما هو ذو عقل، ولكن بما هو حيوان، وإذا كان هذا هكذا فيجب أن تكون الأمور التي يفعلها العاقل بما هو عاقل محدودة، تفيد غايات مقصودة لأنفسها، وإذا كان الفعل العقلي لا يكون إلا محدود الغاية، وليس ذلك للفعل العقلي من جهة ما هو فعل عقلي، بل من جهة ما هو فعل يؤم به الفاعل الغاية، فهو إذن كذلك من جهة ما هو ذو غاية، فإذن كونه ذا غاية يمنع أن يكون لكل غاية غاية؛ فظاهر أنه لا يصح قول القائل: إن كل غاية وراءها غاية، وأما الأفعال الطبيعية والحيوانية، فقد علم أيضا" في مواضع أخرى إنها لغايات. وأما العلة الصورية للشيء فيفهم عن قريب تناهيها بما قيل في المنطق، وبما علم من تناهي الأجزاء الموجودة للشيء بالفعل على ترتيب طبيعي، وأن الصورة التامة للشيء واحدة، وأن الكثير يقع منها على نحو العموم والخصوص، وأن العموم والخصوص يقتضي الترتيب الطبيعي، وماله ترتيب طبيعي فقد علم تناهيه، وفي تأمل هذا القدر كفاية وغنية عن التطويل. و نبتديء فنقول: إذا قلنا مبدأ أول فاعلي، بل مبدأ أول مطلق فيجب أن يكون واحدا. وأما إذا قلنا علة أولى عنصرية، وعلة أولى صورية، وغير ذلك، لم يجب أن تكون واحدة وجوب ذلك في واجب
    الصفحة : 178
    الوجود، لأنه لا تكون ولا واحد منها علة أولى مطلقا، لأن واجب الوجود واحد، وهو في طبقة المبدأ الفاعلي، فيكون الواحد الواجب الوجود هو أيضا مبدأ وعلة لتلك الأوائل. فقد بان من هذا ومما سلف لنا شرحه، أن واجب الوجود واحد بالعدد، وبان أن ما سواه إذا اعتبر ذاته كان ممكنا في وجوده، فكان معلولا، ولاح أنه ينتهي في المعلولية لا محالة إليه، فإذن كل شيء إلا الواحد الذي هو لذاته واحد، والموجود الذي هو لذاته موجود؛ فإنه مستفيد الوجود عن غيره، وهو أيس به، وليس في ذاته، وهذا معنى كون الشيء مبدعا أي نائل الوجود عن غيره، وله عدم يستحقه في ذاته مطلق، ليس إنما يستحق العدم بصورته دون مادته، أو بمادته دون صورته، بل بكليته، فكليته إذا لم تقترن بايجاب الموجد له، واحتسب أنه منقطع عنه وجب عدمه بكليته، فإذن إيجاده عن الموجد له بكليته، فليس جزء منه يسبق وجوده بالقياس إلى هذا المعنى، لا مادته ولا صورته، إن كان ذا مادة وصورة. فالكل إذن بالقياس إلى العلة الأولى مبدع، وليس إيجاده لما يوجد عنه إيجادا يمكن العدم ألبتة من جواهر الأشياء بل إيجادا يمنع العدم مطلقا فيما يحتمل السرمد، فذلك هو الإبداع المطلق، والتأييس المطلق ليس تأييسا ما، وكل شيء حادث عن ذلك الواحد، وذلك الواحد محدِث له إذ المحّدث هو الذي كان بعد ما لم يكن، وهذا البعد إن كان زمانيا سبقه القبل وعدم مع حدوثه، فكان شيء هو الموصوف بأنه قبله، وليس الآن، فلم يكن يتهيأ أن يحدث شيء إلا وقبله شيء آخر يعدم بوجوده، فيكون الإحداث عن الليس المطلق وهو الابداع باطلا لا معنى له بل البعد الذي ههنا هو البعد الذي بالذات، فإن الأمر الذي للشيء من تلقاء نفسه قبل الذي له من غيره، وإذا كان له من غيره الوجود والوجوب فله من نفسه العدم و الامكان، وكان عدمه قبل وجوده، ووجوه بعد عدمه قبلية وبعدية بالذات، فكل شيء غير الأول الواحد فوجوده بعد ما لم يكن باستحقاق نفسه.
    الفصل الرابع (د)
    الصفحة : 179
    فصل في الصفات الأولى للمبدأ الواجب الوجود
    فقد ثبت لك الآن شيء واجب الوجود، وكان ثبت لك أن واجب الوجود واحد، فواجب الوجود واحد لا يشاركه في رتبته شيء، فلا شيء سواه واجب الوجود، وإذ لا شيء سواه واجب الوجود، فهو مبدأ وجوب الوجود لكل شيء، ويوجه إيجابا أوليا أو بواسطة، وإذا كان كل شيء غيره فوجوده من وجوده فهو أول. ولا تعني بالأول معنى ينضاف إلى وجوب وجوده حتى يتكثر به وجوب وجوده، بل نعني به اعتبار إضافته إلى غيره. وأعلم أنا إذا قلنا بل بينا أن واجب الوجود لا يتكثر بوجه من الوجوه، وأن ذاته وحداني صرف محض حق، فلا نعني بذلك أنه أيضا لا يسلب عنه وجودات، ولاتقع له إضافة إلى وجودات؛ فإن هذا لا يمكن. وذلك لأن كل موجود فيسلب عنه أنحاء من الوجود مختلفة كثيرة، ولكل موجود إلى الموجودات نوع من الإضافة والنسبة، وخصوصا الذي يفيض عنه كل وجود، لكنا نعني بقولنا إنه وحداني الذات لا يتكثر أنه كذلك في ذاته، ثم إن تبعته إضافات إيجابية وسلبية كثيرة فتلك لوازم للذات معلولة للذات، توجد بعد وجود الذات، وليست مقومة للذات ولا أجزاء لها. فإن قال قائل: فإن كانت تلك معلولة فلها أيضا إضافة أخرى، ويذهب إلى غير النهاية. فإنا نكلفه أن يتأمل ما حققناه في باب المضاف من هذا الفن، حيث أردنا أن نبين أن الإضافة تتناهى وفي ذلك إنحلال شكه. ونعود فنقول: إن الأول لا ماهية له غير الإنية، وقد عرفت معنى الماهية، وبماذا تفارق الإنية فيما تفارقه في افتتاح تبياننا هذا فنقول: إن واجب الوجود لا يصح أن يكون له ماهية يلزمها وجوب الوجود، بل نقول من رأس: إن واجب الوجود قد يعقل نفس واجب الوجود، كالواحد قد يعقل نفس الواحد، وقد يعقل من ذلك أن ماهيته هي مثلا إنسان أو جوهر آخر من الجواهر، وذلك الإنسان هو الذي هو واجب الوجود، كما أنه قد يعقل من الواحد أنه ماء أو هواء أو إنسان وهو واحد. وقد تتأمل فتعلم ذلك مما وقع فيه الاختلاف في أن المبدأ في الطبيعيات واحد أو كثير. فبعضهم جعل المبدأ واحدا، وبعضهم جعله كثيرا. والذي جعله منهم واحدا فمنهم من جعل المبدأ الأول لا ذات الواحد، بل شيئا هو الواحد، مثل ماء أو هواء أو نار أو غير ذلك. ومنهم من جعل المبدأ ذات الواحد من حيث هو واحد، لا شيء عرض له الواحد، ففرق إذن بين ماهية
    الصفحة : 180
    يعرض لها الواحد والموجود، وبين الواحد والموجود من حيث هو واحد وموجود. فنقول: إن واجب الوجود لا يجوز أن يكون على الصفة التي فيها تركيب حتى يكون هناك ماهية ما، وتكون تلك الماهية واجبة الوجود، فيكون لتلك الماهية معنى غير حقيقتها وذلك المعنى وجوب الوجود مثلا إن كانت تلك الماهية أنه إنسان، فيكون أنه إنسان غير أنه واجب الوجود، فحينئذ لا يخلو إما أن يكون لقولنا وجوب الوجود هناك حقيقة، أو لا يكون، ومحال أن لا يكون لهذا المعنى حقيقة، وهي مبدأ كل حقيقة، بل هي تؤكد الحقيقة وتصححها. فإن كان له حقيقة وهي غير تلك الماهية، فإن كان ذلك الوجوب من الوجود يلزمه أن يتعلق بتلك الماهية ولا يجب دونها، فيكون معنى واجب الوجود من حيث هو واجب الوجود يوجد بشي ليس هو، فلا يكون واجب الوجود، من حيث هو واجب الوجود، وبالنظر إلى ذاته من حيث هو واجب الوجود ليس بواجب الوجود، لأن له شيئا به يجب؛ وهذا محال إذا أخذ مطلقا غير مقيد بالوجود الصرف الذي يلحق الماهية، وإذا أخذ لاحقا للماهية فإنه وإن كان قد يقارن ذلك الشيء فليست تلك الماهية ألبتة واجبة الوجود مطلقا، ولا عارضا لها وجوب الوجود مطلقا، لأنها لا تجب في كل وقت، وواجب الوجود مطلقا يجب في كل وقت، وليس هكذا حال الوجود إذا أخذ مطلقا غير مقيد بالوجوب الصرف الذي يلحق الماهية، فلا ضير لو قال قائل: إن ذلك الوجود معلول للماهية من هذه الجهة أو لشيء آخر. وذلك لأن الوجود يجوز أن يكون معلولا، والوجوب المطلق الذي بالذات لا يكون معلولا، فبقي أن يكون واجب الوجود بالذات مطلقا متحققا من حيث هو واجب الوجود بنفسه، واجب الوجود من دون تلك الماهية، فتكون تلك الماهية عارضة لواجب الوجود المتحقق القوام بنفسه إن كان يمكن، فواجب الوجود مشار إليه بالعقل في ذاته، ويتحقق واجب الوجود وإن لم تكن تلك الماهية العارضة، فإذن ليست تلك الماهية ماهية للشيء المشار إليه بالعقل أنه واجب الوجود، بل ماهية لشيء آخر لاحق له، وقد كانت فرضت ماهية لذلك الشيء لا شيء آخر، هذا خلف، فلا ماهية لواجب الوجود غير أنه واجب الوجود، وهذه هي الإنية. ونقول: إن الإنية والوجود لو صارا عارضين للماهية فلا يخلو إما أن يلزمها لذاتها، أو لشيء من خارج، ومحال أن يكون لذات الماهية، فإن التابع لا يتبع إلا موجودا فيلزم أن يكون للماهية وجود قبل وجودها، وهذا محال. ونقول إن كل ماله ماهية غير الإنية فهو معلول؛ وذلك لأنك علمت أن الإنية والوجود لا يقوم من الماهية التي هي خارجة عن الإنية مقام الأمر المقوم، فيكون من اللوازم، فلا
    الصفحة : 181
    يخلو: إما أن يلزم الماهية لأنها تلك الماهية. وإما أن يكون لزومها إياها بسبب شيء. ومعنى قولنا اللزوم اتباع الوجود، ولن يتبع موجود إلا موجودا، فإن كانت الإنية تتبع الماهية وتلزمها لنفسها، فتكون الإنية قد تبعت في وجودها وجودا، وكل ما يتبع في وجوده وجودا فإن متبوعه موجود بالذات قبله، فتكون الماهية موجودة بذاتها قبل وجودها، وهذا خلف. فبقي أن يكون الوجود لها عن علة، فكل ذي ماهية معلول، وسائر الأشياء غير الواجب الوجود فلها ماهيات، وتلك الماهيات هي التي بأنفسها ممكنة الوجود، وإنما يعرض لها وجود من خارج. فالأول لا ماهية له، وذوات الماهيات يفيض عليها الوجود منه، فهو مجرد الوجود بشرط سلب العدم وسائر الأوصاف عنه؛ ثم سائر الأشياء التي لها ماهيات فإنها ممكنة توجد به، وليس معنى قولي: إنه مجرد الوجود بشرط سلب سائر الزوائد عند أنه الوجود المطلق المشترك فيه إن كان موجود هذه صفته؛ فأن ذلك ليس الموجود المجرد بشرط السلب بل الموجود لا بشرط الإيجاب، أعني في الأول أنه الموجود مع شرط لا زيادة تركيب، وهذا الآخر هو الموجود لا بشرط الزيادة، فلهذا ما كان الكلي يحمل على كل شيء، وذلك لا يحمل على كل ما هناك زيادة، وكل شيء غيره فهناك زيادة. والأول أيضا لا جنس له؛ وذلك لأن الأول لا ماهية له، وما لا ماهية له فلا جنس له؛ إذ الجنس مقول في جواب ما هو والجنس من وجه هو بعض الشيء، والأول قد تحقق أنه غير مركب. وأيضا أن معنى الجنس لا يخلو: إما أن يكون واجب الوجود فلا يتوقف إلى أن يكون هناك فصل. وإن لم يكن واجب الوجود وكان مقوما لواجب الوجود كان واجب الوجود متقوما بما ليس بواجب الوجود، وهذا خلف، فالأول لا جنس له. ولذلك فإن الأول لا فصل له، وإذ لا جنس له ولا فصل له فلا حد له، ولا برهان عليه، لأنه لا علة له، ولذلك لا لمّ له، وستعلم أنه لا لمية لفعله. ولقائل أن يقول: إنكم إن تحاشيتم أن تطلقوا على الأول اسم الجوهر فلستم تتحاشون أن تطلقوا عليه معناه، وذلك لأنه موجود لا في موضوع، وهذا المعنى هو الجوهر الذي جنستموه له. فنقول: ليس هذا معنى الجوهر الذي جنساه، بل معنى ذلك أنه الشيء ذو الماهية المتقررة الذي وجوده ليس في موضوع كجسم أو نفس؛ والدليل على أنه إذا لم يعن بالجوهر هذا
    الصفحة : 182
    لم يكن جنسا ألبتة، هو أن المدلول عليه بلفظ الموجود ليس يقتضي جنسيته، والسلب الذي يلحق به لا يزيده على الوجود إلا نسبة مباينة: وهذا المعنى ليس فيه إثبات شيء محصل بعد الوجود، ولا هو معنى لشيء بذاته، بل هو بالنسبة فقط، فالموجود لا في موضوع إنما المعنى الإثباتي فيه الذي يجوز أن يكون لذات ما، هو الموجود؛ وبعده شيء سلبي ومضاف خارج عن الهوية التي تكون للشيء. فهذا المعنى إن أخذ على هذا الوجه لم يكن جنسا"، وأنت قد علمت هذا في المنطق علما" متقنا". وقد علمت في المنطق أيضا" أنا إذا قلنا: كل " أ " مثلا، عنينا كل شيء موصوف بأنه " أ " ولو كانت له حقيقة غير الألفية، فقولنا في حد الجوهر: إنه الموجود لا في موضوع، معناه أنه الشيء الذي يقال عليه موجود لا في موضوع، على أن الموجود لا في موضوع محمول عليه، وله في نفسه ماهية مثل الإنسان والحجر، والشجر، فهكذا يجب أن يتصور الجوهر حتى يكون جنسا". والدليل على أن بين الأمرين فرقا" وإن الجنس أحدهما دون الآخر، أنك تقول لشخص إنسان ما مجهول الوجود: إنه لا محالة هو ما وجوده أن لا يكون في موضوع، ولا تقول: إنه لا محالة موجود الآن لا في موضوع، وكأنا قد بالغنا في تعريف هذا حيث تكلمنا في المنطق.
    الفصل الخامس (ه)
    الصفحة : 183
    فصل توحيد واجب الوجود كأنه توكيد وتكرار لما سلف من توحيد واجب الوجود وجميع صفاته السلبية على سبيل الإنتاج
    و بالحرى أن نعيد القول في أن حقيقة الأول موجودة للأول دون غيره؛ وذلك لأن الواحد - بما هو واجب الوجود - يكون ما هو به هو، وهو ذاته؛ ومعناه إما مقصورا" عليه لذات ذلك المعنى، أو لعلة، مثلا: لو كان الشيء الواجب الوجود هو هذا الإنسان، فلا يخلو إما أن يكون هو هذا للإنسانية ولأنه إنسان، أو لا يكون. فإن كان لأنه إنسان هو هذا، فالإنسانية تقتضي أن يكون هذا فقط؛ فإن وجدت لغيره فما اقتضت الإنسانية أن يكون هذا، بل إنما صار هذا الأمر غير الإنسانية. وكذلك الحال في حقيقة واجب الوجود، فإنها إن كانت لأجل نفسها هي هذا المعين استحال أن تكون تلك الحقيقة لغيره، فتكون تلك الحقيقة ليست إلا هذا. وإن كان تحقق هذا المعنى لهذا المعين لا عن ذاته، بل عن غيره، وإنما هو هو لأنه هذا المعين، فيكون وجوده الخاص له مستفادا" من غيره، فلا يكون واجب الوجود، وهذا خلف؛ فإذن حقيقة الواجب الوجود الواحد فقط. وكيف تكون الماهية المجردة عن المادة لذاتين، والشيئان إنما يكونان اثنين إما بسبب المعنى، وإما بسبب الحامل للمعنى، وإما بسبب الوضع أو المكان، أو بسبب الوقت والزمان، وبالجملة لعلة من العلل؟ لأن كل اثنين لا يختلفان بالمعنى، فإنما يختلفان بشيء عارض للمعنى مقارن له، فكل ما ليس له وجود إلا وجود معنى، ولا يتعلق بسبب خارج أو حالة خارجة، فبماذا يخالف مثله؟ فإذن لا يكون له مشارك في معناه، فالأول لا ند له. وأيضا، فإنا نقول: إن وجوب الوجود لا يجوز أن يكون معنى مشتركا فيه لعدة بوجه من الوجوه، لا متفقى الحقائق والأنواع ولا مختلفي الحقائق والأنواع. أما أول ذلك فإن وجوب الوجود لا ماهية له تقارنه غير وجوب الوجود، فلا يمكن أن يكون لحقيقة وجوب الوجود اختلاف بعد وجوب الوجود. وأيضا، لا يخلو إما أن يكون ما يختلف به آحاد واجب الوجود بعد الاتفاق في وجوب الوجود أشياء موجودة لكل واحد من المتفقين فيه بها يخالفه صاحبه، أو غير موجودة لشيء منها، أو موجودة لبعضها وليس في البعض الآخر إلا عدمها. فإن كانت غير موجودة وليس هناك شيء يقع به الاختلاف بعد الاتفاق، فلا اختلاف بينهما في الحقائق، فهي متفقة الحقائق، وقد قلنا إنها تختلف حقائقها بعد ما اشتركت
    الصفحة : 184
    فيه، وإن كانت غير موجودة في بعضها وموجودة في بعضها؛ مثلا أن يكون أحدهما انفصل عن الآخر بأن له حقيقة وجوب الوجود، وشيئا هو الشرط في الانفصال، وللآخر حقيقة وجوب الوجود مع عدم الشرط الذي لذلك، وإنما فارقه لأجل هذا العدم فقط، وليس هناك شيء إلا العدم ينفصل به عن الآخر، فيكون من شأن وجوب الوجود بالحقيقة التي له أن تثبت قائمة مع عدم شرط يلحق به، والعدم لا معنى له محصلا في الأشياء، وإلا لكان في شيء واحد معان بلا نهاية فإن فيه اختلاف أشياء بلا نهاية. فلا يخلو إما أن يكون وجوب الوجود متحققا" في الثاني من دون الزيادة التي له، أو لا يكون. فإن لم يكن، فيكون ليس له دونه وجوب الوجود، ويكون شرطا في وجوب الوجود في الآخر أيضا. وإن كان، فتكون الزيادة فصلا أيضا"، وليس من شرط وجوب الوجود، وهو مع ذلك مركب، وواجب الوجود غير مركب. وإن كان لكل واحد منهما ما ينفصل به عن الآخر، فهو يقتضي التركيب في كل واحد منهما. ثم لا يخلو أيضا"، إما أن يكون وجوب الوجود يتم وجوب وجود دون كل واحد من الزيادتين، أو يكون ذلك شرطا له في أن يتم. فإن تم، فوجوب الوجود لا اختلاف فيه بالذات، إنما الاختلاف في العوارض التي تلحقه، وقد قام الوجود واجبا" مستغنيا" في قوامه عن تلك اللواحق. وإن لم يتم فلا يخلو: إما أن لا يتم دون ذلك في أن يكون له حقيقة وجوب الوجود، وإما أن يكون وجوب الوجود معنى متحققا" في نفسه، وليس ذانك ولا أحدهما داخلا في هويته من حيث هو واجب الوجود، ولكنه لابد من أن يصير حاصل الوجود بأحدهما، مثل أن الهيولي - وإن كانت لها جوهريتها في حد هيوليتها - فإن وجودها بالفعل إما بهذه الصورة أو بالأخرى؛ وأيضا" اللون، فإنه وإن كان فصل السواد لا يقومه - من حيث هو لون ولا فصل البياض - فإن كل واحد منهما كالعلة له في أن يوجد بالفعل ويحصل، وليس أحدهما علة له بعينه، بل أيهما اتفق، ولكن ذلك في حال، وذلك في حال. فإن كان الأمر على مقتضى الوجه الأول، فكل واحد منهما داخل في تقويم وجوب الوجود وشرط فيه، فحيث كان وجوب الوجود، وجب أن يكون معه؛ وإن كان على مقتضى المعنى الثاني فواجب الوجود يحتاج إلى شيء يوجد به، فيكون واجب الوجود - من بعد ما يتقرر له معنى أنه واجب الوجود - يحتاج إلى شيء آخر يوجد به، وهذا محال. وأما في اللون، وفي الهيولي، فليس الأمر هناك على هذه الصورة؛ فإن الهيولي في إنها هيولي شيء، واللون في أنه لون شيء، وفي أنه موجود شيء. ونظير اللون هناك هو واجب الوجود ههنا، ونظير فصلي السواد والبياض هناك هو ما يختص به كل واحد من المفروضين ههنا، فكما أن كل واحد من
    الصفحة : 185
    فصلي السواد والبياض لا مدخل لهما في تقرير اللونية، كذلك يجب أن يكون خاصة كل واحد من هذين المفروضين لا مدخل لهما في تقرير وجوب الوجود. وأما هناك، فكان المدخل للفصلين في أن صار اللون موجودا"، أي صار اللون شيئا" هو غير اللون، وزائدا" على أنه لون؛ وههنا ليس يمكن ذلك؛ لأن وجوب الوجود يكون متقرر الوجود، بل هو تقرر الوجود، بل الوجود شرط في تقرير ماهية واجب الوجود، أو هو نفسه مع عدم عدم، أو امتناع بطلان. وأما في اللون، فالوجود لا حق يلحق ماهية هي اللون، فتوجد الماهية التي هي بنفسها لون عينا" موجودة بالوجود. فلو كانت الخاصة ليست علة في تقرير ماهية وجوب الوجود، بل في أن يحصل له الوجود، وكان الوجود أمرا" خارجا" عن تلك الماهية خروجها عن ماهية اللون، كان الامر مستمرا"على قياس سائر الأشياء العامة المنفصلة بفصول، وبالجملة المنقسمة في معان مختلفة؛ لكن الوجود يجب أن يكون حاصلا حتى يكون وجوبه، فتكون الخاصة كأنها تحتاج إليها كشيء في أمر هو الذي استغنى فيه عنه، وهذا خلف، محال، بل الوجوب ليس له الوجود كشيء ثان يحتاج إليه، كما للونية وجود ثان. وبالجملة كيف يكون شيء خارج عن وجوب الوجود شرطا" في وجوب الوجود؟ ومع ذلك فإن حقيقة وجوب الوجود كيف يتعلق بموجب له، فيكون وجوب الوجود في نفسه إمكان الوجود؟ ونقرر من رأس فنقول: بالجملة إن الفصول وما يجري مجراها لا يتحقق بها حقيقة المعنى الجنسي من حيث معناه، بل إنما كانت علة لتقويم الحقيقة موجودة، فإن الناطق ليس شرطا" يتعلق به الحيوان في أن له معنى الحيوان وحقيقته، بل في أن يكون موجودا"معينا. وإّذا كان المعنى العام هو نفس واجب الوجود، وكان الفصل يحتاج إليه في أن يكون واجب الوجود موجودا"، فقد دخل ما هو كالفصل في ماهية ما هو كالجنس، والحال فيما يقع به اختلاف غير فصلي في جميع هذا ظاهر، فبين أن وجوب الوجود ليس مشتركا فيه، فالأول لا شريك له، وإذ هو بريء عن كل مادة وعلائقها وعن الفساد، وكلاهما شرط مع ما يقع تحت التضاد، فالأول لا ضد له. فقد وضح أن الأول لا جنس له، ولا ماهية له، ولا كيفية له، ولا كمية له، ولا أين له، ولا متى له، ولا ند له، ولا شريك له، ولا ضد له، تعالى وجل، وأنه لا حدّ له، ولا برهان عليه، بل هو البرهان على كل شيء، بل هو إنما عليه الدلائل الواضحة، وأنه إذا حققته فإنما يوصف بعد الإنية بسلب المشابهات عنه، وبإيجاب الإضافات كلها إليه، فإن كل شيء منه وليس هو مشاركا لما منه، وهو مبدأ كل شيء وليس هو شيئا من الأشياء بعده.
    الصفحة : 186
    الفصل السادس (و)
    فصل في إنه تام بل فوق التام وخير، ومفيد كل شيء بعده، وأنه حق، وأنه عقل محض، ويعقل كل شيء، وكيف ذلك، وكيف يعلم ذاته، وكيف يعلم الكليات، وكيف يعلم الجزئيات، وعلى أي وجه لا يجوز أن يقال يدركها فواجب الوجود تام الوجود، لأنه ليس شيء من وجوده وكمالات وجوده قاصرا" عنه، ولا شيء من جنس وجوده خارجا" عن وجوده يوجد لغيره، كما يخرج في غيره؛ مثل الإنسان، فإن أشياء كثيرة من كمالات وجوده قاصرة عنه، وأيضا" فان إنسانيته توجد لغيره. بل واجب الوجود فوق التمام؛ لأنه ليس إنما له الوجود الذي له فقط، بل كل وجود أيضا" فهو فاضل عن وجوده، وله، وفائض عنه. وواجب الوجود بذاته خير محض، والخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء وما يتشوقه كل شيء هو الوجود، أو كمال الوجود من باب الوجود. والعدم من حيث هو عدم لا يتشوق إليه، بل من حيث يتبعه وجود أو كمال للوجود، فيكون المتشوق بالحقيقة الوجود، فالوجود خير محض وكمال محض. فالخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء في حدّه ويتم به وجوده، والشر لا ذات له، بل هو إما عدم جوهر، أو عدم صلاح حال الجوهر. فالوجود خيرية، وكمال الوجود خيرية الوجود. والوجود الذي لا يقارنه عدم - لا عدم جوهر، ولا عدم شيء للجوهر، بل هو دائما" بالفعل - فهو خير محض، والممكن الوجود بذاته ليس خيرا" محضا"؛ لأن ذاته بذاته لا يجب له الوجود بذاته، فذاته تحتمل العدم، وما أحتمل العدم بوجه ما فليس من جميع جهاته بريئا" من الشر والنقص، فإذن ليس الخير المحض إلا الواجب الوجود بذاته. وقد يقال أيضا": خير، لما كان مفيدا" لكمالات الأشياء وخيراتها، وقد بان أن واجب الوجود يجب أن يكون لذاته مفيدا" لكل وجود، ولكل كمال وجود، فهو من هذه الجهة خير أيضا" لا يدخله نقص ولا شر، وكل واجب الوجود فهو حق؛ لأن حقية كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له، فلا أحق إذن من واجب الوجود. وقد يقال: حق، أيضا"، لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا"، فلا أحق بهذه الحقيقة مما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا"، ومع صدقه دائما"، ومع دوامه لذاته لا لغيره؛ وسائر الأشياء فإن ماهياتها كما علمت لا
    الصفحة : 187
    تستحق الوجود، بل هي في أنفسها وقطع أضافتها إلى واجب الوجود تستحق العدم؛ فلذلك كلها في أنفسها باطلة، وبه حقه، وبالقياس إلى الوجه الذي يليه حاصلة، فلذلك كل شيء هالك إلا وجهه، فهو أحق بأن يكون حقا. وواجب الوجود عقل محض؛ لأنه ذات مفارقة للمادة من كل وجه، وقد عرفت أن السبب في أن لا يعقل الشيء هو المادة وعلائقها لا وجوده. وأما الوجود الصوري فهو الوجود العقلي وهو الوجود الذي إذا تقرر في شيء صار للشيء به عقل، والذي يحتمل نيله هو عقل بالقوة، والذي ناله بعد القوة هو عقل بالفعل على سبيل الاستكمال، والذي هو له ذاته هو عقل بذاته. وكذلك هو معقول محض؛ لأن المانع للشيء أن يكون معقولا هو أن يكون في المادة وعلائقها، وهو المانع عن أن يكون عقلا. وقد تبين لك هذا فالبريء عن المادة والعلائق، المتحقق بالوجود المفارق، هو معقول لذاته، ولأنه عقل بذاته وهو أيضاً معقول بذاته فهو معقول ذاته، فذاته عقل وعاقل ومعقول، لا أن هناك أشياء متكثرة. وذلك لأنه بما هو هوية مجردة عقل، وبما يعتبر له أن هويته المجردة لذاته فهو معقول لذاته، وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة فهو عاقل ذاته؛ فإن المعقول هو الذي ماهيته المجردة لشيء، والعاقل هو الذي له ماهية مجردة لشيء، وليس من شرط هذا الشيء أن يكون هو أو آخر، بل شيء مطلقا، والشيء مطلقا أعم من هو أو غيره. فالأول باعتبار أن له ماهية مجردة لشيء، هو عاقل، وباعتبار أن ماهيته المجردة لشيء، هو معقول، وهذا الشيء هو ذاته، فهو عاقل بأن له الماهية المجردة التي لشيء هو ذاته، ومعقول بأن ماهيته المجردة هي لشيء هو ذاته. وكل من تفكر قليلا علم أن العاقل يقتضي شيئا معقولا، وهذا الاقتضاء لا يتضمن أن ذلك الشيء آخر أو هو، بل المتحرك إذا اقتضى شيئا محركا لم يكن نفس هذا الاقتضاء يوجب أن يكون شيئا آخر أو هو، بل نوع آخر من البحث يوجب ذلك؛ وتبين أنه من المحال أن يكون ما يتحرك هو ما يحرك؛ ولذلك لم يمتنع أن يتصور فريق لهم عدد أن في الأشياء شيئا متحركا عن ذاته، إلى وقت أن قام البرهان على امتناعه، ولم يكن نفس تصور المحرك والمتحرك يوجب ذلك، إذ كان المتحرك يوجب أن يكون له شيء محرك مطلقا بلا شرط أنه آخر أو هو، والمحرك يوجب أن يكون له شيء متحرك عنه بلا شرط أنه آخر أو هو. وكذلك المضافات تعرف إثنينيتها لأمر، لا لنفس النسبة والإضافة المفروضة في الذهن؛ فإنا نعلم علما
    الصفحة : 188
    يقينا أن لنا قوة نعقل بها الأشياء. فإما أن تكون القوة التي نعقل بها هذه القوة هي هذه القوة نفسها، فتكون هي نفسها تعقل ذاتها، أو تعقل ذلك قوة أخرى، فتكون لنا قوتان: قوة نعقل الأشياء بها، وقوة نعقل بها هذه القوة، ثم يتسلسل الكلام إلى غير النهاية فيكون فينا قوى تعقل الأشياء بلا نهاية بالفعل؛ فقد بان أن نفس كون الشيء معقولا لا يوجب أن يكون معقولا لشيء، ذلك الشيء آخر. وبهذا تبين أنه ليس يقتضي العاقل أن يكون عاقل شيء آخر بل كل ما توجد له الماهية المجردة فهو عاقل، وكل ماهية مجردة توجد له أو لغيره فهو معقول، إذ كانت هذه الماهية لذاتها عاقلة، ولذاتها أيضا معقولة لكل ماهية مجردة تفارقها أو لا تفارقها. فقد فهمت أن نفس كونه معقولا وعاقلا، لا يوجب أن يكون اثنين في الذات، ولا اثنين في الاعتبار أيضا؛ فإنه ليس تحصيل الأمرين إلا اعتبار أن ماهية مجردة لذاته، وأنه ماهية مجردة ذاته لها، وههنا تقديم وتأخير في ترتيب المعاني، والغرض المحصل شيء واحد بلا قسمة، فقد بان أن كونه عاقلا ومعقولا لا يوجب فيه كثرة ألبتة. وليس يجوز أن يكون واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء، وإلا فذاته إما متقومة بما يعقل، فيكون تقومها بالأشياء؛ وإما عارضة لها أن تعقل، فلا تكون واجبة الوجود من كل جهة؛ وهذا محال. ويكون لولا أمور من خارج لم يكن هو بحال، ويكون له حال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره فيكون لغيره فيه تأثير، والأصول السالفة تبطل هذا وما أشبهه؛ ولأنه مبدأ كل وجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعينها، والموجودات الكائنة الفاسدة بأنواعها أولا وبتوسط ذلك بأشخاصها. ومن وجه آخر لا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيرات مع تغيرها من حيث هي متغيرة عقلا زمانيا مشخصا بل على نحو آخر نبينه؛ فإنه لا يجوز أن يكون تارة يعقل عقلا زمانيا منها أنها موجودة غير معدومة، وتارة يعقل عقلا زمانيا منها أنها معدومة غير موجودة،فيكون لكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة، ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية، فيكون واجب الوجود متغير الذات، ثم الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة وبما يتبعها مما لا يتشخص لم تعقل بما هي فاسدة، وإن أدركت بما هي مقارنة لمادة وعوارض مادة ووقت وتشخص لم تكن معقولة بل محسومة أو متخيلة؛ ونحن قد بينا في كتب أخرى أن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية فإنما تدرك من حيث هي محسوسة أو متخيلة بآلة متجزئة، وكما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له، كذلك إثبات كثير من التعقلات، بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو كلي، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وهذا من العجايب التي يحوج تصورها إلى
    الصفحة : 189
    لطف قريحة. وأما كيفية ذلك، فلأنه إذا عقل ذاته وعقل أنه مبدأ كل موجود، عقل أوائل الموجودات عنه وما يتولد عنها، ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صار من جهة ما واجبا يسببه، وقد بينا هذا، فتكون هذه الأسباب يتأدى بمصادماتها إلى أن توجد عنها الأمور الجزئية. والأول يعلم الأسباب ومطابقتها، فيعلم ضرورة ما يتأدى إليها، وما بينها من الأزمنة وما لها من العودات؛ لأنه ليس يمكن أن يعلم تلك ولا يعلم هذا، فيكون مدركا للأمور الجزئية من حيث هي كلية، أعني من حيث لها صفات. وإن تخصصت بها شخصا فبالإضافة إلى زمان متشخص أو حال متشخصة لو أخذت تلك الحال بصفاتها كانت أيضا بمنزلتها لكنها تستند إلى مباديء كل واحد منها نوعه في شخصه، فتستند إلى أمور شخصية. وقد قلنا: إن مثل هذا الاستناد قد يجعل للشخصيات رسما ووصفا مقصورا عليها. فإن كان ذلك الشخص مما هو عند العقل شخصي أيضا، كان للعقل إلى ذلك المرسوم سبيل، وذلك هو الشخص الذي هو واحد في نوعه لا نظير له، ككرة الشمس مثلا، أو كالمشتري، وأما إذا كان النوع منتشرا في الأشخاص لم يكن للعقل إلى رسم ذلك الشيء سبيل إلا أن يشار إليه ابتداء على ما عرفته. ونعود فنقول: كما أنك تعلم حركات السماويات كلها، فأنت تعلم كل كسوف وكل اتصال وكل انفصال جزئي يكون بعينه ولكن على نحو كلي؛ لأنك تقول في كسوف ما إنه كسوف يكون بعد زمان حركة يكون لكذا من كذا شماليا نصفيا ينفصل القمر منه إلى مقابلة كذا، ويكون بينه وبين كسوف مثله سابق له أو متأخر عنه مدة كذا، وكذلك بين حال الكسوفين الآخرين حتى لا تقدر عارضا من عوارض تلك الكسوفات إلا علمته، ولكنك علمته كليا، لأن هذا المعنى قد يجوز أن يحمل على كسوفات كثيرة كل واحد منها يكون حاله تلك الحال، لكنك تعلم لحجة ما أن ذلك الكسوف لا يكون إلا واحدا بعينه، وهذا لا يدفع الكلية إن تذكرت ما قلناه من قبل. ولكنك مع هذا كله، ربما لم يجز أن تحكم في هذا الآن بوجود هذا الكسوف أو لا وجوده، إلا أن تعرف جزئيات الحركات بالمشاهدة الحسية، وتعلم ما بين هذا المشاهد وبين ذلك الكسوف من المدة، وليس هذا نفس معرفتك بأن في الحركات حركة جزئية صفتها صفة ما شاهدت، وبينها وبين الكسوف الثاني الجزئي كذا، فإن ذلك قد يجوز أن تعلمه على هذا النوع من العلم ولا تعلمه وقت ما يشك فيه أنها هل هي موجودة، بل يجب أن يكون قد حصل لك بالمشاهدة شيء مشار إليه حتى تعلم حال ذلك الكسوف. فإن منع مانع أن يسمى هذا معرفة للجزء من جهة كلية، فلا مناقشة معه؛ فإن غرضنا الآن غير ذلك،
    الصفحة : 190
    وهو في تعريفنا أن الأمور الجزئية كيف تعلم وتدرك علما وإدراكا يتغير معهما العالِم، وكيف يعلم ويدرك علما وإدراكا لا يتغير معهما العالم؛ فإنك إذا علمت أمر الكسوفات كما توجد أنت، أو لو كنت موجودا دائما كان لك علم لا بالكسوف المطلق، بل بكل كسوف كائن، ثم كان وجود ذلك الكسوف وعدمه لا يغير منك أمرا؛ فإن علمك في الحالين يكون واحدا، وهو أن كسوفا له وجود بصفات كذا، بعد كسوف كذا، أو بعد وجود الشمس في الحمل كذا، في مدة كذا، ويكون بعد كذا، وبعده كذا، ويكون هذا العقد منك صادقا قبل ذلك الكسوف ومعه وبعده. فأما إن أدخلت الزمان في ذلك، فعلمت في آن مفروض أن هذا الكسوف ليس بموجود، ثم علمت في آن آخر أنه موجود، لم يبق علمك ذلك عند وجوده، بل يحدث علم آخر، ويكون فيك التغير الذي أشرنا إليه، ولم يصح أن تكون في وقت الانجلاء على ما كنت قبلي الانجلاء، هذا وأنت زماني وآني، ولكن الأول الذي لا يدخل في زمان وحكمه، فهو بعيد أن يحكم حكما في هذا الزمان، وذلك الزمان من حيث هو فيه ومن حيث هو حكم منه جديدا ومعرفة جديدة. واعلم أنك إنما كنت تتوصل إلى إدراك الكسوفات الجزئية؛ لإحاطتك بجميع أسبابها، وإحاطتك بكل ما في السماء؛ فإذا وقعت الإحاطة بجميع أسبابها ووجودها، انتقل منها إلى جميع المسببات، ونحن سنبين هذا من ذي قبل بزيادة كشف، فتعلم كيف يعلم الغيب وتعلم من هناك إن الأول من ذاته كيف يعلم كل شيء، وأن ذلك لأنه مبدأ كل شيء، ويعلم الأشياء من حالها؛ إذ هو مبدأ شيء أو أشياء حالها وحركاتها كذا، وما ينتج عنها كذا، إلى التفصيل بعده، ثم على الترتيب الذي يلزم ذلك التفصيل لزوم التعدية والتأدية، فتكون هذه الأشياء مفاتيح الغيب التي لا يعلمها أحد إلا هو، فالله أعلم بالغيب وهو عالم الغيب والشهادة وهو العزيز الحكيم.
    الفصل السابع (ز)
    الصفحة : 191
    فصل في نسبة المعقولات إليه وفي إيضاح أن صفاته الإيجابية والسلبية لا توجب في ذاته كثرة، وأن له البهاء الأعظم والجلال الأرفع والمجد الغير المتناهي، وفي تفصيل حال اللذة العقلية.
    ثم يجب أن يعلم أنه إذا قيل عقل للأول قيل على المعنى البسيط الذي عرفته في كتاب النفس، وأنه ليس فيه اختلاف صور مترتبة متخالفة كما يكون في النفس على المعنى الذي مضى في كتاب النفس؛ فهو لذلك يعقل الأشياء دفعة واحدة من غير أن يتكثر بها في جوهره، أو تتصور في حقيقة ذاته بصورها، بل تفيض عنه صورها معقولة، وهو أولى بأن يكون عقلا من تلك الصور الفائضة عن عقليته، ولأنه يعقل ذاته، وأنه مبدأ كل شيء، فيعقل من ذاته كل شيء. وأعلم أن المعنى المعقول قد يؤخذ من الشيء الموجود، كما عرض أن اخذنا نحن عن الفلك بالرصد والحس صورته المعقولة، وقد تكون الصورة المعقولة غير مأخوذة عن الموجود، بل بالعكس؛ كما أنا نعقل صورة بنائية نخترعها، ثم تكون تلك الصورة المعقولة محركة لأعضائنا إلى أن نوجدها، فلا تكون وجدت فعقلناها، ولكن عقلناها فوجدت. ونسبة الكل إلى العقل الأول الواجب الوجود هو هذا؛ فإنه يعقل ذاته وما توجبه ذاته، ويعلم من ذاته كيفية كون الخير في الكل، فتتبع صورته المعقولة صورة الموجودات على النظام المعقول عنده، لا على أنها تابعة اتباع الضوء المضيء والإسخان للحار، بل هو عالم بكيفية نظام الخير في الوجود، وأنه عنه وعالم بأن هذه العالمية يفيض عنها الوجود على الترتيب الذي يعقله خيرا" ونظاما". وعاشق ذاته التي هي مبدأ كل نظام، وخير من حيث هي كذلك، فيصير نظام الخير معشوقا" له بالعرض، لكنه لا يتحرك إلى ذلك عن شوق فإنه لا ينفعل منه ألبتة، ولا يشتاق شيئا ولا يطلبه. فهذه إرادته الخالية عن نقص يجلبه شوق وانزعاج قصد إلى غرض. ولا يظن أنه لو كانت للمعقولات عنده، صور وكثرة، كانت كثرة الصور التي يعقلها أجزاء لذاته، وكيف وهي تكون بعد ذاته؟ لأن عقله لذاته ذاته، ومنها يعقل كل ما بعده؛ فعقله لذاته علة عقله ما بعد ذاته، فعقله ما بعد ذاته معلول عقله لذاته. على أن المعقولات والصور التي له بعد ذاته إنما هي معقولة على نحو المعقولات العقلية لا النفسانية، وإنما له إليها إضافة المبدأ الذي يكون عنه لا فيه، بل إضافات على الترتيب بعضها قبل بعض، وإن كانت معا لا تتقدم ولا تتأخر في الزمان، فلا يكون هناك انتقال
    الصفحة : 192
    في المعقولات. ولا يظن أن الإضافة العقلية إليها إضافة إليها كيف وجدت، وإلا لكان كل مبدأ صورة في مادة من شأن تلك الصور أن تعقل بتدبير ما، من تجريد وغيره، ويكون هو عقلا بالفعل، بل هذه الإضافة إليها وهي بحال معقولة. ولو كانت من حيث وجودها في الأعيان، لكان إنما يعقل ما يوجد في كل وقت ولا يعقل المعدوم منها في الأعيان إلى أن يوجد، فيكون لا يعقل من نفسه أنه مبدأ ذلك الشيء على الترتيب إلا عندما يصير مبدأ فلا يعقل ذاته، لأن ذاته من شأنها أن يفيض عنها كل وجود، وإدراكها من حيث شأنها إنها كذا يوجب إدراك الآخر وإن لم يوجد، فيكون العالم الربوبي محيطا بالوجود الحاصل والممكن، ويكون لذاته إضافة إليها من حيث هي معقولة لا من حيث لها وجود في لأعيان. فبقي لك النظر في حال وجودها معقولة أنها تكون موجودة في ذات الأول كاللوازم التي تلحقه، أو يكون لها وجود مفارق لذاته وذات غيره كصور مفارقة على ترتيب موضوعة في صقع الربوبية، أو من حيث هي موجودة في عقل أو نفس إذا عقل الأول هذه الصور، ارتسمت في أيها كان، فيكون ذلك العقل أو النفس كالموضوعة لتلك الصور المعقولة، وتكون معقولة له على أنها فيه، ومعقولة من الأول على أنها عنه، ويعقل الأول من ذاته أنه مبدأ لها، فيكون من جملة تلك المعقولات ما المعقول منه أن الأول مبدأ له بلا واسطة، بل يفيض وجوده عنه أولا، وما المعقول منه أنه مبدأ له بتوسط فهو يفيض عنه ثانيا، وكذلك يكون الحال في وجود تلك المعقولات، وإن كان ارتسامها في شيء واحد، لكن بعضها قبل وبعضها بعد، على الترتيب السبي و المسبي. وإذا كانت تلك الأشياء المرتسمة في ذلك الشيء من معلولات الأول، فتدخل في جملة ما الأول يعقل ذاته مبدأ لها، فيكون صدورها عنه ليس على ما قلنا من أنه إذا عقل خيرا وجد؛ لأنها نفس عقله للخير، أو يتسلسل الأمر لأنه يحتاج أن يعقل أنها عقلت، وكذلك إلى ما لانهاية، وذلك محال فهي نفس عقله للخير. فإذا قلنا لما عقلها وجدت، ولم يكن معها عقل آخر، ولم يكن وجودها إلا أنها تعقلات، فإنما يكون كأنا قلنا لأنه عقلها عقلها، أو لأنها وجدت عنه وجدت عنه. وإن جعلت هذه المعقولات أجزاء ذاته عرض تكثر، وإن جعلتها لواحق ذاته عرض لذاته أن لا يكون من جهتها واجب الوجود لملاصقته ممكن الوجود، وإن جعلتها أمورا مفارقة لكل ذات عرضت الصور الأفلاطونية، وإن جعلتها موجودة في عقل ما عرض أيضا ما ذكرنا قبل هذا من المحال. فينبغي أن تجتهد جهدك في التخلص من هذه الشبهة، وتتحفظ أن لا تكثر ذاته، ولا تبالي بأن تكون ذاته
    الصفحة : 193
    مأخوذة مع إضافة ما ممكنة الوجود، فإنها من حيث هي علة لوجود زيد ليست بواجبة الوجود بل من حيث ذاتها. وتعلم أن العالم الربوبي عظيم جدا، وتعلم أنه فرق بين أن يفيض عن الشيء صورة من شأنها أن تعقل، وأن يفيض عن الشيء صورة معقولة من حيث هي معقولة بلا زيادة، وهو يعقل ذاته مبدأ لفيضان كل معقول من حيث هو معقول معلول، كما هو مبدأ لفيضان كل موجود من حيث هو موجود معلول. ثم تجتهد في تأمل الأصول المعطاة والمستقبلة ليتضح لك ما ينبغي أن يتضح. فالأول يعقل ذاته ونظام الخير الموجود في الكل أنه كيف يكون بذلك النظام، لأنه يعقله وهو مستفيض كائن موجود. وكل معلوم الكون، وجهة الكون عن مبدئه عند مبدئه، وهو خير غير مناف، وهو تابع لخيرية ذات المبدأ وكمالها المعشوقين لذاتيهما، فذلك الشيء مراد، لكن ليس مراد الأول هو على نحو مرادنا حتى يكون له فيما يكون عنه غرض، فكأنك قد علمت استحالة هذا وستعلم، بل هو لذاته مريد هذا النحو من الإرادة العقلية المحضة، وحياته هذا أيضا بعينه، فإن الحياة التي عندنا تكمل بإدراك وفعل هو التحريك ينبعثان عن قوتين مختلفتين، وقد صح أن نفس مدركه - وهو ما يعقله عن الكل - هو سبب الكل وهو بعينه مبدأ فعله؛ وذلك إيجاد الكل، فمعنى واحد منه هو إدراك وسبيل إلى الإيجاد، فالحياة منه ليس مما تفتقر إلى قوتين حتى تتم بقوتين، ولا الحياة منه غير العلم وكل ذلك له بذاته. وأيضا فإن الصور المعقولة التي تحدث فينا فتصير سببا للصورة الموجودة الصناعية لو كانت بنفس وجودها كافية لأن تكون منها الصور الصناعية - بأن تكون صورها بالفعل لمباديء لما هي له صور - لكان المعقول عندنا هو بعينه القدرة. ولكن ليس كذلك بل وجودها لا يكفي في ذلك، لكن يحتاج إلى إرادة متجددة منبعثة من قوة شوقية تتحرك منهما معا" القوة المحركة فتحرك العصب والأعضاء الأدوية، تم تحرك الآلات الخارجة، ثم تحرك المادة، فلذلك لم يكن نفس وجود هذه الصور المعقولة قدرة ولا إرادة، بل عسى القدرة فينا عند المبدأ المحرك، وهذه الصورة محركة لمبدأ القدرة، فتكون محركة المحرك. فواجب الوجود ليست إرادته مغايرة الذات لعلمه، ولا مغايرة المفهوم لعلمه، فقد بينا أن العلم الذي له بعينه هو الإرادة التي له. وكذلك قد تبين أن القدرة التي له هي كون ذاته عاقلة للكل عقلا، هو مبدأ للكل لا مأخوذا" عن الكل، ومبدأ بذاته، لا يتوقف على وجود شيء. وهذه الإرادة على الصورة التي حققناها التي لا تتعلق بغرض في فيض الوجود، لا تكون غير نفس الفيض وهو الجود. فقد كنا حققنا لك من أمر الجود ما إذا تذكرته علمت أن هذه الإرادة نفسها تكون جودا"، وإذا حققت تكون الصفة الأولى
    الصفحة : 194
    لواجب الوجود أنه إنُّ وموجود ثم الصفات الأخرى بعضها يكون المعنى فيها هذا الوجود مع إضافة، وبعضها هذا الوجود مع سلب، وليس ولا واحد منها موجبا" في ذاته كثرة ألبتة ولا مغايرة. فاللواتي تخالط السلب أنه لو قال قائل للأول، ولم يتحاش، إنه جوهر، لم يعن إلا هذا الوجود، وهو مسلوب عنه الكون في الموضوع. وإذا قال له: واحد، لم يعن إلا هذا الوجود نفسه مسلوبا" عنه القسمة بالكم أو القول، أو مسلوبا" عنه الشريك. وإذا قال: عقل وعاقل ومعقول، لم يعن بالحقيقة إلا أن هذا المجرد مسلوب عنه جواز مخالطة المادة وعلائقها مع اعتبار إضافة ما. وإذا قال له: أول، لم يعن إلا إضافة هذا الوجود إلى الكل. وإذا قال له: قادر، لم يعن به إلا أنه واجب الوجود مضافا" إلى أن وجود غيره إنما يصح عنه على النحو الذي ذكر. وإذا قال له: حي، لم يعن إلا هذا الوجود العقلي مأخوذا"مع الإضافة إلى الكل المعقول أيضا" بالقصد الثاني؛ إذ الحي هو المدرك الفعال. وإذا قال له: مريد، لم يعن إلا كون واجب الوجود مع عقليته - أي سلب المادة عنه - مبدأ لنظام الخير كله وهو يعقل ذلك، فيكون هذا مؤلفا" من إضافة وسلب. وإذا قال له: جواد، عناه من حيث هذه الإضافة مع السلب، بزيادة سلب آخر، وهو أنه لا ينحو غرضا" لذاته. وإذا قال له: خير، لم يعن إلا كون هذا الوجود مبرأ عن مخالطة ما بالقوة والنقص وهذا سلب، أو كونه مبدأ لكل كمال ونظام وهذا إضافة. فإذا عقلت صفات الأول الحق على هذه الجهة، لم يوجد فيها شيء يوجب لذاته أجزاء أو كثرة بوجه من الوجوه. ولا يمكن أن يكون جمال أو بهاء فوق أن تكون الماهية عقلية محضة، خيرية محضة، بريئة عن كل واحد من أنحاء النقص، واحد من جهة، فالواجب الوجود له الجمال والبهاء المحض، وهو مبدأ جمال كل شيء وبهاء كل شيء. وبهاؤه هو أن يكون على ما يجب له، فكيف جمال ما يكون على ما يجب في الوجود الواجب؟ وكل جمال وملاءمة وخير مدرك فهو محبوب معشوق، ومبدأ ذلك كله إدراكه. أما الحسي، وأما الخيالي وأما الوهمي وأما الظني، وأما العقلي، وكلما كان الإدراك أشد اكتناها" وأشد تحقيقا"والمدرك أكمل وأشرف ذاتا"، فإحباب القوة المدركة إياه والتذاذها به أكثر. فالواجب الوجود الذي هو في غاية الكمال والجمال والبهاء الذي يعقل ذاته بتلك الغاية والبهاء والجمال، وبتمام التعقل، وبتعقل العاقل والمعقول على أنهما واحد بالحقيقة، تكون ذاته لذاته أعظم عاشق ومعشوق وأعظم لاذ وملتذ؛ فإن اللذة ليست إلا إدراك الملائم من جهة ما هو ملائم، فالحسية إحساس الملائم، والعقلية تعقل الملائم، وكذلك فالأول أفضل مدرك بأفضل إدراك لأفضل مدرك، فهو أفضل لاذ وملتذ،
    الصفحة : 195
    ويكون ذلك أمرا لا يقاس إليه شيء. وليس عندنا لهذه المعاني أسام غير هذه الأسامي، فمن استبشعها استعمل غيرها. ويجب أن يعلم أن أدراك العقل للمعقول أقوى من إدراك الحس للمحسوس، لأنه - أعني العقل - يعقل ويدرك الأمر الباقي الكلي، ويتحد به ويصير هو على وجه ما، ويدركه بكنهه لا بظاهره، وليس كذلك الحس للمحسوس؛ فاللذة التي تجب لنا: بأن نعقل ملائما"، هي فوق اللذة التي تكون لنا: بأن نحس ملائما" ولا نسبة بينهما. لكنه قد يعرض أن تكون القوة المدركة لا تستلذ بما يجب أن تستلذ به لعوارض، كما أن المريض لا يستلذ الحلو، ويكرهه لعارض، فكذلك يجب أن يعلم من حالنا ما دمنا في البدن. فإذا حصل لقوتنا العقلية كمالها بالفعل لا تجد من اللذة ما يجب للشيء في نفسه؛ وذلك لعائق البدن. ولو انفردنا عن البدن، كنا بمطالعتنا ذاتنا، وقد صارت عالما عقليا مطابقا للموجودات الحقيقية، والجمالات الحقيقية، واللذات الحقيقية، متصلة بها اتصال معقول بمعقول، نجد من اللذة والبهاء ما لا نهاية له. وسنوضح هذه المعاني كلها بعد. واعلم أن لذة كل قوة حصول كمالها لها؛ فللحس المحسوسات الملائمة، وللغضب الانتقام، وللرجاء الظفر، ولكل شيء ما يخصه، وللنفس الناطقة مصيرها عالما" عقليا بالفعل. فالواجب الوجود معقول، عقل أو لم يعقل، ومعشوق، عشق أو لم يعشق.
    الصفحة : 196

    علي العذاري غير متواجد حالياً
    رد مع اقتباس
  9. تكبير الخط تصغير الخط
    بتاريخ : 09-02-2012 الساعة : 08:36 AM رقم #15
    كاتب الموضوع : علي العذاري


    شاملى مميز


    • بيانات علي العذاري
      رقم العضوية : 6016
      عضو منذ : Jan 2012
      الدولة : ariq
      المشاركات : 141
      بمعدل : 0.03 يوميا
      معدل تقييم المستوى : 14
      التقييم : Array


  10. المقالة التاسعة
    في صدور الأشياء عن التدبير الأول والمعاد إليه
    سبعة فصول
    الفصل الأول (ا)
    فصل في صفة فاعلية المبدأ الأول.
    فقد ظهر لنا أن للكل مبدأ واجب الوجود، غير داخل في جنس أو واقع تحت حد أو برهان، بريء عن الكم والكيف والماهية و الأين و المتى والحركة، لا ند له ولا شريك له ولا ضد له، وأنه واحد من جميع الوجوه؛ لأنه غير منقسم: لا في الأجزاء بالفعل ولا في الأجزاء بالفرض والوهم كالمتصل، ولا في العقل بأن تكون ذاته مركبة من معان عقلية متغايرة تتحد منها جملة؛ وأنه واحد من حيث هو غير مشارك ألبته في وجوده الذي له، فهو بهذه الوحدة فرد، وهو واحد لأنه تام الوجود ما بقي له شيء ينتظر حتى يتم، وقد كان هذا أحد وجوه الواحد. وليس الواحد فيه إلا على الوجه السلبي، ليس كالواحد الذي للأجسام، لاتصال أو اجتماع، أو غير ذلك مما يكون الواحد فيه بوحدة هي معنى وجودي يلحق ذاتا أو ذواتا. وقد أتضح لك فيما سلف من العلوم الطبيعية وجود قوة غير متناهية غير مجسمة، وأنها مبدأ الحركة الأولية، وبان لك أن الحركة المستديرة ليست متكونة تكونا" زمانيا"، وقد بان لك من هناك من وجه ما أنه مبدأ دائم الوجود. وقد بان لك بعد ذلك أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته، وأنه لا يجوز أن تستأنف له حالة لم تكن، مع إنه قد بان لك إن العلة لذاتها تكون موجبة المعلول، فإن دامت أوجبت المعلول دائما". ولو اكتفيت بتلك الأشياء لكفاك ما نحن في شرحه، إلا أنا نزيدك بصيرة. فنقول: إنك قد علمت إن كل حادث فله مادة، فإذا كان لم يحدث ثم حدث لم يخل، إما أن تكون علتا الفاعلية والقابلية لم تكونا فحدثتا، أو كانتا، ولكن كان الفاعل لا يحرك والقابل لا يتحرك، أو كان الفاعل ولم يكن القابل، أو كان القابل ولم يكن الفاعل. ونقول قولا مجملا قبل العود إلى التفصيل، إنه إذا كانت الأحوال من جهة العلل كما كانت ولم يحدث ألبته أمر لم يكن، كان وجوب كون الكائن عنها، أولا وجوبه، على ما كان؛ فلم يجز أن يحدث كائن ألبته. فإن حدث أمر لم يكن، فلا يخلو:
    الصفحة : 197
    إما أن يكون حدوثه على سبيل ما يحدث، لحدوث علته دفعة، لا على سبيل ما يحدث لقرب علته أو بعدها. أو يكون حدوثه على سبيل ما يحدث لقرب علته أو بعدها. فأما القسم الأول فيجب أن يكون حدوثه لحدوث العلة ومعها غير متأخر عنها ألبته؛ فإنه إن كانت العلة غير موجودة ثم وجدت، أو موجودة وتأخر عنها المعلول، لزم ما قلناه في الأول من وجوب حادث آخر غير العلة، فكان ذلك الحادث هو العلة القريبة. فإن تمادى الأمر على هذه الجهة، وجبت علل وحوادث دفعة غير متناهية، ووجبت معا، وهذا مما عرفنا الأصل القاضي بإبطاله، فبقي أن لا تكون العلل الحادثة كلها دفعة لا لقرب من علة أولى أو بعد. فبقي أن مباديء الكون تنتهي إلى قرب علل أو بعدها، وذلك بالحركة. فإذن قد كان قبل الحركة حركة، وتلك الحركة أوصلت العلل إلى هذه الحركة، فهما كالمتماسين، وإلا رجع الكلام إلى الرأس في الزمان الذي بينهما. وذلك أنه إن لم تماسه حركة كانت الحوادث الغير المتناهية منها في آن واحد، إذ لا يجوز أن تكون في آنات متلاقية متماسة، فاستحال ذلك، بل يجب أن يكون واحد قد قرب في ذلك الآن بعد بعد، أو بعد قرب؛ فيكون ذلك الآن نهاية حركة أولى؛ تؤدي إلى حركة أخرى، أو أمر آخر، فإن أدت إلى حركة أخرى وأوجبت، كانت الحركة التي هي كعلة قريبة لهذه الحركة مماسة لها. والمعنى في هذه المماسة مفهوم، على أنه لا يمكن أن يكون زمان بين حركتين ولا حركة فيه، فإنه قد بان لنا في الطبيعيات أن الزمان تابع للحركة، ولكن الاشتغال بهذا النحو من البيان يعرفنا إن كانت حركة قبل حركة، ولا يعرفنا أن تلك الحركة كانت علة لحدوث هذه الحركة اللاحقة. فقد ظهر ظهورا واضحا أن الحركة لا تحدث بعد ما لم تكن إلا لحادث، وذلك الحادث لا يحدث إلا بحركة مماسة لهذه الحركة، ولا تبالي أي حادث كان ذلك الحادث: كان قصدا من الفاعل، أو إرادة، أو علما، أو آلة، أو طبعا، أو حصول وقت أوفق للعمل دون وقت، أو حصول تهيؤ أو استعداد من القابل لم يكن، أو وصول من المؤثر لم يكن؛ فإنه كيف كان، فحدوثه متعلق بالحركة لا يمكن غير هذا. ولنرجع إلى التفصيل فنقول: إن كانت العلة الفاعلية والقابلية موجودتي الذات، ولا فعل ولا انفعال بينهما، فيحتاج إلى وقوع نسبة بينهما توجب الفعل والانفعال. أما من جهة الفاعل، فمثل إرادة موجبة للفعل، أو طبيعة موجبة للفعل، أو آلة أو زمان. وأما من جهة القابل، فمثل استعداد لم يكن:
    الصفحة : 198
    أو من جهتيهما جميعا مثل وصول أحدهما إلى الآخر. وقد وضح أن جميع هذا بحركة ما وأما إن كان الفاعل موجودا ولم يكن قابل ألبته، فهذا محال: أما أولا؛ فلأن القابل كما بينا لا يحدث إلا بحركة أو اتصال فيكون قبل الحركة حركة. وأما ثانيا، فإنه لا يمكن أن يحدث ما لم يتقدمه وجود القابل، وهو المادة، فيكون قد كان القابل حتى حدث القابل. وأما إن وضع أن القابل موجود والفاعل ليس بموجود، فالفاعل يحدث ويلزم أن يكون حدوثه بعلة ذات حركة على ما وصفناه. وأيضا مبدأ الكل ذات واجبة الوجود، وواجب الوجود واجب ما يوجد عنه، وإلا فله حال لم يكن فليس واجب الوجود من جميع جهاته. فإن وضعت الحال الحادثة لا في ذاته، بل خارجة عن ذاته كما يضع بعضهم الإرادة، فالكلام على حدوث الإرادة عنها ثابت، هل هو بإرادة أو طبع، أو لأمر آخر أي أمر كان؟ ومهما وضع أمر حدث لم يكن؛ فإما أن يوضع حادثا في ذاته، وإما غير حادث في ذاته، بل على أنه شيء مباين لذاته، فيكون الكلام ثابتا. وأن حدث في ذاته، كان ذاته متغيرا، وقد بُيّن أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته. وأيضا إذا كان هو عند حدوث المباينات عنه كما كان قبل حدوثها، ولم يعرض ألبته شيء لم يكن، وكان الأمر على ما كان ولا يوجد عنه شيء، فليس يجب أن يوجد عنه شيء بل يكون الحال والأمر على ما كان. فلا بد من مميز لوجوب الوجود عنه، وترجيح للوجود عنه بحادث متوسط لم يكن حين كان الترجيح للعدم عنه، وكان التعطل عن الفعل حاله، وليس هذا أمرا خارجا عنه؛ فإنا نتكلم في حدوث الحادث عنه نفسه بلا واسطة أمر يحدث فيحدث به الثاني، كما يقولون في الإرادة والمراد. والعقل الصريح الذي لم يكدر يشهد أن الذات الواحدة إذا كانت من جميع جهاتها كما كانت، وكان لا يوجد عنها فيما قبل شيء، وهي الآن كذلك، فالآن أيضا لا يوجد عنها شيء. فإذا صار الآن يوجد عنها شيء، فقد حدث في الذات قصد وإرادة، أو طبع، أو قدرة وتمكن، أو شيء مما يشبه هذا لم يكن. ومن أنكر هذا، فقد فارق مقتضى عقله لسانا ويعود إليه ضميرا؛ فإن الممكن أن يوجد وأن لا يوجد، لا يخرج إلى الفعل ولا يترجح له أن يوجد إلا بسبب؛ وإذا كانت هذه الذات التي للعلة كما كانت ولا تترجح، ولا يجب عنها هذا الترجيح، ولا داعي ولا مصلحة ولا غير ذلك، فلا بد من حادث موجب
    الصفحة : 199
    للترجيح في هذه الذات إن كانت هي العلة الفاعلية، وإلا كانت نسبتها إلى ذلك الممكن على ما كان قبل، ولا تحدث لها نسبة أخرى؛ فيكون الأمر بحاله، ويكون الإمكان إمكانا صرفا بحاله. وإذا حدث لها نسبة فقد حدث أمر، ولا بد من أن يحدث لذاته وفي ذاته، فانها إن كانت خارجة عن ذاته كان الكلام ثابتا، ولم تكن هي النسبة المطلوبة؛ فإنا نطلب النسبة الموافقة لوجود كل ما هو خارج عن ذاته بعد ما لم يكن أجمع، كأنها جملة واحدة وفي حال ما لم يوجد شيء، و إلا فقد أخرج من الجملة شيء ونظر في حال ما بعده. فإن كان مبدأ النسبة مباينا له، فليست هي النسبة المطلوبة؛ فإذن الحادث الأول يكون على هذا القول في ذاته، لكنه محال فكيف يمكن أن يحدث في ذاته شيء وعمن يحدث؟ وقد بان أن واجب الوجود بذاته واحد، فيرى أن ذلك غير الحادث منه فيكون ليست النسبة المطلوبة؛ لأنا نطلب النسبة الموجبة لخروج الممكن الأول إلى الفعل، أهي عن واجب وجود آخر؟ وقد قيل إن واجب الوجود واحد. وعلى أنه إن كان عن آخر، فهو العلة الأولى والكلام فيه ثابت، ثم كيف يجوز أن يتميز في العدم وقت ترك ووقت شروع؟ وبماذا يخالف الوقت الوقت؟ وأيضا، إذ بان أن الحادث لا يحدث الا لحدوث حال في المبدأ؛ فلا يخلو إما أن يكون حدوث ما يحدث عن الأول بالطبع، أو بعرض فيه عن غير الإرادة، أو بالإرادة؛ إذ ليس بقسري ولا اتفاقي. فإن كان بالطبع، فقد تغير الطبع، أو كان بالعرض فقد تغير العرض. وإن كان بالإرادة، فلنترك أنها حدثت فيه أو مباينة له، بل نقول: إما أن يكون المراد نفس الإيجاد، أو غرضا، ومنفعة بعده، فإن كان المراد نفس الإيجاد لذاته فلم لم يوجد قبل؟ أتراه استصلحه الآن؟ أو حدث وقته؟ أو قدر عليه الآن؟ ولا معنى فيما يقوله القائل: إن هذا السؤال باطل؛ لأن السؤال في كل وقت عائد، بل هذا سؤال حق لأنه في كل وقت عائد ولازم وإن كان لغرض ومنفعة، فمعلوم أن الذي هو للشيء بحيث كونه ولا كونه بمنزلة فليس لغرض، والذي هو للشيء بحيث كونه منه أولى فهو نافع؛ والحق الأول كامل الذات لا ينتفع بشيء. وأيضا فإن الأول بماذا سبق أفعاله الحادثة؟ أبذاته؟ أم بالزمان؟ فإن كان بذاته فقط مثل الواحد للاثنين - وإن كانا معا - وحركة المتحرك - بأن يتحرك بحركة ما يتحرك عنه وإن كانا معا - فيجب أن يكونا كلاهما محدثين: الأول القديم، والأفعال الكائنة عنه وإن كان قد سبق لا بذاته فقط بل بذاته والزمان بأن كان وحده ولا عالم ولا حركة. ولا شك أن لفظة " كان " تدل على أمر مضى وليس الآن، وخصوصا ويعقبه قولك ثم، فقد كان كون قد
    الصفحة : 200
    مضى قبل أن خلق الخلق، وذلك الكون هو متناه، فقد كان إذن زمان قبل الحركة والزمان؛ لأن الماضي إما بذاته وهو الزمان، وإما بالزمان وهو الحركة وما فيها وما معها؛ فقد بان لك هذا. فإن لم يسبق بأمر هو ماض للوقت الأول من حدوث الخلق فهو حادث مع حدوثه، وكيف لا يكون سبق على أوضاعهم بأمر ما للوقت الأول من الخلقة، وقد كان ولا خلق، وكان وخلق؟ وليس " كان ولا خلق " ثابتا عند كونه " كان وخلق " ولا " كونه قبل الخلق " ثابت " مع كونه مع الخلق " وليس " كان ولا خلق " نفس وجوده وحده؛ فإن ذاته حاصلة بعد الخلق، ولا " كان ولا خلق " هو وجوده مع عدم الخلق بلا شيء ثالث؛ فإن وجود ذاته حاصل بعد الخلق، وعدم الخلق موصوف بأنه قد كان وليس الآن. وتحت قولنا: " كان " معنى معقول دون معقول الأمرين؛ لأنك إذا قلت: " وجود ذات وعدم ذات " لم يكن مفهوما منه السبق، بل قد يصح أن يفهم معه التأخر؛ فإنه لو عدمت الأشياء صح وجوده وعدم الأشياء، ولم يصح أن يقال لذلك " كان " بل إنما يفهم السبق بشرط ثالث، فوجود الذات شيء، وعدم الذات شيء، ومفهوم كان شيء موجود غير المعنيين، وقد وضع هذا المعنى للخالق ممتدا لا عن بداية، وجّوز فيه أن يخلق قبل أي خلق توهم فيه خلقا. فإذا كان هكذا، كانت هذه القبيلة مقدرة مكمّمة، وهذا هو الذي نسميه الزمان؛ إذ تقديره ليس تقدير ذي وضع ولا ثبات، بل على سبيل التجدد. ثم إن شئت فتأمل أقاويلنا الطبيعية؛ إذ بينا أن ما يدل عليه معنى " كان ويكون " عارض لهيئة غير قارة، والهيئة غير القارة هي الحركة؛ فإذا تحققت علمت أن الأول إنما سبق الخلق عندهم ليس سبقا مطلقا، بل سبقا بزمان معه حركة وأجسام أو جسم. وهؤلاء المعطلة الذين عطلوا الله عن وجوده لا يخلو: إما أن يسلموا أن الله كان قدرا قبل أن يخلق الخلق، أن يخلق جسما ذا حركات بقدر أوقات وأزمنة تنتهي إلى وقت خلق العالم، أو يبقى مع خلق العالم ويكون له إلى وقت خلق العالم أوقات وأزمنة محدودة، أو لم يكن للخالق أن يبتديء الخلق إلا حين ابتدأ. وهذا القسم الثاني يوجب انتقال الخالق من العجز إلى القدرة، أو انتقال المخلوقات من الامتناع إلى الإمكان بلا علة. والقسم الأول يقسم عليهم قسمين، فيقال: لا يخلو إما أن يكون كان يمكن أن يخلق الخالق جسما غير ذلك الجسم إنما ينتهي إلى خلق العالم بمدة وحركات أكثر، أو لا يمكن. ومحال أن لا يمكن؛ لما بيناه. فإن أمكن فإما أن يمكن خلقه مع خلق ذلك الجسم الأول الذي ذكرنا قبل
    الصفحة : 201
    هذا الجسم، أو إنما يمكن قبله. فإن أمكن معه فهو محال؛ لأنه لا يمكن أن يكون ابتداء خلقين متساويي الحركة في السرعة و البطء، ويقع بحيث ينتهيان إلى خلق العالم، ومدة أحدهما أطول من الآخر. وإن لم يمكن معه، بل كان إمكانه مباينا له، متقدما عليه، أو متأخرا عنه، يقدر في حال العدم إمكان خلق شيْ ولا إمكانه، وذلك في حال دون حال، وقع ذلك متقدما و متأخرا، ثم ذلك إلى غير نهاية؛ فقد وضح صدق ما قدمناه من وجود حركة لا بدء لها في الزمان، وإنما البدء لها من جهة الخالق، وإنها هي الحركات السماوية، فيجب أن يعلم أن العلة القريبة للحركة الأولى نفس لا عقل، وأن السماء حيوان مطيع لله تبارك وتعالى.
    الفصل الثاني (ب)
    فصل في أن المحرك القريب للسماويات لا طبيعة ولا عقل، بل نفس، والمبدأ الأ بعد عقل.
    فنقول: إنا قد بينا في الطبيعيات أن الحركة لا تكون طبيعية للجسم على الإطلاق، والجسم على حالته الطبيعية، إذا كان كل حركة بالطبع مفارقة بالطبع لحالة، والحالة التي تفارق بالطبع هي حالة غير طبيعية لا محالة؛ فظاهر أن كل حركة تصدر عن طبع فمن حالة غير طبيعية، ولو كان شيء من الحركات مقتضى طبيعة الشيء لما كان شيء من نسب الحركات باطل الذات مع بقاء الطبيعة، بل الحركة إنما تقتضيها الطبيعة لوجود حال غير طبيعية: إما في الكيف، كما إذا سخن الماء بالقسر، وإما بالكم كما يذبل البدن الصحيح ذبولا مرضيا، وإما في المكان كما إذا نقلت المدرة إلى حيز الهواء؛ وكذلك إذا كانت الحركة قد تكون في مقولة أخرى، والعلة في تجدد حركة بعد حركة تجدد الحال الغير الطبيعية، وتقدير البعد عن الغاية. فإذا كان الأمر على هذه الصفة لم تكن حركة مستديرة عن طبيعة، وإلا كانت عن حالة غير طبيعية إلى حالة طبيعية، وإذا وصلت إليها سكنت، ولم يجز أن يكون فيها بعينها قصد إلى تلك الحالة الغير الطبيعية؛ لأن الطبيعة ليست تفعل باختيار، بل على سبيل التسخير، وسبيل ما يلزمها بالذات؛ فإن كانت الطبيعة تحرك على سبيل الاستدارة فهي تحرك لا محالة: إما من أين غير طبيعي، أو وضع غير طبيعي، هربا طبيعيا عنه؛ وكل هرب طبيعي عن شيء فمحال أن يكون هو بعينه قصدا طبيعيا إليه، والحركة المستديرة تفارق كل نقطة، وتتركها، وتقصد في تركها تلك النقطة، وليست تهرب عن شيء
    الصفحة : 202
    إلا وتقصده، فليست إذن الحركة المستديرة طبيعية. إلا إنها قد تكون بالطبع - أي ليس وجوده في جسمها مخالفا لمقتضى طبيعة أخرى بجسمها - فإن الشيء المحرك لها وإن لم يكن قوة طبيعية كان شيئا" طبيعيا" لذلك الجسم غير غريب عنه؛ فكأنه طبيعته. وأيضا فإن كل قوة فإنما تحرك متوسط الميل، والميل هو المعنى الذي يحس في الجسم المتحرك، وإن سكن قسرا أحس ذلك الميل فيه يقاوم المسكن مع سكونه طلبا للحركة، فهو غير الحركة لا محالة، وغير القوة المحركة؛ لأن القوة المحركة تكون موجودة عند إتمامها الحركة ولا يكون الميل موجودا؛ فهكذا أيضا الحركة الأولى؛ فإن محركها لا يزال يحدث في جسمها ميلا بعد ميل، وذلك الميل لا يمتنع أن يسمى طبيعة، لأنه ليس بنفس، ولا من خارج، ولا له إرادة أو اختيار، ولا يمكنه أن لا يحرك، أو يحرك إلى غير جهة محدودة، ولا هو مع ذلك مضاد لمقتضى طبيعة ذلك الجسم الغريب، فإن سميت هذا المعنى طبيعة كان لك أن تقول: إن الفلك يتحرك بالطبيعة، إلا أن طبيعته فيض عن نفس يتجدد بحسب تصور النفس؛ فقد بان أن الفلك ليس مبدأ حركة طبيعية، وكان قد بان أنه ليس قسرا، فهي عن إرادة لا محالة. ونقول: إنه لا يجوز أن يكون مبدأ حركته القريب قوة عقلية صرفة لا يتغير ولا يتخيل الجزئيات ألبتة. وكأنا قد أشرنا إلى جمل مما تعين في معرفة هذا المعنى في الفصول المتقدمة، وأوضحنا أن الحركة معنى متجدد النسب، وكل شطر منه مخصص بنسب فإنه لا ثبات له، ولا يجوز أن يكون عن معنى ثابت ألبتة وحده، فإن كان عن معنى ثابت فيجب أن يلحقه ضرب من تبدل الأحوال؛ أما إن كانت الحركة عن طبيعة فيجب أن تكون كل حركة تتجدد فيه فلتجدد قرب وبعد من النهاية، ولولا ذلك التجدد لم يكن تجدد حركة؛ فإن الثابت من جهة ما هو ثابت لا يكون عنه إلا ثابت. وأما إن كانت عن إرادة فيجب أن تكون عن إرادة متجددة جزئية؛ فإن الإرادة الكلية نسبتها إلى كل شطر من الحركة نسبة واحدة؛ فلا يجب أن تتعين منها هذه الحركة دون هذه، فإنها إن كانت لذاتها علة لهذه الحركة لم يجز أن تبطل هذه الحركة، وإن كانت علة لهذه الحركة بسبب حركة قبلها أو بعدها معدومة كان المعدوم موجبا لموجود، والمعدوم لا يكون موجبا لموجود، وإن كان قد تكون الأعدام علة للأعدام. وأما أن يوجب المعدوم شيئا فهذا لا يمكن.
    الصفحة : 203
    وإن كانت علة لأمور تجدد، فالسؤال في تجددها ثابت. فان كان تجددا طبيعيا" لزم المحال الذي قدمناه، وإن كان إراديا" يتبدل بحسب تصورات متجددة فهو يثبت الذي نريده. فقد بان أن الإرادة العقلية الواحدة لا توجب ألبتة حركة، ولكن قد يمكن أن يتوهم أن ذلك لإرادة عقلية منتقلة؛ فإنه قد يمكن أن ينتقل العقل من معقول إلى معقول آخر، إذا لم يكن عقلا من كل جهة بالفعل، ويمكن أن يعقل الجزئي تحت النوع منتشرا" مخصوصا" بعوارض، عقلا بنوع كلي على ما أشرنا إليه؛ فيجب إذن أن يتوهم وجود عقل يعقل الحركة الكلية ويريدها، ثم يعقل انتقاله من حد إلى حد، ويأخذ تلك الحركات وحلولها بنوع معقول على ما أوضحناه، وعلى ما من شأننا أن نبرهن عليه من أن حركة من كذا إلى كذا فهو من كذا إلى كذا؛ فتعين مبدأ ما كليا إلى طرف آخر كلي بمقدار ما، موهوم كلي، وكذلك حتى تفنى الدائرة؛ فلا يبعد أن يتوهم أن تجدد الحركة يتبع تجدد هذا المعقول فنقول: ولا على هذا السبيل يمكن أن يتم أمر الحركة المستديرة؛ فإن هذا التأثير على هذا الوجه يكون صادرا عن الإرادة الكلية، وإن كانت على سبيل تجدد وانتقال، والإرادة الكلية كيف كانت فإنما هي بالقياس إلى طبيعة مشترك فيها؛ وإن كانت إرادة لحركة تتبعها إرادة لحركة، وأما هذه الحركة التي من ههنا بعينه إلى هناك بعينه فليست أولى بأن تصدر عن تلك الإرادة من هذه الحركة التي من هناك إلى حد ثالث؛ فنسبة جميع أجزاء الحركة المتساوية في الجزئية إلى واحد واحد من تلك الإرادات الجزئية العقلية المنتقلة واحدة، وليس جزء من ذلك أولى بأن ينسب إلى واحد من تلك التصورات من أن لا ينسب، فنسبته إلى مبدئه ولا نسبته واحدة؛ فإنه بعد عن مبدئه ولم يتميز، ولم يترجح وجوده عن لا وجوده، وكل ما لم يجب عن علته فإنه لا يكون كما قد علمت. وكيف يصح أن يقال: إن الحركة من " ا " إلى " ب " لزمت عن إرادة عقلية، والحركة من " ب " إلى " ج " من إرادة أخرى عقلية، دون أن يلزم عن كل واحدة من تلك الإرادات غير ما لزم من الأخرى، ويكون بالعكس فإن " ا " و " ب " و " ج " متشابهة بالنوع، وليس شيء من الإرادات الكلية بحيث يعين " ا " دون " ب " و " ب " دون " ج " وليس " الألف " أولى بأن يتعين من " الباء " و " الجيم " عن تلك الإرادة ما كانت عقلية، ولا " الباء " من " الجيم " إلا أن تصير نفسانية جزئية، وإذا لم تتعين تلك الحدود في العقل بل كانت حدودا كلية فقط، لم يمكن أن توجد الحركة من " أ " إلى " ب " أولى من التي من " ب " إلى " ج " ولا " الألف " أولى بأن يتعين من " ب " و " ج " عن تلك الإرادة ما كانت عقلية، ولا " الباء " من " الجيم ".
    الصفحة : 204
    ثم كيف يمكن أن نفرض فيها إرادة وتصورا، ثم إرادة وتصورا يختلفان في أمر متفق، ولا استناد فيه إلى مخصص شخص يقاس به؟ ومع هذا كله فإن العقل لا يمكنه أن يفرض هذا الانتقال إلا مشاركا للتخيل والحس ولا يمكننا إذا رجعنا إلى العقل الصريح أن نعقل جملة الحركة وأجزاء الانتقال العقلي فيما نعقله دائرة معا، فإذن على الأحوال كلها لا غنى عن قوة نفسانية تكون هي المبدأ القريب للحركة، وإن كنا لا نمنع أن يكون هناك أيضا قوة عقلية تنتقل هذا الانتقال العقلي بعد استناده إلى شبه تخيل، وأما القوة العقلية مجردة عن جميع أصناف التغير فتكون حاضرة المعقول دائما، إن كان معقوله كليا عن كلي، أو كليا عن جزئي، على ما أوضحناه. فإذا كان الأمر على هذا، فالفلك يتحرك بالنفس، والنفس مبدأ حركته القريبة، وتلك النفس متجددة التصور والإرادة، وهي متوهمة: أي لها إدراك للمتغيرات كالجزئيات وإرادة لأمور جزئية بأعينها، وهي كمال جسم الفلك وصورته. ولو كانت لا هكذا، بل قائمة بنفسها من كل وجه، لكانت عقلا محضا لا يتغير ولا ينتقل ولا يخالطه ما بالقوة. والمحرك القريب للفلك وإن لم يكن عقلا، فيجب أن يكون قبله عقل، هو السبب المتقدم لحركة الفلك؛ فقد علمت أن هذه الحركة محتاجة إلى قوة غير متناهية، مجردة عن المادة لا تتحرك بالذات ولا بالعرض. وأما النفس المحركة فإنها - كما تبين لك - جسمانية مستحيلة ومتغيرة وليست مجردة عن المادة، بل نسبتها إلى الفلك نسبة النفس الحيوانية التي لنا إلينا، إلا أن لها أن تعقل بوجه ما تعقلا مشوبا" بالمادة؛ وبالجملة تكون أوهامها أو ما يشبه الأوهام صادقة وتخيلاتها أو ما يشبه التخيلات حقيقة، كالعقل العملي فينا. وبالجملة إدراكاتها بالجسم ولكن المحرك الأول لها قوة غير مادية أصلا بوجه من الوجوه. وإذ ليس يجوز أن يتحرك بوجه من الوجه في أن يحرك، وإلا لاستحالت ولكانت مادية - كما قد تبين هذا - فيجب أن يحرك كما يحرك محرك بتوسط المحرك الآخر، وذلك الآخر محاول للحركة مريد لها متغير بسببها، وهذا هو النحو الذي يحرك عليه محرك المحرك. والذي يحرك المحرك من غير أن يتغير بقصد واشتياق فهو الغاية، والغرض الذي إليه ينحو المحرك، وهو المعشوق، والمعشوق بما هو معشوق هو الخير عند العاشق؛ بل نقول: إن كل متحرك حركة غير قسرية فهي هي إلى أمر ما، ولتشوق أمر ما، حتى الطبيعة أيضا؛ فإن شوق الطبيعة أمر طبيعي، وهو الكمال الذاتي للجسم: إما في صورته، وإما في أينه ووضعه؛ وشوق الإرادة أمر إرادي، إما إرادة لمطلوب حسي كاللذة، أو وهمي خيالي كالغلبة، أو ظني وهو الخير المظنون. فطالب اللذة هو الشهوة،
    الصفحة : 205
    وطالب الغلبة هو الغضب، وطالب الخير المظنون هو الظن، وطالب الخير الحقيقي المحض هو العقل؛ ويسمى هذا الطلب اختيارا". والشهوة والغضب غير ملائم لجوهر الجسم الذي لا يتغير ولا ينفعل؛ فإنه لا يستحيل إلى حال غير ملائمة، فيرجع إلى حال ملائمة، فيلتذ أو ينتقم من مخيل له فيغضب. وعلى أن كل حركة إلى لذيذ أو غلبة فهي متناهية. وأيضا" فإن أكثر المظنون لا يبقى مظنونا" سرمديا". فوجب أن يكون مبدأ هذه الحركة اختيارا" وإرادة لخير حقيقي، فلا يخلو ذلك الخير: إما أن يكون مما ينال بالحركة فيتوصل إليه، أو يكون خيرا" ليس جوهره مما ينال بوجه، بل هو مباين؛ ولا يجوز أن يكون ذلك الخير من كمالات الجوهر المتحرك فينال بالحركة، وإلا لانقطعت الحركة، ولا يجوز أن يكون يتحرك ليفعل فعلا يكتسب بذلك الفعل كمالا، كما من شأننا أن نجود لنمدح، ونحسن الأفعال ليحدث لنا ملكة فاضلة، أو نصير خيرين، وذلك ن المفعول يكتسب لإكماله من فاعله، ومحال أن يعود فيكمل جوهر فاعله، فإن كمال المعلول أخس من كمال العلة الفاعلة، والأخس لا يكسب الأشرف والأكمل كمالا، بل عسى أن يهىء الأخس للافضل آلته ومادته حتى يوجد هو في بعض الأشياء عن سبب آخر. وأما نحن فإن المدح الذي نطلبه ونرغب فيه هو كمال غير حقيقي بل مظنون، والملكة الفاضلة التي نحصلها بالفعل ليس سببها الفعل، بل الفعل يمنع ضدها و يهيء لها. وتحدث هذه الملكة من الجوهر المكمل لأنفس الناس - وهو العقل الفعال - أو جوهر آخر يشبهه؛ وعلى هذا فإن الحرارة المعتدلة سبب لوجود القوى النفسانية، ولكن على أنها مهيئة للمادة لا موجدة، وكلامنا في الموجد، ثم بالجملة إذا كان الفعل مهيئا" ليوجد كمالا انتهت الحركة عند حصوله. فبقي أن يكون الخير المطلوب بالحركة خيرا" قائما" بذاته ليس من شأنه أن ينال، وكل خير هذا شأنه فإنما يطلب العقل التشبه به بمقدار الإمكان؛ والتشبه به هو تعقل ذاته في كمالها، فيصير مثله، في أن يحصل له الكمال الممكن له في ذاته كما حصل لمعشوقه، فيوجب البقاء الأبدي على أكمل ما يكون لجوهر الشيء في أحواله ولوازمه كمالا لذلك، فما كان يمكن أن يحصل كماله الأقصى له في أول الأمر تم تشبهه به بالثبات، وما كان لا يمكن أن يحصل كماله الأقصى له في أول الأمر تم تشبهه به بالحركة. وتحقيق هذا هو أن الجوهر السماوي قد بان أن محركه يحرك عن قوة غير متناهية. والقوة التي لنفسه الجسمانية متناهية، لكنهما - بما يعقل الأول فيسنح عليها من نوره وقوته دائما - تصير كأن له قوة غير متناهية؛ فلا يكون له قوة غير متناهية، بل للمعقول الذي يسنح عليه من نوره وقوته، وهو - أعني
    الصفحة : 206
    الجرم السماوي - في جوهره على كماله الأقصى إذ لم يبق له في جوهره أمر بالقوة، وكذلك في كمه وكيفه، إلا في وضعه أو أينه أولا، وفيما يتبع وجودهما من الأمور ثانيا"، وإنه ليس أن يكون على وضع أو أين أولى بجوهره من أن يكون على وضع أو أين آخر له في حيزه؛ فانه ليس شيء من أجزاء مدار فلك أو كوكب أولى بأن يكون ملاقيا" له لجزئه من جزء آخر. فمتى كان في جزء بالفعل فهو في جزء آخر بالقوة، فقد عرض لجوهر الفلك ما بالقوة من جهة وضعه أو أينه، والتشبه بالخير الأقصى يوجب البقاء على أكمل كمال يكون للشيء دائما"، ولم يكن هذا ممكنا" للجوهر السماوي بالعدد؛ فحفظ بالنوع والتعاقب، فصارت الحركة حافظة لما يمكن من هذا الكمال؛ ومبدؤها الشوق إلى التشبه بالخير الأقصى في البقاء على الكمال الأكمل بحسب الممكن، ومبدأ هذا الشوق هو ما يعقل منه، وأنت إذا تأملت حال الأجسام الطبيعية في شوقها الطبيعي إلى أن يكون بالفعل أينا" لم تتعجب أن يكون جسم يشتاق شوقا إلى أن يكون على وضع من أوضاعه التي يمكن أن تكون له، أو إلى أن يكون على أكمل ما يكون له من كونه متحركا، وخصوصا" ويتبع ذلك من الأحوال والمقادير الفائضة ما يتشبه فيه بالأول تعالى من حيث هو مفيد للخيرات، لا أن يكون المقصود تلك الأشياء فتكون الحركة لأجل تلك الأشياء، بل أن يكون المقصود هو التشبه بالأول تعالى - بقدر الإمكان - في أن يكون على أكمل ما يكون في نفسه، وفيما يتبعه من حيث هو تشبه بالأول، لا من حيث هو يصدر عنه أمور بعده حتى تكون الحركة لأجل ذلك بالمقصود الأول، كلا. وأقول: إن نفس الشوق إلى التشبه بالأول من حيث هو بالفعل تصدر عنه الحركة الفلكية صدور الشيء عن التصور الموجب له، وإن كان غير مقصود في ذاته بالقصد الأول؛ لأن ذلك تصور لما بالفعل فيحدث عنه طلب لما بالفعل الأكمل، ولا يمكن بالشخص فيكون بالتعاقب وهو الحركة؛ لأن الشخص الواحد إذا دام لم يحصل لأمثاله وجود، وبقيت دائما" بالقوة. والحركة تتبع أيضا" ذلك التصور المقصود على هذا النحو، لا على أن تكون مقصودة أولية وإن كان ذلك التصور الواحد يتبعه تصورات جزئية - ذكرناها وفصلناها - على سبيل الانبعاث لا على سبيل المقصود الأول، وتتبع تلك التصورات الجزئية الحركات المنتقل بها في الأوضاع، والجزء الواحد بكماله لا يمكن في هذا الباب فيكون الشوق الأول على ما ذكرنا، ويكون سائر ما يتلوه انبعاثات، وهذه الأشياء قد يوجد لها نظائر بعيدة في أبداننا ليست تناسبها، وإن كانت قد تخيلها وتحكيها، مثل ان الشوق إذا اشتد إلى خليل، أو إلى شيء آخر، تبع ذلك فينا تخيلات على سبيل الانبعاث، يتبعها حركات ليست
    الصفحة : 207
    الحركات التي نحو المشتاق نفسه، بل حركات نحو شيء في طريقه وفي سبيله وأقرب ما يكون منه. فالحركة الفلكية كائنة بالإرادة والشوق على هذا النحو، وهذه الحركة مبدؤها شوق واختيار ولكن على النحو الذي ذكرناه، ليس أن تكون الحركة مقصودة بالقصد الأول؛ وهذه الحركة كأنها عبادة ما ملكية أو فلكية، وليس من شرط الحركة الإرادية أن تكون مقصودة في نفسها، بل إذا كانت القوة الشوقية تشتاق نحو أمر يسنح منها تأثير يحرك الأعضاء؛ فتارة يتحرك على النحو الذي يوصل به إلى الغرض، وتارة على نحو آخر مشابه أو مقارب له إذا كان عن تخيل، سواء كان الغرض أمرا" ينال، أو أمرا" يقتدى به ويحتذى حذوه ويتشبه بوجوده. فإذا بلغ الالتذاذ بتعقل المبدأ الأول، وبما يعقل منه أو يدرك منه على نحو عقلي أو نفساني، شغل ذلك عن كل شيء وكل جهة، لكنه ينبعث عن ذلك ما هو أدون مرتبة منه، وهو الشوق إلى التشبه به بمقدار الإمكان، فيلزم طلب الحركة لا من حيث هي حركة، ولكن من حيث قلنا؛ ويكون هذا الشوق يتبع ذلك العشق والالتذاذ منبعثا" عنه، وهذا الاستكمال منبعثا" عن الشوق، فعلى هذا النحو يحرك المبدأ الأول جرم السماء. وقد اتضح لك من هذه الجملة أيضا"، أن المعلم الأول إذا قال: إن الفلك متحرك بطبعه فماذا يعني؛ أو قال: إنه متحرك بالنفس فماذا يعني؛ أو قال: متحرك بقوة غير متناهية تحرك كما يحرك المعشوق، فماذا يعني، وأنه ليس في أقواله تناقص ولا اختلاف. ثم أنت تعلم أن جوهر هذا الخير المعشوق الأول واحد، ولا يمكن أن يكون هذا المحرك الأول الذي لجملة السماء فوق واحد، وإن كان لكل كرة من كرات السماء محرك قريب يخصها، ومتشوق ومعشوق يخصها على ما يراه المعلم الأول ومن بعده من محصلي علماء المشائين؛ فإنهم إنما ينفون الكثرة عن محرك الكل، ويثبتون الكثرة للمحركات المفارقة وغير المفارقة التي يختص واحدا واحدا منها؛ فيجعلون أول المفارقات الخاصة محرك الكرة الأولى، وهي عند من تقدم بطليموس كرة الثوابت، وعند من تعلم العلوم التي ظهرت لبطليموس كرة خارجة عنها غير مكوكبة، وبعد ذلك محرك الكرة التي تلي الأولى بحسب اختلاف الرأيين، وكذلك هلم جرا. فهؤلاء يرون أن محرك الكل شيء واحد، ولكل كرة بعد ذلك محرك خاص. والمعلم الأول يضع عدد الكرات المتحركة على ما كان ظهر في زمانه، ويتبع عددها عدد المباديء المفارقة. وبعض من هو أسد قولا من أصحابه يصرح ويقول - في رسالته التي في مباديء الكل - إن محرك جملة السماء
    الصفحة : 208
    واحد لا يجوز أن يكون عددا" كثيرا"، وإن كان لكل كرة محرك ومتشوق يخصانها. والذي يحسن عبارته عن كتب المعلم الأول على سبيل تلخيص، وإن لم يكن يغوص في المعاني، يصرح ويقول ما هذا معناه: إن الأشبه والأحق وجود مبدأ حركة خاصة لكل فلك على أنه فيه، ووجود مبدأ حركة خاصة له على أنه معشوق مفارق. وهذان أقرب قدماء تلامذة المعلم الأول من سواء السبيل. ثم القياس يوجب هذا، فإنه قد صح لنا بصناعة المجسطي أن حركات وكرات سماوية كثيرة ومختلفة في الجهة وفي السرعة والبطء، فيجب لكل حركة محرك غير الذي للآخر ومشوق غير الذي للآخر؛ وإلا لما اختلفت الجهات، ولما اختلفت السرعة والبطء. وقد بينا أن هذه المتشوقات خيرات محضة مفارقة للمادة، وإن كانت الكرات والحركات كلها تشترك في الشوق إلى المبدأ الأول، فتشترك لذلك في دوام الحركة وإستدارتها ونحن نزيد هذا بيانا".
    الفصل الثالث (ح)
    فصل في كيفية صدور الأفعال من المبادئ العالية.
    ليعلم من ذلك ما يجب أن يعلم من المحركات المفارقة المعقولة بذاتها المعشوقة ولنحقق هذا البيان، ولنفتتح من مبدأ آخر فنقول: إن قوما" لما سمعوا ظاهر قول فاضل المتقدمين إذ يقول: إن الاختلاف في هذه الحركات وجهاتها يشبه أن يكون للعناية بالأمور الكائنة الفاسدة التي تحت كرة القمر، وكانوا سمعوا أيضا" وعلموا بالقياس أن حركات السماويات لا يجوز أن تكون لأجل شيء غير ذواتها، ولا يجوز أن تكون لأجل معلولاتها، أرادوا أن يجمعوا بين هذين المذهبين فقالوا: إن نفس الحركة ليست لأجل ما تحت كرة القمر ولكن للتشبه بالخير المحض والشوق إليه. وأما اختلاف الحركات، فلاختلاف ما يكون من كل واحد منها في عالم الكون والفساد اختلافا" ينتظم به بقاء الأنواع، كما أن رجلا خيّرا" لو أراد أن يمضي في حاجته سمة موضع، واعترض إليه طريقان: أحدهما يختص بإيصاله إلى الموضع الذي فيه قضاء وطرح، والآخر يضيف إلى ذلك إيصال نفع إلى مستحق، وجب في حكم خيريته أن يقصد الطريق الثاني، وإن لم تكن حركته لأجل نفع غيره بل لأجل ذاته. قالوا: فكذلك حركة كل فلك، إنما هي ليبقى على كماله الأخير دايما"، لكن الحركة إلى هذه الجهة وبهذه السرعة لينتفع غيره. فأول ما نقول لهؤلاء: إنه إن أمكن أن يحدث للأجرام السماوية في حركاتها قصد ما لأجل شيء معلول،
    الصفحة : 209
    ويكون ذلك القصد في اختيار الجهة، فيمكن أن يحدث ذلك ويعرض في نفس الحركة حتى يقول قائل: إن السكون كان يتم لها به خيرية تخصها والحركة كانت لا تضرها في الوجود وتنفع غيرها، ولم يكن أحدهما أسهل عليها من الأخر أو أعسر فاختارت الأنفع. فإن كانت العلة المانعة عن القول بأن مصير حركاتها لنفع الغير، استحالة قصدها فعلا لأجل الغير من المعلولات، فهذه العلة موجودة في نفس قصد اختيار الجهة. وإن لم يمنع هذه العلة قصد اختيار الجهة، لم يمنع قصد الحركة وكذلك الحال في قصد السرعة والبطء هذه الحال، وليس ذلك على ترتيب القوة والضعف في الأفلاك بسبب ترتيبها بعضها على بعض في العلو والسفل حتى ينسب إليه، بل ذلك مختلف. ونقول بالجملة: لا يجوز أن يكون منها شيء لأجل الكائنات؛ لا قصد حركة؛ ولا قصد جهة من حركة، ولا تقدير سرعة وبطء، بل ولا قصد فعل ألبتة لأجلها، وذلك لأن كل قصد فيكون من أجل المقصود، فيكون أنقص وجودا من المقصود؛ لأن كل ما لأجله شيء آخر فهو أتم وجودا" من الآخر من حيث هو والآخر على ما هما عليه، بل به يتم للآخر النحو من الوجود الداعي إلى القصد. ولا يجوز أن يستفاد الوجود الأكمل من الشيء الأخس، فلا يكون ألبتة إلى معلول قصد صادق غير مضمون، وإلا كان القصد معطيا" ومفيدا" لوجود ما هو أكمل وجودا" منه. وإنما يقصد بالواجب شيء يكون القصد مهيئا" له ومفيد وجوده شيء آخر: مثل الطبيب للصحة، فالطبيب لا يعطي الصحة بل يهيء لها المادة والآلة؛ وإنما يفيد الصحة مبدأ أجل من الطبيب، وهو الذي يعطي المادة جميع صورها، وذاته أشرف من المادة. وربما كان القاصد مخطئا" في قصده إذا قصد ما ليس أشرف من القصد، فلا يكون القصد لأجله في الطبع بل بالخطأ؛ ولأن هذا البيان يحتاج إلى تطويل وتحقيق، وفيه شكوك لا تحل إلا بالكلام المشبع، فلنعدل إلى الطريق الأوضح فنقول: إن كل قصد فله مقصود، والعقلى منه هو الذي يكون وجود المقصود عن القاصد أولى بالقاصد من لا وجود عنه، وإلا فهو هدر. والشيء الذي هو أولى بالشيء فإنه يفيد كمالا ما؛ إن كان بالحقيقة فحقيقيا"، وإن كان بالظن فظنيا": مثل استحقاق المدح وظهور القدرة وبقاء الذكر، فهذه وما أشبهها كمالات ظنية. أو الربح، أو السلامة، أو رضى الله تعالى وتقدس وحسن معاد الآخرة، وهذه وما أشبهها كمالات حقيقية لا تتم بالقاصد وحده. فإذن، كل قصد ليس عبثا"فإنه يفيد كمالا مّا لقاصده لو لم يقصده لم يكن ذلك الكمال؛ والعبث أيضا" يشبه أن يكون كذلك، فإن فيه لذة أو راحة أو غير ذلك أو شيئا" مما علمت أو سائر ما تبين لك.
    الصفحة : 210
    ومحال أن يكون المعلول المستكمل وجوده بالعلة يفيد العلة كمالا لم يكن، فإن المواضع التي يظن فيها إن المعلول أفاد علته كمالا مواضع كاذبة أو محرفة، ومثلك ممن أحاط بما سلف له من الفنون لا يقصر عن تأملها وحلها. فإن قال قائل: إن الخيرية توجب هذا، فإن الخير يفيد الخير، قيل إن الخير يفيد الخير ولكن لا على سبيل قصد وطلب ليكون ذلك؛ فإن هذا يوجب النقص؛ فإن كل طلب وقصد لشيء فهو طلب لمعدوم وجوده من الفاعل أولى من لا وجوده، ومادام معدوما وغير مقصود لم يكن ما هو الأولى بالفاعل وذلك نقص؛ فإن الخيرية لا تخلو: أما أن تكون صحيحة موجودة دون هذا القصد ولا مدخل لوجود هذا القصد في وجودها، فيكون كون هذا القصد ولا كونه عن الخيرية واحدة، فلا تكون الخيرية توجبه، ولا يكون حال سائر لوازم الخيرية التي تلزمها لذاتها لا عن قصد وهو قصد هذه الحال. وأما أن يكون بهذا القصد تتم الخيرية وتقوم، فيكون هذا القصد علة لاستكمال الخيرية وقوامها لا معلولا لها. وإن قال قائل: إن ذلك للتشبه بالعلة الأولى في أن خيرته متعدية، وحتى يكون بحيث يتبعها خير، فنقول: إن هذا في ظاهر الأمر مقبول وفي الحقيقة مردود، فإن التشبه به في إن لا يقصد شيئا بل بأن ينفرد بالذات، فإنه على هذه الصفة اتفاقا من جماعة من أهل العلم. وأما استفادة كمال بالقصد فمباين للتشبه به، اللهم إلا أن يقال إن المقصود الأول شيء، وهذا بالقصد الثاني وعلى جهة الاستتباع، فيجب في اختيار الجهة أيضا" أن يكون المقصود بالقصد الأول شيئا"، وتكون المنفعة المذكورة مستتبعة لذلك المقصود، فتكون الجهة الخيرية غير مقصودة قصدا" أوليا" لنفس ما يتبع، بل يجب أن يكون هناك استكمال في ذات الشيء مستتبع تلك المنفعة حتى يكون تشبها" بالأول. ونحن لا نمنع أن تكون الحركة مقصودة بالقصد الأول على إنها تشبه بذات الأول من الجهة التي قلنا، وتشبه بالقصد الثاني بذات الأول من حيث يفيض عنه الوجود بعد أن يكون القصد الأول أمرا" آخر ينظر به إلى فوق. وأما النظر إلى أسفل واعتباره، فلو جاز أن يقع بالقصد الأول إلى الجهة، حتى يكون تشبها" بالأول في الاستتباع، لجاز في نفس اختيار الحركة. فكانت الحركة لأجل ما تحت، ويفيض عنها وجود ليس تشبها" به من حيث هو كامل الوجود ومعشوقه، إنما ذلك لذاته من حيث ذاته. ولا مدخل ألبته لوجود الأشياء عنه في تشريف ذاته وتكميلها، بل المدخل إنه على كماله الأفضل، وبحيث ينبعث
    الصفحة : 211
    عنه وجود الكل لا طلبا" وقصدا". فيجب أن يكون الشوق إليه من طريق التشبه على هذه الصورة، لا على ما يتعلق للأول به كمال. فإن قال قائل: إنه كما قد يجوز أن يستفيد الجرم السماوي بالحركة خيرا" وكمالا، والحركة فعل له مقصود، فكذلك لسائر أفاعيلها؛ فالجواب إن الحركة ليست تستفيد كمالا وخيرا"، وإلا لانقطعت عنده، بل هي نفس الكمال الذي أشرنا إليه. وهي بالحقيقة استثبات نوع ما يمكن أن يكون للجرم السماوي بالفعل، إذ لا يمكن استثبات الشخص له. فهذه الحركة لا تشبه سائر الحركات التي تطلب كمالا خارجا عنها، بل يكمل لهذه الحركة نفس المتحرك عنها بذاتها؛ لأنها نفس استبقاء الأوضاع والأيون على التعاقب. وبالجملة يجب أن ترجع إلى ما فصلناه فيما سلف حين بينا إن هذه الحركة كيف تتبع تصور المتشوق، وهذه الحركة شبيهة بالثبات. فإن قال قائل: إن هذا القول يمنع وجود العناية بالكائنات والتدبير المحكم الذي فيها؛ فإنا سنذكر بعد ما نزيل هذا الإشكال، ونعرف إن عناية الباري بالكل على أي سبيل هي، وإن عناية كل علة بما بعدها على أي سبيل هي، وأن الكائنات التي عندنا كيف العناية بها من المبادئ الأولى ومن الأسباب التي وسطها. وقد اتضح بما أوضحناه إنه لا يجوز أن يكون شيء من العلل يستكمل بالمعلول بالذات لا بالعرض، وإنها لا تقصد فعلا لأجل المعلول وإن كان ترضى به وتعلمه. بل كما إن الماء يبرد بذاته بالفعل ليحفظ نوعه لا ليبرد غيره، ولكن يلزمه أن يبرد غيره؛ والنار تسخن بذاتها بالفعل لتحفظ نوعها لا لتسخن غيرها، ولكن يلزمها أن تسخن غيرها؛ والقوة الشهوانية تشتهي لذة الجماع ليندفع الفضل ويتم لها اللذة، لا ليكون عنها ولد، ولكن يلزمها ولد؛ والصحة هي صحة بجوهرها وذاتها، لا لأن تنفع المريض، لكن يلزمها نفع المريض؛ كذلك في العلل المتقدمة، إلا إن هناك إحاطة بما يكون، وعلما بأن وجه النظام والخير فيها كيف يكون، وإنه على ما يكون وليس في تلك. فإذا كان الأمر على هذا، فالأجسام السماوية إنما اشتركت في الحركة المستديرة شوقا إلى معشوق مشترك. وإنما اختلفت، لأن مبادئها المعشوقة المتشوق إليها قد تختلف بعد ذلك الأول. وليس إذا أشكل علينا إنه كيف وجب عن كل تشوق حركة بهذه الحال، فيجب أن يؤثر ذلك فيما علمنا من إن الحركات مختلفة باختلاف المتشوقات. ولكن بقي علينا شيء، وهو إنه يمكن أن تتوهم المتشوقات المختلفة أجساما لا عقولا مفارقة، حتى يكون مثل الجسم الذي هو أخس متشبها بالجسم الذي هو أقدم وأشرف كما ظنه القوم من أحداث المتفلسفة
    الصفحة : 212
    الإسلامية في تشويش الفلسفة إذ لم يفهم غرض الأقدمين، فنقول: إن هذا محال؛ وذلك لأن التشبه به يوجب مثل حركته وجهتها والغاية التي تؤمها؛ فإن أوجب القصور عن مرتبته شيئا فإنما يوجب الضعف في الفعل، لا المخالفة في الفعل مخالفة توجب أن يكون هذا إلى جهة وذاك إلى أخرى. ولا يمكن أن يقال: إن السبب في هذه المخالفة طبيعة ذلك الجسم؛ كأن طبيعة ذلك الجسم تعاند أن يتحرك من " أ " إلى " ب " ولا تعاند أن يتحرك من " ب " إلى " أ "؛ فإن هذا محال؛ لأن الجسم بما هو جسم لا يوجب هذا، والطبيعة بما هي طبيعة للجسم تطلب الأين الطبيعي من غير وضع مخصوص، ولو كانت تطلب وضعا مخصوصا لكان النقل عنه قسرا، فدخل في حركة الفلك معنى قسري. ثم وجود كل جزء من أجزاء الفلك على كل نسبة محتمل في طبيعة الفلك، فليس يجب إذن أن يكون إذا أزيل جزء من جهة جاز، وإن أزيل من جهة لم يجز بحسب بساطته إلا أن يكون هناك طبيعة تقبل حركة إلى جهة فتجيب إلى تلك الجهة ولا تجيب إلى جهة أخرى إن كانت عيقت عن جهتها. وقد قلنا: إن مبدأ هذه الحركة ليست طبيعته، ولا أيضا هناك طبيعة توجب وضعا بعينه ولا جهات مختلفة، فليس إذن في جوهر الفلك طبيعة تمنع تحريك النفس له إلى أي جهة كانت. وأيضا، لا يجوز أن يقع ذلك من جهة النفس حتى يكون طبعها أن يريد تلك الجهة لا محالة، إلا أن يكون الغرض في الحركة مختصا بتلك الجهة لأن الإرادة تبع للغرض ليس الغرض تبعا للإرادة. وإذا كان هكذا، كان السبب مخالفة الغرض. فإذن، لا مانع من جهة الجسمية، ولا من جهة الطبيعة، ولا من جهة النفس، إلا اختلاف الغرض والقسر أبعد الجميع عن الإمكان. فإذن لو كان الغرض تشبها بعد الأول بجسم من السماوية، لكانت الحركة من نوع حركة ذلك الجسم؛ ولم يكن مخالفا له أو أسرع منه في كثير من المواضع، وكذلك إن كان الغرض لمحرك هذا الفلك التشبه بمحرك ذلك الفلك. وقد كان بان أنه ليس الغرض في تلك الحركات شيئا يوصل إليه بالحركة، وإلا لزم الانقطاع، بل شيئا مبايناً لا يوصل إليه. وبان الآن أنه لبس جسما، فبقى أن الغرض لكل فلك تشبه بشيء غير جواهر الأفلاك من مواده وأنفسها، ومحال أن يكون بالبصريات وما يتولد عنها ولا أجسام ولا أنفس غير هذه، فبقى أن يكون لكل واحد منها تشبه بجوهر عقلي مفارق يخصه وتختلف الحركات وأحوالها اختلافها الذي لها لأجل ذلك، وإن كنا لا نعرف كيفية وجوب ذلك ولميته، وتكون العلة الأولى متشوق الجميع بالاشتراك. فهذا معنى قول القدماء إن للكل محركا واحدا معشوقا وإن لكل كرة محركا يخصها ومعشوقا يخصها. فيكون إذن لكل فلك نفس محركا تعقل الخير، ولها بسبب الجسم تخيل، أي تصور
    الصفحة : 213
    للجزئيات وإرادة للجزئيات، ويكون ما تعقله من الأول وما يعقله من المبدأ الذي يخصه القريب منه مبدأ تشوقه إلى التحرك. ويكون لكل فلك عقل مفارق نسبنه إلى نفسه نسبة العقل الفعال إلى أنفسنا، وإن مثال كلي عقلي لنوع فعله، فهو يتشبه به. وبالجملة، لا بد في كل متحرك منها لغرض عقلي من مبدأ عقلي يعقل الخير الأول، وتكون ذاته مفارقة، فقد علمت أن كل ما يعقل مفارق الذات؛ ومن مبدأ للحركة جسماني أي مواصل للجسم، فقد علمت أن الحركة السماوية نفسانية تصدر عن نفس مختارة متجددة الاختيارات على الاتصال جزئيتها، فيكون عدد العقول المفارقة بعد المبدأ الأول بعدد الحركات. فإن كانت الأفلاك المتحيرة إنما المبدأ في حركة كرات كل كوكب فيها قوة تفيض من الكواكب، لم يبعد إن تكون المفارقات بعدد الكواكب لا بعدد الكرات وكان عددها عشرة بعد الأول: أولها العقل المحرك الذي لا يتحرك وتحريكه لكرة الجرم الأقصى، ثم الذي هو مثله لكرة الثوابت، ثم الذي هو مثله لكرة زحل، وكذلك حتى ينتهي إلى العقل الفائض على أنفسنا، وهو عقل العالم الأرضي، ونحن نسميه العقل الفعال. وإن لم يكن كذلك، بل كان كل كرة متحركة لها حكم في حركة نفسها ولكل كوكب، كانت هذه المفارقات أكثر عددا"، وكان يلزم على مذهب المعلم الأول قريبا" من خمسين فما فوقها، وآخر العقل الفعال؛ وقد علمت من كلامنا في الرياضيات مبلغ ما ظفرنا به من عددها.
    الفصل الرابع (د)
    الصفحة : 214
    فصل في ترتيب وجود العقل والنفوس السماوية والأجرام العلوية عن المبدأ الأول.
    قد صح لنا في ما قدمناه من القول أن الواجب الوجود بذاته واحد، وأنه ليس بجسم ولا في جسم ولا منقسم بوجه من الوجوه، فإذن الموجودات كلها وجودها عنه، ولا يجوز أن يكون له مبدأ بوجه من الوجوه ولا سبب لا الذي عنه، ولا الذي فيه أو به يكون، ولا الذي له، حتى يكون لأجل شيء، فلهذا لا يجوز أن يكون كون الكل عنه على سبيل قصد منه كقصدنا لتكوين الكل ولوجود الكل فيكون قاصدا" لأجل شيء غيره وهذا الفصل قد فرغنا من تقريره في غيره؛ وذلك في أظهر، ونخصه من بيان امتناع أن يقصد وجود الكل عنه إن ذلك يؤدي إلى تكثره في ذاته؛ فإنه حينئذ يكون فيه شيء بسببه يقصد، وهو معرفته وعلمه لوجوب القصد أو استحبابه أو خيرية فيه توجب ذلك، ثم قصد، ثم فائدة يفيدها إياه القصد على ما أوضحنا قبل؛ وهذا محال؛ وليس كون الكل عنه على سبيل الطبع بأن يكون وجود الكل عنه لا بمعرفة، ولا لرضى منه، وكيف يصح هذا وهو عقل محض يعقل ذاته؟ فيجب أن يعقل إنه يلزمه وجود الكل عنه؛ لأنه لا يعقل ذاته إلا عقلا محضا ومبدأ أولا، وإنما يعقل وجود الكل عنه على إنه مبدأه وليس في ذاته مانع كاره لصدور الكل عنه، وذاته عالمة بأن كماله وعلوه بحيث يفيض عنه الخير، وإن ذلك من لوازم جلالته المعشوقة له لذاتها، وكل ذات يعلم ما يصدر عنه، ولا تخالطه معاوقة ما بل يكون على ما أوضحنا بيانه؛ فإنه راض بما يكون عنه؛ فالأول راض بفيضان الكل عنه، ولكن الحق الأول إنما فعله الأول وبالذات إنه يعقل ذاته التي هي لذاتها مبدأ لنظام الخير في الوجود؛ فهو عاقل لنظام الخير في الوجود، وإنه كيف ينبغي أن يكون، لا عقلا خارجا عن القوة إلى الفعل، ولا عقلا منتقلا، من معقول
    إلى معقول؛ فإن ذاته بريئة عما بالقوة من كل وجه على ما أوضحناه قبل، بل عقلا واحدا"، ويلزم ما يعقله من نظام الخير في الوجود أن يعقل إنه كيف يمكن، وكيف يكون أفضل ما يكون أن يحصل وجود الكل على مقتضى معقوله؛ فإن الحقيقة المعقولة عنده هي بعينها على ما علمت، علم وقدرة وإرادة. وأما نحن فنحتاج في تنفيذ ما نتصوره إلى قصد وحركة وإرادة حتى توجد، وهو لا يحسن فيه ذلك ولا يصح له لبرائته عن الاثنينية، وعلى ما أطنبنا في بيانه فتعقٌّلٌه علة للوجود على ما يعقله ووجود ما يوجد عنه على سبيل لزوم لوجوده وتبع لوجوده، لا إن وجوده لأجل وجود شيء آخر غيره، وهو فاعل الكل بمعنى إنه الموجود الذي يفيض عنه كل وجود فيضانا مباينا لذاته، ولأن كون ما يكون عن الأول إنما هو على سبيل اللزوم إذا صح أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع
    الصفحة : 215
    جهاته، وفرغنا من بيان هذا الغرض قبل. فلا يجوز أن يكون أول الموجودات عنه - وهي المبدعات - كثيرة لا بالعدد ولا بالانقسام إلى مادة وصورة؛ لأنه يكون لزوم ما يلزم عنه هو لذاته، لا لشيء آخر. والجهة والحكم الذي في ذاته الذي يلزم عنه هذا الشيء ليست الجهة والحكم الذي في ذاته الذي يلزم عنه، لا هذا الشيء بل غيره؛ فإن لزم منه شيئان متباينان بالقوام، أو شيئان متباينان يكون منهما شيء واحد: مثل مادة وصورة، لزوما معا، فإنما يلزمان عن جهتين مختلفتين في ذاته؛ وتانك الجهتان إن كانتا لا في ذاته بل لازمتين لذاته، فالسؤال في لزومهما له ثابت حتى تكونا في ذاته، فتكون ذاته منقسمة المعنى، وقد منعنا هذا قبل وبينا فساده؛ فتبين إن أول الموجودات عن العلة الأولى واحد بالعدد، وذاته وماهيته واحدة لا في مادة، فليس شيء من الأجسام ولا من الصور التي هي كمالات للأجسام معلولا قريبا له، بل المعلول الأول عقل محض؛ لأنه صورة لا في مادة، وهو أول العقول المفارقة التي عددناها ويشبه أن يكون هو المبدأ المحرك للجرم الأقصى على سبيل التشويق. ولكن لقائل أن يقول: إنه لا يمتنع أن يكون الحادث عن المبدأ الأول صورة مادية، لكنها يلزم عنها وجود مادتها فنقول: إن هذا يوجب أن تكون الأشياء التي بعد هذه الصورة وهذه المادة تالية في درجة المعلولات، وأن يكون وجودها بتوسط المادة، فتكون المادة سببا لوجود صور الأجسام الكثيرة في العالم وقواها، وهذا محال؛ إذ المادة وجودها إنها قابلة فقط وليست سببا لوجود شيء من الأشياء على غير سبيل القبول. فإن كان شيء من المواد ليس هكذا فليس هو مادة إلا باشتراك الاسم فيكون إن كان الشيء المفروض ثابتا ليس على صفة المادة إلا باشتراك الاسم، فالمعلول الأول لا تكون نسبته إليه على إنه صورة في مادة إلا باشتراك الاسم، فإن كان هذا الثاني من جهة توجد عنه هذه المادة، ومن جهة أخرى توجد صورة شيء آخر، حتى لا تكون الصورة الأخرى موجودة بتوسط المادة، كانت الصورة المادية تفعل فعلا لا يحتاج فيه إلى المادة، وكل شيء يفعل فعله من غير أن يحتاج إلى المادة فذاته أولا غنية عن المادة، فتكون الصورة المادية غنية عن المادة. وبالجملة فإن الصورة المادية وإن كانت علة للمادة في أن تخرجها إلى الفعل وتكملها فإن للمادة أيضا تأثيرا في وجودها وهو تخصيصها وتعيينها، وإن كان مبدأ الوجود من غير المادة كما قد علمت، فيكون لا محالة كل واحد منهما علة للأخرى في شيء، وليسا من جهة واحدة؛ ولولا ذلك لاستحال أن يكون للصورة المادية تعلق بالمادة بوجه من الوجوه؛ ولذلك قد سلف منا القول: أن المادة لا يكفي في وجودها الصورة فقط، بل الصورة كجزء العلة؛ وإذا كان كذلك فليس يمكن أن تجعل الصورة من كل وجه علة
    الصفحة : 216
    للمادة مستغنية بنفسها؛ فبين أنه لا يجوز أن يكون المعلول الأول صورة مادية أصلا ولا أن يكون مادة أظهر؛ فوجب أن يكون المعلول الأول صورة غير مادية أصلا بل عقلا، وأنت تعلم إن ههنا عقولا ونفوسا مفارقة كثيرة؛ فمحال أن يكون وجودها مستفادا بتوسط ما ليس له وجود مفارق؛ لكنك تعلم أن في جملة الموجودات عن الأول أجساما؛ إذ علمت أن كل جسم ممكن الوجود في حيز نفسه وأنه يجب بغيره، وعلمت أنه لا سبيل إلى أن يكون عن الأول تعالى بغير واسطة، فهي كائنة عنه بواسطة وقد علمت أنه لا يجوز أن تكون الواسطة وحدة محضة لا اثنينية فيها، فقد علمت أن الواحد من حيث هو واحد إنما يوجد عنه واحد، فبالحرى أن يكون عن المبدعات الأول بسبب إثنينية يجب أن يكون فيها ضرورة أو كثرة كيف كانت، ولا يمكن في العقول المفارقة شيء من الكثرة إلا على ما أقول: إن المعلول بذاته ممكن الوجود، وبالأول واجب الوجود، ووجوب وجوده بأنه عقل، وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول ضرورة، فيجب أن يكون فيه من الكثرة معنى عقله لذاته ممكنة الوجود في حيزها، وعقله وجوب وجوده من الأول المعقول بذاته، وعقله للأول، وليست الكثرة له عن الأول؛ فإن إمكان وجوده أمر له بذاته لا بسبب الأول، بل له من الأول وجوب وجوده، ثم كثرة أنه يعقل الأول ويعقل ذاته كثرة لازمة لوجوب وجوده عن الأول، ونحن لا نمنع أن يكون عن شيء واحد ذات واحدة، ثم يتبعها كثرة إضافية ليست في أول وجوده ولا داخلة في مبدأ قوامه، بل يجوز أن يكون الواحد يلزم عنه واحد، ثم ذلك الواحد يلزمه حكم وحال، أو صفة، أو معلول؛ ويكون ذلك أيضا واحدا؛ ثم يلزم عنه بمشاركة ذلك اللازم شيء، فيتبع من هناك كثرة كلها يلزم ذاته، فيجب إذن أن تكون مثل هذه الكثرة هي العلة لإمكان وجود الكثرة فيها عن المعلولات الأٌول، ولولا هذه الكثرة لكان لا يمكن أن يوجد منه إلا واحدة، ولم يمكن أن يوجد عنها جسم، ثم لا إمكان للكثرة هناك إلا على هذا الوجه فقط، وقد بان لنا فيما سلف أن العقول المفارقة كثيرة العدد، فليست إذن موجودة معا عن الأول بل يجب أن يكون أعلاها هو الموجود الأول عنه ثم يتلوه عقل وعقل؛ ولأن تحت كل عقل فلكا بمادته وصورته التي هي النفس وعقلا دونه، فتحت كل عقل ثلاثة أشياء في الوجود، فيجب أن يكون إمكان وجود هذه الثلاثة عن العقل الأول في الإبداع لأجل التثليث المذكور، والأفضل يتبع الأفضل من جهات كثيرة، فيكون إذن العقل الأول يلزم عنه بما يعقل الأول وجود عقل تحته، وبما يعقل ذاته وجود صورة الفلك الأقصى، وكمالها وحي النفس، وبطبيعة إمكان الوجود الحاصلة له المندرجة في تعقله لذاته وجود جرمية الفلك الأقصى المندرجة في جملة ذلك الفلك الأقصى بنوعه، وهو الأمر المشارك للقوة فيما يعقل الأول، يلزم عنه عقل وبما يختص
    الصفحة : 217
    بذاته على جهة تلزم عنه الكثرة الأولى بجزئيها، أعني المادة والصورة، والمادة بتوسط الصورة أو بمشاركتها، كما أن إمكان الوجود يخرج إلى الفعل بالفعل الذي يحاذي صورة الفلك، وكذلك الحال في عقل عقل، وفلك فلك، حتى ينتهي إلى العقل الفعال الذي يدبر أنفسنا، وليس يجب أن يذهب هذا المعنى إلى غير النهاية حتى يكون تحت كل مفارق مفارق؛ فإنا نقول: إنه إن لزم وجود كثرة عن العقول فبسبب المعاني التي فيها من الكثرة. وقولنا هذا ليس ينعكس حتى يكون كل عقل فيه هذه الكثرة يلزم كثرته هذه المعلولات؛ ولا هذه العقول متفقة الأنواع، حتى يكون مقتضى معانيها متفقا. ولنبتدىء لبيان هذا المعنى ابتداء آخر فنقول: إن الأفلاك كثيرة فوق العدد الذي في المعلول الأول من جهة كثرته المذكورة، وخصوصاً إذا فصل كل فلك إلى صورته ومادته، فليس يجوز أن يكون مبدؤها واحدا هو المعلول الأول، ولا أيضا يجوز أن يكون كل جرم متقدم منها علة للمتأخر، وذلك لأن الجرم بما هو جرم لا يجوز أن يكون مبدأ جرم، وبما له قوة نفسانية لا يجوز أن يكون مبدأ جرم ذي نفس أخرى؛ وذلك لأنا بينا أن كل نفس لكل فلك فهي كماله وصورته وليس جوهراً مفارقاً وإلا لكان عقلا لا نفسا، وكان لا يتحرك ألبتة على سبيل التشوق وكان لا يحدث فيه من حركة الجرم تغير، ومن مشاركة الجرم تخيل وتوهم، وقد ساقنا النظر إلى إثبات هذه الأحوال لأنفس الأفلاك كما علمت، وإذا كان الأمر على هذا، فلا يجوز أن تكون أنفس الأفلاك تصدر عنها أفعال في أجسام أخرى غير أجسامها إلا بوساطة أجسامها، فإن صور الأجسام وكمالاتها على صنفين: إما صور قوامها بمواد الأجسام، فكما أن قوامها بمواد تلك الأجسام، فكذلك ما يصدر عن قوامها يصدر بواسطة مواد تلك الأجسام؛ ولهذا السبب فإن النار لا تسخن حرارتها أي شيء اتفق بل ما كان ملاقياً لجرمها، أو من جسمها بحال. والشمس لا تضيء كل شيء، بل ما كان مقابلا لجرمها. وإما صور قوامها بذاتها لا بمواد الأجسام، كالأنفس؛ ثم كل نفس فإنما جعلت خاصة لجسم بسبب أن فعلها بذلك الجسم وفيه. ولو كانت مفارقة الذات والفعل جميعا لذلك الجسم، لكانت نفس كل شيء لا نفس ذلك الجسم فقط. فقد بان على الوجوه كلها أن القوى السماوية المنطبعة بأجسامها، لا تفعل إلا بواسطة جسمها. ومحال أن تفعل بواسطة الجسم نفسا، لأن الجسم لا يكون متوسطا بين نفس ونفس؛ فإن كانت تفعل نفساً بغير توسط الجسم فلها انفراد قوام من دون الجسم واختصاص بفعل مفارق لذاتها وذات الجسم. وهذا غير الأمر الذي نحن في ذكره، وإن لم تفعل نفسا، لم تفعل جرما سماويا؛ لأن النفس متقدمة على الجسم في المرتبة و الكمال؛ فإن وضع لكل فلك شيء يصدر عنه في فلكه شيء وأثر من
    الصفحة : 218
    غير أن يستغرق ذاته في شغل ذلك الجرم وبه، ولكن ذاته مباينة في القوام وفي الفعل لذلك الجسم، فنحن لا نمنع هذا، وهذا هو الذي نسميه العقل المجرد، ونجعل صدور ما بعده عنه، ولكن هذا غير المنفعل عن الجسم وغير المشارك إياه، والصائر صورة خاصة به، والكائن عن الجهة التي حدثنا عنها حين أثبتنا هذه النفس. فقد بان ووضح أن للأفلاك مباديء غير جرمانية، وغير صور الأجرام. وأن كل فلك يختص بمبدأ منها، والجميع يشترك في مبدأ واحد. ومما لا شك فيه أن ههنا عقولا بسيطة مفارقة، تحدث مع حدوث أبدان الناس، ولا تفسد بل تبقى. وقد تبين ذلك في العلوم الطبيعية، وليست صادرة عن العلة الأولى؛ لأنها كثيرة مع وحدة النوع، ولأنها حادثة فهي إذن معلولات الأول بتوسط. ولا يجوز أن تكون العلل الفاعلية المتوسطة بين الأولى وبينها، دونها في المرتبة؛ فلا تكون عقولا بسيطة ومفارقة؛ فإن العلل المعطية للوجود أكمل وجودا، أما القابلة للوجود فقد تكون أخس وجودا؛ فيجب إذن أن يكون المعلول الأول عقلا واحداً بالذات، ولا يجوز أيضاً أن تكون عنه كثرة متفقة النوع؛ وذلك لأن المعاني المتكثرة التي فيه، وبها يمكن وجود الكثرة فيه إن كانت مختلفة الحقائق، كان ما يقتضيه كل واحد منها شيئاً غير ما يقتضي الآخر في النوع. فلم يلزم كل واحد منها ما يلزم الآخر، بل طبيعة أخرى وأن كانت متفقة الحقائق فبماذا تخالفت وتكثرت، ولا انقسام مادة هناك؟ فإذن المعلول الأول لا يجوز عنه وجود كثرة إلا مختلفة الأنواع، فليست هذه الأنفس الأرضية أيضاً كائنة عن المعلول الأول بلا توسط علة أخرى موجودة؛ وكذلك عن كل معلول أول عال حتى ينتهي إلى معلول أول كونه مع كون الاسقاطات القابلة للكون والفساد، المتكثرة بالنوع والعدد معا. فيكون تكثر القابل سببا لتكثر فعل مبدأ واحد بالذات. وهذا بعد استتمام وجود السماويات كلها؛ فيلزم دائما عقل بعد عقل حتى تتكون كرة القمر ثم تتكون الاسقاطات، وتتهيأ لقبول تأثير واحد بالنوع كثير بالعدد عن العقل الأخير. فإنه إذا لم يكن السبب في الفاعل، وجب في القابل ضرورة. فإذن يجب أن يحدث عن كل عقل عقل تحته، ويقف حيث يمكن أن تحدث الجواهر العقلية منقسمة متكثرة بالعدد، لتكثر الأسباب، فهناك ينتهي. وقد اتضح وبان أن كل عقل هو أعلى في المرتبة، فإنه لمعنى فيه، وهو أنه بما يعقل الأول يجب عنه وجود عقل آخر دونه، وبما يعقل ذاته يجب عنه فلك بنفسه وجرمه وجرم الفلك كائن عنه، ومستبقى بتوسط النفس الفلكية؛ فإن كل صورة فهي علة لأن يكون مادتها بالفعل، لأن المادة نفسها لا قوام لها.
    الفصل الخامس (ه)
    الصفحة : 219
    فصل في حال تكون الإسطقسات عن العلل الأوائل.
    فإذا استوفت الكرات السماوية عددها، لزم بعدها وجود اسطقسات، وذلك لأن الأجسام الاسسطقسية كائنة فاسدة، فيجب أن تكون مبادئها القريبة أشياء تقبل نوعا من التغير والحركة، وأن لا يكون ما هو عقل محض وحده سببا" لوجودها، وهذا يجب أن يتحقق من أصول، أن يتحقق من أصول، أكثرنا التكرار فيها، وفرغنا من تقريرها. ولهذه الاسطقسات مادة يشترك فيها، وصور يختلف بها، وصور يختلف بها، فيجب أن يكون اختلاف صورها مما يعين فيه اختلاف في أ في وال الأفلاك، وأن يكون اتفاق مادتها مما يعين فيه اتفاق في أحوال الأفلاك. والأفلاك تتفق في طبيعة اقتضاء الحركة المستديرة، فيجب أن يكون مقتضى تلك الطبيعة يعين في وجود المادة، ويكون ما يختلف فيه مبدأ تهيء المادة للصور المختلفة، لكن الأمور الكثيرة المشتركة في النوع والجنس لا تكون وحدها بلا مشاركة من واحد معين علة لذات هي نفسها متفقة واحدة، وإنما يقيمها غيرها؛ ولا يوجد إذن هذا الواحد عنها إلا بارتباط بواحد يردها إلى أمر واحد، فيجب أن تكون العقول المفارقة بل آخرها الذي يلينا هو الذي يفيض عنه - بمشاركة الحركات السماوية - شيء فيه رسم صور العالم الأسفل على جهة الانفعال؛ كما أن في ذلك العقل أو العقول رسم الصور على جهة التفعيل، ثم تفيض منه الصور فيها بالتخصيص لا بانفراد ذاته، فإن الواحد يفعل في الواحد - كما علمت - واحدة، بل بمشاركة الأجسام السماوية؛ فيكون إذا خصص هذا الشيء تأثير من التأثيرات السماوية بلا
    واسطة جسم عنصري، أو بواسطة تجعله على استعداد خاص بعد العام الذي كان ذلك في جوهره، فاض عن هذا المفارق صورة خاصة، وارتسمت في تلك المادة. وأنت تعلم إن الواحد لا يخصص الواحد من حيث كل واحد منهما واحد، بأمر دون أمر يكون له، بل يحتاج إلى أن تكون هناك مخصصات مختلفة، ومخصصات المادة معداتها، والمعد هو الذي يحدث عنه في المستعد أمر ما، تصير مناسبته لذلك الأمر لشيء بعينه أولى من مناسبته لشيء آخر، فيكون هذا الإعداد مرجحا" لوجود ما هو أولى فيه من الأوائل الواهبة للصور، ولو كانت المادة على التهيؤ الأول وتشابهت نسبتها إلى الضدين فما يرجح أحدهما؛ اللهم إلا بحال تختلف به المؤثرات فيه، وذلك الاختلاف أيضا" منسوب إلى جميع المواد نسبة واحدة، فلا يجب أن نختص بموجبة مادة دون مادة إلا لأمر أيضا يكون في تلك المادة، وليس إلا الاستعداد الكامل، وليس الاستعداد الكامل إلا مناسبة كاملة
    الصفحة : 220
    لشيء بعينه هو المستعد لها؛ وهذا مثل الماء إذا أفرط تسخينه فاجتمعت السخونة الغريبة، والصورة المائية، وهي بعيدة المناسبة للصورة المائية وشديدة المناسبة للصورة النارية. فإذا أفرط ذلك واشتدت المناسبة للصورة النارية فإذا أفرط ذلك واشتدت المناسبة اشتد الاستعداد، فصار من حق الصورة النارية أن تفيض، ومن حق هذه أن تبطل؛ ولأن المادة ليست تبقى بلا صورة، فليس قوامها عن ما ينسب إليه من المباديء الأولى وحدها بل عنها وعن الصورة. ولأن الصورة التي تقيم هذه المادة الآن قد كانت المادة قائمة دونها، فليس قوامها عن الصورة وحدها بل بها، و بالمبادىء الباقية بواسطتها أو واسطة أخرى مثلها. فلو كانت من المبادىء الأولى وحدها لاستغنت عن الصورة، ولو كانت عن الصورة وحدها لما سبقت بالصورة، بل كما أن المتفق فيه من الحركة المستدير هناك يلزم طبيعة تقيمها الطبائع الخاصة بفلك فلك. فكذلك المادة ههنا يقيمها مع الطبيعة المشتركة ما يكون عن الطبائع الخاصة وهي الصور. وكما أن الحركة أخس الأحوال هناك، فكذلك المادة الذوات ههنا. وكما أن الحركة هناك تابعة لطبيعة ما بالقوة، كذلك المادة ههنا مرافقة لما بالقوة. وكما أن الطبائع الخاصة والمشتركة هناك مبادىء أو معينات لطبيعة الخاصة والمشتركة ههنا، فكذلك ما يلزم الطبائع الخاصة والمشتركة هناك من النسب المختلفة المتبدلة الواقعة فيها بسبب الحركة مبدأ لتغير الأحوال وتبدلها ههنا، وكذلك امتزاج نسبتها هناك سبب لامتزاج نسب هذه العناصر أو معين. ولأجسام السماويات تأثير في أجسام هذا العالم بالكيفيات التي تخصها، ويسرى منها إلى هذا العالم، ولأنفسها تأثير أيضا في أنفس هذا العالم. وبهذه المعاني يعلم أن الطبيعة التي هي مدبرة لهذه الأجسام بالكمال والصورة، حادية عن النفس الفاشية في الفلك، أو بمعونتها. وقال قوم من المنتسبين إلى هذا العلم: إن الفلك لأنه مستدير فيجب أن يستدير على شيء ثابت في حشوه، فيلزم محاكته له التسخين حتى يستحيل نارا"، ومما يبعد عنه يبقى ساكنا، فيصير إلى التبرد و التكثف حتى يصير أرضا"، وما يلي النار منه يكون حارا"، ولكنه أقل حرارة من النار؛ وما يلي الأرض يكون كثيفا، ولكنه أقل تكثفا" من الأرض وقلة الحر وقلة التكثف يوجبان الترطيب، فإن اليبوسة إما من الحر، وإما من البرد؛ لكن الرطب الذي يلي الأرض هو أبرد، والذي يلي النار هو أشد حرارة، فهذا سبب كون العناصر؛ فهذا هو ما قد قالوا وليس ما يمكن أن يصحح بالكلام القياسي، ولا هو بسديد عند التفتيش، ويشبه أن يكون الأمر على قانون آخر، وأن تكون هذه المادة التي تحدث بالشركة يفيض إليها
    الصفحة : 221
    من الأجرام السماوية، إما عن أربعة أجرام، وإما عن عدة منحصرة في أربع جمل، عن كل واحد منها ما يتهيأ لصور جسم بسيط. فإذا استعد نال الصورة من واهب الصور، أو يكون ذلك كله يفيض عن جرم واحد، وأن يكون هناك سبب يوجب انقساما من الأسباب الخفية علينا، فإنك إن أردت أن تعرف ضعف ما قالوه، تتأمل أنهم يوجبون أن يكون الوجود أولا للجسم، وليس له في نفسه إحدى الصور المقومة غير الصور الجسمية، وإنما يكتسب سائر الصور بالحركة والسكون ثانيا؛ وبيّنا نحن قبل هذا استحالة هذا، وبيّنا أن الجسم لا يستكمل له وجود بمجرد الصورة الجسمية، ما لم تقترن بها صورة أخرى، وليست المقيمة للهيلولى الأبعاد فقط، فإن الأبعاد تتبع في وجودها صورا أخرى تسبق الأبعاد. و إن شئت فتأمل حال التخلخل من الحرارة، و التكاثف من البرودة، بل الجسم لا يصير جسما حتى يصير بحيث يتبع غيره في الحركة، حتى تسخنه متابعته تلك الحركات المتتابعة التي بيّنا أنها ليست قسرية بل طبيعية، إلا وقد تمت طبيعته. لكن يجوز أن يكون إذا تمت طبيعته يستحفظ بأصلح المواضع لاستحفاظها، لأن الحار يستحفظ حيث الحركة، والبارد يستحفظ حيث السكون، ثم لا يفكرون أنه لم وجب لبعض تلك المادة أن يهبط إلى المركز، فعرض له البرودة، ولبعضه أن جاوز الفوق. أما الآن فإن السبب في ذلك معلول. أما في الكليات فالخفة والثقل، وأما في جزئي عنصر واحد، فلأنه قد صح أن أجزاء العناصر كائنة، وأنه إذا تكون جزء منه في موضع ضرورة، لزم أن يكون سطح منه يلي الفوق إذا تحرك فوق، كان ذلك السطح أولى بالفوقية من السطح الآخر. وأما في أول تكونه، فإنما يصير سطح منه إلى فوق، وسطح إلى أسفل، لأنه لا محال قد استحال بحركة ما، وأن الحركة أوجبت له ضرورة وضعا ما. فلأشبه عندي ما قد ذهبنا إليه، وأظن أن الذي قال ذلك في تكون الاسطقسات، رام تقريبا" للأمر عند بعض من كتابه من العاميين، فجزم عليه القول من تأخر عنهم على أن كاتب ذلك الكلام شديد التذبذب و الاضطراب.
    الفصل السادس: (و)
    الصفحة : 222

    علي العذاري غير متواجد حالياً
    رد مع اقتباس
  11. تكبير الخط تصغير الخط
    بتاريخ : 09-02-2012 الساعة : 08:38 AM رقم #16
    كاتب الموضوع : علي العذاري


    شاملى مميز


    • بيانات علي العذاري
      رقم العضوية : 6016
      عضو منذ : Jan 2012
      الدولة : ariq
      المشاركات : 141
      بمعدل : 0.03 يوميا
      معدل تقييم المستوى : 14
      التقييم : Array


  12. فصل في العناية وبيان كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي.
    وخليق بنا إذا بلغنا هذا المبلغ، أن نحقق القول في العناية، ولا شك أنه قد أتضح لك مما سلف منا بيانه أن العلل العالية لا يجوز أن تكون تعمل ما تعمل لأجلنا، أو تكون الجملة يهمها شيء ويدعوها داع ويعرض لها إيثار. ولا لك سبيل إلى أن تنكر الآثار العجيبة في تكون العالم، وأجزاء السماوات، وأجزاء الحيوان والنبات؛ مما لا يصدر ذلك اتفاقا، بل يقتضي تدبيرا ما، فيجب أن يعلم أن العناية هي كون الأول عالما بذاته لما عليه الوجود في نظام الخير، وعلة لذاته للخير و الكمال بحسب الإمكان، وراضيا به على النحو المذكور، فيعقل نظام الخير على الوه الأبلغ في الإمكان فيفيض عنه ما يعقله نظاما وخيرا على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضانا على أتم تأدية إلى النظام، بحسب الإمكان، فهذا هو معنى العناية. واعلم أن الشر يقال على وجوه: فيقال شر، لمثل النقص الذي هو الجهل والضعف والتشويه في الخلقة؛ ويقال: شر، لما هو مثل الألم والغم الذي يكون إدراك ما بسبب لا فقد سبب فقط. فإن السبب المنافي للخير المانع للخير، والموجب لعدمه، ربما كان مباينا لا يدركه المضرور؛ كالسحاب إذا ظل فمنع شروق الشمس عن المحتاج إلى أن يستكمل بالشمس. فإن كان هذا المحتاج داركا، أدرك أنه غير منتفع ولم يدرك من حيث يدرك ذلك أن السحاب قد حال، بل من حيث هو مبصر وليس هو من حيث هو مبصر متأذيا بذلك، متضررا أو متناقصا من حيث هو شيء آخر، وربما كان مواصلا يدركه مدرك عدم السلامة كمن يتألم بفقدان اتصال عضو بحرارة ممزقة، فأنه من حيث يدرك فقدان الاتصال بقوة في نفس ذلك العضو، يدرك المؤذي الحار أيضا فيكون قد أجتمع هناك إدراكان: إدراك على نحو ما سلف من إدراكنا للأشياء العدمية، وإدراك على ما نحو سلف من إدراكنا الأمور الوجودية وهذا المدرك الوجودي ليس شرا في نفسه بل بالقياس إلى هذا الشيء. وأما عدم كماله وسلامته فليس شرا بالقياس إليه فقط، حتى يكون له وجود ليس هو به شرا، بل وليس نفس وجوده إلا شرا فيه، وعلى نحو كونه شرا، فإن العمى لا يجوز إلا أن يكون في العين، ومن حيث هو في العين لا يجوز أن يكون إلا شرا، وليس لهو جهة أخرى حتى يكون بها غير شر. وأما الحرارة مثلا إذا صارت شرا بالقياس إلى المتألم بها، فلها جهة أخرى تكون بها غير شر؛ فالشر بالذات وهو العدم ولا كل عدم، بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطباعته، والشر بالعرض هو المعدوم، أو الحابس للكمال عن
    الصفحة : 223
    مستحقه، ولا خير عن عدم مطلق إلا عن لفظه، فليس هو بشر حاصل، ولو كان له حصول ما لكائن الشر العام. فكل شيء وجوده على كماله الأقصى، وليس فيه ما بالقوة، فلا يلحقه شر، وإنما الشر ليلحق ما في طباعه ما بالقوة، وذلك لأجل المادة. والشر يلحق المادة لأمر أول يعرض لها في نفسها، ولأمر طاريء من بعد. فأما الأمر الذي في نفسها، فأن يكون قد عرض لمادة ما في أول وجودها بعض أسباب الشر الخارجة، فتمكن منها هيئة من الهيئات؛ تلك الهيئة يمانع استعدادها الخاص الكمال الذي منيت بشر يوازيه، مثل المادة التي يتكون منها إنسان أو فرس، إذا عرض لها من الأسباب الطارئة ما جعلها أردأ مزاجا وأعصى جوهرا، فلم تقبل التخطيط والتشكيل والتقويم، فتشوهت الخلقة ولم يوجد المحتاج إليه من كمال المزاج والبنية، لا لأن الفعل حرم، بل لأن المنفعل لم يقبل. وأما الأمر الطارىء من خارج فأحد شيئين: إما مانع وحائل ومبعد للمكمل، وإما مضاد واصل ممحق للكمال. مثال الأول وقوع سحب كثيرة وتراكمها، وإضلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال. ومثال الثاني حبس البرد من النبات المصيب لكماله في وقته، حتى يفسد الاستعداد الخاص وما يتبعه. وجميع سبب الشر إنما يوجد فيما تحت فلك القمر وجملة ما تحت فلك القمر طفيف بالقياس إلى سائر الوجود كما علمت. ثم الشر إنما يصيب أشخاصا، وفي أوقات. والأنواع محفوظة، وليس الشر الحقيقي يعم أكثر الأشخاص، إلا نوعا من الشر. وأعلم أن الشر الذي هو بمعنى العدم، إما أن يكون شرا بحسب أمر واجب أو نافع قريب من الواجب، وإما أن لا يكون شرا بحسب ذلك، بل شرا بحسب الأمر الذي هو ممكن في الأقل. ولو وجد كان على سبيل ما هو فضل من الكمالات التي بعد الكمالات الثانية، ولا مقتضى له من طباع الممكن هو فيه. وهذا القسم غير الذي نحن فيه، وهو الذي استثنيناه، هذا وليس هو شرا بحسب النوع، بل بحسب اعتبار زائد على واجب النوع كالجهل بالفلسفة، أو بالهندسة أو غير ذلك،فإن ذلك ليس شرا من جهة ما نحن ناس، بل هو شر بحسب كمال الإصلاح في أن يعمم، وستعرف أنه إنما ما يكون بالحقيقة شر إذا اقتضاه شخص إنسان، أو شخص نفسه، وإنما يقتضيه الشخص لا لأنه إنسان أو نفس، بل لأنه قد ثبت عنده حسن ذلك وأشتاق إليه، وأستعد لذلك الاستعداد كما سنشرح لك بعد. وأما قبل ذلك فليس مما ينبعث الشيء إليه في بقاء طبيعة النوع انبعاثه إلى الكمالات الثانية التي تتلو الكمال الأول، فإذا لم يكن، كان عدما" في أمر ما يقتضي في الطباع. فالشر في أشخاص الموجودات قليل، ومع ذلك
    الصفحة : 224
    فأن وجود الشر في الأشياء ضرورة تابعة للحاجة إلى الخير، فإن هذه العناصر لو لم تكن بحيث تتضاد وتنفعل عن الغالب، ولم يمكن أن تكون عنها هذه الأنواع الشريفة، ولو لم تكن النار منها بحيث إذا تأدت بها المصادمات الواقعة في مجرى الكل على الضرورة إلى ملاقاة رداء رجل شريف، وجب احتراقه، لم تكن النار منتفعا بها النفع العام، فوجب ضرورة أن يكون الخير الممكن في هذه الأشياء إنما يكون خيرا" بعد أن يمكن وقوع مثل هذا الشر عنه ومعه، فإفاضة الخير لا توجب أن يترك الخير الغالب لشر يندر، فيكون تركه شرا من ذلك الشر، لأن عدم ما يمكن في طباع المادة وجوده إذا كان عدمان شرا من عدم واحد، ولهذا ما يؤثر العاقل الاحتراق بالنار بشرط أن يسلم منها حيا على الموت بلا ألم. فلو ترك هذا القبيل من الخير لكان يكون ذلك شرا فوق هذا الشر الكائن بأيجاده، وكان في مقتضى العقل المحيط بكيفية وجوب الترتيب في نظام الخير أن يعقل استحقاق مثل هذا النمط من الأشياء وجودا محجوزا ما يقع معه من الشر ضرورة، فوجب أن يفيض وجوده، فإن قال قائل: فقد كان جائزا" أن يوجد المدبر الأول خيرا محضا مبرأ عن الشر، فنقول: هذا لم يكن جائزا" في مثل هذا النمط من الوجود، وإن كان جائزا في الوجود المطلق على أنه ضرب من الوجود المطلق مبرأ، ليس هذا الضرب، وذلك مما قد فاض عن المدبر الأول، ووجد في الأمور العقلية والنفسية والسماوية، وبقى هذا النمط في الإمكان ولم يكن ترك إيجاده لأجل ما قد يخالطه من الشر الذي إذا لم يكن مبدؤه موجودا" أصلا، وترك لئلا يكون هذا الشر كان ذلك شرا من أن يكون هو فكونه خير الشرين، ولكان أيضا" يجب أن لا توجد الأسباب الخيرية التي هي قبل هذه الأسباب التي تؤدي إلى الشر بالعرض، فإن وجود تلك مستتبع لوجود هذه، فكان فيه أعظم خلل في نظام الخير الكلي، بل وإن لم نلتفت إلى ذلك، وقصرنا إلتفاتنا إلى ما ينقسم إليه الإمكان في الوجود من أصناف الموجودات المختلفة في أحوالها، فكان الوجود المبرأ من الشر قد حصل، وبقى نمط من الوجود إنما يكون على هذه السبيل، ولا كونه أعظم شرا من كونه، فواجب أن يفيض وجوده من حيث يفيض عنه الوجود الذي هو أصوب، وعلى النمط الذي قيل؛ بل نقول من رأس: إن الشر يقال على وجوه، فيقال شر للأفعال المذمومة، ويقال شر لمبادئها من الأخلاق، ويقال شر للآلام والغموم وما يشبهها، ويقال شر النقصان كل شيء عن كماله وفقدانه ما من شأنه أن يكون له. فكأن الآلام والغموم، وإن كانت معانيها وجودية ليست أعداما"، فانها تتبع الإعدام والنقصان، والشر الذي هو في الأفعال هو أيضا إنما هو بالقياس إلى من يفقد كماله بوصول ذلك إليه، مثل الظلم أو بالقياس إلى ما يفقد من كمال يجب في السياسة الدينية كالزنا، وكذلك الأخلاق إنما هي
    الصفحة : 225
    شروط بسبب صدور هذه عنها وهي مقارنة لأعدام النفس كمالات يجب أن تكون لها، ولا تجد شيئا" مما يقال له شر من الأفعال إلا وهو كمال للقياس إلى سببه الفاعل له، وعسى إنما هو شر بالقياس إلى السبب القابل له، أو بالقياس إلى فاعل آخر يمنع عن فعله في تلك المادة التي هو أولى بها من هذا الفعل، فالظلم يصدر مثلا عن قوة صلابة للغلبة وهي الغضبية مثلا، والغلبة هي كمالها، ولذلك خلقت من حيث هي غضبية، يعني أنها خلقت لتكون متوجهة إلى الغلبة، تطلبها وتفرح بها، فهذا الفعل بالقياس إليها خير لها، وإن ضعفت عنه، فهو بالقياس أليها شر لها، وإنما هي شر للمظلوم، أو للنفس المنطقية التي كمالها كسر هذه القوة والاستيلاء عليها، فإن عجزت عنه كان شرا لها، وكذلك السبب في الفاعل للآلام والإحراق كالنار إذا أحرقت مثلا فإن الإحراق كمال للنار، لكنه شر بالقياس إلى من سلب سلامته من ذلك، لفقدانه ما فقد. وأما الشر الذي سببه النقصان وقصور يقع في الجبلة، وليس فاعلا فعله، بل لأن الفاعل لم يفعله، فليس ذلك بالحقيقة خيرا بالقياس إلى شيء؛ وأما الشرور التي تتصل بأشياء هي خيرات، فإنما هي من سببين: سبب من جهة المادة أنها قابلة للصورة والعدم، وسبب من جهة الفاعل؛ فإنه لما وجب أن يكون عنه الماديات، وكان مستحيلا أن يكون للمادة وجود الوجود الذي يغنى غن
    اء المادة ويفعل فعل المادة إلا أن يكون قابلا للصورة والعدم، وكان مستحيلا أن لا يكون قابلا للمتقابلات، وكان مستحيلا أن يكون للقوى الفعالة أفعال مضادة لأفعال أخرى، قد حصل وجودها وهي لا تفعل فعلها، فإنه من المستحيل أن يخلق ما يراد منه الغرض المقصود بالنار، وهي لا تحرق، ثم كان الكل إنما يتم بأن يكون فيه محترق ومسخن، وأن يكون فيه محرِك مسخّن لم يكن بد من أن يكون الغرض النافع في وجود هذين يستتبع آفات تعرض من الإحراق والاحتراق، كمثل إحراق النار عضو إنسان ناسك، لكن الأمر الأكثرى هو حصول الخير المقصود في الطبيعة، والأمر الدائم أيضا". أما الأكثرى فإن أكثر أشخاص الأنواع في كنف السلامة من الاحتراق، وأما الدائن فلأن أنواعا" كثيرة لا تستحفظ على الدوام إلا بوجود مثل النار على أن تكون محرق، وفي الأقل ما يصدر عن النيران الآفات التي تصدر عنها، وكذلك في سائر تلك الأسباب المشابهة لذلك؛ فما كان يحسن أن تترك المنافع الأكثرية والدائمة لأغراض شرية أقلية، فأريدت الخيرات الكائنة عن هذه الأشياء إرادة أولية على الوجه الذي يصلح أن يقال: إن الله تعالى يريد الأشياء، وأريد الشر أيضا" على الوجه الذي بالعرض، إذ علم أنه يكون ضرورة فلم يعبأ به، فالخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرض وكل بقدر. وكذلك فإن المادة قد علم من أمرها أنها تعجز عن أمور، وتقصر عنها الكمالات في أمور، لكنها يتم لها ما لا نسبة له
    الصفحة : 226
    كثيرا إلى ما يقصر عنها، فإذا كان كذلك فليس من الحكمة الإلهية أن تترك الخيرات الفائقة الدائنة والأكثرية لأجل شرور في أمور شخصية غير دائمة؛ بل نقول: إن الأمور في الوهم إما أمور إذا توهمت موجودة، يمتنع أن تكون إلا شرا على الإطلاق، وإما أمور وجودها أن يكون خيرا، ويمتنع أن تكون شرورا وناقصة؛ وإما أمور تغلب فيها الخيرية إذا وجدت وجودها، ولا يمكن غير ذلك لطباعها؛ وإما أمور تغلب فيها الشرية؛ وإما أمور متساوية الحالين. فأما ما لا شرية فيه، فقد وجد في الطباع؛ وأما ما كله شر أو الغالب أو المساوي أيضا" فلم يوجد. وأما الذي الغالب في وجوده الخير فالأحرى به أن يوجد، إذا كان الأغلب فيه أنه خير. فإن قيل: فلما لم تمنع الشرية عنه أصلا، حتى كان يكون كله خيرا"، فيقال حينئذ لم يكن هي هي إذ قلنا إن وجوده الوجود الذي يستحيل أن يكون، بحيث لا يعرض عنها شر فإذا صيرت بحيث لا يعرض عنها شر فلا أن يكون وجودها الوجود الذي بل يكون وجود أشياء أخرى وجدت وهي غيرها وهي حاصلة. أعني ما خلق بحيث لا يلزمه شر لزوما" أوليا". ومثال هذا، أن النار إذا كان وجودها أن تكون محرقة، وكان وجود المحرق هو أنه إذا مس ثوب الفقير أحرقه، وكان وجود ثوب الفقير أنه قابل للاحتراق وكان وجود كل واحد منهما أن يعرض له حركات شيء، وكان وجود الحركات الشتى في الأشياء على هذه الصفة وجود ما يعرض له الالتقاء، وكان وجود الالتقاء بين الفاعل والمنفعل بالطبع وجودا يلزمه الفعل والانفعال؛ فإن لم تكن الثواني لم تكن الأوائل، فالكل إنما رتبت فيه القوة الفعالة والمنفعلة السماوية والأرضية الطبيعية والنفسانية، بحيث تؤدي إلى النظام الكلي مع استحالة أن تكون هي على ما هي عليه ولا تؤدي إلى شرور. فيلزم من أحوال العالم بعضها بالقياس إلى بعض أن يحدث في نفس ما صورة اعتقاد ردىّ أو كفر أو شر آخر في نفس أو بدن، بحيث لو لم يكن كذلك لم يكن النظام الكلى يثبت، فلم يعبأ ولم يلتفت إلى اللوازم الفاسدة التي تعرض بالضرورة. وقيل: خلقت هؤلاء للنار ولا أبالى، وخلقت هؤلاء للجنة ولا أبالى، وقيل: كل ميسر لما خلق له. فإن قال قائل: ليس الشر شيئا نادرا أو اقليا، بل هو أكثرى. فليس هو كذلك بل الشر كثير، وليس بأكثرى، وفرق بين الكثير والأكثرى، فإن ههنا أمورا كثيرة هي كثيرة وليس بأكثرية كالأمراض، فإنها كثيرة وليست أكثرية. فإذا تأملت هذا الصنف الذي نحن في ذكره من الشر وجدته أقل من الخير الذي يقابله، ويوجد في مادته فضلا عنه بالقياس إلى الخيرات الأخرى الأبدية. نعم الشرور التي هي نقصانات للكمالات الثانية هي أكثرية، لكنها ليست من الشرور التي كلامنا فيها، وهذه الشرور مثل
    الصفحة : 227
    الجهل بالهندسة، ومثل فوت الجمال الرائع وغير ذلك مما لا يضر في الكمالات الأولى، ولا في الكمالات التي تليها مما يظهر منفعتها، وهذه الشرور ليس بفعل فاعل، بل لأن لا يفعل الفاعل لأجل أن القابل ليس مستعدا أو ليس يتحرك إلى القبول. وهذه الشرور هي أعدام خيرات من باب الفضل والزيادة.
    الفصل السابع (ز)
    فصل في المعاد.
    وبالحري أن نحقق ههنا في أحوال الأنفس الإنسانية إذا فارقت أبدانها، وأنها إلى أية حال تصير، فنقول: يجب أن يعلم أن المعاد منه ما هو منقول من الشرع ولا سبيل إلى إثباته إلا عن طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة وه الذي للبدن عند البعث، وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج إلى أن تعلم، وقد بسطت الشريعة الحقة التي أتانا بها نبينا وسيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وعلى آله حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن. ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني وقد صدقته النبوة وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس اللتان للأنفس وإن كانت الأوهام ههنا تقتصر على تصورهما الآن لما نوضح من العلل؛ والحكماء الإلهيون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية، بل كأنهم لا يلتفتون إلى تلك، وإن أعطوها، ولا يستعظمونها في جبنة هذه السعادة التي هي مقاربة الحق الأول، وهي على ما سنصفها عن قريب، فلنعرف حال هذه السعادة، والشقاوة المضادة لها فإن البدنية مفروغ منها في الشرع، فنقول: يجب أن تعلم أن لكل قوة نفسانية لذة وخيراً وأذى وشراً يخصها؛ مثاله أن لذة الشهوة وخيرها أن يتأدى إليها كيفية محسوسة ملائمة من الخمسة، ولذة الغضب الظفر، ولذة الوهم الرجاء، ولذة الحفظ الأمور الموافقة الماضية. وأذى كل واحد منها ما يضاده ويشترك كلها نوعاً من الشركة في أن الشعور بموافقتها وملائمتها هو الخير واللذة الخاصة بها، وموافق كل واحد منها بالذات والحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل، فهذا أصل. وأيضاً فإن هذه القوى وإن اشتركت في هذه المعاني فإن مراتبها في الحقيقة مختلفة، فالذي كماله أفضل وأتم، والذي كماله أكثر، والذي كماله أدوم، والذي كماله أوصل إليه واحصل له، والذي هو في نفسه
    الصفحة : 228
    أكمل فعلاً وأفضل، والذي هو في نفسه أشد إدراكاً؛ فاللذة التي له هي أبلغ وأوفر لا محالة، وهذا أصل. وأيضاً قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال ما بحيث يعلم أنه كائن ولذيذ ولا يتصور كيفيته ولا يشعر بالتذاذه ما لم يحصل، وما لم يشعر به لم يشتق إليه ولم ينزع نحوه، مثل العنين فإنه متحقق أن الجماع لذة لكنه لا يشتهيه ولا يحن نحوه الاشتهاء والحنين اللذين يكونان مخصوصين به، بل شهوة أخرى كما يشتهي من يجرب من حيث يحصل به إدراك وإن كان مؤذياً، وبالجملة، فإنه لا يتخيله. وكذلك حال الأكمة عند الصور الجميلة، والأصم عند الألحان المنتظمة، ولهذا يجب أن لا يتوهم العاقل أن كل لذة فهي كما للحمار في بطنه وفرجه، وأن المبادئ الأولى المقربة عند رب العالمين عادمة اللذة والغبطة، وأن رب العالمين ليس له في سلطانه وخاصيته البهاء الذي له وقوته الغير متناهية أمر في غاية الفضيلة والشرف والطيب نجله عن أن نسميه لذة، وللحمار والبهائم حالة طيبة ولذيذة، كلا بل أي نسبة تكون لما للعالية إلى هذه الخسيسة، ولكنا نتخيل هذا ونشاهده ولم نعرف ذلك بالاستشعار بل بالقياس، فحالنا عنده كحال الأصم الذي لم يسمع قط، في عدم تخيل اللذة اللحنية وهو متيقن لطيبها، وهذا أصل. وأيضاً فإن الكمال والأمر الملائم قد يتيسر للقوة الداركة وهناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه وتؤثر ضده عليه مثل كراهية بعض المرضى للطعم الحلو وشهوتهم للطعوم الردية الكريهات بالذات، وربما لم يكن كراهية، ولكن كان عدم الاستلذاذ به كالخائف يجد الغلبة أو اللذة فلا يشعر بها ولا يستلذها، وهذا أصل. وأيضاً فإنه قد تكون القوة الداركة ممنوه بما هو ضد ما هو كمالها ولا تحس به ولا تنفر عنه حتى إذا زال العائق ورجعت إلى غريزتها تأذت به مثل الممرور فربما لا يحس بمرارة فمه إلى أن يصلح مزاجه ويستنقي أعضاءه، فحينئذ ينفر عن الحال العارضة له، وكذلك قد يكون الحيوان غير مشته الغذاء البتة، بل كارها له، وهو أوفق شيء له ويبقى عليه مدة طويلة، فإذا زال العائق عاد إلى واجبه في طبعه، فاشتد جوعه وشهوته للغذاء حتى لا يصبر عنه ويهلك عند فقدانه، وقد يحصل سبب الألم العظيم مثل إحراق النار وتبريد الزمهرير إلا أن الحس مئوف فلا يتأذى البدن به حتى يزول الآفة فيحس حينئذ بالألم العظيم. فإذا تقررت هذه الأصول فيجب أن ننصرف إلى الغرض الذي نؤمه فنقول: إن النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن تصير عالماً عقلياً مرتسماً فيها صورة الكل والنظام المعقول في الكل والخير الفائض في الكل مبتدئة من نبدأ الكل سالكة إلى الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة ثم الروحانية المتعلقة نوعاً ما
    الصفحة : 229
    بالأبدان، ثم الأجسام العلوية بهيئاتها وقوامها، ثم كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله، فتنقلب عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود كلع مشاهدة لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحق المطلق ومتحدة به ومنتقشة بمثاله وهيئته ومنخرط في سلكه وصائرة من جوهره، فإذا قيس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى وجد في المرتبة التي بحيث يقبح معها أن يقال: إنه أفضل وأتم منها بل لا نسبة لها إليه بوجه من الوجوه فضيلة وتماماً وكثرة وسائر ما يتم به التذاذ المدركات مما ذكرناه. وأما الدوام فكيف يقاس الدوام الأبدي بدوام المتغير الفاسد. وأما شدة الوصول فكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله حتى يكون كأنه هو هو بلا انفصال؛ إذ العقل والعاقل و المعقول واحد أو قريب من الواحد، وأما أن المدرك في نفسه أكمل فأمر لا يخفى، وأما أنه أشد إدراكاً أيضاً فأمر تعرفه بأدنى تأمل وتذكر لما سلف بيانه، فإن النفس النطقية أكثر عدد مدركات، وأشد تقصياً للمدرك وأشد تجريداً له عن الزوائد الغير الداخلة في معناه إلا بالعرض ولها الخوض في باطن المدرك وظاهره، بل كيف يقاس هذا الإدراك بذلك الإدراك أو كيف تقاس هذه اللذة باللذة الحسية والبهيمية والغضبية، ولكنا في عالمنا وبدننا هذين وانغمارنا في الرذائل لا نحس بتلك اللذة إذا حصل عندنا شيء من أسبابها كما أومأنا إليه في بعض ما قدمناه من الأصول ولذلك لا نطلبها ولا نحن إليها اللهم إلا أن نكون قد خلعنا ربقة الشهوة والغضب وأخواتهما عن أعناقنا، وطالعنا شيئاً من تلك اللذة، فحينئذ ربما تخيلنا منها خيالاً طفيفاً ضعيفاً، وخصوصاً عند انحلال المشكلات واستيضاح المطلوبات النفسية ونسبة التذاذنا هذا إلى التذاذ ذلك، ونسبة التذاذ الحسي بنشق روائح المذاقات اللذيذة إلى الالتذاذ بتطعمها، بل ابعد من ذلك بعداً غير محدود. وأنت تعلم إذا تأملت عويصاً يهمك وعرضت عليك شهوة وخيرت بين الظفرين، استخففت بالشهوة إن كنت كريم النفس؛ والأنفس العامية أيضاً فإنها تترك الشهوات المعترضة وتؤثر الغرامات والآلام الفادحة بسبب افتضاح او خجل أو تغيير أو سوء قاله. وهذه كلها أحوال عقلية تؤثر هي وأضداد )ها( على المؤثرات الطبيعية ويصبر لها على المكروهات الطبيعية فيعلم من ذلك أن الغايات العقلية أكرم على النفس من محقرات الأشياء فكيف الأمور البهية العالية؟ إلا أن النفس الخسيسة تحس بما يلحق المحقرات من الخير والشر، ولا تحس بما يلحق الأمور البهية لما قيل من المعاذير. وأما إذا انفصلنا عن البدن، وكانت النفس منا تنبهت في البدن لكمالها الذي هو معشوقها ولم تخصله، وهي بالطبع نازعة إليه إذ عقلت بالفعل أنه موجود. إلا أن اشتغالها بالبدن كما قلنا قد أنساها ذاتها
    الصفحة : 230
    ومعشوقها كما ينسى المرض الحاجة إلى بدل مل يتحلل وكما ينسى المرض الاستلذاذ بالحلو واشتهاؤه، ويميل بالشهوة من المريض إلى المكروهات في الحقيقة عرض لها حينئذ من الألم لفقدانه كفاء ما يعرض من اللذة التي أوجبنا وجودها ودللنا على عظم منزلتها، فيكون ذلك هو الشقاوة والعقوبة التي لا يعد لهما تفريق النار للاتصال وتبديل الزمهرير للمزاج، فيكون مثلنا حينئذ مثل الخدر الذي أومأنا إليه فيما سلف، أي الذي قد عملت فيه نار أو زمهرير، فمنعت المادة الملابسة وجه الحس عن الشعور به فلم يتأذ، ثم عرض أن أزال العائق فشعر بالبلاء العظيم. وأما إذا كانت القوة العقلية بلغت من النفس حداً من الكمال يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال التام الذي لها أن تبلغه، كان مثلها مثل الخدر الذي أذيق المطعم الألذ وعرض للحالة الأشهى وكان لا يشعر به، فزال عنه الخدر وطالع اللذة العظيمة دفعة، وتكون تلك اللذة لا من جنس اللذة الحسية والحيوانية بوجه، بل لذة تشاكل الحال الطيبة التي هي للجواهر الحية المحضة، وهي أجل من كل لذة وأشرف. فهذه هي السعادة وتلك هي الشقاوة، وتلك الشقاوة ليست تكون لكل واحد من الناقصين، بل للذين اكتسبوا للقوة العقلية التشوق إلى كمالها وذلك عندما يبرهن لهم أن من شأن النفس إدراك ماهية الكل بكسب المجهول من المعلوم والاستكمال بالفعل، فإن ذلك ليس فيها بالطبع الأول، ولا أيضاً في سائر القوى، بل شعوراً أكثر القوى بكمالاتها إنما يحدث بعد أسباب. وأما النفوس والقوى الساذجة الصرفة، فكأنها هيولي موضوعة، لم تكتسب البتة هذا التشوق؛ لأن هذا التشوق إنما يحدث حدوثاً وينطبع في جوهر النفس إذا برهن للقوة النفسانية أن ههنا أموراً يكتسب العلم بها الحدود الوسطى على ما علمت. وأما قبل ذلك فلا يكون، لأن هذا التشوق يتبع رأياً؛ غذ كل شوق يتبع رأياً، وليس هذا الرأي للنفس رأياً أولياً بل رأياً مكتسباً. فهؤلاء إذا اكتسبوا هذا الرأي، لزم النفس ضرورة هذا الشوق؛ وإذا فارقت ولم يحصل معها ما تبلغ به بعد الانفصال التام وقعت في هذا النوع من الشقاء الأبدي؛ لأن أوائل الملكة العلمية إنما كانت تكتسب بالبدن لا غير وقد فات، وهؤلاء إما مقصرون عن السعي في كسب الكمال الأسنى، وإما معاندون جاحدون متعصبون لآراء فاسدة مضادة للآراء الحقيقية، والجاحدون أسوأ حالاً لما اكتسبوا من هيآت مضادة للكمال. وأما أنه ينبغي أن يحصل عند نفس الإنسان من تصور المعقولات حتى يجاوز به الحد الذي في مثله تقع هذه الشقاوة، وفي تعديه وجوازه ترجى هذه السعادة، فليس يمكنني أن أنص عليه نصاً إلا بالتقريب. وأظن أن ذلك أن يتصور نفس الإنسان المبادئ المفارقة تصوراً حقيقياً، وتصدق بها تصديقاً يقينياً لوجودها عندها بالبرهان وتعرف العلل الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون
    الصفحة : 231
    الجزئية التي لا تتناهى، وتتقرر عندها هيئة الكل ونسب أجزاء بعضها إلى بعض، والنظام الآخذ من المبدأ الأول إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه، وتتصور العناية وكيفيتها، وتتحقق أن الذات المتقدمة للكل أي وجود يخصها، وأية وحدة تخصها، وأنها تعرف حتى لا يلحقها تكثر وتغير بوجه من الوجوه، وكيف ترتيب نسبة الموجودات إليها. ثم كلما ازداد الناظر استبصاراً ازداد للسعادة استعداداً، وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه إلا أن يكون أكد العلاقة مع ذلك العالم فصار له شوق إلى ما هناك وعشق لما هناك فصده عن الالتفات إلى ما خلفه جملة. ونقول أيضاً: إن هذه السعادة الحقيقية لا تتم إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس، ولنقدم لذلك مقدمة، وكأنا قد ذكرناها فيما سلف، فنقول: إن الخلق هو ملكة يصدر بها من النفس أفعالاً ما بسهولة من غير تقدم روية، وقد أمر في كتب الأخلاق بأن يستعمل التوسط بين الخلقين الضدين لا بأن أفعال التوسط دون أن تحصل ملكة التوسط، بل أن تحصل التوسط، وملكة التوسط ملكة كأنها موجودة للقوة الناطقة وللقوى الحيوانية معاً، أما القوى الحيوانية فبأن تحصل فيها هيئة الإذعان، وأما القوة الناطقة فبأن تحصل فيها هيئة الاستعلاء والانفعال، كما أن ملكة الإفراط والتفريط موجودة للقوة الناطقة وللقوى الحيوانية معاً، ولكن بعكس هذه النسبة. ومعلوم أن الإفراط والتفريط هما مقتضى القوى الحيوانية، وإذا قويت القوى الحيوانية وحصل لها ملكة استعلائية حدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانية وأثر انفعالي قد رسخ في النفس الناطقة من شأنها أن يجعلها قوية العلاقة مع البدن شديدة الانصراف إليه. وأما ملكة التوسط فالمراد منها التنزيه عن الهيئات الانتقادية وتبقية النفس الناطقة على جبلتها مع إفادة هيئة الاستعلاء والتنزيه، وذلك غير مضاد لجوهرها ولا مائل بها إلى جهة البدن، بل عن جهته، فإن المتوسط يسلب عنه الطرفان دائماً. ثم جوهر النفس إنما كان البدن هو الذي يغمره ويلهيه، ويغفله عن الشوق الذي يخصه، وعن طلب الكمال الذي له، وعن الشعور بلذة الكمال إن حصل، والشعور بألم الكمال إن قصر عنه، لا بأن النفس منطبعة في البدن أو منغمسة فيه، ولكن العلاقة التي كانت بينهما وهو الشوق الجبلي إلى تدبيره والاشتغال بآثاره وبما تورده عليه من عوارضه، وبما يتقرر فيه من ملكات مبدؤها البدن، فإذا فارق وفيه الملكة الحاصلة بسبب الاتصال به كان قريب الشيه من حله وهو فيه، فيما ينقص من ذلك تزول غفلته بمحل سعادته، ويحدث هناك من الحركات المشوشة ما يعظم أذاه. ثم أن تلك البدنية مضادة لجوهرها مؤذية له، وإنما كان يلهيها عنها أيضاً البدن وتمام انغماسها فيه، فإذا فارقت النفس البدن أحست بتلك المضادة العظيمة وتأذت بها أذى عظيماً، لكن هذا الأذى وهذا الألم ليس
    الصفحة : 232
    لأمر لازم، بل لأمر عارض غريب، والأمر العارض الغريب لا يدوم ولايبقى، ويزول ويبطل مع ترك الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة بتكررها، فيلزم إذن أن تكون العقوبة التي بحسب ذلك غير خالدة، بل تزول وتنمحي قليلاً قليلاً حتى تزكو النفس وتبلغ السعادة التي تخصها. وأما النفوس البله التي لم تكتسب الشوق فإنها إذا فارقت البدن وكانت غير مكتسبة للهيئات الردية صارت إلى سعة من رحمة الله تعالى ونوع من الراحة، وإن كانت مكتسبة للهيئات البدنية الردية وليس لها عندها هيئة غير ذلك معنى تضاده وتنافيه فتكون لا محالة ممنوة بشوقها إلى مقتضاها، فتعذبت عذاباً شديداً بفقد البدن ومقتضيات البدن من غير أن يحصل المشتاق إليه، لأن آلة ذلك قد بطلت وخلق التعلق بالبدن قد بقي. ويشبه أيضاً أن يكون ما قاله بعض العلماء حقاً وهو أن هذه الأنفس إن كانت زكية وفارقت البدن وقد رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة التي تكون لامثالهم على مثل ما يمكن أن يخاطب به العامة وتصور ذلك في أنفسهم من ذلك، فإنهم إذا فارقوا الأبدان ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي فوقهم، لا كمال فيسعدوا تلك السعادة، ولا شوق كمال فيشقوا تلك الشقاوة، بل جميع هيئاتهم النفسانية متوجهة نحو الأسفل منجذبة إلى الأجسام، ولا منع من المواد السماوية من أن تكون موضوعة بفعل نفس فيها، قالوا فإنها تتخيل جميع ما كانت اعتقدته من الأحوال الأخروية، وتكون الآلة التي يمكنها بها التخيل شيئاً من الأجرام السماوية فتشاهد جميع ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر والبعث والخيرات الأخروية، وتكون الأنفس الردية أيضاً تشاهد العقاب بحسب ذلك المصور لهم في الدنيا وتقاسيه، فإن الصور الخيالية ليست تضعف عن الحسية بل تزداد عليها تأثيراً وصفاء كما يشاهد في المنام، فربما كان المحلوم به أعظم شأناً في بابه من المحسوس، على أن الأخروي أشد استقراراً من الموجود في المنام بحسب قلة العوائق وتجرد النفس وصفاء القابل، وليست الصورة التي ترى في المنام، بل ولا التي تحس في اليقظة،كما علمت. إلا المرتسمة في النفس. إلا أن أحدهما يبتدئ من باطن وينحدر إليه،والثانب يبتدئ من خارج ويرتفع إليه فإذا ارتسم في النفس تم هناك الإدراك المشاهد،وإنما يلذ ويؤذي بالحقيقة هذا المرتسم في النفس لا الموجود من خارج،فكلما ارتسم في النفس فعل فعله وأن لم يكن يسبب من خارج، فإن السبب الذاتي هو هذا المرتسم، والخارج هو السبب بالعرض أو سبب السبب. فهذه هي السعادة والشقاوة الخسيستان اللتان بالقياس إلى الأنفس الخسيسة، وأما الأنفس المقدسة فإنها
    الصفحة : 233
    تبعد عن مثل هذه الأحوال وتتصل بكمالاتها بالذات وتنغمس في اللذة الحقيقية، وتتبرأ من النظر إلى ما خلفها، وإلى المملكة التي لها، كل التبرئ. ولو كان بقي فيها من ذلك أثر اعتقادي أو خلقي تأذت به، وتخلفت لأجله عن درجة العليين إلى أن تنفسخ وتزول.

    المقالة العاشرة
    وفيها خمس فصول
    الفصل الأول: (ا)
    فصل في المبدأ والمعاد بقول مجمل، وفي الإلهامات والمنامات، والدعوات المستجابة، والعقوبات السماوية، وفي الأحوال النبوة، وفي حال أحكام النجوم فالوجود إذا ابتدأ من عند الأول لم يزل كل تال منه أدون مرتبة من الأول، ولا يزال ينحط درجات؛ فأول ذلك درجة الملائكة الروحانية المجردة التي تسمى عقولاً، ثم مراتب الملائكة الروحانية التي تسمى نفوساً، وهي الملائكة العملة، ثم مراتب الأجرام السماوية، وبعضها أشرف من بعض إلى أن يبلغ آخرها، ثم بعدها يبتدئ وجود المادة القابلة للصورة الكائنة الفاسدة، فيلبس أول شيء صور العناصر ثم يتدرج يسيراً يسيراً فيكون أول الوجود فيها أخس وأدون مرتبة من الذي يتلوه، فيكون أخس ما فيه المادة ثم العناصر، ثم المركبات الجمادية، ثم النباتات، وأفضلها الإنسان، وبعده الحيوانات، ثم النبات، وأفضل الناس من استكملت نفسه عقلاً بالفعل، ومحصلاً للأخلاق التي تكون فضائل عملية، وأفضل هؤلاء هو المستعد لمرتبة النبوة وهو الذي في قواه النفسانية خصائص ثلاثة ذكرناها: وهي أن يسمع كلام الله تعالى، ويرى ملائكته وقد تحولت له على صورة يراها. وقد بينا كيفية هذا، وبينا أن هذا هو الذي يوحي إليه تتشبح الملائكة له ويحدث له في سمعة صوت يسمعه يكون من قبل الله والملائكة، فيسمعه من غير أن يكون ذلك كلاماً من الناس والحيوان الأرضي، وهذا هو الموحى إليه؛ وكما أن أول الكائنات من الابتداء إلى درجة العناصر كان عقلاً ثم نفساً ثم جرماً، فههنا يبتدئ الوجود من الأجرام، ثم تحدب المفوس، ثم عقول،وإنما تفيض هذه الصور لا محالة من عند تلك المبادئ، والأمور الحادثة في هذا العالم تحدث من مصادمات القوة الفاعلة السماوية، والمنفعلة الأرضية تابعة لمصادمات القوى الفعالة السماوية، وأما القوى الأرضية فيتم حدوث ما يحدث فيها بسبب شيئيين:
    الصفحة : 234
    أحدهما القوى الفعالة فيها: إما الطبيعية وإما المادية. والثاني القوى الانفعالية: إما الطبيعية أو النفسانية. وأما القوى السماوية فتحدث عنها آثارها في هذه الأجرام التي تحتها على ثلاثة وجوه: أحدها من تلقائها بحيث لا تسبب فيها للأمور الأرضية بوحه من الوجوه، وتلك إما عن طبائع أجسامها وقواها الجسمانية بحسب التشكيلات الواقعة منها مع القوى الأرضية والمناسبات بينها، وإما عن طبائعها النفسانية. والوجه الثاني فيه شركة ما مع الأحوال الأرضية وتسبب بوجه من الوجوه على الوجه الذي أقول إنه قد اتضح لك، إن نفوس تلك الأجرام السماوية ضرباً من التصرف في المعاني الجزئية على سبيل الإدراك غير عقلي محض وأن لمثلها أن يتوصل إلى إدراك الحادثات الجزئية، وذلك يمكن بسبب إدراك تفاريق أسبابها الفاعلة والقابلة الحاصلة من حيث هي الأسباب وما يتأدى إليه، وإنها دائماً تنتهي إلى الطبيعة أو إرادية موجبة ليس إرادية فاترة غير حاتمة ولا جازمة. ولا تنتهي إلى القسر، فإن القسرية إما قسر عن طبيعة، وإما قسر عن إرادة، واليها ينتهي التحليل في القسريات أجمع. ثم إن الإرادات كلها كائنة بعد لم تكن، فلها أسباب تتوافى فتوجبها، وليس توجد إرادة لإرادة وإلا لذهبت إلى غير نهاية، ولا عن طبيعة للمريد وإلا للزمت الإرادة ما دامت الطبيعة، بل الإرادات تحدث بحدوث علل هي الموجبات، والدواعي تستند إلى أرضيات وسماويات، وتكون موجبة ضرورة لتلك الإرادة، وأما الطبيعة فإن كانت ثابتة فهي أصل وأن كانت قد حدثت فلا محالة أنها تستند أيضاً إلى أمور سماوية وأرضية. عرفت جميع هذا فيما قبل وأن لازدحام هذه العلل وتصادمها واستمرار نظاماً ينجز بحسب الحركة السماوية، فإذا علمت الأوائل بما هي أوائل وهيئة إنجازها إلى الثواني، علمت الثواني ضرورة. فمن هذه الأشياء علمنا أن النفوس السماوية وما فوقها عالمة بالجزئيات، وأما ما فوقها فعلمها بالجزئيات على نحو كلي، وأما هي فعلى نحو جزئي كالمباشر أو المتأدي إلى المباشر أو المشاهد بالحواس، فلا محالة أنها تعلم ما يكون، لا محالة أنها تعلم في كثير منها على الوجه الذي هو أصوب والذي هو أصلح وأقرب إلى الخير من الأمرين الممكنين، وقد بينا أن التصورات التي لتلك العلل مبادئ لوجود تلك الصور ههنا إذا كانت ممكنة ولم تكن هناك أسباب سماوية، تكون أقوى من تلك التصورات مما هو أقدم ومما هو أحد القسمين من الثلاثة غير هذا الثالث. وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يحصل ذلك الأمر الممكن الوجود لا عن سبب أرضي ولا عن سبب طبيعي في السماء، بل عن تأثير بوجه ما لهذه الأمور
    الصفحة : 235
    في الأمور السماوية. وليس هذا بالحقيقة تأثير، بل التأثير لمبادئ وجود ذلك في الأمور السماوية؛ فإنها إذا، عقلت الأوائل عقلت ذلك الأمر؛ وإذا، عقلت ذلك الأمر عقلت ما هو الأولى بأن يكون، وإذا عقلت ذلك مكان لا مانع فيه إلا عدم علة طبيعة أرضية أو وجود علة طبيعية أرضية، أما عدم العلة الطبيعية الأرضية، مثلاً أن يكون ذلك الشيء هو يوجد حرارة، فلا يكون قوة مسخنة طبيعية أرضية، فتلك السخونة تحدث للتصور السماوي بوجه كون الخير فيه، كما إنها تحدث هي في أبدان الناس عن أسباب من تصورات الناس وعلى ما عرفته فيما سلف. وأما أمثال الثاني فأن يكون ليس المانع عدم سبب التسخين فقط، بل وجود المبرد فالتصور السماوي للخير في وجود ضد ما يوجبه المبرد في ذلك أيضاً يقسر المبرد كما يقسر تصورنا المغضب السبب المبرد فينا فيكون الحر، فتكون أصناف هذا القسم إحالات لأمور طبيعية أو إلهامات تتصل بالمستدعي أو بغيره، أو اختلاط من ذلك يؤدي واحد منها أو جملة مجتمعة إلى الغاية النافعة؛ ونسبة التضرع إلى استدعاء هذه القوة نسبة التفكر إلى استدعاء البيان، وكل يفيض من فوق. وليس هذا يتبع التصورات السماوية، بل الأول الحق يعلم جميع ذلك على الوجه الذي قلنا: إنه يليق به ومن عنده يبتدئ التصورات كون ما يكون، ولكن بالتوسط، وعلى ذلك علمه. فبسبب هذه الأمور ما ينتفع بالدعوات والقرابين وخصوصاً في أمر الاستسقاء وفي أمور أخرى؛ ولهذا ما يجب أن يخاف المكافآت على الشر ويتوقع المكافآت على الخير؛ فإن غي ثبوت حقية مزجرة عن الشر، وثبوت حقية ذلك يكون بظهور آياته، وآياته هي وجود جزئياته، وهذه الحال معقولة عند المبادئ، فيجب أن يكون لها وجود، فإن لم يوجد فهناك شر وبسبب لا ندركه، أو سبب آخر يعاوقه؛ وذلك أولى بالوجود من هذا، ووجود ذلك ووجود هذا معاً من المحال؛ وإذا شئت أن تعلم أن الأمور التي عقلت نافعة مؤدية إلى المصالح قد أوجدت في الطبيعة على النحو من الإيجاد الذي علمته وتحققته فتأمل حال منافع الأعضاء في الحيوانات والنباتات، وان كل واحد كيف خلق. وليس هناك البتة سبب طبيعي، بل مبدوء لا محالة من العناية على الوجه الذي علمت للعناية. فكذلك يصدق بوجود هذه المعاني؛ فإنها متعلقة بالعناية على الوجه الذي علمت العناية تعلق تلك. واعلم أن أكثرها ما يقربه الجمهور ويفزع إليه، ويقول به، فهو حق وغنما يدفعه هؤلاء المتشبه بالفلاسفة جهلاً منهم بعلله وأسبابه، وقد علمنا في هذا الباب كتاب البر والإتمام فتأمل شرح هذه الأمور من هناك وصدق بما يحكي من العقوبات الإلهية النازلة على مدن فاسدة، وأشخاص ظالمة؛ وأنظر أن
    الصفحة : 236
    الحق كيف ينصر؛ واعلم أن السبب في الدعاء منا أيضاً وفي الصدفة وغير ذلك وكذلك حدوث الظلم والإثم إنما يكون من هناك فإن مبادئ جميع هذه الأمور تنتهي إلى الطبيعة والإرادة والاتفاق، والطبيعة مبدؤها من هناك، والإرادات التي لنا كائنة بعد ما لم تكن، وكل كائن بعد ما لم يكن فله علة، وكل إرادة لناقلها علة، وعلة تلك الإرادة ليست إرادة متسلسلة في ذلك إلى غير نهاية، بل أمور تعرض من خارج، أرضية وسماوية؛ والأرضية تنتهي إلى السماوية، واجتماع ذلك كله يوجب وجود الإرادة. وأما الاتفاق فهو الحادث عن مصادمات هذه، فإذا حللت الأمور كلها تستند إلى مبادئ إيجابها، تنزل من عند الله تعالى. والقضاء من الله تعالى هو الوضع الأول البسيط. والتقدير هو ما يتوجه إليه القضاء على التدريج كأنه موجب اجتماعات من الأمور البسيطة التي تسب من حيث هي بسيطة إلى القضاء والأمر الإلهي الأول. ولو أمكن إنساناً من الناس أن يعرف الحوادث التي في الأرض والسماء جميعها وطبائعها، لفهم كيفية جميع ما يحدث في المستقبل. وهذا المنجم القائل بالأحكام- مع أن أوضاعه الأولى ومقدماته ليست تستند إلى برهان، بل عسى أن يدعي فيها التجربة أو الوحي، وربما حاول قياسات شعرية أو خطابية في إثباتها- فإنه إنما يعول على دلائل جنس واحد من أسباب الكائنات وهي التي في السماء، على أنه لا يضمن من عنده الإحاطة بجميع الأحوال التي في السماء، ول ضم لنا ذلك ووفى به لم يمكنه أن يجعلنا ونفسه بحيث نقف على وجود جميعها غي كل وقت، وإن كان جميعها من حيث فعله وطبعه معلوماً عنده؛ وذلك مما لا يكفي أن يعلم أنه وجد أو لم يوجد. وذلك لأنه لا يكفيك أن تعلم أن النار حارة مسخنة وفاعلة كذا وكذا، في أن تعلم أنها سخنت متا لم تعلم أنا حصلت، وأي طريق من الحساب يعطينا المعرفة بكل حدث وبدعة في الفلك، ولو أمكنه أن يجعلنا ونفسه بحيث نقف على وجود جميع ذلك لم يتم لنا به الانتقال إلى المغيبات. فإن الأمور المغيبة التي في طريق الحدوث إنما تتم بالمخاطبات بين الأمور السماوية التي لنا تسامح أنا حصلناها بكمال عددها، وبن الأمور الأرضية المتقدمة واللاحقة، فاعلها ومنفعلها، طبيعتها وإراديها وليس تتم بالسماويات وحدها، فما لم يحط بجميع العناصر من الأمرين، وموجب كل واحد منهما خصوصاً ما كان متعلقاً بالمغيب، لم يتمكن من الانتقال إلى المغيب. فليس لنا إذن اعتماد على أقوالهم، وإن سلمنا متبرعين أن جميع ما يعطوننا من مقدماتهم الحكيمة صادقة.
    الفصل الثاني: (ب)
    الصفحة : 237
    فصل في إثبات النبوة وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى، والمعاد إليه
    ونقول الآن: إنه من المعدوم أن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يحسن معيشته لو أنفرد وحده شخصاً واحداً يتولى تدبير أمره من غير شريك يعاونه على الضروريات حاجاته، وأنه لا بد من أن يكون الإنسان مكيفاً بآخر من نوعه يكون ذلك الآخر أيضاً مكيفاً به ونظيره، فيكون مثلاً هذا يبقل لذلك، وذاك يخبر لهذا، وهذا يخيط لآخر، والآخر يتحذ الإبرة لهذا، حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكيفاً. ولها ما اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات فمن كان منهم غير محتاط في عقد مدينته على شرائط المدينة وقد وقع منه ومن شركائه الاقتصار على اجتماع فقط فإنه يتحيل على جنس بعيد الشبه من الناس وعادم لكمالات الناس، ومع ذلك فلا بد لأمثاله من اجتماع ومن تشبه بالمدنين. فإذا كان هذا ظاهراً فلا بد من وجود إنسان وبقاؤه من مشاركته، ولا تتم المشاركة إلا بمعاملته، كما لا بد من ذلك من سائر الأسباب التي تكون له، ولا بد من المعاملة من سنة عدل، ولا بد للسنة والعدل من سنانًّ ومُعِّدل، ولا بد من أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة. ولا بد من أن يكون هذا إنساناً، ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك فيختلفون ويرى كل واحد منهم ما له عدلاً، وما عليه ظلماً؛ إلى هذا الإنسان في أن يبفى نوع الإنسان ويتحصل وجوده أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين، وتقعير الأخمص من القدمين، وأشياء أخرى من المنافع التي لا ضرورة فيها في البقاء، بل أكثر ما لها أنها تنفع في البقاء، ووجود الإنسان الصالح لأن يسن ويعدل ممكن كما سلف لنا ذكره. فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي أسها، ولا أن يكون المبدأ الأول والملائكة بعده يعلم ذلك ولا يعلم هذا، ولا أن يكون ما يعلمه في نظام الخير الممكن وجوده الضروري حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد؛ بل كيف يجوز أن لا يوجد وما هو متعلق بوجود مبنى على وجوده موجود؟ فواجب إذن أن يوجد نبي، وواجب أن يكون إنساناً، وواجب أن تكون له خصوصيته ليست لسائر الناس حتى يستشعر الناس فيه أمراً لا يوجد لهم، فيتميز به منهم، فتكون له المعجزات التي أخبرنا بها، وهذا الإنسان إذا وجد يجب أن يسن الناس في أمورهم سناً بإذن الله تعالى وأمره ووحيه وإنزاله الروح المقدس عليه، ويكون الأصل الأول فيما يسنه تعريفه إياهم أن لهم صانعاً واحداً قادراً، وأنه علام بالسر والعلانية، وإن من حقه أن يطاع أمره؛ فإنه يجب أن يكون الأمر لمن له
    الصفحة : 238
    الخلق، وأنه قد أعد لمن أطاعه المعاد المسعد، ولمن عصاه المعاد المشقي، حتى يتلقى الجمهور رسمه المنزل على لسانه من الإله والملائكة بالسمع والطاعة، ولا ينبغي أن يشغلهم بشيء من معرفة الله تعالى فوق معرف أنه واحد لا شبيه له. فأما أن يعدي بهم إلى أن يكلفهم أن يصدقوا بوجوده وهو غير مشار إليه في مكان، ولا خارج العالم ولا داخله، ولا شيئاً من هذا الجنس، فد عظم عليهم الشغل وشوش فيما بين أيديهم الدين، وأوقعهم فيما لا مخلص عنه، إلا لمن كان المعان الموفق الذي يشذ وجوده ويندر كونه، فإنه لا يمكنهم أن يتصوروا هذه الأحوال على وجهها إلا بكد، وإنما يمكن القليل منهم أن يتصوروا حقيقة هذا التوحيد والتنزيه، فلا يلبثون أن يكذبوا بمثل هذه الوجوه، ويقعوا في تنازع وينصرفوا إلى المباحثات والمقايسات التي تصدهم عن أعمالهم المدنية. وربما أوقعهم في آراء مختلفة لصلاح المدنية، ومنافية لواجب الحق، وكثر فيهم الشكوك والشبه، وصعب الأمر على الإنسان في ضبطهم، فما كل بميسر له في الحكمة الإلهية، ولا إنسان يصلح له أن يظهر أن عنده حقيقة يكتمها عن العامة، بل يجب أن لا يرخص في تعرض شيء من ذلك، بل يجب أن يعرفهم جلالة الله تعالى وعظمته بروز وأمثلة من الأشياء التي هي عندهم جليلة وعظيمة، ويلقي إليهم مع هذا، هذا القدر، أعني أنه لا نظير له ولا شريك له ولا شبيه له، وكذلك يجب أن يقرر عندهم أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته، وتسكن إليهم نفوسهم، ويضر للسعادة والشقاوة أمثالاً مما يفهمونه وتصورونه. وأما الحق في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً، وهو أن ذلك الشيء لا عين رأته ولا أذن سمعنه، وأن هناك من اللذة ما هو ملك عظيم ومن الألم ما هو عذاب مقيم. واعلم أن الله تعالى يعلم أن وجه الخير في هذا، فيجب أن يوجد معلوم الله تعالى على وجهه على ما علمت، ولا بأس أن يشتمل خطابه به على رموز وإشارات تستدعي المستعدين بالجلبة للنظر إلى البحث الحكمي.
    الفصل الثالث: (ج)
    الصفحة : 239
    فصل في العبادات ومنفعتها في الدنيا والآخرة
    ثم أن هذا الشخص هو النبي ليس مما يتكرر وجوده مثله في كل وقت؛ فإن المادة التي تقبل كمال مثاله تقع في القليل من الأمزجة؛ فيجب لا محالة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد دبر لبقاء ما يسنه ويشرعه في أمور المصالح الإنسانية تدبيراً عظيماً. ولا شك أن القاعدة في ذلك هي استمرار الناس على معرفتهم بالصانع والمعاد، وحسم بسبب وقوع النسيان فيه مع انقراض القرن الذي يلي النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يكون على الناس أفعال وأعمال يسن تكرارها عليهم في مدد متقاربة حتى يكون الذي ميقاته بطل مصاقباً للمنقضي منه، فيعود به التذكر من رأس؛ وقبل أن ينفسخ يلحق عقابه. ويجب أن تكون هذه الأفعال مقرونة بما يذكر الله والمعاد لا محالة، وإلا فلا فائدة فيها، والتذكير لا يكون بألفاظ تقال، أو نيات تنوي في الخيال، وان يقال لهم: إن هذه الأفعال تقرب إلى الله تعالى، وستوجب بها الجزاء الكريم، وأنت كون تلك الأفعال بالحقيقة على هذه الصفة، وهذه الأفعال مثل العبادات المفروضة على الناس؛ وبالجملة يجب أن تكون المنبهات، والمنبهات إما حركات وإما أعدام حركات تفضي إلى حركات؛ فإما الحركات فمثل الصلاة، وأما أعدام الحركات فمثل الصوم، وإن كان معنى عدمياً فإنه يحرك من الطبيعة تحريكاً شديداً ينبه صاحبه أنه على جملة من الأمر ليس هزلاً، فيتذكر سبباً ما ينويه من ذلك أنه القرب إلى الله تعالى، ويجب أن أمكن أن تخلط بهذه الأحوال مصالح أخرى في تقوية السنة وبسطها. والمنافع الدنيوية للناس أيضاً أن يفعل ذلك، وذلك مثل الجهاد والحج على أن يعين مواضع من البلاد بأنها أصلح المواضع لعبادة الله تعالى، وأنها خاصة لله تعالى، وتعين أفعال لا بد منها للناس وأنها في ذات الله تعالى مثل القرابين؛ فإنها مما يعين في هذا الباب معونة شديدة. والموضع الذي منفعته في هذا الباب هذه المنفعة إذا كان فيه المأوى الشارع ومسكنه فإنه يذكر به أيضاً، وذكراه في المنفعة المذكورة تالية لذكر الله تعالى، والمأوى الواحد ليس يجوز أن يكون نصب عين الأمة كافة. فبالأحرى أن يفرض إليه مهاجرة وسفرة، ويجب أن يكون أشرف هذه العبادات من وجه هو ما يفرض متوليه أنه مخاطب لله تعالى ومناج إياه وصائر إليه وماثل بين يديه، وهذا هو الصلاة. فيجب أن يسن للمصلي من الأحوال التي يستعد بها للصلاة ما جرت العادة بمؤاخذة الإنسان نفسه به عند لقاء الملك الإنساني من الطهارة والتنظيف، وأن بسن في الطهارة والتنظيف سننا بالغة، وان يسن عليها فيها ما جرت العادة بمؤاخذة نفسه به عند لقاء الملوك من الخشوع والسكون وغض
    الصفحة : 240
    البصر وقبض الأطراف وترك الالتفات والاضطراب، وكذلك يسن له في كل وقت من أوقات العبادة آداباً ورسوماً محمودة؛ فهذه الأفعال ينتفع بها العامة من رسوخ ذكر الله تعالى والمعاد أنفسهم، فيدوم لهم التثبت بالسنن والشرائع بسبب ذلك؛ فإن لم يكن لهم مثل هذه المذكرات تناسوا جميع ذلك مع انقراض قرن أو قرنين، وينفعهم أيضاً في المعاد منفعة عظيمة فيما تنزه به أنفسهم على معرفته. وأما الخاصة فأكثر منفعة هذه الأشياء إياهم في المعاد، وقد قررنا حال المعاد الحقيقي وأثبتنا أن السعادة في الآخرة بتنزيه مكتسبة بتنزيه النفس، وتنزيه النفس يبعدها عن اكتساب الهيئات المضادة لأسباب السعادة، وهذا التنزيه يحصل بأخلاق وملكات، والأخلاق والملكات تكتسب بأفعال من شأنها أن تصرف النفس عن البدن والحس وتديم تذكيرها للمعدن الذي لها؛ فإن كانت كثير الرجوع إلى ذاتها لم تنفعل من الأحوال البدنية، ومما يذكرها ذلك وبعينها عليه أفعال متعبة خارجة عن عادة الفطرة بل هي إلى التكلف أقرب؛ فإنها تتعب البدن والقوى الحيوانية وتهزم إرادتها من الاستراحة والكسل ورفض العناء وإخماد الحرارة العزيزية واجتذاب الارتياض إلا في اكتساب أغراض من اللذات البهيمية، ويفرض على النفس المحاولة لتلك الحركات وذكر الله تعالى واللائكة وعالم السعادة شاءت أم أبت، فيتقرر لذلك فيها هيئة الانزعاج عن هذا البدن وتأثيراته، وملكة التسلط على البدن، فلا تنفعل عنه، فإذا جرت عليها أفعال بدنية لم تؤثر فيها هيئة وملكة التسلط على البدن، فلا تنفعل عنه، فإذا جرت عليها أفعال بدنية لم تؤثر فيها هيئة وكملكة تأثيرها لو كانت مخلدة إليها منقادة لها من كل وجه. ولذلك قال قائل الحق: "إن الحسنات يذهبن السيئات" فإن دام هذا الفعل من الإنسان استفاد ملكة التفات إلى جهة الحق وإعراض عن الباطل، وصار شديد الاستعداد للتخلص إلى السعادة بعد المفارقة البدنية. وهذه الأفعال لو فعلها فاعل ولم يعتقد أنها فريضة من عند الله، وكان مع اعتقاده ذلك يلزم في كل فعل أن يتذكر الله ويعرض عن غيره، لكان جديراً أن يفوز من هذا ذكاء بخط؛ فكيف إذا استعملها من يعلم أن النبي من عند الله تعالى وبإرسال الله تعالى، وواجب فبي الحكمة الإلهية إرساله، وأن جميع ما يسنه هو مما وجب من عند الله أن يسنه، وأن جميع ما يسنه عن عند الله تعالى. فالنبي فرض عليه من عند الله أن يفرض عباداته، وتكون الفائدة في العبادات فيما يبقى به فيهم السنة والشريعة التي هي أسباب وجودهم، وفيما يقربهم عند المعاد من الله زلفى بذكائهم؛ ثم هذا الإنسان هو المليء بتدبير أحوال الناس على ما تنظيم به أسبابه معايشهم ومصالحهم معادهم، وهو إنسان متميز عن سائر الناس بتألهه.
    الفصل الرابع: (د)
    الصفحة : 241
    فصل في عقد المدينة وعقد البيت وهو نكاح والسنن الكلية في ذلك
    فيجب أن يكون القصد الأول للسان في وضع السنن وترتيب المدينة على أجزاء ثلاثة: المدبرون، والصناع، والحفظة؛ وأن يرتب كل جنس منهم رئيساً يترتب تحته رؤساء يلونه، يترتب رؤساء يلونه، إلى أن تنتهي إلى إفناء الناس. فلا يكون في المدينة إنسان معطل ليس له مقام بل يكون لكل واحد منهم منفعة في المدينة، وأن تحرم البطالة والتعطل، وأن لا يجعل لأحد سبيلاً إلى أن يكون له من غيره الحظ الذي لا بد منه الإنسان، وتكون جنبته معافاة ليس يلزمها كلفة؛ فإن هؤلاء يجب أن يردعهم كل الردع؛ فإن لم يرتدعوا نفاهم من الأرض؛ فإن كان السبب في ذلك مرض أو آفة أفرد لهم موضعاً يكون فيه أمثالهم، ويكون عليهم قيم، ويجب أن يكون في المدينة وجه مال مشترك، بعضه من حقوق تفرض على الأرباح المكتسبة والطبيعية، كالثمرات والنتاج؛ وبعضه يفرض عقوبة، وبعضه يكون من أموال المعاندين للسنة، وهو الغنائم. ويكون ذلك عدة لمصالح مشتركة، وإزاحة لعلة الحفظة الذين لا يشتغلون بصناعة، ونفقة على الذين حيل بينهم وبين الكسب بأمراض وزمانات، ومن الناس من رأى قتل الميئوس من صلاحه منهم، وذلك قبيح، فإن مئونتهم لا تجحف بالمدينة؛ فإن كان لأمثال هؤلاء من قرابته من يرجع إلى فضل استظهار من قوته فرض عليه كفايته. والغرامات كلها لا تسن على صاحب جناية ما، بل يجب أن يسن بعضها على أوليائه وذويه الذين لا يزجرونه ولا يحرسونه، ويكون ما يسن من ذلك عليهم مخففاً في المهلة للمطالبة، ويكون ذلك في الجنايات تقع خطأ فلا يجوز إهمال مع وقوعها خطأ. وكما أنه يجب أن تحرم البطالة كذلك يجب أن تحرم الصناعات التي يقع فيها انتقالات الأملاك أو المنافع من غير مصالح تكون بإزائها؛ وذلك مثل القمار فإن المقامر يأخذ من غير أن يعطى منفعة البتة، بل يجب أن يكون الآخذ أخذ من صناعة يعطى بها فائدة تكون عوضاً؛ إما عوض عن جوهر، أو عوضاً هو منفعة، أو عوضاً هو ذكر جميل، أو غير ذلك مما هي معدودة في الخيرات والبشرية؛ وكذلك يجب أن تحرم الصناعات التي تدعو إلى أضداد المصالح أو المنافع، مثل تعلم السرقة واللصوصية والقيادة وغير ذلك. وتحرم أيضاً الحرف التي تغني الناس عن تعلم الصناعات الداخلة في الشركة، مثل المراباة؛ فإنها طلب
    الصفحة : 242

    علي العذاري غير متواجد حالياً
    رد مع اقتباس
  13. تكبير الخط تصغير الخط
    بتاريخ : 09-02-2012 الساعة : 08:39 AM رقم #17
    كاتب الموضوع : علي العذاري


    شاملى مميز


    • بيانات علي العذاري
      رقم العضوية : 6016
      عضو منذ : Jan 2012
      الدولة : ariq
      المشاركات : 141
      بمعدل : 0.03 يوميا
      معدل تقييم المستوى : 14
      التقييم : Array


  14. زيادة الكسب من غير حرفة تحصله، وإن كانت بإزاء منفعة. وتحرم أيضاً الأفعال التي إن وقع فيها ترخيص أدى إلى ضد ما عليه بناء أمر المدينة، ممثل الزنا واللواط، الذي يدعو إلى استغناء عن أفضل أركان المدينة وهو التزوج. ثم أول ما يجب أن يشرع فيه هو أمر التزوج المؤدي إلى التناسل وأن يدعو إليه ويحرض عليه، فإن به بقاء الأنواع التي بقاؤها دليل وجود الله تعالى، وان يدبر في أن يقع ذلك وقوعاً ظاهراً يقع ريبة في النسب ذلك خلل في انتقال المواريث التي هي أصول الأموال؛ لأن المال لا بد منه من المعيشة، والمال منه اصل، ومنه فرع؛ والأصل موروث، أو ملقوط أو موهوب؛ وأصح الأصول من هذه الثلاثة الموروث فإنه ليس عن بخت واتفاق، بل على مذهب كالطبيعي. وقد يقع ذي ذلك- أعني خفاء المناكحات- أيضاً خلل في وجوه أخرى مثل وجه وجوب نفقة بعض على بعض، ومعاونة بعض لبعض، وغير ذلك مما إذا تأمله العاقل عرفه، ويجب أن يؤكد الأمر أيضاً في ثبوت هذه الوصلة، حتى لا يقع في كل نزق فرقة؛ فيؤدي ذلك إلى شتت الشمل الجامع للأولاد ووالديهم؛ وإلى تجدد احتياج كل إنسان إلى المزاوجة؛ وفي أنواع من الضرر كثيرة؛ ولأن أكثر أسباب المصلحة هي المحبة، والمحبة لا تنعقد إلا بالألفة، واللفة لا تحصل إلا بالعادة، والعادة لا تحصل إلا بطول المخالطة. وهذا التأكد يحصل من جهة المرأة؛ بأن لا يكون في يديها إيقاع هذه الفرقة، فإنها الحقيقة واهية العقل، مبادرة إلى طاعة الهوى والغضب، ويجب أن يكون إلى الفرقة سبيل ما، وأن لا يسد ذلك من كل وجه؛ لأن سحم أسباب التوصل إلى الفرقة بالكلية يقتضي وجوهاً من الضرر والخلل، منها أن من الطبائع ما لا يؤلف بعض الطبائع، فكلما اجتهد في الجمع بينهما زاد الشر والتنبؤ ونغصت المعايش. ومنها أن سن الناس من يمن بزوج غير كفؤ، ولا حسن المذاهب في العشرة، أو بغيض تعافة الطبيعة، فيصير فيصير ذلك داعية إلى الرغبة في غيره، إذ الشهوة طبيعية؛ وربما أدى ذلك إلى وجوه من الفساد، وربما كان المتزوجان لا يتعاونان على لنسل؛ فإذا بدل الزوجين آخرين تعاونا؛ فيجب أن أيضاً أن يكون إلى المفارقة سبيل، ولكن يجب أن يكون مشدداً فيه. فأما انقص الشخصين عقلاً، وأكثرهماً اختلافاً واختلاطاً وتلويناً، فلا يجعل في يديه من ذلك الشيء، بل يجعل إلى الحكام، حتى إذا عرفوا سوء صحبة تلحقها من الزوج الآخر فرقوا. وأما من جهة الرجل فإنه يلزمه في ذلك غرامة لا يقدم عليه إلا بعد التثبت واستصابة ذلك لنفسه من كل
    الصفحة : 243
    وجه، ومع ذلك فالأحسن أن يترك للصلح وجه من غير أن يمعن في توجيهه، فيصير سبباً إلى طاعة الطيش، بل يغلظ الأمر في المعاودة أشد من التغليظ في الابتداء، فنعم ما الأمر به أفضل الشارعين أنها لا تحل له بعد الثالثة إلا بعد أن يوطن نفسه على تجرع لا مضض فوقه، وهو تمكين رجل آخر من حليلته أن يتزوجها بنكاح صحيح، ويطأها بوطئ صريح؛ فإنه إذا كان بين عينيه مثل هذا الخطب لم يقدم على الفرقة بالجزاف إلا أن يصمم على الفرقة التامة، أو يكون هناك وكالة فلا يرى بأساً بفضيحة تصحبها لذة، وأمثال هؤلاء خارجون عن استحقاق طلب المصلحة لهم. ولما كان من حق المرأة أن تصان، لأنها مشتركة في شهوتها، وداعية جداً إلى نفسها، زهي مع ذلك أشد انخداعاً، وأقل للعقل طاعة، والاشتراك فيها يوقع أنفة وعاراً عظيماً، وهي من المضار المشهورة، والاشتراك في الرجل لا يوقع عاراً بل حسداً، والحسد غير ملتفت إليه، فإنه طاعة للشيطان. فبالأحرى أن يسن عليها في بابها التستر والتخدر؛ فلذلك ينبغي أن لا تكون المرأة من أهل الكسب كالرجل؛ فلذلك يجب أن يسن لها أن تكفي من جهة الرجل، فيلزم الرجل تفقتها، لكن الرجل يجب أن يعوض من ذلك عوضاً، وهو أن يملكها وهي لا تملكه، فلا يكون لها أن تنكح غيره. وأما الرجل فلا يحجر عليه في هذا الباب، وإن حرم عليه تجاوز عدد لا يكفي بإرضاء ما وراء ويعوله، فيكون البضع المملوك من المرأة بازاء ذلك. ولست أعني بالبضع المملوك الجماع، فإن الانتفاع بالجماع مشترك بينهما، وحظها أكثر من حظه. والاغتباط والاستمتاع بالولد كذلك، بل أن لا يكون إلى استعمالها لغيره سبيل، ويسن في الولد أن يتولاه كل واحد من الولدين بالتربية، أما الوالدة فيما يخصها، وأما الوالد فالنفقة، وكذلك الولد أيضاً يسن عليه خدمتها وطاعتها وإكبارهما وإجلالهما، فهما سبب وجود، ومع ذلك فقد احتملا مئونته التي لا حاجة إلى شرحها لظهورها.
    الفصل الخامس: (ه)
    الصفحة : 244
    فصل في الخليفة والإمام ووجوب طاعتهما، والإشارة إلى السياسات والمعاملات والأخلاق
    ثم يجب أن يفرض الانسانُّ طاعة من يخلفه، وان لا يكون الاستخلاف إلا من جهته، أو بإجماع من أهل السابقة على من يصححون علانية عند الجمهور أنه مستقل بالسياسة، وأنه أصيل العقل حاصل الأخلاق الشريفة من الشجاعة والعفة وحسن التدبير، وأنه عارف بالشريعة حتى لا أعرف منه، تصحيحاً يظهر ويستعلن ويتفق عليه الجمهور عند الجميع، ويسن عليهم أنهم إذا افترقوا أو تنازعوا للهوى والليل، أو أجمعوا على غير من وجد الفضل فيه والاستحقاق له فقد كفروا بالله. والاستخلاف بالنص أصوب فإن ذلك لا يؤدي إلى التشعب والتشاغب والاختلاف، ثم يجب أن يحكم في سنته أن من خرج فادعى خلافته بفضل قوة أو مال، فعلى الكافة من أهل المدينة قتاله وقتله، فإن قدروا ولم يفعلوا فقد عصوا الله وكفروا به، ويحل دم من قعد على ذلك وهو متمكن بعد أن يصحح على رأس الملأ ذلك منه، ويجب أن يسن أنه لا قربة عند الله تعالى بعد الإيمان بالنبي أعظم من إتلاف هذا المتغلب، فإن صحح الخارجي أن المتولى للخلافة غير أهل لها، وأنه ممنو بنقص، وإن ذلك لانقص غير موجود في الخارجي، فالأولى أن يطابقه أهل المدينة. والمعول عليه الأعظم العقل، وحسن الإيالة، فمن كان متوسطاً في الباقي ومتقدماً في هذين بعد أن لا يكون فريباً في البواقي وصائراً إلى أضدادها، فهو أولى ممن يكون متقدماً في البواقي ولا يكون بمنزلته في هذين. فيلزم أعلمهما أن يشارك أعقلهما، ويعاضده، ويلزم أعقلهما أن يعتضد به ويرجع إليه؛ مثل ما فعل عمرو وعلي؛ ثم يجب أن يفرض في العبادات أمور لا تتم إلا بالخليفة تنويهاً به وجذبا إلى تعظيمه؛ وتلك المور هي الأمور الجامعة، مثل الأعياد. فإنه يجب أن يفرض اجتماعات مثل هذه، فإن فيها دعاء للناس إلى التمسك بالجماعة، وإلى استعمال عدد الشجاعة، وإلى المنافسة؛ وبالمنافسة تدرك الفضائل، وفي الاجتماعات استجابة الدعوات، ونزول البركات على الأحوال التي عرفت من أقاويلنا. وكذلك يجب أن يكون في المعاملات يشترك فيها الإمام، وهي المعاملات التي تؤدي إلى ابتناء أركان المدينة، مثل المناكحات والمشاركات الكلية. ثم يجب أن يفرض أيضاً في المعاملات المؤدية إلى الأخذ والإعطاء سننا تمنع وقوع الغدر والحيف، وأن يحرم المعاملات التي فيها غرر، والتي تتغير فيها الأعواض قبل الفراغ من الإيفاء والاستيفاء؛ كالصرف، والنسيئة، وغير ذلك، وأن يسن على الناس معاونة الناس والذب عنهم ووقاية أموالهم وأنفسهم، من غير
    الصفحة : 245
    أن يغرم فيما يلحق بتبرعه. وأما الأعداء المخالفون للسنة فيحب أن يسن مقاتلهم وإفنائهم بعد أن يدعوا إلى الحق، وان تباح أموالهم وفروجهم؛ فإن تلك الموال والفروج إن لم تكن مدبرة بتدبير المدينة الفاضلة لم تكن عائدة بالمصلحة التي يطلب والفروج لها، بل معينة على الفساد والشر. وإذ لا بد من ناس يخدمون الناس فيجب أن يكون أمثال هؤلاء يجبرون على خدمة أهل المدينة العادلة، وكذلك من كان م الناس بعيداً عن تلقي الفضيلة فهم عبيد بالطبع، مثل الترك والزنج، وبالجملة الذي نشأوا من غير الأقاليم الشريفة التي أكثر أحوالها أن ينشأ فيها أمم حسنة الأمزجة صحيحة القرائح والعقول. وإذا كانت غير مدينة ولها سنة حميدة لم يتعرض لها إلا أن يكون الوقت يوجب التصريح بأن لا سنة غير السنة النازلة، فإن الأمم والمدن إذا ضلت فسنت عليها سنت؛ فإنه يجب أن يؤكد إلزامها، وإذا أوجب إلزامها، فربما أوجب توكيدها أن يحمل عليها العالم بأسره، وإذا كان أهل المدينة الحسنة السيرة تجد هذه السنة أيضاً حسنة محمودة، ويرى تجددها إعادة أحوال مدن فاسدة إلى الصلاح، ثم صرحت بأن هذه السنة ليس من حقها أن تقبل، وكذبت السانُّ في دعواه أنها نازلة على المدن كلها؛ كان في ذلك وهن عظيم يستولي على السنة، ويكون المخالفين أن يحتجوا في ردها بامتناع أهل تلك المدينة عنها، فحينئذ يجب أن يؤدب هؤلاء أيضاً ويجاهدوا، ولكن مجاهدة دون مجاهدة أهل الضلال الصرف، أو يلزمها غرامة على ما يؤثرونه، ويصحح عليهم أنهم مبطلون، وكيف لا يكونون مبطلين وقد امتنعوا عن طاعة الشريعة التي أنزلها الله تعالى، فإن أهلكوا فهم لها أهل، فإن في هلاكهم فساداً لأشخاصهم، وصلاحاً باقياً، وخصوصاً إذا كانت السنة الجديدة أتم وأفضل. ويسن في بابها أيضاً في أنهم إن أريدت مسامحتهم على فداء أو جزية فعل. وبالجملة يجب ألا يجريهم وهؤلاء الآخرين مجرى واحد، ويجب أن يفرض عقوبات وحدوداً ومزاجر ليمنع بذلك عن معصية الشريعة، فليس كل إنسان ينزجر لما يخشاه في الآخرة. ويجب أن يكون أكثر ذلك في الأفعال المخالفة للسنة الداعية إلى فساد نظام المدينة، مثل الزنا، والسرقة، وموطأة أعداء المدينة وغير ذلك. فأما ما يكون من ذلك مما يضر الشخص في نفسه فيجب أن يكون فيه تأديب لا يبلغ به المفروضات، ويجب أن تكون السنة في العبادات والمزوجات، والمزاجر معتدلة لا تشدد فيها ولا تساهل، ويجب أن يفوض كثير من الأحوال خصوصاً في المعاملات إلى الاجتهاد؛ فإن الأوقات أحكاماً لا يمكن أن تنضبط، وإما ضبط المدينة بعد ذلك بمعرفة ترتيب الحفظة ومعرفة الدخل
    الصفحة : 246
    والخرج وإعداد أهب الأسلحة والحقوق والتغور وغير ذلك فينبغي أن يكون ذلك إلى السايس من حيث هو الخليفة، ولا يفرض فيها أحكاماً جزئية؛ فإن في فرض فساداً؛ لأنها تتغير مع تغير الأوقات وفرض الكليات فيها مع تمام الاحتراز غير الممكن. فيجب أن يجعل ذلك إلى أهل المشورة، ويجب أن يكون السان يسن أيضاً في الأخلاق والعادات سنناً تدعو إلى العدالة التي هي الواسطة، والواسطة تطلب في الأخلاق والعادات بجبهتين: فأما ما فيها م كسر غلبة القوى، فلأجل زكاء النفس خاصة، واستفادتها الهيئة الاستعلائية، وان يكون تخلصها من البدن تخلصاً نقياً. وأما ما فيها عن استعمال هذه القوى فلمصلح دنيوية، وأما استعمال اللذات فلبقاء البدن والنسل، وأما الشجاعة فلبقاء المدينة. والرذائل الإفراطية تجتنب لضررها في المصالح الإنسانية، والتفريطية لضررها في المدينة. والحكمة الفضيلية التي هي ثالثة العفة والشجاعة فليس يعني بهاالحكمة النظرية، فإنها لا يكلف فيها التوسط البتة، بل الحكة العلمية التي في الأفعال الدنيوية والتصرفات الدنيوية؛ فإن الإمعان في تعريفها والحرص على التفنن في توجيه الفوائد من كل جهة منها، واجتناب أسباب المضار من كل وجه، حتى يتبع ذلك أصول أضداد ما يطلبه لنفسه إلى شركائه، أو يشغله عن اكتساب الفضائل الأخرى، فهو الجزيرة، وجعل اليد مغلولة إلى العنق هو إضاعة من الإنسان نفسه وعمره وآلة صلاحه وبقائه إلى وقت استكماله؛ ولأن الدواعي الشهوانية، وغضبية، وتدبيرية، فالفضائل ثلاثة: هيئة التوسط في الشهوانية مثل لذة المنكوح، والمطعوم والملبوس والراحة وغير ذلك من الذات الحسية والوهمية، وهيئة التوسط في الغضبيات كلها مثل الخوف والغضب والغم والأنفة والحقد والحسد وغير ذلك، وهيئة التوسط في التدبيرية. ورؤوس هذه الفضائل عفة وحكمة وشجاعة، ومجموعها العدالة، وهي خارجة عن الفضيلة النظرية؛ ومن اجتمعت له معها الحكمة النظرية فقد سعد، ومن فاز مع ذلك بالخواص النبوية كاد أن يصير رباً إنسانياً وكاد أن تحل عبادته بعد الله تعالى، وهو سلطان العالم الأرضي وخليفة الله فيه.


    علي العذاري غير متواجد حالياً
    رد مع اقتباس
  15. تكبير الخط تصغير الخط
    بتاريخ : 09-02-2012 الساعة : 10:54 AM رقم #18
    كاتب الموضوع : علي العذاري


    شاملى ماسى


    الصورة الرمزية روضة العامودى

    • بيانات روضة العامودى
      رقم العضوية : 6003
      عضو منذ : Dec 2011
      المشاركات : 1,652
      بمعدل : 0.36 يوميا
      معدل تقييم المستوى : 29
      التقييم : Array


  16. شكرا جزيلا شيخنا الفاضل علي العداري للمجهودات الرائعة بارك الله فيك

    روضة العامودى غير متواجد حالياً
    رد مع اقتباس
  17. تكبير الخط تصغير الخط
    بتاريخ : 11-02-2012 الساعة : 08:27 AM رقم #19
    كاتب الموضوع : علي العذاري


    شاملى ذهبى


    الصورة الرمزية عيون المهى

    • بيانات عيون المهى
      رقم العضوية : 31
      عضو منذ : Jul 2008
      المشاركات : 732
      بمعدل : 0.13 يوميا
      معدل تقييم المستوى : 23
      التقييم : Array


  18. مشكور شيخنا الجليل على الموضوع الرائع بارك الله فيك وعليك

    عيون المهى غير متواجد حالياً
    رد مع اقتباس
  19. تكبير الخط تصغير الخط
    بتاريخ : 11-02-2012 الساعة : 08:49 AM رقم #20
    كاتب الموضوع : علي العذاري


    مراقب


    الصورة الرمزية جيهان

    • بيانات جيهان
      رقم العضوية : 39
      عضو منذ : Jul 2008
      المشاركات : 3,361
      بمعدل : 0.58 يوميا
      معدل تقييم المستوى : 49
      التقييم : Array


  20. ما شاء الله بارك الله فيك وفى مجهودك شيخ على وادامك لنا

    جيهان غير متواجد حالياً
    رد مع اقتباس



معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك