الأقلقول

كثير ھي المدن التي بنيت فوق مدن ، كأنھا غطاء من الحاضر يدرأ بھ الماضي ويخفى عن
الأنظار. وكما أن من فتنة الله في خلقھ أن تغيب آثار وتندرس وتنمحي نھائيا فلا يدرك المرء
منھا شيئا ، فإن من فتنتھ أيضا أن تعيش آثار أخرى لتظل شاھدا على ما ارتكبتھ الأمم
المندرسة من موجبات دمارھا وإجلائھا عن الأرض إلى حين .
ما أغرب ھذا الإنسان في تعاملھ مع الماضي ، وإن ھذا الماضي لو كان شيئا مطروح ا
أرضا لتسابق الناس إليھ ، ولتدافعوا للأخذ منھ على ما يحملھ من مسببات عذاب قوم كثيرين.
فالإنسان يبتعد بسھولة عن الخير والفضيلة ولا يعود يقترب منھما إلا بشق الأنفس . إن مبلغ
ھمھ زينة الحياة الدنيا ، ومن ھنا يجد الشيطان الفرصة لتكبيلھ وجره إلى أسواق الضلالة
فيبيعھ نفسھ ثم يستغرق في الضحك على ذقنھ .
إن للشيطان أساليب للغواية والإيقاع يصعب على الإنسان حصرھا لأنھا تكمن في نفسھ
ھو، ويصعب عليھ فھمھا لأنھا تكون مجمل فھمھ وتستحوذ على تفكيره وتحد آفاق عقلھ ،
فيستسلم للضلالة ، بل يعمل على تطويرھا يقوده ويرشده إلى ذلك الشيطان المعلم والمرشد ،
حتى أننا نرى اليوم كيف تشعبت طرق الضلالة واكتسبت من الأشكال الصبغات الشيء
الكثير بما جعلھا في بعض أنواعھا شديدة الشبھ بسبل الھداية والصلاح .
وللضلالة تاريخ عميق الجذور في فھم الإنسان وفي حياة سلوكھ ، وللشيطان يد وأية يد
في تعھد غرساتھا أسباب بالعناية وتمكينھا بكل أسباب النمو والإثمار، كما لھ مع الإنسان
قصص لا تحصى بعضھا من صميم الواقع ، وبعضھا الآخر من صميم تحكي عن بلادة
الإنسان متى أضلھ الله ، وغبائھ المفرط متى أسلم مقوده لنفسھ ولھواه .

وفي فترة زمنية من عمر التاريخ ، وفي مدينة كان اسمھا
((لد)) ، وكان أناسھا أمة يوحدھا
الجھل وسوء الفھم والصنيع ، قدم رجل غريب جعل يتفحص السكان المارين به كأنه
يبحث عن شخص ضل عنه ، فإذا بشيخ من الأھالي يسأله : أيھا الرجل الغريب ھل تبحث
عن أحد؟ فقال الرجل : بلى ، إنني أبحث عن الأقلقول . وقبل أن يرد الرجل الغريب على
الشيخ بادره رجل كان قد سمع تحاورھما : لعل ھذا الأقلقول شيء معقول . وسمع آخر
الحديث فأضاف : ربما يكون شيئا غير معقول . وقال ثالث : لعل الأقلقول شيء معقول
ولا معقول ، فقاطعه قائلا للأول بلى إنه لمعقول...وبدأت الجماعة الصغيرة ھذه تتصايح
فيما بينھا فأجتمع الناس حولھا وسألوا عن الخبر فقال الشيخ : ھذا الرجل الغريب جاء
يبحث عن الأقلقول ، فقال الناس جميعا : وما الأقلقول؟ فقال الرجل الغريب : اجلسوا
ياقوم حتى أحدثكم عنه ...وقبل أن يتم كلامه اقتحم الجمع رجل فقال : ياقوم إن كان ھذا
الرجل يبحث عن الأقلقول ، فإني قد رأيته . فقيل له وما ھو؟
قال : إنه ثعلب ، ولما رأى الاستغراب باديا على الوجوه عاد فاستطرد : إني رأيت ثعلبا
وبعد حين انقلب إلى رجل وقد تركته خارج المدينة وجئت لأخبركم بأمره تبعه الناس
يصيحون وقد تركوا أمتعتھم في السوق دون حراسة ، وبعد أن أضناھم البحث ساعات
صبيانا وشيوخا ونساء وفتيانا دون أن يعثروا على أحد ، رجعوا إلى المدينة فلم يجدوا
أمتعتھم حيث تركوھا في السوق ، ولم يجدوا كذلك الرجل الغريب الذي كان السبب في كل
ھذا ، فما كان منھم إلا أن جھزوا أنفسھم وأعدوا العدة وانطلقوا خارجين من ديارھم في
البحث عن الرجل المجھول بعدما أطلقوا عليه اسم الأقلقول .
بلغ القوم ديارا ، فوجدوا شيخا جالسا قرب حائط فقالوا له : أرأيت رجلا اسمه الأقلقول؟
قال: صفوه ، فقال كبيرھم : إنه رجل أغبر، كويل الشعر، ولعله شيطان يتشكل فيصبح
ثعلبا ، وقد سرق أمتعتنا ، استغرب الشيخ وقال : إذا كان حقا يتشكل في صفة ثعلب ،
فلربما يكون الآن كلبا أو حمارا . فكر القوم في الأمر فجمعوا دواب أھل تلك الديار وقالوا
للشيخ : أحرسھا حتى نرجع لعلنا نجده في مكان آخر .
فلما انصرفوا في أثرھم جد من في الديار ليستطلعوا الخبر، أخذ الشيخ الدواب وغادر
المدينة حتى إذا بلغ قرية اجتمع بأھلھا وأخذ ينادي فيھم : أيھا الناس إن ثمن ھذه الدواب
زھيد ، إن فيھا الخير والبركة ، وفيھا سر الأقلقول . سأله أھل القرية : الأقلقول؟ فقال :
إنه علم عن الأجداد ومعرفة لمعنى الأوتاد ، وسر دفين لن يعرفه سوى مشتري ھذه
الدواب. ثم باع الدواب بعد أن انطلت مقولته على أھل القرية ، وغادرھا لا يلوي على
شيء .
أخذ أھل القرية يبحثون فيما اشتروه من حيوانات حتى وقف عليھم رجال بادروھم
بالسؤال عن مصدر الدواب ، وأوضحوا لھم أنھا سرقت منھم عنوة . أجاب أھل القرية :
بل إنھا ملك لنا ، وقد دفعنا لقاءھا أموالنا ، وفضلا عن ذلك فإن فيھا الأقلقول ! فلم يتمالك
الرجال الوافدون إلا أن ھموا بالدواب فأوسعوا فيھا ذبحا وتقتيلا ظنا منھم أنھم يقتلون
غريمھم الأقلقول مادام موجودا بينھا . فتسارع أھل القرية إلى أسلحتھم وشب قتال عنيف
بين الفريقين لم ينج منه سوى رجل واحد وقف مشدوھا بين القتلى ، ولم ينتبه إلا وقد وقف
عليه رجل غريب سأله ما الخبر، فرد عليه : إن الأقلقول كان السبب في ھلاكھم ، وحكى
له القصة . سأله الرجل : وما الأقلقول؟ فأجابه وھو يضمد جراحه : إنه رجل يسرق
الديار، ويتشكل في كل صورة. فسأله الغريب إن كان ھو الشيطان ، فرد عليه : بل إنه
شخص أسود الشعر أغبره أزرق العينين...استغرب الرجل الغريب وصاح : إن كانت ھذه
ھي أوصافه حقيقة فإنھا تنطبق عليك...بل لعله أنت...ثم استل سيفه ووجه إليه طعنة أراده
بھا قتيلا .
انطلق الغريب إلى أن بلغ المدينة الأولى ((لد)) فوجد أھلھا بين معول ومنتحب
فاستفسرھم عن الأمر، فقيل له إن الرجال خرجوا من المدينة منذ يومين في أثر الأقلقول
ولم يعد منھم أحد ، فبادرھم بالقول : إن رجالكم قد ھلكوا ، وإني قد قتلت الأقلقول الذي
كان سببا في ھلاكھم ، فصاح فيھم شيخ عجوز : إياكم أن تثقوا في ھذا الغريب ، إنه لھو
الأقلقول نفسه، إنه يشبه الرجل الغريب الذي سرق أمتعتنا واختفى بھا . ولم ينتظر القوم
حتى يتبينوا كلام شيخھم ، فاجتمعوا على الغريب فقتلوه . وبينما ھم كذلك إذ برجل يصيح
فيھم : أيھا الناس لا تتدخلوا فيما لا يعنيكم ، ولا تلقوا بالا لأقوال ھذا وذاك فتفتتنوا كما
حدث لرجالكم الھالكين ، وكما حدث لآخرين ليس لھم من الأمر شيء . فقال آخر من بين
القوم . ياھذا إن كلامك لعلى صواب ، فھلا أخبرتنا ما ھو الأقلقول؟ فأجابه الرجل " إن
الذي تقوله غير معقول ، والأقلقول ما ھو إلا مثل أظھر لكم ما ھو معقول ، وما ھو عين
الخطأ ، ولولا اتبع رجالكم الذي سرق ، ولولا اتبعوا كلام الشيخ الذي دلھم على ما لا
أصل له لما ھلكوا ، فدعوا البحث عن ھذا الأقلقول .
لم يقتنع القوم بقول الرجل فباتوا ليلتھم متفكرين متدبرين أمر الأقلقول كأنھا لم يتعظوا
مما حدث . فلما أصبح الصباح جاء إلى المدينة رجل معه قرد يرقصه ويسلي به الناس ،
ولم يكن أھل المدينة قد شاھدوا قردا من قبل . انتبه ھؤلاء إلى صبي صغير يصيح في
أبيع : يا أبت أنظر، أليس ھذا ھو الأقلقول(مشيرا إلى القدر)، إنه يشبه الإنسان ، فعادت
بذلك ذكرى الأقلقول إلى عقول القوم فأخذوا القرد وقتلوه ، وصاحبه يصيح ويعول دون أن
يھتم به أحد ، حتى إذا انتھوا من القرد حمله إلى مكان على مشارف المدينة ودفنه فيه ،
ولبث قبره مطأطئ الرأس ، فمر به رجل فسأله : ياھذا لماذا أنت على ھذه الحال ، وعلام
تبكي؟ فقال له مجيبا : إنني أبكي من كان لي موردا للرزق ومجلبة للقوت. فجلس الرجل ......... تابع