جوهر الاضطرابات النفسية
على مدى السنوات القليلة الماضية، قام علماء النفس وممارسو مبادئ الصحة النفسية من خلال مجموعة هائلة من الأبحاث بإلقاء الضوء على كيفية حدوث الاضطرابات النفسي وكيفية علاجه والتغلب عليه. وبينما كان يحاول المحللون النفسيون تحديد مصادر الاضطراب النفسي في صراعات الأبناء مع آبائهم، قام العديد من الأطباء النفسيين –ونحن معهم -بتأييد نموذج الاضطراب النفسي الذي ابتكره عالم النفس الأمريكي "ألبرت أليس" في عام 1955: ثم قام بتطويره بعد ذلك. ويعرف هذا النموذج باسم نموذج (أ-ب-ج) للاضطراب النفسي، ويشكل هذا النموذج العقلاني الانفعالي.
وبناءً على ذلك النموذج، فإن الاضطرابات النفسية والعقلية لا تنشأ مباشرةً من المشاكل التي نواجهها، وإنما تنشأ من الانطباعات الخاطئة واللاعقلانية التي أخذناها عن هذه المشاكل. ولكي تتمكن من التغلب على مشاعر الضيق التي تعرضت لها واستعادة توازنك النفسي، عليك أن تحدد الأفكار الخاطئة التي تسبب هذه الاضطرابات، ثم تقوم بالتخلص منها تماماً؛ مستنداً إلى العقل والمنطق حتى تقتنع بأن أفكارك السابقة كانت غير عقلانية بالمرة.
وإذا تصرفت، بعد ذلك، وفقاً لأفكارك الجديدة الأكثر عقلانية، فستكشف أن اضطراباتك النفسية سرعان ما ستتلاشى ويحل محلها استجابات مقبولة وسرية بشكل أكبر. ولتوضيح المقصود من هذا الكلام، سنعطيك مثالاً شائعاً إلى حد ما.
إذا قرأت إعلاناً عن وظيفة تتمنى كثيراً أن تحصل عليها وتُقبل فيها، فإنك تعتقد أنك مؤهل تماماً لشغلها. فهي بالنسبة لك الوظيفة التي طالما كنت تتمناها وتنتظرها لأنها ممتعة، وفي الوقت نفسه تحثك على التحدي وراتبها مغزٍ؛ كما يمكنك أن تحقق من خلالها طموحات أكبر في المستقبل.
لذا، تقدمت لشغل هذه الوظيفة وتم إجراء مقابلة معك ولكنك لم تُقبل فيها. وفقاً لنموذج (أ-ب-ج)، فإن (أ) وهو ما نسميه بالحدث المُنَشِط، يرمز إلى الرفض. ولنفترض أنك شعرت بالاكتئاب الشديد، فإن ذلك الشعور يُطلق عليه النتيجة النفسية للحدث (ج) وتشير تلك النتيجة إلى مشاعرك وتصرفاتك.
فعند النقطة (أ) تم رفض طلبك لشغل هذه الوظيفة وعند (ج) تشعر بالفعل بالاكتئاب نتيجة لذلك. ونتيجة لذلك، فإنك تفقد رغبتك في تناول الطعام، وتشعر بالكسل، وعندما يتصل بك أصدقاؤك لتشاركهم في بعض الأنشطة الاجتماعية، تخبرهم أنه لا طائل من وراء هذه الأنشطة وأن ليست لديك القدرة على القيام بتلك الأنشطة.
وسيكون الرأي الشائع لتفسير هذه الحالة هو أنك كنت تسعى للحصول على وظيفة مهمة، ولكنك فشلت في الحصول عليها وهذا هو السبب الذي جعلك تشعر بالاكتئاب.
ويقتنع الكثير من الناس بهذا الرأي ولكنهم مخطئون بالفعل؛ لأن (أ) ليس السبب في حدوث (ج)، حيث إن شعورك بالاكتئاب نتج من النقطة (ب) التي ترمز إلى طريقة تفكيرك.
وفي هذا المثال، تتمثل طريقة تفكيرك تلك في المعتقدات التي تؤمن بها عن تلك الوظيفة وعن نفسك في ضوئها.
وهذه المعتقدات، التي تتكون أساساً من عدد من التقييمات والتخمينات، تتمثل في نوعين هما: مجموعة عقلانية ومجموعة أخرى غير عقلانية.
ولنتحدث أولاً عن المعتقدات العقلانية. تذكر أن معتقداتك العقلانية التي تعتنقها عن رفضك في هذه الوظيفة ستكون على النحو التالي: "لا أحب أن يُقابل طلب تقدمي لهذه الوظيفة بالرفض، لما لذلك من أضرار عليّ. وقد كنت أود أن أُقبل فيها. لكن قوبل طلبي بالرفض وهذا شيء مؤسف بكل تأكيد ومحبط للغاية." وإذا طلب منك أحد أن تثبت صحة كلامك، فيمكنك بسهولة أن تقدم حقائق ثابتة يستطيع أي شخص آخر أن يتأكد من صحتها، وجميعها يوضح أن الرفض يؤدي إلى تقليل فرص الترقي في العمل، كما يؤدي إلى انخفاض الدخل في المستقبل، والحصول على عمل أقل متعة وغيرها من الأمور الأخرى.
وفي هذه الحالة ليس من المعقول بالمرة أن تشعر بالفرح أو السعادة، وإنما من المنطقي كثيراً أن تشعر بالحزن والأسف والإحباط والضيق الشديد.
فمشاعر الحزن والإحباط هي المشاعر المناسبة في موقفك هذا؛ لأنه لا يمكن أن تشعر بالسعادة وتتهلل أساريرك وأنت محبط بالفعل ولم تحقق ما كنت تصبو إليه.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن شعورك بالضيق الشديد ربما يدفعك إلى القيام بالفعل بشيء بنّاء يؤدي إلى تحسين مستوى أدائك في المرة القادمة.
ومن الممكن أن نسمعك تقول إن الأمور تسير على ما يرام حتى الآن، لكنك رسمت بالفعل لنفسك صورة إنسان يشعر بالاكتئاب الشديد فما مدى توافق ذلك مع حالتك؟
حسناً، دعونا نعود مرةً أخرى إلى النقطة التي ذكرنا فيها أن معتقداتك على نوعين تماماً مثلما أشرنا إليهما من قبل. والآن قد أوضحنا لك أنه إذا كانت أفكارك المتعلقة بعد حصولك على الوظيفة أفكاراً عقلانية فقط، فإن المشاعر التي ستمر بها نتيجة لهذه الأفكار المعقولة والمقبولة –التي تستند أيضاً إلى حقائق واقعية، ستتمثل في شعور قوة بخيبة الأمل، ولكنك لن تشعر بالاكتئاب الشديد.
ذلك، لأن الشعور بالاكتئاب نتيجة طبيعية لمجموعة من الأفكار اللاعقلانية التي تتكون في الأساس من انطباعات خاطئة وافتراضات لا يمكن إثباتها ولا أساس لها من الصحة. وبالمثل، ستكون معتقداتك غير العقلانية على النحو التالي: "لا أستطيع تحمل فشلي في الحصول على الوظيفة التي كنت أتمناها، فهذا الرفض شيء بغيض ورهيب ويمثل كارثة بالنسبة لي، وأنه كان من المفترض بكل تأكيد أن أُقبل في هذه الوظيفة بدلاً من أن يُقابل طلبي بالرفض وأنا أحمل من المؤهلات ما يكفل لي شغل هذه الوظيفة.
كما أن هذا الرفض يدل إما على أني غير كفء أو أن الشخص الذي أجرى معي المقابلة كان متحيزاً ضدي من البداية." وإذا اقتنعت بهذه الانطباعات الخاطئة التي لا أساس لها من الصحة، وهذه الافتراضات التي لا يمكن إثباتها، فمن المؤكد أنك ستولد في نفسك مشاهر مضطربة جداً، مثل: الاكتئاب والخجل والعداء. كذلك، تذكر أن المعتقدات العقلانية التي أشرنا إليها سابقاً هي المعتقدات التي يمكن إثبات صحتها. كما يمكنك أن تثبت صحتها بطريقة منطقية لأنها تعتمد على حقائق واقعية.
البحث عن الضروريات والثوابت ومناقشتهامنقوول
المفضلات